اسْمُ الْحَربُ وأَخْلاَقُها (١)
تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT
لكلِ حُرُوبِ العالَمِ أَسْمَاء، ولبعضِها قِيَمٍ وأَخْلاَقٍ، هكذا قِيلَ. وقِيلَ أن البشرية، بعد اِستِئنَاس الحيوان واِكتِشاف النار والزراعة إتجهت لِلحُرُوبِ، فطَوَّرَت فُنُونُها وخُطَطَها ثم صَاغَت لها الضَوابِط والمَعَايِير الأخْلاَقية، و لِتَقْنِينِ تلك السِمَات، أَطَلَقتَ عليها الأَسْمَاء. بينما كُنتُ أَطالِعَ ذلك، تَسَاءَلْتُ، مَا اِسم هذه الحرب التي تَفْتِكُ بنا الآن، ولنصفِ عامٍ من الزمانِ؟ هل لها اِسم، أم هي وَحَدَها المَارِقَة عن دَفتَرِ الأَسمَاءِ.
لو سَأَلَ سَائِلُ: مَا الجَدْوَى من طَرْحِ أسئِلَةِ القِيَم والأخلاَق، التي قد تَبْدُو خَرْقَاء، في وَسَطِ حَربٍ ليس لها اِسم، رغم مُنْجَزٌها الهائل في الْقَتْلِ والدَّمَارِ السَّاحِق؟ الإِجَابَةُ: أسئِلَةُ القِيَمُ لم يَطَرْحها أَحَدٌ، فمُنذُ بَدْءِ القِتَالِ، جَاءَت لَنَا هذه الأسئِلَةُ مَحْمُولَةً على أَسِنَّةِ الصَّوَارِيخِ، التي تحتَ زَئِيرِها المُرِعب، كُنَّا نَسْمَعُ في القَنَواتِ الفضائية، لمَزَاعِمِ قَائِدَي القوات المسلحة والدعم السريع، كُلُّ منهما، يَرْوِي لنا عن فَجِيعَته في رفيقِ دربهِ الذي خَانَ مِيثَاقَ الأُخُوَّة ونَقَضَ العُهُود. تَكَلَّمَا كثيراً، باِنْفِعالٍ وَبِلارَوِيَّةٍ، كُل ما أشارَ إليه مُجْمَلِ قَوْلِهما، لم يكن سِوَى إِدَانَة لِلطَرَفِ الآخِرِ، في الحَقِيقَةِ الواقِعيِّة، بإِحَالَتةِ لأَحْكَامِ الأخلاقِ ذاتَ الطابِعِ المُجَرَّد. إِحَالَةٌ كاذِبةً أم صَادقِة، بِالنَّفْيِ أو الإثْبَاتِ، فهذه و تلك سوف تَتَأرجَحان في كَفَّتيِ مِيزَانِ الأخلاق، وهو المَرجِعُ المُشْتَرَكُ الوَحِيد الذي تَبَقَّى بينهما، وتَبَقَّى لَنَا، كمُرْشِدٍ مُيَسَّرٍ بَسيط، تَمَّ تَجْميِعه في كُرَّاسَةٍ صَغِيرَةٍ، فيها النِّقَاطِ الأسَاسِيَّةِ لثَوَابِتِ الأخلاق، التي لم نأتِ بها من الخَارِجِ، ولكن جمعناها من كلامِهما، الذي كَيْفَما اِتَّفَقَ، تَنَاثَرَ هنا وهناك.
