محمود الجلاد يكتب: كُتاب الشيخ جمعة
تاريخ النشر: 17th, November 2023 GMT
حالة مزاجية غير مفهومة، رهبة، كسل، ورغبة في استكمال أحلامنا مع الملائكة، إلا أنه نوم فيه قلق يصحبه الحب، كنا نستيقظ صغارا في وقت مبكر، مع إشراقة الشمس وزقزقة العصافير، استعدادًا لكي نذهب إلى كُتاب قريتنا.
وبين شوارع قريتنا، كانت قدمايا الصغيرتين تسيران على مسافة ليست بالبعيدة وسط رغاء الخراف، ومأمأة الماعز بينما يذهب الفلاحون بمواشيهم.
فلم يكن كُتاب سيدنا الشيخ جمعة محمد عثمان، بالذي أهابه وحدي رفقة أقران العمر، فقبل أن نخشاه كان يخشاه الآباء، فقد علّم وربى، ضرب فأوجع، خرج أجيالّا ليتركوا بصماتهم الناجحة بين الأمم، لست أنسى ما تعلمته على يديه كان مربيًا ومعلمًا.
كنا نخشى لقائه، نشّم رائحة عطره على بعد أمتار فنعرفه قبل أن تلتقي أعيننا، نقبل يديه، سيدنا الشيخ جمعة، يسعدنا بنظرات الرضا وكلمات الثناء كلما تفوقنا.
الشيخ رحمه الله كان أنموذجا ناجحا في التعليم الأساسي، ضربه شديدًا، وعلمه أشد و"الفلكة" مصير كل فاشل. خريجو كتابه من أبناء قريتنا أطباء ومهندسون وضباط وصحفيون ومعلمون.
جهبذ زمانه علم آباءنا قبلنا، أسعدنا، كتّابه أشبه بالمؤسسة العسكرية في نظامه، الكبير يعلم الصغير، والقديم يعلم الجديد، والكل تحت إشرافه.
كانت عنده قدرة وملكة رهيبة على الاستماع لخمس يقرأون أمامه في وقت واحد ينتبه لمن يخطأ فيسحبه من تلابيب جلبابه، بنظرات لثوان من شدة الخوف يتذكر موضع خطأه.
ذكر وأوراد قبيل العيدين أو كما يسمونه أبناء الجيل الحالي "فان داي".. فيه توزيع الكعك والحلوى ثم إصدار قرار بإجازة أسبوعًا كاملًا.. هي الإجازة الوحيدة طوال العام، وإن غبت يومًا بمحض إرادتك يلقنك من الضرب ألوانًا، فيجعل في قرارة نفسك هلعًا من فكرة أن تتفوه بها بل أن تفكر فيها.
علمنا معنى الفتحة َوالضمة ُ والكسرة ِوالسكون والتنوين والتشكيل بمراحله المختلفة، زرع وغرس وحصد، كلمتين من حرفين، ثلاثة، أربعة، وخمسة، لكل مرحلة منهما فترة كافية من التعلم حتى لا تنساها طوال عمرك، ثم " أَبْجَدْ هَوَّزْ حُطِّي كَلَمُنْ سَعْفُصْ قُرشت ثخذ ضظغ" لم أعرف معناها إلا بعد عمر طويل من العلامة فضيلة العالم الجليل الدكتور أسامة الأزهري وكأنها مدرسة ممتدة رغم أن فارق العمر بينهما لا يقل عن أربعين عامًا.
أحببناه وبكينا كثيرًا لما فارق الحياه، لا فرق عنده بين بن غني أو فقير، أو ابن عمدة أو غفير الكل سواسية تحت إمرته، لاتسمع تحت مملكته سوى "حاضر " ولو كنت على صواب أو على خطأ.
كان مربيًا أكثر ممن ربانا في بيوتنا، علمنا طاعة الوالدين ورضاهم وسماع كلامهم وتلبية أوامرهم وحفظ ألواحنا.
لاتتذاكى أمامه فالذكاء عنده لو غرفت منه لن ينتهي، ولا تتغابى فيذيقك من لهيب خرطوم بداخله عصا جريد أخضر ينهال به عليك فتٌطلق صراخا كطلق سيدة تلد لن يرحمك منه أبوك نفسه.
شيخا صالحًا في عصر الكتاتيب علّم على مدار السبعينات والثمانينات والتسعينيات أجيالاً..سيدنا ومولانا الشيخ جمعة عثمان عليك سحائب الرحمة والغفران.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الشیخ جمعة
إقرأ أيضاً:
د. عبدالله الغذامي يكتب: الوعي والتجييش
إذا استحضرنا كلمة الوعي، فنحن بالضرورة نلغي كلمة الهيمنة، فالوعي نقيض التسلط، وهو الذي ينقذنا من مغبة تسليم عقولنا لغيرنا، والتسلط في أصله يبدأ ذهنياً، ثم يتحول لجسدي حين تعجز العقول عن الصمود في وجه المعتدي على أذهاننا أو على نفسياتنا، وأول عمل يعمله المؤدلجون هو تحييد العقول ونزع سمة الواعي الذي من خاصيته أنه يطرح السؤال، ولا يبلع حبة الدواء حتى يعرف وظيفة هذه الحبة، وسبب دخولها لجسده، وكذلك حين يسأل عن سبب تقديم فكرة لنا، وهل هي فكرة صحية أم تشوبها شوائب؟، وهنا نمارس الوعي ونقاوم التسلط.
أما وسائل التواصل العامة فهي (الكاشفة المكشوفة) كما وصفتها في كتابي (ثقافة تويتر)، أي أنها لا تصنع أمزجتنا ولا تنمط تفكيرنا، هي فقط تكشف ما هو فينا، وتمدنا بوسيلة لكشف مضمرنا الذي كان مستوراً فجاءته فرصٌ كي يتكشف خاصة في لحظات رد الفعل المتبادل بين المتابعين، وهذه أخطر لحظات وسائل التواصل المفتوحة. وفي هذا الجو تتوافر سبل انتهاز الفرص من حيث تحريك المشاعر تجاه أمرٍ ما قد يكون طرأ مصادفةً، فيجري توظيفه لنبش بواطن الأمور، خاصةً إذا كان الحدث يلامس المشاعر العميقة الحسن منها أو الخبيث، ونحن مكونات ذهنية فيها الطيب، وفيها غيره، وأي حدث يتفجر في منصة (X) مثلاً يتعرض الوعي للغياب بسبب قوة جاذبية الحدث، وهنا تتقافز فرص الاستثارة غير المتعقلنة لأن تسارع ردود الفعل يصنع خطاباً له قدرةٌ على عزل الحدث نفسه وعزل ظرفه، وعزل مسبباته، ثم يشرع في بناء حدث افتراضي يتصنع عبر المنشورات المتوترة أصلاً بسبب وقع الحدث ولكنها تتجاوز الحدث كي تبتكر جوها الخاص، ولا يجري استحضار الوعي إلا بعد أن يكون التجييش قد بلغ مداه. وهنا نلحظ كيف يجري إلغاء الوعي أولاً، ثم حشو فضاء الاستقبال بالمواد السامة المستوردة من مخازن الضغينة والتجييش الجاهلي.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض