3 نساء عظيمات من عالم نجيب محفوظ
تاريخ النشر: 17th, November 2023 GMT
صدر مؤخراً العدد الجديد من دورية "نجيب محفوظ" عن المجلس الأعلى للثقافة، وقد خصَّصه رئيس التحرير، الأكاديمي المصري الدكتور حسين حمودة، للمرأة في أعمال الروائي المصري الحائز على نوبل.
المحور لافتٌ، فالمرأة عند محفوظ تكاد تكون المحرِّك الأول للأحداث في أعماله. دورُها لا يقل أهمية عن الرجل، إن لم يكن الأهم، ورغم عشرات الدراسات والمقالات التي كُتبت حولها إلا أن هناك زوايا جديدة دائماً للنظر إليها.
لقد زعم البعضُ أن نجيب محفوظ ينظر إلى المرأة باعتبارها مجرد جسد، أو وعاء. غانية، أو ساقطة تمنح روحها لمن يدفع أكثر. سيدة خانعة، تعيش حياتها كلها تحت أقدام رجل متجبِّر، لا يرى إلا نفسه، ولا يطارد إلا نزواته، فتاة طائشة تُحرِّض عشَّاقها على القتل لتطيب لها حياةُ الرذيلة. لكنَّ تلك النظرة مُجحِفة، خاصة وأن أعماله بها كثيرٌ من النماذج المضيئة للمرأة، التي سبقت زمانها، وتركت للإنسانية حكاياتٍ عظيمةً، يمكن أن تكون مضرب الأمثال. وقد أوحى لي الملف بالكتابة عن نماذج جميلة للمرأة في عالم محفوظ، وحتى لا يُفهم كلامي بشكل خاطئ، فإن حُكمي ليس أخلاقياً، بمعنى أنني لم أختر تلك النماذج في مقابل نساء ساقطات مثلاً، وإنما أردت ضرب المثل بسيدات كن قوياتٍ إلى درجة مكنتهن من القيام برسالة كبيرة، سواء في الحارة، أو في الأحياء الجديدة، أو حتى مصر الفرعونية.
الست "عين"
تقاسمت الست "عين" بطولة رواية "عصر الحب" مع ابنها عزت، واللغة تعجز عن وصفها، فهي أقرب إلى معجزة. بحسب محفوظ فإنها "لم تَصِر أسطورة إلا بفضل رحمتها"، مع الناس والحيوانات. يقول أيضاً إن "الحارة نسِيَت في أيَّامها البؤس والجوع والعُري، وهانت عليها واجبات الزفاف والمرض والدفن. تلاشت الهموم جميعًا تحت مِظلَّة عين، عين الحنون، القلب الخفَّاق بالحب، الجود الوهَّاب بلا حساب. التي تُدير العمارات لحساب الفقراء والمساكين. إنَّها الطلُّ يَهطِل على القَفر فيَتركه أخضر يانعًا يرقص بماء الحياة. أمُّ الحارة.. المُودَّعة بالدعوات الصالحات، والبسمات المُشرِقات، والامتنان الوفير. بِاسمها يحلفون، بنوادرها في الإحسان يتذاكرون الحقيقة والمُعجِزة والأسطورة. وكانت تُصادِق وتُناجي وتألَف وتُؤلَف قبل أن تُقدِّم الدواء، كانت تتسلَّل إلى أعماق القلوب الجريحة فتُعايِش الآلام وتُخالِط الأحزان وتُوادِد التُّعساء كأنَّما تتعامل مع أبناء أو تؤدِّي رسالةً طرحَتها عليها قُوى الغيب".
يتوقف السرد كثيراً عند طريقتها في التخفيف عن الفقراء والمحتاجين، فكأنها البلسم الشافي لجراحهم، لقد تعرضت هذه السيدة إلى كراهية أختها لا لشيء إلا أنها رفضت أن تكتب كتاب ابنها عزت على ابنتها، حينما كانا طفلين أو صبيين. أدركت "عين" أن شقيقتها تريد "التكويش" على ثروتها، بينما تعتبر هي أن هذه الثروة هبة من الله للفقراء والمحتاجين، وما أودعها لديها إلا لتوصلها إليهم. امتحن الدهر هذه المرأة العظيمة في ابنها عزت. كان بليداً، يسير وراء أهوائه، اعتدى على "سيدة" ابنة الشغالة، ثم قرر في وقت لاحق أن ينسلخ عن أمه، وأن يطارد "بدرية" حبه القديم، وينتهي به المطاف مديراً لملهى ليلي، وبعد سنين طويلة حين يقرر أن يعود إلى "عين" يعود إليها بعد أن يكون ألزهايمر والصمم قد تمكنا منها، فلا تعرفه.