حَتَى نُسَهِّلَ على أَنْفُسِنا تَقْيِيمِ الَّذِي حدَثَ مِنْ خِلاَلِ رَبْطِه بعِلمِ الأخلاقِ، سنَكْتُبُ في أعَلَى صَفْحةِ الكُرَّاسِ الصَغِيرِ، جُمَلَةُ (الظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ ). الظَّاهِرُ هو المَحسُوس الواضِح الذي نتَعَرَّفُ عليه ونُدرِكُه بِالحَوَاسِّ الخَمْس، والبَاطِنُ مايُشَار به لِدَخِيلةِ الإنسان وضَمِيره. وهما هُنَا رَدِيفَان مُرْتَبِطَان. الرَّبْطُ بينهما ليس مِنْ تَأْلِيفِنا، لكنه تَمَّ بتَجْمِيعِ القَوْلِ المَنْثُورِ الذي بَاحَ به قُوَّاد الجيش والدعم السريع. فكُلّ طَرَفِ يقول أن الآخرُ هو مَنْ: خَطَّطَ ونفَّذَ. نَوَى وعَمِلَ. دَبَّرَ وفعَلَ. بعدَ سنواتِ المَوَاثِيقِ التي كانت بين رُفَقَاءُ السَّلَاَح والتَّعَاهُدَ عَلَى الإخْوَةِ والإخْلاَصِ. فالتَّخْطِيطُ والنِّيَّةُ والتَّدْبِيرُ، مِن المعاني المُجَرَّدَةِ التي تَنْدَرِج
تحت قَائِمَة الباطن. أمَّا الملموس المادي الذي يُنْجَزَ بالفِعلِ والتنفيذ والعمل، فهو الظاهر الذي تَحَقَّقَ بضَرْبِ النَّارِ وإشعال الفِتنَة في بَدْءِ يومِ المَقْتَلَةِ. كُلُّ هذه الأَقوَال والأَفعَال، الظَّاهِرَةُ والخَفِيِّةُ، بعد رَجِّها في غِرْبَالِ الأخلاق، يَفْضَل مِنها، الْخِيَانَة والغَدْرُ والْقَتْلُ الْعَمْدُ، وهي في عِلمِ الأخلاقِ مِن مَفَاتِيحِ الشَّرِّ، التي فُتِحتَ بِها أَبْوَاب الجَحيِم للحَربِ المَاحِقَة.
حَربٌ أخْرَجَتَنا مِن دِيارِنا قَهْراً، ثُمَّ جَعلَتنا نبحث عن أَسْبَابِ قِيَامِها وسُبُل إِيقافها، وكَأَنَّنَا مَنْ أَشْعَلَ نَارَها !! ومِن جُمْلةِ ما فَرَضَته عَلْيَنَا (الحرب التي ليس لها اِسم) أنْ نَسْأَلُ عن أَصْلِ وفَصْلِ أَخْلَاَقهَا، وَهْوَ مابَدَأْنَاه، وقَبْلَ أن نُوَاصِل فِيهِ، كان لا بُدَّ مِن طَرْحِ سُؤَّال بَديهِيّ مَنهجِيّ : هل يُوجَد عِلم أخلاق يَخُص الجيوش وَحْدَهَا، أم هي تَابِعَة لِذَاتِ مَعَايَيرِ أخلاق المجتمع العامة ؟ لَوْ اِفْتَرضنا التَّوَافُق قد تَّم على أن أَصْلُ وفَصْلُ الأَخلاق وَاحِد، سيكون في انتظارنا سؤال آخر مُفَخَّخ، حول النِّسْبِيَّةِ الأَخْلَاَقِيَّة، والتي يُقصد بها، أن الأخلاق غَيْرُ مُطْلَقَةٍ ولا هي وَاحِدة وثَابِتَة وأنها تختلف من بَلَدٍ لآخَرِ ومن شعب لآخَرِ. والذي جاء بِكَلاَمِ النِّسْبِيَّة الآن، هو اِعْتِقادُنا بأن الخَلفِيَات الاِجتمِاعِيَّة، بين الجيش والدعم السريع مُتَمَايِزة، لِكُلِّ مِنْهُم طَبِيعَة تكوين اِجْتِمَاعِىّ مُخْتَلِف عن الآخَرِ. كل هذه الاسئلة ما كانت ستَخْطُرُ بالْبَالِ في هَدْأَةِ أيام السلام، فهي من لُقُيات حُمَم بُرْكَان هذه الحرب. والحروب مثل البراكين، تَثُور وتَخْمُد، فتُخْرِج أثْقَال التَّارِيخ وكَوَامِن المجتمع.
