بدون استراتيجية لما بعد الحرب.. إسرائيل تواجه خطر مواجهة دموية طويلة في غزة
تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT
قال مسؤولون أمريكيون وعرب ودبلوماسيون ومحللون، إن إسرائيل تدخل في مخاطرة تنطوي على مواجهة طويلة ودموية إذا ألحقت الهزيمة بحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس"، واحتلت قطاع غزة بدون خطة ذات مصداقية للانسحاب، والمضي قدما نحو إقامة دولة فلسطينية في فترة ما بعد الحرب.
وذكر مسؤولان أمريكيان و4 مسؤولين من المنطقة و4 دبلوماسيين مطلعين على المناقشات، أن كل الأفكار، التي طرحتها إسرائيل والولايات المتحدة ودول عربية حتى الآن لإدارة مرحلة ما بعد الحرب في غزة "لم تحظ بتأييد على نطاق واسع"، فيما يثير المخاوف من أن الجيش الإسرائيلي قد يُستنزف في عملية أمنية طويلة الأمد.
وبينما تحكم إسرائيل سيطرتها على شمال غزة، يرى بعض المسؤولين في واشنطن والعواصم العربية أن إسرائيل تتجاهل الدروس المستفادة من الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، عندما أعقبت الانتصارات العسكرية السريعة سنوات من العنف والتطرف.
ويقول دبلوماسيون ومسؤولون، إنه إذا تمت الإطاحة بالحكومة التي تديرها "حماس" في غزة، ودُمرت بنيتها التحتية واقتصادها، فقد تؤدي نزعة أصولية متطرفة بين السكان الغاضبين إلى انتفاضة تستهدف القوات الإسرائيلية في شوارع القطاع الضيقة.
وتتفق إسرائيل والولايات المتحدة والعديد من الدول العربية على ضرورة الإطاحة بـ"حماس" بعد هجومها على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، مما أسفر عن مقتل حوالي 1200 شخص واحتجاز حوالي 240 رهينة، لكن لا يوجد إجماع على بديل يحل محلها.
وقالت الدول العربية وحلفاؤها في الغرب إن السلطة الفلسطينية، التي تحكم أجزاء من الضفة الغربية، هي المرشح الطبيعي للعب دور أكبر في غزة البالغ عدد سكانها حوالي 2.3 مليون نسمة.
لكن مصداقية السلطة، التي تديرها حركة "فتح" بزعامة الرئيس محمود عباس (87 عاما)، لحق بها الضرر الشديد بسبب خسارتها السيطرة على غزة لصالح "حماس" في صراع عام 2007، وبسبب فشلها في وقف انتشار المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، واتهامها بالفساد وعدم الكفاءة.
اقرأ أيضاً
هيئة البث الإسرائيلية: الإمارات تستعد لمواجهة نفوذ قطر في غزة بعد الحرب
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مطلع الأسبوع، إن السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي لا يجب أن تتولى مسؤولية غزة.
وذكر أن الجيش الإسرائيلي هو القوة الوحيدة القادرة على القضاء على "حماس"، وضمان عدم عودة الإرهاب.
وأصر مسؤولون إسرائيليون عقب تصريحات نتنياهو على أن إسرائيل لا تنوي احتلال قطاع غزة.
وقال محمد دحلان، الذي كان مسؤولا أمنيا في غزة حتى فقدت السلطة الفلسطينية السيطرة على القطاع لصالح "حماس" واقتُرح اسمه لتولي حكومة ما بعد الحرب هناك، إن إسرائيل مخطئة إذا اعتقدت أن تشديد سيطرتها على غزة من شأنه أن ينهي الصراع.
وأضاف دحلان من مكتبه في أبوظبي، حيث يعيش الآن، أن إسرائيل "هي قوة احتلال وسيتعامل معها الشعب الفلسطيني على أنها قوة احتلال".
وأضاف أن قادة "حماس" ومقاتليها لن يستسلموا، بل سيفضلون تفجير أنفسهم على الاستسلام.
وقال دبلوماسيون ومسؤولون عرب، إن الإمارات تؤيد تولي دحلان إدارة غزة في فترة ما بعد الحرب.
لكنه قال إنه لا يوجد أحد، ولا حتى هو نفسه، يرغب في تولي حكم منطقة محطمة ومدمرة بدون وجود مسار سياسي واضح في الأفق.
اقرأ أيضاً
مصادر: مساعٍ أمريكية لنشر قوة حفظ سلام دولية في غزة بعد انتهاء الحرب
وأشار دحلان إلى غياب التصور لمستقبل غزة عند كل من إسرائيل وأمريكا والمجتمع الدولي، داعيا إسرائيل إلى وقف الحرب والبدء في محادثات جدية حول حل الدولتين.
وحذر الرئيس الأمريكي جو بايدن، الأربعاء، نتنياهو، من أن احتلال غزة سيكون "خطأ كبيرا".
ويقول دبلوماسيون إن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يرون حتى الآن أي خريطة طريق واضحة المعالم من إسرائيل بشأن استراتيجية الخروج من غزة باستثناء الهدف المعلن المتمثل في القضاء على "حماس".
ويضغط المسؤولون الأمريكيون على إسرائيل من أجل تقديم أهداف واقعية وعرض خطة لكيفية تحقيقها.
وبينما يصر بعض المسؤولين الأمريكيين على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فإنهم يشعرون بالقلق من أن ارتفاع عدد القتلى المدنيين قد يؤدي إلى تطرف المزيد من الفلسطينيين، ويدفع مقاتلين جددا إلى أحضان "حماس" أو جماعات مسلحة ستظهر لتحل محلها في المستقبل، وفقا لمصدر مطلع على عملية صنع السياسات الأمريكية.
وقال أكثر من 12 من سكان غزة أجرت "رويترز" مقابلات معهم، إن الغزو الإسرائيلي يولد جيلا جديدا من المسلحين.
وذكر أبو محمد (37 عاما)، وهو موظف حكومي في مخيم جباليا للاجئين، أنه يفضل الموت على الاحتلال الإسرائيلي.
اقرأ أيضاً
ذا هيل: خلافات أمريكية إسرائيلية حول احتلال غزة بعد الحرب
وقال رافضا الكشف عن اسمه بالكامل خوفا من الانتقام: "أنا لست (عضوا في) حماس لكن في أيام الحرب كلنا شعب واحد.. وإذا قضوا على المقاتلين فسنحمل البنادق ونقاتل.. قد يحتل الإسرائيليون غزة، لكنهم لن يشعروا أبدا بالأمان، ولا ليوم واحد".
وقال مسؤولان أمريكيان تحدثا شريطة عدم نشر اسميهما، إن مناقشات الولايات المتحدة مع السلطة الفلسطينية وأطراف فلسطينية أخرى وحلفاء مثل مصر والأردن والإمارات والسعودية وقطر عن خطة لما بعد الحرب في غزة "لا تزال في مراحلها المبكرة".
وذكر مسؤول أمريكي كبير: "من المؤكد أننا لم نصل بعد إلى مرحلة بذل أي جهد لترويج هذه الرؤية لشركائنا الإقليميين الذين سيتعايشون معها في النهاية وينفذونها".
وبينما أصر بايدن على ضرورة أن تنتهي الحرب بـ"رؤية لحل الدولتين"، الذي سيجعل من قطاع غزة والضفة الغربية دولة فلسطينية، لم يقدم هو أو كبار مساعديه أي تفاصيل عن طريقة تحقيق ذلك ولم يقترحوا حتى استئناف المحادثات.
ويرى بعض الخبراء أن أي جهد لإحياء المفاوضات هو أمر بعيد المنال، لأسباب من بينها على وجه الخصوص الحالة المعنوية السيئة للإسرائيليين بعد الفظائع التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وكذلك الحالة المعنوية للفلسطينيين بعد الانتقام الإسرائيلي في غزة.
وقال جوناثان بانيكوف، وهو مسؤول كبير سابق في المخابرات الأمريكية متخصص في شؤون الشرق الأوسط، ويعمل حاليا في مؤسسة "المجلس الأطلسي" البحثية: "من المآسي العديدة للهجوم الإرهابي الذي نفذته حماس أنه قوض القضية الفلسطينية بشكل أساسي وتسبب في انتكاسة (فيما يتعلق بمسعى) إقامة دولة مستقلة ذات سيادة".
اقرأ أيضاً
نتنياهو: سنواصل السيطرة على غزة بعد الحرب ولن نسلمها لقوات دولية
ووفقا لمصدر مطلع، قد يتخذ بايدن قرارا بشأن مبادرة أكثر تواضعا يمكن أن تشمل مسارا لاستئناف المفاوضات في نهاية المطاف.
ويدرك مساعدو بايدن أن نتنياهو وحكومته الائتلافية اليمينية المتطرفة، التي ترفض فكرة إقامة دولة فلسطينية، ليس لديهما رغبة كبيرة في استئناف المحادثات.
وبينما يسعى بايدن لإعادة انتخابه رئيسا العام المقبل، قد يتردد في خسارة الناخبين المؤيدين لإسرائيل الذين سيرون أنه يضغط على نتنياهو لتقديم تنازلات للفلسطينيين.
وأوضح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في خطاب ألقاه الأسبوع الماضي، في طوكيو، خطوط واشنطن الحمراء في غزة، قائلا إن الإدارة تعارض التهجير القسري للفلسطينيين من القطاع، أو أي تقليص لمساحته، أو احتلاله أو فرض إسرائيل حصارا عليه.
وقال أيضا إن غزة لا يمكن أن تصبح منصة للإرهاب.
وذكر بلينكن مرارا أن واشنطن ترغب في رؤية السلطة الفلسطينية “بعد تنشيطها” تدير قطاع غزة في نهاية المطاف بشكل موحد مع الضفة الغربية.
وتضاءلت مصداقية السلطة الفلسطينية في عهد عباس، الذي يديرها منذ عام 2005، مع انحسار الأمل في مسار يقود إلى تحقيق حل الدولتين المنصوص عليه في اتفاقيات أوسلو للسلام عام 1993.
اقرأ أيضاً
ماذا بعد الحرب على غزة؟
ويقول مسؤولون أمريكيون إن هذه الآليات تحتاج إلى تغيير.
وصرح بعض الدبلوماسيين بأن تغيير القيادة داخل السلطة الفلسطينية قد يكون ممكنا مع بقاء عباس في منصب شرفي.
وقال دبلوماسي أوروبي كبير، إن هناك خطوة أخرى قيد المناقشة وهي منح السلطة الفلسطينية دورا رئيسيا في توزيع المساعدات في فترة ما بعد الحرب في غزة لإحياء شرعيتها.
وردا على سؤال عن هذه المناقشات، قال مسؤول كبير في السلطة الفلسطينية إن عودة السلطة إلى غزة هي السيناريو الوحيد المقبول وسيُناقَش مع الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى.
ورفض التعليق على اقتراح تولى دحلان أو غيره قيادة حكومة فلسطينية.
وقال بعض من كبار المسؤولين الفلسطينيين، ومن بينهم رئيس الوزراء محمد أشتية، إن السلطة الفلسطينية لن تعود إلى حكم غزة على ظهر الدبابات الإسرائيلية.
وذكر دبلوماسيون أن شركاء غربيين وبعض دول الشرق الأوسط تقدموا باقتراح لتشكيل إدارة انتقالية من التكنوقراط في غزة لمدة عامين تكون مدعومة من الأمم المتحدة وقوات عربية.
لكن الدبلوماسيين قالوا إن هناك مقاومة من حكومات عربية رئيسية، مثل الحكومة المصرية، خوفا من الانجرار إلى ما تعتبره مستنقع غزة.
اقرأ أيضاً
في إشارة لاحتلال غزة.. نتنياهو: سنتولى مسؤولية القطاع بعد الحرب
وتخشى القوى الإقليمية من أن تضطر أي قوات عربية تنتشر في غزة إلى استخدام القوة ضد الفلسطينيين ولا ترغب أي دولة عربية في وضع جيشها في هذا الموقف.
ورغم أن عباس لا يحظى بشعبية كبيرة بين العديد من الفلسطينيين، لا يوجد اتفاق على من سيحل محله في المستقبل.
ومن المرجح أن يحظى دحلان بقبول مصر وإسرائيل لكن رغم عمله بشكل وثيق مع الولايات المتحدة خلال فترة توليه مسؤولية الأمن في غزة، قال مصدر أمريكي إن واشنطن سيكون لديها بعض الشكوك بشأن عودته إلى السلطة.
وهناك عداء طويل الأمد بينه وبين عباس ودائرة المسؤولين الداخلية في السلطة الفلسطينية ومع أنصار "حماس" أيضا.
وقاد دحلان موجة من الاعتقالات والقمع ضد كبار قادة "حماس" في عام 1996، بعد سلسلة من التفجيرات الانتحارية ضد إسرائيل.
وقال مسؤول إماراتي، إن أبوظبي ستدعم أي ترتيبات لمرحلة ما بعد الحرب تتفق عليها جميع أطراف الصراع وتدعمها الأمم المتحدة لاستعادة الاستقرار وتحقيق حل الدولتين.
كما يحظى مروان البرغوثي، وهو أحد قادة "فتح" المسجون في إسرائيل منذ عام 2002 بتهمة القتل، بشعبية كبيرة بين العديد من الفلسطينيين، لكن البعض في واشنطن يعتبره اقتراحا غير عملي لأن الحكومة الإسرائيلية لن ترغب في إطلاق سراح شخص تتهمه بأن "يديه ملطختان بالدماء".
وقال مسؤول أمريكي إن اختيار زعيم لغزة سيكون معقدا لأن كل لاعب إقليمي لديه شخصياته المفضلة ومصالحه الخاصة.
اقرأ أيضاً
مودرن دبلوماسي: إسرائيل لا تملك خيارات جيدة في غزة بعد انتهاء الحرب
وستدعم الولايات المتحدة في نهاية المطاف أي زعيم يحظى بتأييد الشعب الفلسطيني والحلفاء في المنطقة بالإضافة إلى إسرائيل.
وذكر جوست آر هلترمان مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية: "من الواضح أن هناك حاجة ماسة إلى تجديد شباب القيادة الفلسطينية، لكن الدخول في غمار ذلك مرة أخرى أمر صعب للغاية".
وقال إن الدول العربية يمكنها استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي مرشح لا يعجبهم، وستفوز حماس، التي تصور نفسها على أنها قائدة النضال من أجل الاستقلال الفلسطيني، في أي انتخابات على الأرجح.
وهناك مخاطر كبيرة من احتمال امتداد الصراع إلى الضفة الغربية المحتلة وإلى خارج إسرائيل.
ويقول مسؤولون ودبلوماسيون عرب، إنه لم يظهر مثل هذا القدر من القلق من انتشار العمل العسكري في أنحاء الشرق الأوسط منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
ومهما كانت قرارات بايدن الدبلوماسية، يقول مساعدوه إنه ليس لديه مصلحة في جر الولايات المتحدة إلى دور عسكري مباشر في الصراع، ما لم تهدد إيران أو وكلاؤها الإقليميون المصالح الأمنية الأمريكية.
وقال جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض للصحفيين هذا الشهر: "لا توجد خطط أو نوايا لنشر قوات عسكرية أمريكية على الأرض في غزة، سواء الآن أو في المستقبل".
ومنذ 42 يوما يشن الجيش الإسرائيلي حربا مدمرة على غزة، خلّفت أكثر من 12 ألف شهيد، بينهم 5 آلاف طفل و3 آلاف و300 امرأة، فضلا عن أكثر من 30 ألف مصاب، 75 بالمئة منهم أطفال ونساء، وفق أحدث إحصاء رسمي فلسطيني صدر مساء الجمعة.
اقرأ أيضاً
حماس عن سيناريوهات أمريكا لغزة بعد الحرب: وقاحة وتدخل في شؤون فلسطين
المصدر | رويترزالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: حماس إسرائيل بعد الحرب الحرب على غزة غزة ما بعد الحرب السلطة الفلسطینیة الولایات المتحدة الضفة الغربیة غزة بعد الحرب الشرق الأوسط ما بعد الحرب اقرأ أیضا قال مسؤول قطاع غزة على غزة فی غزة
إقرأ أيضاً:
الخرطوم في قلب الحرب: عامان على انهيار مركز السلطة في سودان ما بعد الاستعمار
د. مريم محمد عبدالله وقيع الله
1. مقدمة
بعد عامين على اندلاع الحرب في الخرطوم، تجلّت الأزمة السودانية في أقسى صورها، بانفجار العنف من مركز الدولة، كاشفًا عن التناقضات البنيوية المتراكمة تحت سطح استقرار هش. لم تكن الحرب مفاجئة في سياق دولة تأسست على التسلط والإقصاء، بل كانت ذروتها المنطقية، حيث انفجرت التوترات التاريخية والاجتماعية والسياسية في قلب المدينة التي لطالما كانت مرآة للسلطة ومسرحًا لعنفها الرمزي والمادي. فمنذ الاستقلال، مثّلت الخرطوم تجسيدًا لدولة ما بعد الاستعمار التي احتكرت فيها النخب السلطة، ورسّخت التمييز عبر سياسات تخطيط وتنمية عمقت التهميش حتي داخل المدينة نفسها. فبينما تمتعت نخب معينة بالامتيازات، ظلت الفئات المهمشة محاصرة في أحياء الفقر ومعرّضة للعنف.
ورغم هذه البنية المشوهة، شكّل الحراك الثوري لحظة مقاومة كشفت عن وعي جمعي ضد التمييز، لكنه لم يصمد أمام التناقضات البنيوية التي مهّدت لانفجار الصراع المسلح في الخرطوم. فالحرب لم تكن مجرد صراع جنرالات، بل لحظة انكشاف شامل لأزمة الدولة، حيث تحوّلت الخرطوم إلى رمز لانهيار مشروعها، وفضاء يُعاد فيه تعريف من يستحق الحياة ومن يُترك للعنف. لذلك، لا يمكن إنهاء الحرب دون تفكيك بنيات السلطة والعنف، وإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة الكاملة.
2. تشظي المدينة: الحرب وانفجار الهامش في قلب الخرطوم
اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في الخرطوم شكّل نقطة تحوّل كشفت هشاشة البنية الاجتماعية والاقتصادية للمدينة، مع تباين واضح في أنماط الاستجابة بين الطبقات. فبينما تمكّن سكان الأحياء الوسطى، ومعظمهم من الطبقتين الوسطى والعليا، من مغادرة المدينة مبكرًا رغم المخاطر، لم تكن المغادرة متاحة للفئات الأكثر هشاشة، لا سيما سكان الأطراف من النازحين داخليًا، الذين مكّنتهم خبراتهم السابقة في التعامل مع العنف والإقصاء من التكيّف نسبيًا رغم المعاناة. هذا التفاوت يعكس فجوة طبقية حادّة ويفضح الأسس البنيوية غير العادلة التي بُنيت عليها المدينة، حيث يتحوّل الموقع الجغرافي والدخل والخلفية التاريخية إلى عوامل حاسمة في فرص النجاة.
تفكك مؤسسات الدولة أدى إلى فوضى شاملة، زادها خطورة فتح السجون في الأسبوع الأول من الحرب، ما أتاح لعصابات "تسعة طويلة" و"الشفّشافة" الانخراط في موجات نهب وسلب واسعة. و"الشفّشافة" هي مجموعات مسلحة من دارفور قاتلت إلى جانب الدعم السريع، الذي سيطر على معظم احياء المدينة منذ الأسابيع الأولى. وأسفرت الفوضى عن مقتل الآلاف وترك جثثهم في الشوارع، إلى جانب انتهاكات جسيمة شملت نهب الممتلكات العامة والخاصة، والعنف الجنسي بحق النساء، في ظل تقديرات تفيد بأن الأرقام الحقيقية أعلى بكثير.1
تتحمّل قوات الدعم السريع مسؤولية قانونية وأخلاقية عن هذه الانتهاكات، سواء عبر تورّط عناصرها المباشر أو غض الطرف عنها. وتوثّق شهادات حالات طرد مدنيين وابتزازهم للكشف عن خصوم مفترضين، ما أدى إلى اعتقالات وتعذيب على خلفية شبهات بالتعاون مع الجيش. في المقابل، شارك بعض سكان الأحياء الطرفية في نهب مراكز تجارية كبرى مثل مول "عفراء"، في فعل انتقامي جماعي يُعبّر عن "شرعنة الفوضى" كآلية مشوّهة لإعادة التوزيع الاجتماعي، وسط غياب سلطة الدولة. لاحقًا، استُهدفت هذه المناطق بغارات جوية من الجيش بذريعة دعمها للدعم السريع، ما عمّق معاناة سكانها. من تبقوا في المدينة عاشوا ظروفًا إنسانية كارثية، وسط غياب الخدمات الأساسية، وظهرت مبادرات مجتمعية تعرف بـ"التكايا"، تقودها لجان الطوارئ الشبابية لتوفير الغذاء والدواء، رغم محدودية الدعم وضرورة التنسيق مع الدعم السريع للسماح لهم بالحركة2.
تفاقمت أوضاع النازحين لاحقًا بعد تمدد الحرب إلى ولايات مثل الجزيرة وسنار والنيل الأبيض، مما أدى إلى موجات نزوح متكررة أو عودة إلى القرى الأصلية رغم ضعف البنية التحتية هناك. وقد عبّرت شهادات، لا سيما من نساء نازحات، عن معاناة مركّبة جمعت بين النزوح، الحرب، والكوارث الطبيعية، كما في مناطق شمال السودان المتضررة من السيول3. وعلى الجانب الآخر من الحدود، تباينت أوضاع المهجّرين: فبينما استطاع البعض الاستقرار بدعم ذاتي أو من مجتمعات المغتربين، واجه آخرون ظروفًا بالغة القسوة، دفعت بعضهم للعودة رغم استمرار المخاطر.
عودة الجيش إلى الخرطوم: إعادة إنتاج العنف باسم "التحرير"
مع نهاية عام 2024، أطلق الجيش السوداني هجومًا مضادًا لاستعادة المناطق التي خسرها، معتمدًا على تحالف عسكري ضمّ الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، وكتائب الإسلاميين، والمجموعات التعبوية، إضافة إلى قوات "كيكل" المنشقة عن الدعم السريع. وحقق هذا التحالف تقدمًا ملموسًا في ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأبيض، وانتهى باستعادة السيطرة على الخرطوم، عقب انسحاب الدعم السريع إلى أم درمان4.
لكن هذا "الانتصار" لم يجلب الاستقرار، بل دشّن فصلًا جديدًا من التوترات الاجتماعية والمناطقية. عاد بعض النازحين من الطبقة الوسطى والعليا إلى أحيائهم، بينما واجه سكان الأطراف الذين بقوا أثناء الحصار موجة جديدة من الإقصاء والعنف. ومع دخول القوات النظامية، تم توثيق انتهاكات جسيمة ارتكبتها الميليشيات الإسلامية المتحالفة مع الجيش، خاصة "كتيبة البراء بن مالك"، التي نفذت إعدامات ميدانية وتعذيبًا بحق شباب اتُهموا بالتعاون مع الدعم السريع.
