سودانايل:
2025-04-01@08:01:58 GMT

اسْمُ الْحَربُ وأَخْلاَقُها (١)

تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT

لكلِ حُرُوبِ العالَمِ أَسْمَاء، ولبعضِها قِيَمٍ وأَخْلاَقٍ، هكذا قِيلَ. وقِيلَ أن البشرية، بعد اِستِئنَاس الحيوان واِكتِشاف النار والزراعة إتجهت لِلحُرُوبِ، فطَوَّرَت فُنُونُها وخُطَطَها ثم صَاغَت لها الضَوابِط والمَعَايِير الأخْلاَقية، و لِتَقْنِينِ تلك السِمَات، أَطَلَقتَ عليها الأَسْمَاء. بينما كُنتُ أَطالِعَ ذلك، تَسَاءَلْتُ، مَا اِسم هذه الحرب التي تَفْتِكُ بنا الآن، ولنصفِ عامٍ من الزمانِ؟ هل لها اِسم، أم هي وَحَدَها المَارِقَة عن دَفتَرِ الأَسمَاءِ.

فكلُ ما لَصِقَ بِها كان من بابِ النُعُوتِ والأَوْصَافِ، مِن شَاكِلَةِ العبثية واللعينة، أو بِمُشْتَقَّاتٍ من معاني الفَخَرِ والجَسَارَةِ، كمعركةِ الكرامة ومَثيِلاَتها مِن أَسْمَاءٍ بَائِخةٍ أو بَليغَة، لم تكن حَتْماً هي السبب في إشعالِ الحربِ، وحَتْماً لن تَتَوقَّف الحرب لأننا وَجَدَنا لها الإسم المُنَاسِب، لَكِنْ "الخطأ في تسمية الأشياء يزيد من بُؤسِ العالم"١ ومن بُؤسِ وَاقِعنَا الذي أَخْفَقَنا في تَطْوِيرِه، ولن نُحْسِن تَسَمِّيته وتَعْرِيفه.

لو سَأَلَ سَائِلُ: مَا الجَدْوَى من طَرْحِ أسئِلَةِ القِيَم والأخلاَق، التي قد تَبْدُو خَرْقَاء، في وَسَطِ حَربٍ ليس لها اِسم، رغم مُنْجَزٌها الهائل في الْقَتْلِ والدَّمَارِ السَّاحِق؟ الإِجَابَةُ: أسئِلَةُ القِيَمُ لم يَطَرْحها أَحَدٌ، فمُنذُ بَدْءِ القِتَالِ، جَاءَت لَنَا هذه الأسئِلَةُ مَحْمُولَةً على أَسِنَّةِ الصَّوَارِيخِ، التي تحتَ زَئِيرِها المُرِعب، كُنَّا نَسْمَعُ في القَنَواتِ الفضائية، لمَزَاعِمِ قَائِدَي القوات المسلحة والدعم السريع، كُلُّ منهما، يَرْوِي لنا عن فَجِيعَته في رفيقِ دربهِ الذي خَانَ مِيثَاقَ الأُخُوَّة ونَقَضَ العُهُود. تَكَلَّمَا كثيراً، باِنْفِعالٍ وَبِلارَوِيَّةٍ، كُل ما أشارَ إليه مُجْمَلِ قَوْلِهما، لم يكن سِوَى إِدَانَة لِلطَرَفِ الآخِرِ، في الحَقِيقَةِ الواقِعيِّة، بإِحَالَتةِ لأَحْكَامِ الأخلاقِ ذاتَ الطابِعِ المُجَرَّد. إِحَالَةٌ كاذِبةً أم صَادقِة، بِالنَّفْيِ أو الإثْبَاتِ، فهذه و تلك سوف تَتَأرجَحان في كَفَّتيِ مِيزَانِ الأخلاق، وهو المَرجِعُ المُشْتَرَكُ الوَحِيد الذي تَبَقَّى بينهما، وتَبَقَّى لَنَا، كمُرْشِدٍ مُيَسَّرٍ بَسيط، تَمَّ تَجْميِعه في كُرَّاسَةٍ صَغِيرَةٍ، فيها النِّقَاطِ الأسَاسِيَّةِ لثَوَابِتِ الأخلاق، التي لم نأتِ بها من الخَارِجِ، ولكن جمعناها من كلامِهما، الذي كَيْفَما اِتَّفَقَ، تَنَاثَرَ هنا وهناك.

حَتَى نُسَهِّلَ على أَنْفُسِنا تَقْيِيمِ الَّذِي حدَثَ مِنْ خِلاَلِ رَبْطِه بعِلمِ الأخلاقِ، سنَكْتُبُ في أعَلَى صَفْحةِ الكُرَّاسِ الصَغِيرِ، جُمَلَةُ (الظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ ). الظَّاهِرُ هو المَحسُوس الواضِح الذي نتَعَرَّفُ عليه ونُدرِكُه بِالحَوَاسِّ الخَمْس، والبَاطِنُ مايُشَار به لِدَخِيلةِ الإنسان وضَمِيره. وهما هُنَا رَدِيفَان مُرْتَبِطَان. الرَّبْطُ بينهما ليس مِنْ تَأْلِيفِنا، لكنه تَمَّ بتَجْمِيعِ القَوْلِ المَنْثُورِ الذي بَاحَ به قُوَّاد الجيش والدعم السريع. فكُلّ طَرَفِ يقول أن الآخرُ هو مَنْ: خَطَّطَ ونفَّذَ. نَوَى وعَمِلَ. دَبَّرَ وفعَلَ. بعدَ سنواتِ المَوَاثِيقِ التي كانت بين رُفَقَاءُ السَّلَاَح والتَّعَاهُدَ عَلَى الإخْوَةِ والإخْلاَصِ. فالتَّخْطِيطُ والنِّيَّةُ والتَّدْبِيرُ، مِن المعاني المُجَرَّدَةِ التي تَنْدَرِج
تحت قَائِمَة الباطن. أمَّا الملموس المادي الذي يُنْجَزَ بالفِعلِ والتنفيذ والعمل، فهو الظاهر الذي تَحَقَّقَ بضَرْبِ النَّارِ وإشعال الفِتنَة في بَدْءِ يومِ المَقْتَلَةِ. كُلُّ هذه الأَقوَال والأَفعَال، الظَّاهِرَةُ والخَفِيِّةُ، بعد رَجِّها في غِرْبَالِ الأخلاق، يَفْضَل مِنها، الْخِيَانَة والغَدْرُ والْقَتْلُ الْعَمْدُ، وهي في عِلمِ الأخلاقِ مِن مَفَاتِيحِ الشَّرِّ، التي فُتِحتَ بِها أَبْوَاب الجَحيِم للحَربِ المَاحِقَة.

حَربٌ أخْرَجَتَنا مِن دِيارِنا قَهْراً، ثُمَّ جَعلَتنا نبحث عن أَسْبَابِ قِيَامِها وسُبُل إِيقافها، وكَأَنَّنَا مَنْ أَشْعَلَ نَارَها !! ومِن جُمْلةِ ما فَرَضَته عَلْيَنَا (الحرب التي ليس لها اِسم) أنْ نَسْأَلُ عن أَصْلِ وفَصْلِ أَخْلَاَقهَا، وَهْوَ مابَدَأْنَاه، وقَبْلَ أن نُوَاصِل فِيهِ، كان لا بُدَّ مِن طَرْحِ سُؤَّال بَديهِيّ مَنهجِيّ : هل يُوجَد عِلم أخلاق يَخُص الجيوش وَحْدَهَا، أم هي تَابِعَة لِذَاتِ مَعَايَيرِ أخلاق المجتمع العامة ؟ لَوْ اِفْتَرضنا التَّوَافُق قد تَّم على أن أَصْلُ وفَصْلُ الأَخلاق وَاحِد، سيكون في انتظارنا سؤال آخر مُفَخَّخ، حول النِّسْبِيَّةِ الأَخْلَاَقِيَّة، والتي يُقصد بها، أن الأخلاق غَيْرُ مُطْلَقَةٍ ولا هي وَاحِدة وثَابِتَة وأنها تختلف من بَلَدٍ لآخَرِ ومن شعب لآخَرِ. والذي جاء بِكَلاَمِ النِّسْبِيَّة الآن، هو اِعْتِقادُنا بأن الخَلفِيَات الاِجتمِاعِيَّة، بين الجيش والدعم السريع مُتَمَايِزة، لِكُلِّ مِنْهُم طَبِيعَة تكوين اِجْتِمَاعِىّ مُخْتَلِف عن الآخَرِ. كل هذه الاسئلة ما كانت ستَخْطُرُ بالْبَالِ في هَدْأَةِ أيام السلام، فهي من لُقُيات حُمَم بُرْكَان هذه الحرب. والحروب مثل البراكين، تَثُور وتَخْمُد، فتُخْرِج أثْقَال التَّارِيخ وكَوَامِن المجتمع.

في مقال سابق٢ ، ذكرنا أن قُواتُ الدعمَ السريع تَكَوَّنَت مِن حَلْقَاتٍ مَنْظُومَةِ مِن العَشَائِر التي تُمَثِّلُ القَبَائِل العَرَبِيِّة، قَبَائِلُ في حَالٍ مِن الاِرْتِحَالِ المُمْتَدُّ مِن غَرْبِ السُّودانِ إلى الْمُحِيطِ الأَطْلَسِيِّ. منذ خَمسةِ عقود من الزمانِ وهم يُوَاجِهُونَ تَقَلُّباتِ الْمُنَاخ، وأَهْوالُ التَّصَحُّرَ الذي قَضَى على الأَخْضَرِ وَاليَابِسِ، وأجْدَبَ الْمَرَاعِي وكاد يُهلِّك الإبِل وما رَتَعَ مَعهِا مِن مَاشِيَةِ، هي أسَاسُ الحَيَاة لقَبَائِلِ العَرب الرُّحَّل. ماحدَثَ لهم كان بفِعْلِ التَّرَاكُمِ البَطِئ والتَّدْهَوُر المُتَوَاصِل الذي أوْصَلَ البِيئَةِ إلى حَدِّ الاِحْتِضَارِ، مُضَاف لذلك، أنهم في مكانٍ بعيدٍ عن عُيُونِ العالمِ الذي اِعْتادَ رُؤْيَةُ الكَوَارِثِ الْمُفَاجِئَة النَّمَطيِّة، من زَلاَزِلِ وأعَاصِير وفَيَضَانَات في أمْكِنَةٍ مُكْتَظَّةٍ بِالسُّكَّانِ. أمّا هذه القَبائلُِ المنَسِيَّةُ في عُمقِ الصحراءِ، فقد تُرِكتَ وَحْدَهَا تُكَابِد الْأَمَرَّيْن. فاِتِّفَاقِيَات الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ الْمُبْرَمَة للقَضَاءِ على الفَقرِ المُدقِعِ في بُلْدَانِ التَّصَحُّرِ، لم يُنَفَّذ مِنْهَا شَيْءٍ سِوَى إِعادَةِ تَجْدِيدهَا، حتى صَارَت من الأسمارِ الطَّرِيفَة المُعادةِ. أمَّا الاِتِّحَادُ الأوربي، صَدِيقُ إفريقيا القَدِيم، فقد أصَابُه الهَلَع وكُلّ ماقام به، هو مُراقَبة شَواطِئهِ التي يَعلم أنها سوف تَمْتَلِئ بالهاربِين مِن مَهَالِكِ الصحراءِ. شُعُوبُ إفريقيا هي التي تَحَمَّلَت مَصائِب التَّصَحُّر وسَدَّدَت تَكْلِفَة تَبِعاته الباهِظَة.

في الفِقّرَةِ الفائِتَةِ، كُنَّا نُحَاوِلُ التَّعَرُّفَ على الأُصُولِ الإجتماعية لجُنُودِ الدعم السريع، فوجدنا الْمُنَاخ والطبيعة قد تحالفا مع التاريخ وسَيْطَرَا على المكان الذي كانوا فيه يقيمون. بسبب التصحر وقَهْرُ الطَّبِيَعة، تَفَرَّقَت القبائِل لجماعات وأفراد هاجروا من دِيارِهم صَوْب أيُّ مَلَاَذَات آمِنة، مِثْلُ شمال دارفور
التي تَجَنَّدَ فيها فِتْيَانُ القبائل في قوات الدعم السريع، ربما كان ذلك خِيَارهم الأفْضَل، إنّ لم يكن الأَوْحَد. بدأ ذلك في مطلع هذا القرن، حينها كانت هذه القوات نَوَاة في طَوْرِ تَّكْوينها الأَوَّلِ ، أيام حكومة عمر البشير وعُصْبَته، الذين تَمَكَّنُوا مِن اِسْتِغْلالِ شبيبة القبائل النَّازِحة للسودانِ وإِغْوائِهم في مَقْتَلَةِ الفور التَّارِيخِيَّة. وقيل أيضاً أنهم من قَتل ثوار اِنتفاضة العام ٢٠١٣م. وفي العام ٢٠١٩م في مَطَالِعِ الثورة، حين ظهر محمد حمدان دقلو في مقطع الفيديو الشهير معلناً رفضه لقتل الثوار, كانت تلك لحظة ثَبات قواته وميلادها الجديد في مُلْتَقَى النِّيلِينِ، بعد سنوات التِّيه الطِّوَال في البَرِّيَّةِ والْوَاحَات. قُمنَا بِكُلِّ بِهذِه اللَّفة، حتى نصل لمنابعِ الأخلاق وأَنْظِمَة القِيَم داخل سِياج القَبائِل العربية الرَّحَّالة. لعل ذلك يَنْفَعُ في فَهْمِ وتَفْسِيرِ الْمُعَادَلاَت الأَخْلاَقِيِّة، المُتَبَايِنَة أو المُتَجَانِسَة بين الجيش والدعم السريع.

الجَيْشُ نَدِيدُ الدَّولَة، في الْعُمُرِ وظُروفِ الْمِيلاَد. اِسْتَحْوَذَ على السُّلطةِ واِسْتَبَدَّ بها طِوَال عُمُرِه وعُمُر دولة الاِسْتِقلَالِ، عَدَا سنوات قليلة، قَلَعَها الشَّعْبُ مِنْه قَلْعاً. وبِالرَّغمِ مِنْ ذلك، فقد كان ومازال، هو أقْرَبَ أَركَانَ الدولة لمفهُومِ الْقَوْمِيِّةِ لو إِلتَزَم بحُدُودِه التي تأسَّسْ مِنْ أَجْلِها، وتَمَسَّكَ بكِيِانهِ العَسْكَرِيّ الاِحْتِرَافِيّ المُحَدَّد المَهَامّ. التَّارِيخُ العَّامُ للجَيشِ السُّودَانِّي لَيسَ الْمُرَادُ هُنَا، إلاَّ مَا يَخُصَّ تاريخ تَكْوِنيه الاِجتِماعِيِّ، فرُبَّمَا يَكُونَ الأقْرَبُ لِمَا نَسْعَى إِلْيَهِ وهو عِلْم الأَخْلَاَق، فالجَيش هو إبن المدينة الذي نَشَأَ فيها بتَكْوِينٍ حَضَرِيِّ. هَرَمٌ مِن أَسْفَلِ قَاعِدَته لقِمَّةِ رَأَسِه مُتَكِّلٌ على خَزْنَةِ الدولة في مَعَاشِه. تَجَمَّعَت فيه الأَعْرَاقِ باِنْتِمَاءِ عُضْوِيّ له، وبمُتَّسِعٍ مِنْ الرِّفَاقِيَّةِ، بِغَيْرِ عَصَبِيَّةِ قَبَائِليَّة. حدَثَ ذلك منذ قَرنِ من الزَّمَانِ في بِلادٍ لم يكن فيها سِوَى مَراعِي القَبَائِل وحُقُولَها. صَارَ الجَيشُ بقَوَامِه المَدِينِيِّ الْمُنضَبِط، هو الواجهة الحَضَرِيِّة العسكرية للدَّوْلَةِ. تَجِدَ وَحَداته في المُدنِ والأَقَالِيم مُنْسَجِمة ببعضها، وفي تَوَافُقٍ مع المُجتَمَعات المحيطة بها. وللمُجتَمَعِ في البَادِيَةِ والمُدُنِ، هَيمَنَة هَادِئَة، يَحْكُم بها أَفْرَاده بغِلْظَةٍ ونُعُومَة، تحتَ مَظَلَّةِ أَعْرَافٍ اِجتمِاعيِّة مُسْتَقِرَّة تَضْبِطُ سُلُوك الأفرَاد، ضَبْطٌ لم يَسْلَمْ مِنه رِجال الجيش في كُلِّ دَرجَاتِ تَرَاتُبهم العَسكَرِيِّ.

النِّظَامُ الأَخلَاَقيِّ مِنْ الثَّوَابِتِ المَعْنَويِّةِ في بِنْيَةُ المُجْتَمَعُ السُّودَانيِّ، تَظْهَرُ أَحْكَامُه الأخلاقيِّة بِجَلَاءٍ صَارِمِ، حِيْنَ تَتعرَّضً هذه الثَّوَابِتَ لاِهْتِزَازِ يُعَرِّضهَا لِأَخْطَارِ الزَّوَالِ أو التَّغْيِير الْعَنِيف. أمَّا فيِ الأَيَّامِ الرَّائِقة الْخَالِيَةِ مِنْ الوَقَائِعِ المشَهُودَةِ، يَصِيرُ العُرْفُ الأخلاَقيِّ مِنَ البَدِيهِيَّاتِ التي تَنْسَابُ بِسَلاَسَةِ بينَ النَّاسِ. وحَالُنَا هذا مِثْل أَحَوَال الآخرين في أَرْجَاءِ الأرْضِ، وهُوَ أَمْرٌ لا يُحَبِّذه بعض فلاسفة الأخلاق، مِثْلُ المُفَكِّر الرُّوسِّي نيكولاي برديائف٣، الذي يَصِفُه بالاِسَتِبدَادِ والإِرْهَابِ الذي تُمارِسُه سلطة المجتمع على الحياة الأخلاقية لأفراده عبر التاريخ في العالم. وقد أَبَانَ فِكَرَتُه بِوُضُوحٍ في قَولِه بِأَن " الأخلاق في جوهرها مستقلة عن كل ماهو اِجتماعي، الحقيقة الأخلاقية البحتة، لاتعتمد على المجتمع، أو لا تعتمد عليه إلا بقدر ما يكون المجتمع نفسه أخلاقياً. الحياة الأخلاقية متجذرة في العالم الروحي، والعلاقات الإجتماعية ماهي إلا مجرد إسقاط لها. الأخلاقي هو مايفسر الاجتماعي وليس العكس. الحياة الأخلاقية ليست شخصية فحسب، بل إنها إجتماعية أيضاً. لكن صفاء الوعي الأخلاقي يفسد على الدوام بما أسميه عنصر القطيع في الحياة الاجتماعية". هَاهُوَ الحَكِيمُ الرُّوسِّي يَشْكُو مُرَّ الشَكِّيَّة، مِنْ مُجْتَمَعَاتٍ كُنَّا نَظُنَّها صُمِّمَت لإِعْلاَءِ مَقامِ الحُرِّيَّة الفَرْدِيَّة في الاِخْتِيَارِ الأخلاقيِّ.

مَا حَدَثَ لَنَا، لم يكن فِعْلاً فَرَدياً قَام به مُغامِرٌ في اللَّيْلِ، لِنَقوم بتَحْلِيل عَنَاصِرِه الأَوَلِيَّةِ في النَّهارِ. مَا وَقَعَ عَلَيْنَا كان عَيْنُ الهَلاَكَ في حَربٍ أَمَاتَت الآلاَف مِن الأَنْفُسِ الْبَرِيئةِ، بِسببِ التَّهَاوُنِ الصَفِيقِ بحياةِ شَعبٍ لم يكن طرفاً في حربِهم. حَربٌ يَدَّعِي كُلُّ مِن الجيش والدعم السريع أنها اِنْدَلَعَتَ لِأَنّ الطرف الآخر قد اِنْتَهَكَ أَحْكَام الأخلاق، مِثل خِيَانَةُ العَهْد والغَدْرُ بِالْحَلِيفِ، فهذا يقول ذاك، هو الذي خان وغدر وضرب فقتل، ما يعني أنه فَعْلَ ما تَحَقَّقَ في الوَاقِعِ العِيَانِيّ المَحْسُوس، وَاقِعٌ له مِن الثِقَلٍ الأخلاقي الرَاسِخ، ما يُعْطِى الضَّوء الأَخْضَر لبَدءِ الحربِ، أي أنه الدَافِع الأخلاقي الذي بَرَّرَ له إعلان الحرب، تَحتَ شِعار (الشَّرُّ بِالشَّرِّ والبادِئُ أَظْلَمُ) وبما اننا لم نعرف من هو البادي، مثلما يحدث حين يَتَشَاكَس الأطفال ويتَضَاربَوا، فلن تسمع قبل عقابهم سوى، هو الذي ضربني في الاول. كما أن اطلاق النار بين متبارزين لايمكن ان يحدث في وقت واحد، إلا في طرائف افلام رعاة البقر في الغرب الامريكي، حين يصيبان بعضهما ويسقطان معاً. المتبارزون هنا، لا يتحدثون عن جدال ذهني حول القيم، أو حجة أخلاقية خلافية، إنهم يَجْزِمُون أنه الدافع الأخلاقي وَحَده، هو الذي مِن أجْلِه، طارت الطائرات بالمَقذُوفَاتِ ودَبَّت الدَبَّابَات في الأرضِ وأَرْعَدَت الصواريخ بالسماءِ، في مَشَاهِدٍ كأنها مُنْتَقَاةُ بِإِتْقَانٍ، مِن أَسَاطِيرِ حُروبِ العهد القديم.

باِفْتِرَاضِ جَدَلِيِّ، أن طّرفَا المُعادلة قد تَسَاوَيَا وتَعَادَلَتْ كَفَّتَا مِيزَانِ الأخلاق، ذلك يَعنى أن الجيش والدعم السريع اِستَنَدَا على مَصادرٍ أخلاقية مُتَمَاثِلَة، ذَاتُ أَحْكَامِ صَارِمَة مُقَدَّسَة، وكان التَّعَدِّي عليها، هو الدَافِع الأخلاقي لِكُلّ منهما، لاِعلان الحرب التي لم يَسْتَطِيعا تَجَنُّبِها. فقد تَبَرَّأَ كُلّ طَرِف مِنَ تُهْمَةِ الخيانةِ والغدر وجَزَمَ أنها أُلْصِقَتْ به ظُلْماً، ثم رَمَى بها الطرف الآخر، وكان ذلك هو الدافع الاخلاقي المُشْتَرَكَ بينهما، والذي لِأجله طَلَعَا لِيَحْتَرِبا في وَسَطِ الْمُدُنِ. سؤال الاخلاق اِكْتَسَبَ قُوَّته وتَجَدُّدُه مع اِستمِرار الحرب، واتِّسَاع نِطاقُها وثَبات أَنْمَاطها حتى قَدَّمَت الدَلائِل والبَراهين والشواهد المادية التي يمكن أن تُستَخَرج منها خُلاصَة مَعرِفية أخلاقية ذَاتُ خَصَائِص مُتَمَاسِكة، مُتَماثِلة أو مُتَنَافِرَة، فهى التي قد تَذَرَّعَت بِها الحرب.


osman.amer@icloud.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: ن الجیش والدعم السریع أ ح ک ام لم یکن التی ت

إقرأ أيضاً:

العيد في العراق بين الماضي والحاضر: ما الذي طرأ على المجتمع

آخر تحديث: 30 مارس 2025 - 11:34 صبقلم:د. مصطفى الصبيحي
العيد في العراق كان مناسبة ذات طابع خاص اجتماعياً ودينياً يعكس التلاحم بين الأفراد والعائلات. كانت الاستعدادات تبدأ قبل أيام، حيث تنشغل العائلات بصناعة الحلويات التقليدية مثل الكليجة، وهي من أبرز رموز العيد التي يجتمع حولها الكبار والصغار. وكانت الأسواق تشهد حركة نشطة لشراء الملابس الجديدة، خاصة للأطفال، الذين كانوا ينتظرون هذه المناسبة بلهفة للحصول على “العيدية”، وهي المبلغ المالي الذي يمنحه الكبار للصغار كنوع من العطاء والبركة.
كان العيد أيضاً فرصة للتزاور وصلة الرحم، حيث يحرص الجميع على زيارة الأقارب والجيران وتبادل التهاني. ولم تكن هذه الزيارات مجرد مجاملات، بل كانت تعكس روح المحبة والتضامن بين أفراد المجتمع. كما لعبت المساجد والمجالس العشائرية دوراً محورياً في توحيد الناس، حيث كانت تقام فيها الصلوات وتبادل التهاني بين أفراد القبائل والعشائر المختلفة.
وشهد العراق تغيرات اجتماعية كبيرة خلال العقود الأخيرة أثرت على طبيعة الاحتفال بالعيد. في الماضي، كانت العلاقات العائلية أكثر تماسكاً، وكانت الزيارات تتم ببساطة ودون تكلف. أما اليوم، فقد تغير نمط الحياة، وأصبحت الزيارات العائلية أقل تواتراً بسبب الانشغال بالعمل أو الابتعاد الجغرافي الناجم عن الهجرة الداخلية والخارجية. ومع ذلك، لا تزال بعض العادات قائمة، وإن كان يتم التعبير عنها بطرق حديثة، مثل تبادل التهاني عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من الزيارات المباشرة.
ومنذ عام 2003، شهد العراق تحولات سياسية وأمنية أثرت على الطابع الاجتماعي للأعياد. في بعض الفترات، أدى الانقسام السياسي والطائفي إلى تراجع بعض مظاهر الاحتفال بالعيد، خاصة في المناطق التي شهدت اضطرابات أمنية. كما أن الهجرة الداخلية بين المحافظات، بسبب النزاعات أو البحث عن فرص اقتصادية، أحدثت تغييرات في طبيعة العلاقات الاجتماعية، مما أثر على التجمعات العائلية الكبيرة التي كانت سائدة سابقاً.
ورغم هذه التحديات، يبقى العيد مناسبة تجمع العراقيين، حيث يحاولون تجاوز الخلافات السياسية والاستمتاع بأجواء الفرح، ولو بطرق أكثر تحفظاً وأقل انفتاحاً مقارنة بالماضي.
ولعبت الظروف الاقتصادية دوراً بارزاً في تغيير عادات العيد في العراق. في الماضي، كانت العائلات قادرة على تحمل نفقات العيد من شراء على تحمل نفقات العيد من شراء الملابس الجديدة وإعداد الولائم وتقديم العيديات. أما اليوم، فمع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، أصبح الكثيرون يقتصدون في نفقات العيد، مما أثر على بعض العادات الاستهلاكية المرتبطة بالمناسبة. ورغم ذلك، يحاول العراقيون التكيف مع هذه الأوضاع، حيث باتت الاحتفالات أكثر بساطة، لكن الروح الحقيقية للعيد، المتمثلة في التواصل الاجتماعي وتبادل الفرح، لا تزال قائمة. وكان للإعلام دور مهم في توثيق مظاهر العيد في العراق عبر العقود. ففي الماضي، كانت الإذاعة والتلفزيون تقدمان برامج خاصة بالعيد، تشمل الأغاني الوطنية والفقرات الترفيهية، كما كانت الصحف تسلط الضوء على أجواء العيد في مختلف المحافظات. أما اليوم، فقد تطور الإعلام مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت هذه المنصات جزءاً من الاحتفال، من خلال نشر التهاني والصور والفيديوهات التي توثق الأجواء العائلية والمجتمعية خلال العيد. ويرتبط مستقبل العيد في العراق بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد. مع تطور التكنولوجيا، قد تصبح بعض العادات أكثر رقمية، مثل تبادل التهاني عبر الإنترنت بدلاً من الزيارات التقليدية. ولكن في المقابل، لا يزال هناك تمسك قوي بالعادات الأصيلة، خاصة بين الأجيال الأكبر سناً التي تسعى لنقلها إلى الشباب. إذا تحسنت الأوضاع الأمنية والاقتصادية، فمن المتوقع أن يستعيد العيد في العراق أجواءه السابقة، وأن يعود ليكون مناسبة تجمع العراقيين في احتفالات أكثر بهجة، رغم استمرار بعض التغيرات التي فرضها العصر الحديث. ورغم التغيرات الكبيرة التي طرأت على العراق، فإن العادات والتقاليد لا تزال تحافظ على هوية العيد. لا تزال الكليجة تُصنع في أغلب البيوت، ولا تزال الأسر تحاول جمع شملها في هذه المناسبة رغم الصعوبات. كما أن فكرة العيدية، وإن تضاءلت قيمتها المالية بفعل التضخم، لا تزال تشكل فرحة للأطفال. بشكل عام، يعكس العيد في العراق مزيجاً من الأصالة والتغيير، حيث تحافظ بعض التقاليد على وجودها رغم التحولات الكبيرة، مما يؤكد أن هذه المناسبة تبقى رمزاً للاستمرارية والتواصل الاجتماعي في المجتمع العراقي… كل عام وانتم بخير

مقالات مشابهة

  • نفحات رمضان بمنزلة الهدايا القيِّمة
  • (مناوي) الذي لا يتعلم الدرس
  • بالفيديو .. من هو الشيخ الذي عاتب الشرع بسبب التهميش؟ مؤيد لنظام الأسد
  • العيد في العراق بين الماضي والحاضر: ما الذي طرأ على المجتمع
  • بعض الأسئلة التي تخص قادة الجيش
  • حماس توافق على مقترح وقف إطلاق النار الذي تلقته قبل يومين
  • الدول التي اعلنت غدا رمضان
  • اليُتْمُ الذي وقف التاريخُ إجلالًا وتعظيمًا له
  • الجزيرة ترصد الدمار الذي لحق بمقر إقامة عبد الفتاح البرهان في الخرطوم
  • توقف الحرب… من الذي كان وراءه