في مقال سابق٢ ، ذكرنا أن قُواتُ الدعمَ السريع تَكَوَّنَت مِن حَلْقَاتٍ مَنْظُومَةِ مِن العَشَائِر التي تُمَثِّلُ القَبَائِل العَرَبِيِّة، قَبَائِلُ في حَالٍ مِن الاِرْتِحَالِ المُمْتَدُّ مِن غَرْبِ السُّودانِ إلى الْمُحِيطِ الأَطْلَسِيِّ. منذ خَمسةِ عقود من الزمانِ وهم يُوَاجِهُونَ تَقَلُّباتِ الْمُنَاخ، وأَهْوالُ التَّصَحُّرَ الذي قَضَى على الأَخْضَرِ وَاليَابِسِ، وأجْدَبَ الْمَرَاعِي وكاد يُهلِّك الإبِل وما رَتَعَ مَعهِا مِن مَاشِيَةِ، هي أسَاسُ الحَيَاة لقَبَائِلِ العَرب الرُّحَّل. ماحدَثَ لهم كان بفِعْلِ التَّرَاكُمِ البَطِئ والتَّدْهَوُر المُتَوَاصِل الذي أوْصَلَ البِيئَةِ إلى حَدِّ الاِحْتِضَارِ، مُضَاف لذلك، أنهم في مكانٍ بعيدٍ عن عُيُونِ العالمِ الذي اِعْتادَ رُؤْيَةُ الكَوَارِثِ الْمُفَاجِئَة النَّمَطيِّة، من زَلاَزِلِ وأعَاصِير وفَيَضَانَات في أمْكِنَةٍ مُكْتَظَّةٍ بِالسُّكَّانِ. أمّا هذه القَبائلُِ المنَسِيَّةُ في عُمقِ الصحراءِ، فقد تُرِكتَ وَحْدَهَا تُكَابِد الْأَمَرَّيْن. فاِتِّفَاقِيَات الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ الْمُبْرَمَة للقَضَاءِ على الفَقرِ المُدقِعِ في بُلْدَانِ التَّصَحُّرِ، لم يُنَفَّذ مِنْهَا شَيْءٍ سِوَى إِعادَةِ تَجْدِيدهَا، حتى صَارَت من الأسمارِ الطَّرِيفَة المُعادةِ. أمَّا الاِتِّحَادُ الأوربي، صَدِيقُ إفريقيا القَدِيم، فقد أصَابُه الهَلَع وكُلّ ماقام به، هو مُراقَبة شَواطِئهِ التي يَعلم أنها سوف تَمْتَلِئ بالهاربِين مِن مَهَالِكِ الصحراءِ. شُعُوبُ إفريقيا هي التي تَحَمَّلَت مَصائِب التَّصَحُّر وسَدَّدَت تَكْلِفَة تَبِعاته الباهِظَة.
في الفِقّرَةِ الفائِتَةِ، كُنَّا نُحَاوِلُ التَّعَرُّفَ على الأُصُولِ الإجتماعية لجُنُودِ الدعم السريع، فوجدنا الْمُنَاخ والطبيعة قد تحالفا مع التاريخ وسَيْطَرَا على المكان الذي كانوا فيه يقيمون. بسبب التصحر وقَهْرُ الطَّبِيَعة، تَفَرَّقَت القبائِل لجماعات وأفراد هاجروا من دِيارِهم صَوْب أيُّ مَلَاَذَات آمِنة، مِثْلُ شمال دارفور
التي تَجَنَّدَ فيها فِتْيَانُ القبائل في قوات الدعم السريع، ربما كان ذلك خِيَارهم الأفْضَل، إنّ لم يكن الأَوْحَد. بدأ ذلك في مطلع هذا القرن، حينها كانت هذه القوات نَوَاة في طَوْرِ تَّكْوينها الأَوَّلِ ، أيام حكومة عمر البشير وعُصْبَته، الذين تَمَكَّنُوا مِن اِسْتِغْلالِ شبيبة القبائل النَّازِحة للسودانِ وإِغْوائِهم في مَقْتَلَةِ الفور التَّارِيخِيَّة. وقيل أيضاً أنهم من قَتل ثوار اِنتفاضة العام ٢٠١٣م. وفي العام ٢٠١٩م في مَطَالِعِ الثورة، حين ظهر محمد حمدان دقلو في مقطع الفيديو الشهير معلناً رفضه لقتل الثوار, كانت تلك لحظة ثَبات قواته وميلادها الجديد في مُلْتَقَى النِّيلِينِ، بعد سنوات التِّيه الطِّوَال في البَرِّيَّةِ والْوَاحَات. قُمنَا بِكُلِّ بِهذِه اللَّفة، حتى نصل لمنابعِ الأخلاق وأَنْظِمَة القِيَم داخل سِياج القَبائِل العربية الرَّحَّالة. لعل ذلك يَنْفَعُ في فَهْمِ وتَفْسِيرِ الْمُعَادَلاَت الأَخْلاَقِيِّة، المُتَبَايِنَة أو المُتَجَانِسَة بين الجيش والدعم السريع.