الملكة "توتيشيري"
الملكة "توتيشيري" هي زوجة الملك المصري "سكنن رع"، إليها نسب محفوظ في روايته "كفاح طيبة" عظمة الاستبسال المصري في مواجهة جحافل الهكسوس بقيادة أبوفيس، لم تهدأ لحظة، ولم تكف عن تحميس ابنها كاموس، حتى استُشهد أثناء زحفه إلى الشمال لطرد الهكسوس، ثم آل حماسُها إلى حفيدها أحمس. لقد كانت الشعلة التي لا تخمد جذوتُها، وأشرفت في بلاد النوبة على تصنيع الأسلحة وإمداد القوات بها، ورفضت أن تغادر مكانها حتى هرب أبوفيس من آخر معاقله في الدلتا وهي "هواريس".
لقد "ظلَّت الرأي الذي يُرجَع إليه في الملمات، والقلب الذي يلهم الأمل والكفاح، وقد أقبلت في فراغها على القراءة، وكانت تديم المطالعة في كتب خوفو وقاقمنا وكتب الموتى وتاريخ العهود المجيدة التي خلَّدها أمثال مينا وخوفو وأمنحيت، وكان للملكة الوالدة شُهرة عظيمة في الجنوب جميعه، فما من رجل أو امرأة إلا يعرفها ويحبها ويقسم باسمها المحبوب، وذلك أنها بثَّت فيمَن حولها وعلى رأسهم ابنها الملك سيكننرع وحفيدها كاموس حب مصر، جنوبها وشمالها، وكراهية الرعاة المغتصبين الذين ختموا العهود الجليلة أسوأ ختام، ولقَّنت الجميع أنَّ غايتهم السامية التي يجب أن يعدُّوا أنفسهم لتحقيقها تحرير وادي النيل من قبضة الرعاة المستبدين".
سنية المهدي
لا أميل إلى التفسيرات التي تصوِّر شخصيةً روائية ببلد كامل، وقد رأى الكثيرون أن سنية المهدي، بطلة رواية "الباقي من الزمن ساعة"، تجسد مصر، لكن يبدو أن ملامح تلك الشخصية تقول ذلك، بإصرارها على التمسك ببيتها، وعدم الانجراف إلى أبنائها الذين باغتوها ذات يوم بالقول إن المستثمرين (في عصر الانفتاح) قد يشترون البيت بمبلغ خيالي، بما يمكنِّها ويمكِّنهم من تحقيق أحلامهم، لكنها ابتلعت غصَّتها وحنقها عليهم ورفضت، حالمة بتجديد حديقة البيت الذي ورثته عن جدها لأبيها (كان قبطياً من صلب أقباط ثم دخل الإسلام). يكتب محفوظ عن أبنائها وما انتهت إليه مصائرهم: "تابعت منيرة الأنباء من موقع وظيفتها الجديدة كمُدرِّسة للغة الإنجليزية بمدرسة البنات بالعباسية، أما محمد فوجد عملًا في مكتب الأستاذ عبد القادر قدري المحامي الوفدي المعروف، وكان موصولًا بصداقته من عهد وفديته الخالصة فلم ينقطع عنه بعد أن مازجت وفديته «إخوانية» متصاعدة. وبذل محمد جهدًا صادقًا في عمله حاز به ثقة أستاذه غير أن الحرب انتهت بهزيمة العرب، ومقتل النقراشي، وإعلان حربٍ داخلية لا هوادة فيها ضد الإخوان، فقُبض على محمد فيمن قُبض عليهم ضمن شعبة حلوان. وهزَّ النبأ الأسرة هزةً فاقت أحزانها الخاصة والعامة".
ظلت سنية تحتضن جميع أبنائها حتى بعد أن جرفتهم السياسة، بحيث أصبح لكل شخص منهم لونه، فمن الوفدي إلى الناصري إلى الإخواني. تحملت سنية العواصف وحدها وظلت صامدة في وجه الزمن تواجه التحديات والتقلبات بقلب لا يخلو من الحزن.
***
من أين استمد محفوظ إذن تلك النماذج الجميلة؟
لقد كانت أم محفوظ، فاطمة مصطفى قشيشة، بحسب محمد شعير في كتابه "أعوام نجيب محفوظ.. البدايات والنهايات" هي مصدره إلى عالم المرأة، ومن المؤكد أن تلك الشخصية شديدة النبل والملائكية، المرأة المصرية البسيطة الجميلة، قد تركت في نفسه الأثر الكبير تجاه النساء. كانت أم محفوظ حسبما وصفها هو نفسه: "سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كانت مخزناً للثقافة الشعبية، وكانت دائمة التردد على المتحف المصري، وتحب قضاء أغلب الوقت في حجرة المومياوات، ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة "دير مارجرجس" وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين ومارجرجس في نفس الوقت تقول: كلهم بركة".
يستخلص محمد شعير من كراسة محفوظ وهي بعنوان "الأعوام" أن الأم تظهر بقوة، في تلك الكراسة، في مقابل الظهور الشاحب للأب، بل تكاد أن تكون بطلاً للنص ومركز الحكايات داخله وتبقى حكاياتها بمثابة النبع الذي لا ينضب للذكريات والخبرات والصور والمصدر الرئيسي لمادة الحياة الخام الذي يشكل وعي الطفل بالحياة وبمفرداتها الجزئية الصغيرة.