أبرز المجازر وقعت في 30 سبتمبر 2024 بالحلفايا، حيث أُعدم 120 شابًا من متطوعي التكايا دون محاكمات أو أدلة5. وامتدت الانتهاكات إلى الحاج يوسف وغيرها، مستهدفة مدنيين بناءً على خلفياتهم الإثنية أو المناطقية، خاصة من غرب السودان، جبال النوبة، الأنقسنا، جنوب السودان. وبعد استعادة القصر الجمهوري في مارس 2025، تصاعد العنف في الأحياء الطرفية، لا سيما غير الرسمية، حيث وقعت حالات إعدام وذبح عكست نزعة انتقامية منظمة تستهدف على أساس العرق والجغرافيا6. المفارقة أن بعض الضحايا ينتمون إلى إثنيات تشكّل عماد بعض الفصائل المتحالفة مع الجيش، ما يهدد بتفكك هذا التحالف الهش.
في الفضاء الرقمي، ظهرت دعوات لهدم الأحياء غير الرسمية تحت غطاء "إعادة تخطيط المدينة"، لكن دوافعها الحقيقية عنصرية، تستهدف سكان هذه المناطق من دارفور، جبال النوبة، والنيل الأزرق، وهي مناطق عانت من الحروب لعقود. وتستدعي هذه المشاهد إلى الأذهان أحداث 2005 بعد وفاة جون قرنق، و2008 عقب دخول العدل والمساواة للخرطوم، حيث وُجهت الاعتداءات على أساس الهوية7، رغم أن القوات لم تستهدف المدنيين. تكرار هذه الأنماط يؤكد أن العنف الحالي ليس مجرد رد فعل، بل نتيجة لمظالم تاريخية تراكمت في ظل سلطة مركزية ترفض الاعتراف بالتنوع.
تصاعد التشظي الاجتماعي وخطابات التحريض العنصري ينذر بانزلاق السودان نحو سيناريو مشابه لرواندا 1994،8 حيث تحوّل النزاع السياسي إلى إبادة جماعية، ما لم تُتخذ خطوات عاجلة لوقف العنف، وبناء دولة مدنية قائمة على العدالة والتعددية والمحاسبة.
3. الدولة، الهيمنة، والعنف: الخرطوم بوصفها مرآة لأزمة ما بعد الاستعمار
تمثل الدولة السودانية نموذجًا معقدًا لكيان سياسي تشكّل في أعقاب الاستعمار، حيث تأسست على أنقاض النظام الاستعماري البريطاني–المصري، وورثت بنيته العنيفة ومركزيته الإقصائية. وبهذا المعنى، لم تكن الدولة مشروعًا للتحرر أو العدالة الاجتماعية، بل شكّلت امتدادًا لمنظومة الهيمنة الاستعمارية، أعادت إنتاج التراتبيات التي رسّخها الاستعمار، لا سيما في تمركز السلطة بالعاصمة وتهميش الأطراف.
ينطلق هذا التحليل من فرضية أساسية مفادها أن الدولة السودانية، منذ نشأتها، قامت على أسس الهيمنة والاستغلال والتهميش، وهي بنية مترسخة في تكوينها المؤسساتي والبنيوي، وبلغت ذروتها خلال حكم النظام العسكري–الإسلامي (1989–2019). في هذا السياق، تكتسب مقاربات ما بعد الاستعمار أهمية تحليلية بالغة؛ فكما يشير أشيل مبيمبي، فإن الدولة ما بعد الاستعمارية لا تخرج من منطق الاستعمار بل تعيد إنتاجه بأدواتها السلطوية9، بينما يرى فرانز فانون أن البرجوازية الوطنية غالبًا ما تتحوّل إلى أداة لنهب الدولة وترسيخ الاستبداد بدلًا من تفكيكه10.
في الحالة السودانية، ساهم التعدد العرقي والإثني في تعميق البنية السلطوية، من خلال فرض سياسات تعريب وأسلمة قسرية11، أدّت إلى تصعيد النزاعات بين المركز والأطراف، وخصوصًا خلال العقود الاربعة الأخيرة. ولا يمكن فهم الديناميات الحالية في الخرطوم دون استحضار طبيعتها كعاصمة صُممت في إطار استعماري مركزي، ثم أُعيد إنتاج هذا النموذج لاحقًا على يد الأنظمة الاستبدادية ما بعد الاستعمار، التي لم تسعَ لتفكيكه بل رسّخته12. وقد فاقمت موجات النزوح الداخلي الناتجة عن الحروب الاهلية والكوارث البيئية التفاوتات الطبقية والجغرافية، وحوّلت الخرطوم إلى مرآة حية لعلاقة المركز–الهامش.
غير أن المفارقة الأبرز في الحرب الحالية تكمن في تحوّل الخرطوم نفسها إلى ميدان للصراع، ليس فقط كساحة معركة، بل كرمز للسلطة السيادية. فالجيش النظامي يمثّل الامتداد التاريخي للدولة المركزية، في حين تنحدر قوات الدعم السريع من هوامش البلاد، لكنها سرعان ما تمركزت في قلب السلطة. وهكذا أضحت الحرب مواجهة على المركز ذاته، بأدواته الرمزية والعسكرية، في محاولة لإعادة تعريف من "يملك المدينة"، وبالتالي من يملك الدولة13.
اكتسب الصراع في السودان بعدًا إثنيًا–مناطقيًا خطيرًا، إذ استخدم قادة الجيش، بدعم من رموز النظام البائد، خطابًا يشيطن الدعم السريع بوصفه قوة "مرتزقة" تسعى لتغيير التركيبة السكانية لصالح "غير الأصيلين"14. في المقابل، تبنّت قيادة الدعم السريع خطاب "نصرة المهمّشين" ورفض "دولة 1956" كنموذج مهيمن عليه من نخبة المركز15. وسعى حميدتي إلى توسيع تحالفاته مع قوى الهامش، خاصة الحركات الموقعة على اتفاق جوبا، التي رغم خطابها المناهض للجيش، عادت لاحقًا لمساندته، مثل قوات مالك عقار، جبريل إبراهيم، ومني أركو، والاخير فك الحياد بعد تمدد الدعم السريع في دارفور16.
تعمّق الصراع في السودان مع تورّط بعض النخب المدنية، بمن فيهم من شاركوا في ثورة ديسمبر، في التحيّز لأطراف النزاع بدوافع أيديولوجية أو إثنية، عبر الإعلام أو المشاركة العسكرية17. تحوّلت الخرطوم من رمز للتعايش السياسي إلى مسرح لإعادة إنتاج الهيمنة السلطوية من المركز، مما أدى إلى دمار عمراني ورمزي واجتماعي للعاصمة، باعتبارها محور وحدة الدولة، في ظل غياب مسارات ديمقراطية وتفويض شعبي حقيقي.
من هذا المنظور، لا يمكن اختزال هذه الحرب، رغم مآسيها الإنسانية، في صراع بين جنرالات، بل هي لحظة انفجار بنيوي لأزمة كامنة منذ الاستقلال. إذ تأسست الدولة السودانية على منظومة عنف تم شرعنتها من خلال مصطلحات مثل الوطنية والمصلحة العامة والدين. لذا، فإن فهم الصراع الحالي لا بد أن يتجاوز مجرد رصد وإدانة ما أصاب الأفراد والجماعات من أذى، رغم أهمية ذلك، ليعكف على تفكيك البنية السياسية والفكرية التي أنتجت هذا الصراع، والعمل على معالجة الأسباب الجذرية الكامنة وراءه18.
4. إشكالية الدولة السودانية: بين أمل التغيير، وعائق الانقسام، ومآلات الحرب
منذ الاستقلال، أعادت النخب السياسية السودانية إنتاج نمط السيطرة على الدولة المركزية الحديثة، التي ورثت بنيتها عن الاستعمار البريطاني–المصري. وقد أخفقت النخب الشمالية في أول اختبار وطني بالتنصّل من منح الجنوب حكمًا فيدراليًا، ما أدى إلى أول حرب أهلية عشية الاستقلال19. كما رُفضت مطالب مماثلة من دارفور وجبال النوبة وشرق السودان، فيما احتُكرت السلطة عبر الخرطوم. وتواصلت الانقلابات العسكرية التي حافظت على بنية الدولة الاستعمارية، ما أسفر عن انفصال الجنوب20، واتساع الحروب الأهلية، ووصولها مؤخرا إلى الخرطوم. ورغم الانتفاضات الشعبية المتكررة التي نحت ثلاث مرات في اسقاط انظمة ديكتاورية، الا النخبة السياسية فشلت في بناء دولة مستقرة قائمة على المواطنة والعدالة 21.
مثّلت ثورة ديسمبر 2018 لحظة تحول تاريخي في السودان، إذ فجّرت حراكًا جماهيريًا واسعًا قاده الشباب والنساء وسكان الهامش، وأدى إلى إسقاط نظام البشير. أفضت الثورة إلى تأسيس "تحالف قوى الحرية والتغيير"، الذي جمع قوى مدنية وتنظيمات مسلحة، ما أنعش الآمال ببناء دولة ديمقراطية عادلة. لكن سرعان ما بدأت التصدعات تضرب هذا التحالف نتيجة فشله في بلورة مشروع وطني جامع، وزادت هشاشة الشراكة مع المكون العسكري في إطار الوثيقة الدستورية من تعقيد المشهد. وبلغ هذا التوتر ذروته بانقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أعاد تمكين قوى النظام السابق،22 لكنه فجّر في المقابل صراعًا داخليًا بين مكونات المنظومة العسكرية. وقد تشكلت هذه القوى من القوات المسلحة ذات الخلفية الإسلامية، وقوات الدعم السريع القادمة من هامش الهامش، إضافة إلى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا. ومع تمركز هذه الأطراف جميعًا في الخرطوم، أصبحت العاصمة تترقب انفجارًا مؤجلًا، تحقق بالفعل باندلاع الحرب المفتوحة في 15 أبريل 2023، على خلفية الخلاف حول الاتفاق الإطاري23.
سعت القوى السياسية للعب دور الوسيط لإنهاء الحرب، لكنها فشلت في بلورة موقف موحّد رغم رفض معظمها لاستخدام العنف. فقد عمّق الانقسام بين "قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي" وتيار "الجذريين" (الحزب الشيوعي وحلفاؤه) عجز القوى المدنية عن تشكيل جبهة موحّدة ذات تأثير24. في هذا السياق، برز تحالف "تقدّم" كمبادرة مدنية جديدة، وتمكن في يناير 2024 من التوصل إلى اتفاق مبدئي مع قوات الدعم السريع لوقف إطلاق النار25. غير أن الجيش رفض التوقيع، واتهم التحالف بالانحياز للدعم السريع والسعي لتبييض سجلها، ما عمّق الانقسام المدني وأضعف فرص التفاوض.
في مرحلة لاحقة، برزت انقسامات داخل تحالف "تقدّم" بين تيارين رئيسيين: الأول، تقوده مجموعة "تأسيس"، يدعو إلى تشكيل حكومة مدنية موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، مستندًا إلى غياب الدولة المركزية كفرصة لإعادة بناء السلطة على أسس جديدة؛ بينما تبنّى التيار الثاني، ممثَّلًا في مجموعة "صمود"، موقف الحياد، مركّزًا على الدفع نحو تسوية سياسية شاملة، رغم تعنّت قيادة الجيش، المدعومة من الإسلاميين، ورفضها أي حل خارج بنيتها المهيمنة26.
ضمت مجموعة "تأسيس" قيادات من حزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، وحركات مسلّحة موقعة على اتفاق جوبا، إضافةً إلى شخصيات مدنية مستقلة وقيادات سابقة في تجمع المهنيين. وسعت لبناء تحالف سياسي–عسكري واسع، استقطبت من خلاله الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال (جناح الحلو)، وقوات الدعم السريع، وقيادات أهلية من دارفور وكردفان والنيل الأزرق وشرق السودان. تُوّج هذا المسار بتوقيع "ميثاق التأسيس"،27 الذي دعا إلى القطيعة مع الدولة المركزية الإقصائية، واعتماد "الوحدة الطوعية"، والاعتراف بالتنوع، وترسيخ الديمقراطية والعلمانية، واللامركزية، والمساواة بين الجنسين، مع إعداد دستور انتقالي تمهيدًا لدستور دائم.
على الرغم من الطموحات التي حملها "ميثاق التأسيس" لتجسيد شعارات ثورة ديسمبر المتمثلة في "الحرية، السلام، والعدالة"، فقد قوبل برفض واسع من بعض مكوّنات النخبة السياسية، بسبب مشاركة قوات الدعم السريع في بلورته، بالنظر إلى سجلّها في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة، من دارفور إلى مجزرة القيادة العامة في 2019. غير أن هذا الرفض يغضّ الطرف عن تضمّن الميثاق بندًا صريحًا بشأن العدالة التاريخية لضحايا الحروب والانتهاكات، ويتجاهل الدور البنيوي الذي لعبه الجيش، باعتباره الطرف الأكثر تورطًا في كافة حروب ما بعد الاستعمار، ومنشئ الدعم السريع ذاته، كأداة لخدمة استراتيجيات القمع والتثبيت السلطوي28. وإلى اليوم، يواصل الجيش تشكيل ميليشيات مناطقية وأيديولوجية يتجاوز عددها العشرين، بما يكرّس نمط الحكم عبر العنف والتفكيك الأهلي.
هذا التركيز الحصري على الدعم السريع، دون تفكيك البنية التي أنتجته، يُظهر مقاربة تجزيئية تحكمها حسابات فئوية وأخلاقية انتقائية. وهو ما يحجب التحليل البنيوي الأعمق لطبيعة الدولة السودانية الحديثة، التي وصفها فرانز فانون بأنها "امتداد للاستعمار في جلد محلي"29، فيما يرى أشيل مبمبي أنها تقوم على "النيكروبوليتكس"30؛ أي إدارة الحياة والموت عبر العنف الرمزي والمادي. في هذا السياق، يغدو استدعاء الدعم السريع أو إدانته خارج إطار تفكيك الدولة السلطوية المركزية، نوعًا من الإنكار السياسي الذي يساهم في إعادة إنتاج نفس منطق السيطرة والإقصاء الذي فجّر الأزمة من الأساس.
ورغم فداحة الكلفة الإنسانية للحرب، فإن التحولات الجارية في المشهد السياسي والاصطفافات الإقليمية تفتح نافذة نادرة لإعادة التفكير في مشروع الدولة. ويمكن للميثاق، إذا حظي بدعم شعبي وإرادة جماعية، أن يشكّل أداة ضغط لتفكيك ارتباط الجيش بالتيار الإسلامي، الذي يواصل تعطيل مسارات التفاوض. غير أن التباينات الحادة حول الميثاق تكشف عمق الأزمة البنيوية داخل النخبة السياسية، خاصة في الخرطوم والمركز النيلي، وعجزها عن تجاوز مصالحها الضيقة نحو مشروع وطني جامع.
في ظل هذا العجز، قد يتحوّل السودان إلى ساحة مفتوحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية، التي تسعى لإعادة تشكيل المجال الجغرافي والسياسي للبلاد بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية. ويجري ذلك ضمن سياق أقرب إلى "الاستعمار الجديد" (Neo-colonialism)، حيث تُستثمر الحرب كأداة لإعادة هندسة الخرائط الجيوسياسية، في ظل هشاشة السيادة الوطنية وتفكك مؤسسات الدولة31. في هذا الإطار، يُنظر إلى السودان كاحتياطي استراتيجي للموارد الطبيعية، من المياه والأراضي الزراعية والثروات المعدنية، إلى موقعه الجغرافي الحيوي.
إذن، يتّضح أن إخفاق مشروع بناء الدولة الوطنية في السودان هو إخفاق بنيوي مركّب: يتمثّل أولًا في العجز عن إنتاج مركز سياسي ديمقراطي قادر على تمثيل التعدد الإثني والجغرافي؛ وثانيًا في الفشل في تفكيك البنية السلطوية التي ورثتها الدولة من الحقبة الاستعمارية. وقد أدّت هذه الأزمة إلى تفجّر الحروب الأهلية، التي بلغت ذروتها في الحرب الحالية، التي حولت الخرطوم، بوصفها مركزًا تاريخيًا للسلطة، من رمز لوحدة الدولة إلى مرآة لانهيارها، ومن تجسيد لمشروع الدولة الوطنية إلى تعبير عن أزمتها البنيوية المتفاقمة.
5. خاتمة
تُجسّد أزمة بناء الدولة في السودان امتدادًا تاريخيًا لمسار طويل من الهيمنة والتهميش، حيث تنازعت النخب السياسية السيطرة على الدولة المركزية التي ورثتها عن الاستعمار، دون أن تتمكّن من إعادة إنتاجها على أسس ديمقراطية. مثّلت ثورة ديسمبر 2018 لحظة مفصلية في هذا السياق، لكنها سرعان ما اصطدمت بتعقيدات المرحلة الانتقالية، والانقسامات العميقة بين القوى المدنية والعسكرية، ما مهّد الطريق لانقلاب 2021، وتفاقم الأوضاع إلى الحرب الشاملة.
يُظهر هذا المسار فشلًا مزدوجًا للنخب السياسية: في بناء مركز ديمقراطي قادر على تمثيل التعدد الإثني والجغرافي، وفي تفكيك البنية السلطوية الموروثة من الاستعمار. الحرب الدائرة في الخرطوم ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل تعبير عن أزمة بنيوية عميقة تكشف هشاشة المشروع الوطني وتفاقم الانقسامات المجتمعية.
ورغم التحديات الجسيمة، لا تزال هناك فرصة لصياغة مشروع وطني جديد يقوم على مبدأ "الوحدة الطوعية"، ويؤسس لنظام ديمقراطي عادل يضمن الحقوق والمساواة لكافة السودانيين. غير أن ذلك يتطلّب حوارًا وطنيًا شاملًا وفاعلًا، يضع حدًا للحرب ويمهّد الطريق لصياغة دستور يعكس تطلعات الشعب. أما إذا تعذّر هذا المسار، فإن البلاد مهدّدة بالانزلاق نحو حرب مزمنة، تُجهز على ما تبقّى من نسيجها الاجتماعي، وتحوّلها إلى ساحة مفتوحة لصراعات القوى الإقليمية والدولية.
المراجع
ACLED (April 14, 2023) Sudan: Political Process to Form a Transitional Civilian Government and Shifting Disorder Trends, https://acleddata.com/2023/04/14/sudan-situation-update-april-2023-political-process-to-form-a-transitional-civilian-government-and-the-shift-in-disorder-trends/ (Footnotes No. 23)
Alarabiya (Aug. 2005) 42 قتيلا في أحداث الشغب بالخرطوم في أعقاب مقتل قرنق https://www.alarabiya.net/articles/2005%2F08%2F02%2F15510(Footnotes No. 7)
Alarabiya (May, 2008) الخرطوم تعلن مقتل كبير مساعدي زعيم المتمردين غرب أم درمان https://www.alarabiya.net/articles/2008%2F05%2F11%2F49669 (Footnotes No. 7)
Alrakoba (3 Oct. 2024) مذبحة الحركة الإسلامية بالحلفايا .. من يحمي المدنيين في السودان من قوات الجيش؟https://www.alrakoba.net (Footnotes No. 5)
Asharq Al-Awsat (Feb. 2025) اتهامات أممية للجيش السوداني بقتل مدنيين على أساس عرقي وجهوي https://aawsat.com (Footnotes No. 6)
BBC (3 Mar. 2025) السودان: ماذا بعد إعادة الجيش السيطرة على مناطق حيوية في الخرطوم؟ https://www.bbc.com/arabic/articles/c05mr942p3vo (Footnotes No. 4)
Duffield, M. (2007). Development, security and unending war: Governing the world of peoples. Polity Press (Footnotes No. 31).
Frantz Fanon (1986) The Wretched of the Earth (Penguin Modern Classics) معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي، دار الفارابي، الطبعة الثالثة، 2004 (Footnotes No. 10/ 18/ 29)
Ismail, Abakr Adam (2013) جدلية المركز والهامش قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان ((Footnotes No. 11/ 18)
Khalid, M. (1993). Sudanese Elites and Addiction to Failure (in Arabic). Cairo: Al Ameen For Printing & Publishing. (Footnotes No. 21)
Khalid, M. (2010). War and peace in Sudan: A tale of two countries, . Milton park: Routledge (Footnotes No. 19/ 20)
Lefebvre, H. (1991). The Production of Space. Oxford: Blackwell (Footnotes No. 13)
Mbembe, A. (2021) Necropolitics, https://www.jddavispoet.com/book-reviews/necropolitics-achille-mbembe (Footnotes No. 9 / 30)
Sikainga, Ahmad Alawad (2002) City of Steel and Fire: A Social History of Atbara, Sudan’s Railway Town, 1906–1984. James Currey (Footnotes No. 12)
Straus, Scott. (2006). The Order of Genocide: Race, Power, and War in Rwanda. Cornell University Press (Footnotes No. 8)
Sudan Tribune (Jan/ 2022) (الحرية والتغيير) تأسف لموقف الحزب الشيوعي المناوئ لوحدة قوى الثورة https://sudantribune.net/article254669/ (Footnotes No. 24)
Sudan Tribune (Jan/ 2024) «إعلان أديس» بين تقدم والدعم السريع ينص على اطلاق أسرى وفتح ممرات انسانية https://sudantribune.net/article280903/ (Footnotes No. 25)
Sudantribune (2اغسطس 2024) سيول جارفة تعزل عدة مناطق في شمال السودان وتحذيرات من أمطار قياسية https://sudantribune.net/article289015// (Footnotes No. 3)
UNHCR (2023) Sudan Situation - UNHCR External Update #2 - 25 April 2023, https://reliefweb.int/report/sudan/sudan-situation-unhcr-external-update-2-25-april-2023 (Footnotes No. 1)
Wagialla, Mariam (Oct. 2023), بين التشبث بالسلطة والوحشية: إلى أين يتجه السودان؟ نشر اولا بالالمانية https://sudanile.com (Footnotes No. 16/ 17/26 )
Wagialla, Mariam (Oct. 2023),نشر اولا بالالمانية بين التشبث بالسلطة والوحشية: إلى أين يتجه السودان؟ https://sudanile.com (Footnotes No. 14/ 15/ 22)
YouTube (2024) لقاء خاص مع شيخ الامين عمر الامين .. المنبر الثقافي بجنوب كاليفورنيا https://www.youtube.com/watch?v=wHlrHJF4DZQ (Footnotes No. 2)
marfa_1998@hotmail.com