الجَيْشُ نَدِيدُ الدَّولَة، في الْعُمُرِ وظُروفِ الْمِيلاَد. اِسْتَحْوَذَ على السُّلطةِ واِسْتَبَدَّ بها طِوَال عُمُرِه وعُمُر دولة الاِسْتِقلَالِ، عَدَا سنوات قليلة، قَلَعَها الشَّعْبُ مِنْه قَلْعاً. وبِالرَّغمِ مِنْ ذلك، فقد كان ومازال، هو أقْرَبَ أَركَانَ الدولة لمفهُومِ الْقَوْمِيِّةِ لو إِلتَزَم بحُدُودِه التي تأسَّسْ مِنْ أَجْلِها، وتَمَسَّكَ بكِيِانهِ العَسْكَرِيّ الاِحْتِرَافِيّ المُحَدَّد المَهَامّ. التَّارِيخُ العَّامُ للجَيشِ السُّودَانِّي لَيسَ الْمُرَادُ هُنَا، إلاَّ مَا يَخُصَّ تاريخ تَكْوِنيه الاِجتِماعِيِّ، فرُبَّمَا يَكُونَ الأقْرَبُ لِمَا نَسْعَى إِلْيَهِ وهو عِلْم الأَخْلَاَق، فالجَيش هو إبن المدينة الذي نَشَأَ فيها بتَكْوِينٍ حَضَرِيِّ. هَرَمٌ مِن أَسْفَلِ قَاعِدَته لقِمَّةِ رَأَسِه مُتَكِّلٌ على خَزْنَةِ الدولة في مَعَاشِه. تَجَمَّعَت فيه الأَعْرَاقِ باِنْتِمَاءِ عُضْوِيّ له، وبمُتَّسِعٍ مِنْ الرِّفَاقِيَّةِ، بِغَيْرِ عَصَبِيَّةِ قَبَائِليَّة. حدَثَ ذلك منذ قَرنِ من الزَّمَانِ في بِلادٍ لم يكن فيها سِوَى مَراعِي القَبَائِل وحُقُولَها. صَارَ الجَيشُ بقَوَامِه المَدِينِيِّ الْمُنضَبِط، هو الواجهة الحَضَرِيِّة العسكرية للدَّوْلَةِ. تَجِدَ وَحَداته في المُدنِ والأَقَالِيم مُنْسَجِمة ببعضها، وفي تَوَافُقٍ مع المُجتَمَعات المحيطة بها. وللمُجتَمَعِ في البَادِيَةِ والمُدُنِ، هَيمَنَة هَادِئَة، يَحْكُم بها أَفْرَاده بغِلْظَةٍ ونُعُومَة، تحتَ مَظَلَّةِ أَعْرَافٍ اِجتمِاعيِّة مُسْتَقِرَّة تَضْبِطُ سُلُوك الأفرَاد، ضَبْطٌ لم يَسْلَمْ مِنه رِجال الجيش في كُلِّ دَرجَاتِ تَرَاتُبهم العَسكَرِيِّ.
النِّظَامُ الأَخلَاَقيِّ مِنْ الثَّوَابِتِ المَعْنَويِّةِ في بِنْيَةُ المُجْتَمَعُ السُّودَانيِّ، تَظْهَرُ أَحْكَامُه الأخلاقيِّة بِجَلَاءٍ صَارِمِ، حِيْنَ تَتعرَّضً هذه الثَّوَابِتَ لاِهْتِزَازِ يُعَرِّضهَا لِأَخْطَارِ الزَّوَالِ أو التَّغْيِير الْعَنِيف. أمَّا فيِ الأَيَّامِ الرَّائِقة الْخَالِيَةِ مِنْ الوَقَائِعِ المشَهُودَةِ، يَصِيرُ العُرْفُ الأخلاَقيِّ مِنَ البَدِيهِيَّاتِ التي تَنْسَابُ بِسَلاَسَةِ بينَ النَّاسِ. وحَالُنَا هذا مِثْل أَحَوَال الآخرين في أَرْجَاءِ الأرْضِ، وهُوَ أَمْرٌ لا يُحَبِّذه بعض فلاسفة الأخلاق، مِثْلُ المُفَكِّر الرُّوسِّي نيكولاي برديائف٣، الذي يَصِفُه بالاِسَتِبدَادِ والإِرْهَابِ الذي تُمارِسُه سلطة المجتمع على الحياة الأخلاقية لأفراده عبر التاريخ في العالم. وقد أَبَانَ فِكَرَتُه بِوُضُوحٍ في قَولِه بِأَن " الأخلاق في جوهرها مستقلة عن كل ماهو اِجتماعي، الحقيقة الأخلاقية البحتة، لاتعتمد على المجتمع، أو لا تعتمد عليه إلا بقدر ما يكون المجتمع نفسه أخلاقياً. الحياة الأخلاقية متجذرة في العالم الروحي، والعلاقات الإجتماعية ماهي إلا مجرد إسقاط لها. الأخلاقي هو مايفسر الاجتماعي وليس العكس. الحياة الأخلاقية ليست شخصية فحسب، بل إنها إجتماعية أيضاً. لكن صفاء الوعي الأخلاقي يفسد على الدوام بما أسميه عنصر القطيع في الحياة الاجتماعية". هَاهُوَ الحَكِيمُ الرُّوسِّي يَشْكُو مُرَّ الشَكِّيَّة، مِنْ مُجْتَمَعَاتٍ كُنَّا نَظُنَّها صُمِّمَت لإِعْلاَءِ مَقامِ الحُرِّيَّة الفَرْدِيَّة في الاِخْتِيَارِ الأخلاقيِّ.
مَا حَدَثَ لَنَا، لم يكن فِعْلاً فَرَدياً قَام به مُغامِرٌ في اللَّيْلِ، لِنَقوم بتَحْلِيل عَنَاصِرِه الأَوَلِيَّةِ في النَّهارِ. مَا وَقَعَ عَلَيْنَا كان عَيْنُ الهَلاَكَ في حَربٍ أَمَاتَت الآلاَف مِن الأَنْفُسِ الْبَرِيئةِ، بِسببِ التَّهَاوُنِ الصَفِيقِ بحياةِ شَعبٍ لم يكن طرفاً في حربِهم. حَربٌ يَدَّعِي كُلُّ مِن الجيش والدعم السريع أنها اِنْدَلَعَتَ لِأَنّ الطرف الآخر قد اِنْتَهَكَ أَحْكَام الأخلاق، مِثل خِيَانَةُ العَهْد والغَدْرُ بِالْحَلِيفِ، فهذا يقول ذاك، هو الذي خان وغدر وضرب فقتل، ما يعني أنه فَعْلَ ما تَحَقَّقَ في الوَاقِعِ العِيَانِيّ المَحْسُوس، وَاقِعٌ له مِن الثِقَلٍ الأخلاقي الرَاسِخ، ما يُعْطِى الضَّوء الأَخْضَر لبَدءِ الحربِ، أي أنه الدَافِع الأخلاقي الذي بَرَّرَ له إعلان الحرب، تَحتَ شِعار (الشَّرُّ بِالشَّرِّ والبادِئُ أَظْلَمُ) وبما اننا لم نعرف من هو البادي، مثلما يحدث حين يَتَشَاكَس الأطفال ويتَضَاربَوا، فلن تسمع قبل عقابهم سوى، هو الذي ضربني في الاول. كما أن اطلاق النار بين متبارزين لايمكن ان يحدث في وقت واحد، إلا في طرائف افلام رعاة البقر في الغرب الامريكي، حين يصيبان بعضهما ويسقطان معاً. المتبارزون هنا، لا يتحدثون عن جدال ذهني حول القيم، أو حجة أخلاقية خلافية، إنهم يَجْزِمُون أنه الدافع الأخلاقي وَحَده، هو الذي مِن أجْلِه، طارت الطائرات بالمَقذُوفَاتِ ودَبَّت الدَبَّابَات في الأرضِ وأَرْعَدَت الصواريخ بالسماءِ، في مَشَاهِدٍ كأنها مُنْتَقَاةُ بِإِتْقَانٍ، مِن أَسَاطِيرِ حُروبِ العهد القديم.
باِفْتِرَاضِ جَدَلِيِّ، أن طّرفَا المُعادلة قد تَسَاوَيَا وتَعَادَلَتْ كَفَّتَا مِيزَانِ الأخلاق، ذلك يَعنى أن الجيش والدعم السريع اِستَنَدَا على مَصادرٍ أخلاقية مُتَمَاثِلَة، ذَاتُ أَحْكَامِ صَارِمَة مُقَدَّسَة، وكان التَّعَدِّي عليها، هو الدَافِع الأخلاقي لِكُلّ منهما، لاِعلان الحرب التي لم يَسْتَطِيعا تَجَنُّبِها. فقد تَبَرَّأَ كُلّ طَرِف مِنَ تُهْمَةِ الخيانةِ والغدر وجَزَمَ أنها أُلْصِقَتْ به ظُلْماً، ثم رَمَى بها الطرف الآخر، وكان ذلك هو الدافع الاخلاقي المُشْتَرَكَ بينهما، والذي لِأجله طَلَعَا لِيَحْتَرِبا في وَسَطِ الْمُدُنِ. سؤال الاخلاق اِكْتَسَبَ قُوَّته وتَجَدُّدُه مع اِستمِرار الحرب، واتِّسَاع نِطاقُها وثَبات أَنْمَاطها حتى قَدَّمَت الدَلائِل والبَراهين والشواهد المادية التي يمكن أن تُستَخَرج منها خُلاصَة مَعرِفية أخلاقية ذَاتُ خَصَائِص مُتَمَاسِكة، مُتَماثِلة أو مُتَنَافِرَة، فهى التي قد تَذَرَّعَت بِها الحرب.
osman.amer@icloud.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ن الجیش والدعم السریع أ ح ک ام لم یکن التی ت
إقرأ أيضاً:
طه الفشني.. القارئ الذي فقد صوته فاستعاده بمعجزة أمام قبر النبي
عندما يحل شهر رمضان المبارك، تتزين لياليه بصوت يأخذ القلوب إلى عالم من الخشوع والتأمل، إنه الشيخ طه الفشني، أحد أعظم المقرئين والمنشدين في تاريخ الإنشاد الديني، وصاحب الصوت الذي أصبح رمزاً من رموز الشهر الفضيل في مصر والعالم الإسلامي.
ارتبط اسم الفشني بالأذان والتواشيح الرمضانية، فكان صوته يملأ أجواء مسجد الحسين في ليالي المولد النبوي وليالي رمضان، حيث يجتمع المريدون والمحبون للاستماع إلى تلاواته وابتهالاته التي تحلق بالروح في ملكوت النغم والقرآن.من الفشن إلى عالم التلاوة والإنشاد
ولد الشيخ طه الفشني عام 1900 في مدينة الفشن، التي كانت تتبع قديماً محافظة المنيا قبل أن تصبح جزءاً من بني سويف في صعيد مصر.
ونشأ في أسرة متدينة، حيث كان والده تاجر أقمشة، بينما كانت والدته تنتمي إلى أسرة عريقة، فهي شقيقة عمدة قرية صفانية، وهذه البيئة المحافظة والملتزمة كان لها أثر عميق في تشكيل شخصية الشيخ طه منذ صغره.
وفي سن مبكرة، التحق الشيخ طه بكتّاب القرية، وهناك بدأ أولى خطواته مع القرآن الكريم، فقد كان صوته العذب ملفتاً للأنظار، وكان يردد الآيات بصوت قوي مميز، حتى لاحظ والده موهبته الفريدة، فقرر أن يهتم به ويشرف على حفظه للقرآن الكريم، وبالفعل أتم الطفل طه الفشني حفظه قبل أن يبلغ 12 عاماً.
ولم يمهل القدر والده الفرصة ليرى ابنه وهو يشق طريقه نحو المجد، فقد وافته المنية قبل أن يبلغ الصغير سن البلوغ، ليجد نفسه في رعاية خاله، الذي تبنى تربيته ورعايته، وساعده على استكمال مسيرته التعليمية حتى حصل على شهادة كفاءة المعلمين.
ومع أنه برع في دراسته، إلا أن صوته كان السبب في شهرته المبكرة، فقد ذاع صيته في مدارس المنيا وبني سويف، وأصبح حديث الجميع، حتى انتشرت شهرته في صعيد مصر، باعتباره القارئ صاحب الصوت الملائكي.
