سودانايل:
2025-02-23@11:50:15 GMT

اسْمُ الْحَربُ وأَخْلاَقُها (١)

تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT

لكلِ حُرُوبِ العالَمِ أَسْمَاء، ولبعضِها قِيَمٍ وأَخْلاَقٍ، هكذا قِيلَ. وقِيلَ أن البشرية، بعد اِستِئنَاس الحيوان واِكتِشاف النار والزراعة إتجهت لِلحُرُوبِ، فطَوَّرَت فُنُونُها وخُطَطَها ثم صَاغَت لها الضَوابِط والمَعَايِير الأخْلاَقية، و لِتَقْنِينِ تلك السِمَات، أَطَلَقتَ عليها الأَسْمَاء. بينما كُنتُ أَطالِعَ ذلك، تَسَاءَلْتُ، مَا اِسم هذه الحرب التي تَفْتِكُ بنا الآن، ولنصفِ عامٍ من الزمانِ؟ هل لها اِسم، أم هي وَحَدَها المَارِقَة عن دَفتَرِ الأَسمَاءِ.

فكلُ ما لَصِقَ بِها كان من بابِ النُعُوتِ والأَوْصَافِ، مِن شَاكِلَةِ العبثية واللعينة، أو بِمُشْتَقَّاتٍ من معاني الفَخَرِ والجَسَارَةِ، كمعركةِ الكرامة ومَثيِلاَتها مِن أَسْمَاءٍ بَائِخةٍ أو بَليغَة، لم تكن حَتْماً هي السبب في إشعالِ الحربِ، وحَتْماً لن تَتَوقَّف الحرب لأننا وَجَدَنا لها الإسم المُنَاسِب، لَكِنْ "الخطأ في تسمية الأشياء يزيد من بُؤسِ العالم"١ ومن بُؤسِ وَاقِعنَا الذي أَخْفَقَنا في تَطْوِيرِه، ولن نُحْسِن تَسَمِّيته وتَعْرِيفه.

لو سَأَلَ سَائِلُ: مَا الجَدْوَى من طَرْحِ أسئِلَةِ القِيَم والأخلاَق، التي قد تَبْدُو خَرْقَاء، في وَسَطِ حَربٍ ليس لها اِسم، رغم مُنْجَزٌها الهائل في الْقَتْلِ والدَّمَارِ السَّاحِق؟ الإِجَابَةُ: أسئِلَةُ القِيَمُ لم يَطَرْحها أَحَدٌ، فمُنذُ بَدْءِ القِتَالِ، جَاءَت لَنَا هذه الأسئِلَةُ مَحْمُولَةً على أَسِنَّةِ الصَّوَارِيخِ، التي تحتَ زَئِيرِها المُرِعب، كُنَّا نَسْمَعُ في القَنَواتِ الفضائية، لمَزَاعِمِ قَائِدَي القوات المسلحة والدعم السريع، كُلُّ منهما، يَرْوِي لنا عن فَجِيعَته في رفيقِ دربهِ الذي خَانَ مِيثَاقَ الأُخُوَّة ونَقَضَ العُهُود. تَكَلَّمَا كثيراً، باِنْفِعالٍ وَبِلارَوِيَّةٍ، كُل ما أشارَ إليه مُجْمَلِ قَوْلِهما، لم يكن سِوَى إِدَانَة لِلطَرَفِ الآخِرِ، في الحَقِيقَةِ الواقِعيِّة، بإِحَالَتةِ لأَحْكَامِ الأخلاقِ ذاتَ الطابِعِ المُجَرَّد. إِحَالَةٌ كاذِبةً أم صَادقِة، بِالنَّفْيِ أو الإثْبَاتِ، فهذه و تلك سوف تَتَأرجَحان في كَفَّتيِ مِيزَانِ الأخلاق، وهو المَرجِعُ المُشْتَرَكُ الوَحِيد الذي تَبَقَّى بينهما، وتَبَقَّى لَنَا، كمُرْشِدٍ مُيَسَّرٍ بَسيط، تَمَّ تَجْميِعه في كُرَّاسَةٍ صَغِيرَةٍ، فيها النِّقَاطِ الأسَاسِيَّةِ لثَوَابِتِ الأخلاق، التي لم نأتِ بها من الخَارِجِ، ولكن جمعناها من كلامِهما، الذي كَيْفَما اِتَّفَقَ، تَنَاثَرَ هنا وهناك.

حَتَى نُسَهِّلَ على أَنْفُسِنا تَقْيِيمِ الَّذِي حدَثَ مِنْ خِلاَلِ رَبْطِه بعِلمِ الأخلاقِ، سنَكْتُبُ في أعَلَى صَفْحةِ الكُرَّاسِ الصَغِيرِ، جُمَلَةُ (الظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ ). الظَّاهِرُ هو المَحسُوس الواضِح الذي نتَعَرَّفُ عليه ونُدرِكُه بِالحَوَاسِّ الخَمْس، والبَاطِنُ مايُشَار به لِدَخِيلةِ الإنسان وضَمِيره. وهما هُنَا رَدِيفَان مُرْتَبِطَان. الرَّبْطُ بينهما ليس مِنْ تَأْلِيفِنا، لكنه تَمَّ بتَجْمِيعِ القَوْلِ المَنْثُورِ الذي بَاحَ به قُوَّاد الجيش والدعم السريع. فكُلّ طَرَفِ يقول أن الآخرُ هو مَنْ: خَطَّطَ ونفَّذَ. نَوَى وعَمِلَ. دَبَّرَ وفعَلَ. بعدَ سنواتِ المَوَاثِيقِ التي كانت بين رُفَقَاءُ السَّلَاَح والتَّعَاهُدَ عَلَى الإخْوَةِ والإخْلاَصِ. فالتَّخْطِيطُ والنِّيَّةُ والتَّدْبِيرُ، مِن المعاني المُجَرَّدَةِ التي تَنْدَرِج
تحت قَائِمَة الباطن. أمَّا الملموس المادي الذي يُنْجَزَ بالفِعلِ والتنفيذ والعمل، فهو الظاهر الذي تَحَقَّقَ بضَرْبِ النَّارِ وإشعال الفِتنَة في بَدْءِ يومِ المَقْتَلَةِ. كُلُّ هذه الأَقوَال والأَفعَال، الظَّاهِرَةُ والخَفِيِّةُ، بعد رَجِّها في غِرْبَالِ الأخلاق، يَفْضَل مِنها، الْخِيَانَة والغَدْرُ والْقَتْلُ الْعَمْدُ، وهي في عِلمِ الأخلاقِ مِن مَفَاتِيحِ الشَّرِّ، التي فُتِحتَ بِها أَبْوَاب الجَحيِم للحَربِ المَاحِقَة.

حَربٌ أخْرَجَتَنا مِن دِيارِنا قَهْراً، ثُمَّ جَعلَتنا نبحث عن أَسْبَابِ قِيَامِها وسُبُل إِيقافها، وكَأَنَّنَا مَنْ أَشْعَلَ نَارَها !! ومِن جُمْلةِ ما فَرَضَته عَلْيَنَا (الحرب التي ليس لها اِسم) أنْ نَسْأَلُ عن أَصْلِ وفَصْلِ أَخْلَاَقهَا، وَهْوَ مابَدَأْنَاه، وقَبْلَ أن نُوَاصِل فِيهِ، كان لا بُدَّ مِن طَرْحِ سُؤَّال بَديهِيّ مَنهجِيّ : هل يُوجَد عِلم أخلاق يَخُص الجيوش وَحْدَهَا، أم هي تَابِعَة لِذَاتِ مَعَايَيرِ أخلاق المجتمع العامة ؟ لَوْ اِفْتَرضنا التَّوَافُق قد تَّم على أن أَصْلُ وفَصْلُ الأَخلاق وَاحِد، سيكون في انتظارنا سؤال آخر مُفَخَّخ، حول النِّسْبِيَّةِ الأَخْلَاَقِيَّة، والتي يُقصد بها، أن الأخلاق غَيْرُ مُطْلَقَةٍ ولا هي وَاحِدة وثَابِتَة وأنها تختلف من بَلَدٍ لآخَرِ ومن شعب لآخَرِ. والذي جاء بِكَلاَمِ النِّسْبِيَّة الآن، هو اِعْتِقادُنا بأن الخَلفِيَات الاِجتمِاعِيَّة، بين الجيش والدعم السريع مُتَمَايِزة، لِكُلِّ مِنْهُم طَبِيعَة تكوين اِجْتِمَاعِىّ مُخْتَلِف عن الآخَرِ. كل هذه الاسئلة ما كانت ستَخْطُرُ بالْبَالِ في هَدْأَةِ أيام السلام، فهي من لُقُيات حُمَم بُرْكَان هذه الحرب. والحروب مثل البراكين، تَثُور وتَخْمُد، فتُخْرِج أثْقَال التَّارِيخ وكَوَامِن المجتمع.