لم يكن طموح الشيخ طه يتوقف عند حدود الصعيد، فقد كان متعطشاً للعلم والمعرفة، وعندما بلغ 19 عاماً قرر أن يشد الرحال إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة دار العلوم، لكن جاءت ثورة 1919 لتعطل حلمه، فعاد إلى مسقط رأسه.
ولم يمكث طويلًا هناك، وسرعان ما عاد إلى القاهرة مرة أخرى، لكنه هذه المرة اتجه إلى الأزهر الشريف، حيث درس علوم القراءات على يد الشيخ عبد العزيز السحار، أحد كبار العلماء في الأزهر.
وخلال فترة دراسته في الأزهر، تزايدت شهرته، وأصبح ضيفاً دائماً على الحفلات والمناسبات الدينية في القاهرة. ولم يقتصر دوره على قراءة القرآن الكريم فقط، بل برع أيضاً في الإنشاد الديني والتواشيح، حيث امتلك صوتاً قادراً على أداء أعقد المقامات الموسيقية، مما جعله نجماً بين أقرانه.
كان مسجد سيدنا الحسين بمثابة البيت الثاني للشيخ طه الفشني، حيث اعتاد الصلاة والإنشاد وقراءة القرآن، حتى أصبح له مريدون وعشاق يأتون من أماكن بعيدة لسماع صوته الساحر.
وفي إحدى الليالي الرمضانية، كان الشيخ طه حاضراً للاحتفال السنوي بمولد الحسين، حين طلب الجمهور منه أن يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم، لكنه رفض في البداية لأنه لم يكن معتمداً رسمياً للقراءة، لكن أحد موظفي وزارة الأوقاف أبلغ رئيس الإذاعة المصرية آنذاك، سعيد باشا لطفي، الذي أعطى الإذن له بقراءة خمس دقائق فقط.
وبمجرد أن بدأ الفشني في التلاوة، انبهر الجميع بصوته، حتى جاءه نفس الرجل ليقول له: "أكمل ولا تختم يا شيخ، رئيس الإذاعة مبسوط من صوتك". وبالفعل استمر الشيخ في التلاوة حتى وصلت مدتها إلى 20 دقيقة، وعندما أنهى القراءة، استدعاه رئيس الإذاعة وقال له: "تعالى يا شيخ طه.. أنا سمعتك، وأحب أعرفك إن الإذاعة محتاجة لك، وسأنتظرك غداً في مكتبي".
وهكذا، في عام 1937، تم اعتماد الشيخ طه الفشني رسمياً في الإذاعة المصرية، ليصبح أحد أعظم المقرئين والمنشدين في تاريخ الإذاعة، ومن أوائل من تم اعتمادهم في الطبقة الأولى الممتازة.
لم يكن الشيخ طه الفشني مجرد قارئ قرآن، بل كان أيضاً أعظم منشد ديني في عصره، إذ ارتبط اسمه بالأذان والتواشيح، خاصة في شهر رمضان، حيث كان صوته يملأ المساجد والمحافل الكبرى، لدرجة أن الملك فاروق اختاره لإحياء ليالي رمضان في قصر عابدين لمدة 9 سنوات متتالية.
كما أحبه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وكذلك محمد أنور السادات، وكان القارئ الرسمي للرئاسة، وسافر إلى الإمارات والسعودية والمغرب وسوريا وماليزيا لتقديم التلاوات والإنشاد الديني.
في عام 1948، تعرض الشيخ طه الفشني لمرض غامض أدى إلى احتباس صوته بالكامل، مما جعله يدخل في حالة حزن شديد. وبعد فشل الأطباء في علاجه، قرر السفر إلى المملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج، وهناك وقعت المعجزة، فبينما كان واقفاً عند قبر النبي عاد إليه صوته فجأة، ليعود إلى مصر وهو يردد: "الحبيب المصطفى أعاد إليّ صوتي".
وفي 10 ديسمبر (كانون الأول) 1971، رحل الشيخ طه الفشني عن عالمنا بعد صراع مع المرض، لكنه ترك خلفه إرثاً ممتداً من التلاوات والتواشيح التي لا تزال تتردد في كل بيت ومسجد، داخل مصر وخارجها.