في مقال سابق٢ ، ذكرنا أن قُواتُ الدعمَ السريع تَكَوَّنَت مِن حَلْقَاتٍ مَنْظُومَةِ مِن العَشَائِر التي تُمَثِّلُ القَبَائِل العَرَبِيِّة، قَبَائِلُ في حَالٍ مِن الاِرْتِحَالِ المُمْتَدُّ مِن غَرْبِ السُّودانِ إلى الْمُحِيطِ الأَطْلَسِيِّ. منذ خَمسةِ عقود من الزمانِ وهم يُوَاجِهُونَ تَقَلُّباتِ الْمُنَاخ، وأَهْوالُ التَّصَحُّرَ الذي قَضَى على الأَخْضَرِ وَاليَابِسِ، وأجْدَبَ الْمَرَاعِي وكاد يُهلِّك الإبِل وما رَتَعَ مَعهِا مِن مَاشِيَةِ، هي أسَاسُ الحَيَاة لقَبَائِلِ العَرب الرُّحَّل. ماحدَثَ لهم كان بفِعْلِ التَّرَاكُمِ البَطِئ والتَّدْهَوُر المُتَوَاصِل الذي أوْصَلَ البِيئَةِ إلى حَدِّ الاِحْتِضَارِ، مُضَاف لذلك، أنهم في مكانٍ بعيدٍ عن عُيُونِ العالمِ الذي اِعْتادَ رُؤْيَةُ الكَوَارِثِ الْمُفَاجِئَة النَّمَطيِّة، من زَلاَزِلِ وأعَاصِير وفَيَضَانَات في أمْكِنَةٍ مُكْتَظَّةٍ بِالسُّكَّانِ. أمّا هذه القَبائلُِ المنَسِيَّةُ في عُمقِ الصحراءِ، فقد تُرِكتَ وَحْدَهَا تُكَابِد الْأَمَرَّيْن. فاِتِّفَاقِيَات الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ الْمُبْرَمَة للقَضَاءِ على الفَقرِ المُدقِعِ في بُلْدَانِ التَّصَحُّرِ، لم يُنَفَّذ مِنْهَا شَيْءٍ سِوَى إِعادَةِ تَجْدِيدهَا، حتى صَارَت من الأسمارِ الطَّرِيفَة المُعادةِ. أمَّا الاِتِّحَادُ الأوربي، صَدِيقُ إفريقيا القَدِيم، فقد أصَابُه الهَلَع وكُلّ ماقام به، هو مُراقَبة شَواطِئهِ التي يَعلم أنها سوف تَمْتَلِئ بالهاربِين مِن مَهَالِكِ الصحراءِ. شُعُوبُ إفريقيا هي التي تَحَمَّلَت مَصائِب التَّصَحُّر وسَدَّدَت تَكْلِفَة تَبِعاته الباهِظَة.

في الفِقّرَةِ الفائِتَةِ، كُنَّا نُحَاوِلُ التَّعَرُّفَ على الأُصُولِ الإجتماعية لجُنُودِ الدعم السريع، فوجدنا الْمُنَاخ والطبيعة قد تحالفا مع التاريخ وسَيْطَرَا على المكان الذي كانوا فيه يقيمون. بسبب التصحر وقَهْرُ الطَّبِيَعة، تَفَرَّقَت القبائِل لجماعات وأفراد هاجروا من دِيارِهم صَوْب أيُّ مَلَاَذَات آمِنة، مِثْلُ شمال دارفور
التي تَجَنَّدَ فيها فِتْيَانُ القبائل في قوات الدعم السريع، ربما كان ذلك خِيَارهم الأفْضَل، إنّ لم يكن الأَوْحَد. بدأ ذلك في مطلع هذا القرن، حينها كانت هذه القوات نَوَاة في طَوْرِ تَّكْوينها الأَوَّلِ ، أيام حكومة عمر البشير وعُصْبَته، الذين تَمَكَّنُوا مِن اِسْتِغْلالِ شبيبة القبائل النَّازِحة للسودانِ وإِغْوائِهم في مَقْتَلَةِ الفور التَّارِيخِيَّة. وقيل أيضاً أنهم من قَتل ثوار اِنتفاضة العام ٢٠١٣م. وفي العام ٢٠١٩م في مَطَالِعِ الثورة، حين ظهر محمد حمدان دقلو في مقطع الفيديو الشهير معلناً رفضه لقتل الثوار, كانت تلك لحظة ثَبات قواته وميلادها الجديد في مُلْتَقَى النِّيلِينِ، بعد سنوات التِّيه الطِّوَال في البَرِّيَّةِ والْوَاحَات. قُمنَا بِكُلِّ بِهذِه اللَّفة، حتى نصل لمنابعِ الأخلاق وأَنْظِمَة القِيَم داخل سِياج القَبائِل العربية الرَّحَّالة. لعل ذلك يَنْفَعُ في فَهْمِ وتَفْسِيرِ الْمُعَادَلاَت الأَخْلاَقِيِّة، المُتَبَايِنَة أو المُتَجَانِسَة بين الجيش والدعم السريع.

الجَيْشُ نَدِيدُ الدَّولَة، في الْعُمُرِ وظُروفِ الْمِيلاَد. اِسْتَحْوَذَ على السُّلطةِ واِسْتَبَدَّ بها طِوَال عُمُرِه وعُمُر دولة الاِسْتِقلَالِ، عَدَا سنوات قليلة، قَلَعَها الشَّعْبُ مِنْه قَلْعاً. وبِالرَّغمِ مِنْ ذلك، فقد كان ومازال، هو أقْرَبَ أَركَانَ الدولة لمفهُومِ الْقَوْمِيِّةِ لو إِلتَزَم بحُدُودِه التي تأسَّسْ مِنْ أَجْلِها، وتَمَسَّكَ بكِيِانهِ العَسْكَرِيّ الاِحْتِرَافِيّ المُحَدَّد المَهَامّ. التَّارِيخُ العَّامُ للجَيشِ السُّودَانِّي لَيسَ الْمُرَادُ هُنَا، إلاَّ مَا يَخُصَّ تاريخ تَكْوِنيه الاِجتِماعِيِّ، فرُبَّمَا يَكُونَ الأقْرَبُ لِمَا نَسْعَى إِلْيَهِ وهو عِلْم الأَخْلَاَق، فالجَيش هو إبن المدينة الذي نَشَأَ فيها بتَكْوِينٍ حَضَرِيِّ. هَرَمٌ مِن أَسْفَلِ قَاعِدَته لقِمَّةِ رَأَسِه مُتَكِّلٌ على خَزْنَةِ الدولة في مَعَاشِه. تَجَمَّعَت فيه الأَعْرَاقِ باِنْتِمَاءِ عُضْوِيّ له، وبمُتَّسِعٍ مِنْ الرِّفَاقِيَّةِ، بِغَيْرِ عَصَبِيَّةِ قَبَائِليَّة. حدَثَ ذلك منذ قَرنِ من الزَّمَانِ في بِلادٍ لم يكن فيها سِوَى مَراعِي القَبَائِل وحُقُولَها. صَارَ الجَيشُ بقَوَامِه المَدِينِيِّ الْمُنضَبِط، هو الواجهة الحَضَرِيِّة العسكرية للدَّوْلَةِ. تَجِدَ وَحَداته في المُدنِ والأَقَالِيم مُنْسَجِمة ببعضها، وفي تَوَافُقٍ مع المُجتَمَعات المحيطة بها. وللمُجتَمَعِ في البَادِيَةِ والمُدُنِ، هَيمَنَة هَادِئَة، يَحْكُم بها أَفْرَاده بغِلْظَةٍ ونُعُومَة، تحتَ مَظَلَّةِ أَعْرَافٍ اِجتمِاعيِّة مُسْتَقِرَّة تَضْبِطُ سُلُوك الأفرَاد، ضَبْطٌ لم يَسْلَمْ مِنه رِجال الجيش في كُلِّ دَرجَاتِ تَرَاتُبهم العَسكَرِيِّ.

النِّظَامُ الأَخلَاَقيِّ مِنْ الثَّوَابِتِ المَعْنَويِّةِ في بِنْيَةُ المُجْتَمَعُ السُّودَانيِّ، تَظْهَرُ أَحْكَامُه الأخلاقيِّة بِجَلَاءٍ صَارِمِ، حِيْنَ تَتعرَّضً هذه الثَّوَابِتَ لاِهْتِزَازِ يُعَرِّضهَا لِأَخْطَارِ الزَّوَالِ أو التَّغْيِير الْعَنِيف. أمَّا فيِ الأَيَّامِ الرَّائِقة الْخَالِيَةِ مِنْ الوَقَائِعِ المشَهُودَةِ، يَصِيرُ العُرْفُ الأخلاَقيِّ مِنَ البَدِيهِيَّاتِ التي تَنْسَابُ بِسَلاَسَةِ بينَ النَّاسِ. وحَالُنَا هذا مِثْل أَحَوَال الآخرين في أَرْجَاءِ الأرْضِ، وهُوَ أَمْرٌ لا يُحَبِّذه بعض فلاسفة الأخلاق، مِثْلُ المُفَكِّر الرُّوسِّي نيكولاي برديائف٣، الذي يَصِفُه بالاِسَتِبدَادِ والإِرْهَابِ الذي تُمارِسُه سلطة المجتمع على الحياة الأخلاقية لأفراده عبر التاريخ في العالم. وقد أَبَانَ فِكَرَتُه بِوُضُوحٍ في قَولِه بِأَن " الأخلاق في جوهرها مستقلة عن كل ماهو اِجتماعي، الحقيقة الأخلاقية البحتة، لاتعتمد على المجتمع، أو لا تعتمد عليه إلا بقدر ما يكون المجتمع نفسه أخلاقياً. الحياة الأخلاقية متجذرة في العالم الروحي، والعلاقات الإجتماعية ماهي إلا مجرد إسقاط لها. الأخلاقي هو مايفسر الاجتماعي وليس العكس. الحياة الأخلاقية ليست شخصية فحسب، بل إنها إجتماعية أيضاً. لكن صفاء الوعي الأخلاقي يفسد على الدوام بما أسميه عنصر القطيع في الحياة الاجتماعية". هَاهُوَ الحَكِيمُ الرُّوسِّي يَشْكُو مُرَّ الشَكِّيَّة، مِنْ مُجْتَمَعَاتٍ كُنَّا نَظُنَّها صُمِّمَت لإِعْلاَءِ مَقامِ الحُرِّيَّة الفَرْدِيَّة في الاِخْتِيَارِ الأخلاقيِّ.

مَا حَدَثَ لَنَا، لم يكن فِعْلاً فَرَدياً قَام به مُغامِرٌ في اللَّيْلِ، لِنَقوم بتَحْلِيل عَنَاصِرِه الأَوَلِيَّةِ في النَّهارِ. مَا وَقَعَ عَلَيْنَا كان عَيْنُ الهَلاَكَ في حَربٍ أَمَاتَت الآلاَف مِن الأَنْفُسِ الْبَرِيئةِ، بِسببِ التَّهَاوُنِ الصَفِيقِ بحياةِ شَعبٍ لم يكن طرفاً في حربِهم. حَربٌ يَدَّعِي كُلُّ مِن الجيش والدعم السريع أنها اِنْدَلَعَتَ لِأَنّ الطرف الآخر قد اِنْتَهَكَ أَحْكَام الأخلاق، مِثل خِيَانَةُ العَهْد والغَدْرُ بِالْحَلِيفِ، فهذا يقول ذاك، هو الذي خان وغدر وضرب فقتل، ما يعني أنه فَعْلَ ما تَحَقَّقَ في الوَاقِعِ العِيَانِيّ المَحْسُوس، وَاقِعٌ له مِن الثِقَلٍ الأخلاقي الرَاسِخ، ما يُعْطِى الضَّوء الأَخْضَر لبَدءِ الحربِ، أي أنه الدَافِع الأخلاقي الذي بَرَّرَ له إعلان الحرب، تَحتَ شِعار (الشَّرُّ بِالشَّرِّ والبادِئُ أَظْلَمُ) وبما اننا لم نعرف من هو البادي، مثلما يحدث حين يَتَشَاكَس الأطفال ويتَضَاربَوا، فلن تسمع قبل عقابهم سوى، هو الذي ضربني في الاول. كما أن اطلاق النار بين متبارزين لايمكن ان يحدث في وقت واحد، إلا في طرائف افلام رعاة البقر في الغرب الامريكي، حين يصيبان بعضهما ويسقطان معاً. المتبارزون هنا، لا يتحدثون عن جدال ذهني حول القيم، أو حجة أخلاقية خلافية، إنهم يَجْزِمُون أنه الدافع الأخلاقي وَحَده، هو الذي مِن أجْلِه، طارت الطائرات بالمَقذُوفَاتِ ودَبَّت الدَبَّابَات في الأرضِ وأَرْعَدَت الصواريخ بالسماءِ، في مَشَاهِدٍ كأنها مُنْتَقَاةُ بِإِتْقَانٍ، مِن أَسَاطِيرِ حُروبِ العهد القديم.

باِفْتِرَاضِ جَدَلِيِّ، أن طّرفَا المُعادلة قد تَسَاوَيَا وتَعَادَلَتْ كَفَّتَا مِيزَانِ الأخلاق، ذلك يَعنى أن الجيش والدعم السريع اِستَنَدَا على مَصادرٍ أخلاقية مُتَمَاثِلَة، ذَاتُ أَحْكَامِ صَارِمَة مُقَدَّسَة، وكان التَّعَدِّي عليها، هو الدَافِع الأخلاقي لِكُلّ منهما، لاِعلان الحرب التي لم يَسْتَطِيعا تَجَنُّبِها. فقد تَبَرَّأَ كُلّ طَرِف مِنَ تُهْمَةِ الخيانةِ والغدر وجَزَمَ أنها أُلْصِقَتْ به ظُلْماً، ثم رَمَى بها الطرف الآخر، وكان ذلك هو الدافع الاخلاقي المُشْتَرَكَ بينهما، والذي لِأجله طَلَعَا لِيَحْتَرِبا في وَسَطِ الْمُدُنِ. سؤال الاخلاق اِكْتَسَبَ قُوَّته وتَجَدُّدُه مع اِستمِرار الحرب، واتِّسَاع نِطاقُها وثَبات أَنْمَاطها حتى قَدَّمَت الدَلائِل والبَراهين والشواهد المادية التي يمكن أن تُستَخَرج منها خُلاصَة مَعرِفية أخلاقية ذَاتُ خَصَائِص مُتَمَاسِكة، مُتَماثِلة أو مُتَنَافِرَة، فهى التي قد تَذَرَّعَت بِها الحرب.


osman.amer@icloud.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: ن الجیش والدعم السریع أ ح ک ام لم یکن التی ت

إقرأ أيضاً:

لأبراهام مانغيستو الذي أفرجت عنه حماس اليوم قصة مختلفة... فما هي؟

بعد أكثر من عشر سنوات من الأسر في غزة، تم تسليم الجندي الإسرائيلي أبراهام مانغيستو (38 عامًا) من أصول إثيوبية إلى الصليب الأحمر الدولي، وذلك ضمن الدفعة السابعة من اتفاق وقف إطلاق النار. فما قصته؟

اعلان

تنتهي مع تنفيذ المرحلة الأخيرة من هذه الصفقة معاناة طويلة لعائلة أبراهام مانغيستو، التي اتهمت إسرائيل بالتعامل العنصري مع قضية ابنها، مشيرة إلى أن لون بشرته كان سببًا في قلة الاهتمام الإعلامي بقضيته.

من "الهجرة السرية" إلى الأسر

وُلد مانغيستو في إثيوبيا عام 1986، وهاجر مع عائلته إلى إسرائيل في سن الخامسة، ضمن عملية" سليمان" السرية التي نقلت آلافًا من يهود الفلاشا الإثيوبيين إلى إسرائيل عام 1991. عاش الرجل في مدينة أسدود قبل أن ينتقل إلى كيبوتس "بن ياغير"، حيث خدم لاحقًا في الجيش الإسرائيلي.

لكن حياته تحولت بشكل جذري بعد وفاة شقيقه الأكبر ميخائيل عام 2011، ما دفعه للانغلاق على نفسه، ليصبح "شبحًا" بعيدًا عن الاهتمام داخل مجتمعه.

في سبتمبر/أيلول 2014، وبعد أشهر من الحرب الإسرائيلية مع غزة، دخل القطاع، ليبدأ رحلته في الأسر.

مقاتلو حماس يرافقون الأسير أبراهام مانغيستو قبل تسليمه إلى الصليب الأحمر في رفح، جنوب قطاع غزة، يوم السبت، 22 فبراير/شباط 2025APRelatedإسرائيل تتسلم جثث أربعة من الأسرى كانوا لدى حماسترامب: لن أفرض خطة غزة بالقوة ومشاركة زيلينسكي في المحادثات حول أوكرانيا لا تهمّإسرائيل تتسلم الرهائن من الصليب الأحمر وترقب للإفراج عن 602 أسير فلسطيني اليومنتنياهو يتوعد حماس بدفع الثمن والحركة تعلّق على الالتباس حول جثة شيري بيباسعائلة مانغيستو: "لو كان أبيض البشرة لاستعاده الجيش سريعًا"

لم تُعلن إسرائيل عن اختفاء مانغيستو إلا بعد مرور 9 أشهر من أسره، وذلك بعد أن أجبر قاضٍ إسرائيلي على الكشف عن القضية مطلع 2015.

هذا التكتم أثار غضبًا شعبيًا في إسرائيل، حيث قالت عائلة الأسير في وقت سابق: إن "الجيش كان سيبذل قصارى جهده لاستعادة ابنها لو كان أبيض البشرة".

من جهتها، أكدت حركة حماس أن الحكومة الإسرائيلية لم تُبدِ أي جهد جاد للإفراج عن مانغيستو، بل تجاهلته تمامًا في المفاوضات السابقة.

وفي عام 2023، بثت حركة حماس مقطعًا مصورًا يظهر الجندي أبراهام مانغيستو وهو يصرخ قائلاً: "إلى متى سأظل هنا؟ أين دولة إسرائيل منّا؟!"، ليظل في الأسر حتى تم إدراج اسمه في صفقة تبادل الرهائن التي جرت اليوم السبت.

كما تضمنت الصفقة الإفراج عن 5 رهائن آخرين مقابل أن تطلق إسرائيل سراح 602 من الأسرى الفلسطينيين.

رغم الإفراج عنه، تظل قضية مانغيستو جدلاً في المجتمع الإسرائيلي، خاصة في صفوف اليهود الإثيوبيين الذين يشكلون نحو 2% من السكان ويعانون التهميش منذ عقود.

مقاتلو حماس يرافقون الأسير أبراهام مانغيستو قبل تسليمه إلى الصليب الأحمر في رفح، جنوب قطاع غزة، يوم السبت، 22 فبراير/شباط 2025AP

عائلة الرجل كانت قد نظَّمت وقفات احتجاجية خلال السنوات الماضية، أمام مقر رئيس الوزراء، رافعة شعارات مثل: "دماء الإثيوبيين ليست رخيصة!"، في تحدٍّ صريح لما تقول إنها سياسة التفريق العنصري داخل الجيش.

Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية شاحنات المساعدات الإنسانية تدخل غزة تزامنًا مع تسليم حماس جثث 4 أسرى إسرائيليين إسرائيل تطرح مناقصة لبناء نحو 1000 وحدة استيطانية جديدة جنوب مدينة بيت لحم بالضفة الغربية نتنياهو: إسرائيل أمام فرصة تاريخية لـ"تغيير وجه الشرق الأوسط" مع تعيين قائد جديد للجيش قطاع غزةحركة حماسإسرائيلإثيوبياالصراع الإسرائيلي الفلسطيني إطلاق سراحاعلاناخترنا لكيعرض الآنNext دراسة: أوروبا قادرة على تحقيق أمنها العسكري بعيداً من واشنطن. بأي كلفة؟ يعرض الآنNextعاجل. إسرائيل تتسلم الرهائن من الصليب الأحمر وترقب للإفراج عن 602 أسير فلسطيني اليوم يعرض الآنNext تحولات حزب الله اللبناني مع نصرالله وبعده يعرض الآنNext مقابلة برليناله: فيلم "حفنة عسل" - تفكيك الحب في الظلام يعرض الآنNext الانتخابات الألمانية من منظور دولي: كيف ترى كل من الولايات المتحدة، روسيا والصين الحدث؟ اعلانالاكثر قراءة نتنياهو يتوعد حماس بدفع الثمن والحركة تعلّق على الالتباس حول جثة شيري بيباس تفجير 3 حافلات بواسطة عبوات ناسفة قرب تل أبيب وإسرائيل تقول إن مصدر العبوات جاء من الضفة الغربية في تطور مفاجئ: إسرائيل تتحدث عن "جثة مجهولة" ضمن صفقة تبادل مع حماس! "يوروبول" يحذر: تصاعد المجتمعات الإلكترونية العنيفة التي تستهدف الأطفال اكتشاف مذهل: العثور على مقبرة الفرعون تحتمس الثاني بعد قرن من الغموض والبحث! اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليومالانتخابات التشريعية الألمانية 2025روسيادونالد ترامبالاتحاد الأوروبيأوكرانياألمانياإسرائيلالحرب في أوكرانيا أنظمة الدفاع الجويفولوديمير زيلينسكيمستشفياتشرطةالموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2025

مقالات مشابهة

  • ما الذي يؤخر مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق غزة؟
  • تراجع ترامب عن خطاب التهجير.. ما الذي حدث؟
  • المليشيا الإرهابية تركب التونسية!
  • عمسيب: ما الذي يضيرك إن كنت أنتمي إلى تحور جيني معين؟
  • البدوي الذي يشتم رائحة الثلج ..!
  • مَن هو الأسير الإسرائيلي الذي قبَّل رأس جنود حماس؟.. «المظروف» لم يكن هدية
  • لأبراهام مانغيستو الذي أفرجت عنه حماس اليوم قصة مختلفة... فما هي؟
  • قصة المعلم الإسباني الذي وقع في حب السعودية .. فيديو
  • سرّ جديد عن اغتيال نصرالله.. من الذي خطط لذلك؟
  • محمد رضا «معلم السينما» الذي أضحك الأجيال