يضيف: "الصبي الصغير هو "ملك العالم" لأن أمه تقص عليه ما تشتهيه نفسه من القصص، صادقها وكاذبها، تلجأ إليها لتملأ زمامه، لتخيفه وتردعه أحياناً، وتسعده وتفرحه أحياناً أخرى، تقص حكاياتها بينما تدعك جسده حتى يستسلم لسلطان النوم الجميل، حبه لها يصل إلى حد العبادة كما يقول: "لقد فكر بعد مضي زمن في هذا الحب الغريب الذي كان بينه وبين أمه فشعر بأنه كان الحب الذي فاز به في الحياة ولولاه لآذر الموت قبل أن يدرك ماهية الحياة". في مرضها يبكي ويتحسر، وإذا خرجت لقضاء أمرٍ ما.. لا يستطيع قلبه الصغير أن يتحمل الغياب، حتى عقابها له يكاد يكون مقبولاً، معها عرف أول حب".
لقد أمدت الأم ابنها نجيب محفوظ بالمخزون الكافي ليحبَّ العالم، ويرسم صورة شديدة الجمال وفائقة الإنسانية للمرأة التي لا ترضى لشعبها بالهوان، ولا لأبنائها بالتشتت والفُرقة، ولا لمجتمعها بالفقر والحرمان.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نجیب محفوظ
إقرأ أيضاً:
مرصد: 15 في المائة من المقاولات تسيرها نساء لكن حصولها على التمويل البنكي ما يزال ضعيفا
أفادت المديرة التنفيذية للمرصد المغربي للمقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة، أمال إدريسي، أمس الاثنين بالدار البيضاء، أن 15 في المائة فقط من المقاولات في المغرب تسيرها النساء، وهو رقم ظل مستقرا منذ سنة 2020.
وأوضحت إدريسي خلال لقاء صحفي خصص لتقديم تقرير المرصد للفترة 2022-2023، أن الدراسة التي أجريت، والتي قارنت بيانات سنة 2023 (373.835 مقاولة) مع بيانات سنة 2022 (344.563 مقاولة)، تظهر استمرار التفاوت بين الجنسين، خاصة في ما يتعلق بالولوج إلى التمويل البنكي.
وأبرزت في السياق ذاته أن 14،6 في المائة فقط من المقاولات التي تسيرها نساء تستطيع الولوج إلى التمويل البنكي، وأن حصتها من إجمالي هذا التمويل لا تتجاوز 11،3 في المائة.
وعلى الصعيد الجهوي، أشارت إدريسي إلى أن 17،6 في المائة من المقاولات تسيرها نساء بجهة مراكش آسفي، مقابل 16،6 في المائة بجهة الرباط سلا القنيطرة و15،6 في المائة بالدار البيضاء سطات، وهي معدلات تتجاوز قليلا المتوسط الوطني.
وفي المقابل، تسجل جهتا بني ملال خنيفرة والشرق نسبا تناهز 10 في المائة.
وأضافت إدريسي أنه في بعض القطاعات، تشغل النساء مكانة بارزة، مثل قطاع الصحة والعمل الاجتماعي (40 في المائة)، وكذا الخدمات، لا سيما صالونات التجميل والعناية بالبشرة (30 في المائة)، والتعليم (30 في المائة).
وفي المقابل، تسجل قطاعات النقل والتخزين، والصناعات الاستخراجية والبناء، معدلات منخفضة، تقل عن 10 في المائة.
وبخصوص تطور إنشاء المقاولات وحلها بين عامي 2017 و2023، كشفت إدريسي عن ديناميكية متباينة في المشهد المقاولاتي المغربي، الذي شهد زيادة ملحوظة في عدد المقاولات المحدثة لتبلغ 96.442 سنة 2023، بزيادة قدرها 20 في المائة مقارنة بسنة 2017.
وأبرزت أن هذه الزيادة تتميز بالخصوص بهيمنة المقاولات الصغيرة جدا، التي تمثل 99 في المائة من المقاولات المحدثة، مضيفة أن قطاعات الإعلام والاتصال، والأنشطة العقارية، والصحة البشرية والعمل الاجتماعي سجلت مستويات إحداث أعلى مما كان عليه الأمر قبل الجائحة.
وأضافت أن الأزمة الصحية والانتعاش الاقتصادي كان لهما تأثير غير متساو على مختلف أحجام المقاولات، ولاسيما المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تأثرت على نحو خاص، ووضعت قدرتها على الصمود في مواجهة اختبار في بيئة سوق غير مواتية، مع معدل حل مرتفع في بعض الجهات مثل سوس ماسة، وفاس مكناس، ومراكش آسفي.
وقد شهدت هذه الجهات تطورا واضحا على مستوى الحل، يتباين مع جهات مثل جهة طنجة تطوان الحسيمة حيث سجل إحداث المقاولات تزايدا ملحوظا، بارتفاع نسبته 74 في المائة.
وعلى الصعيد القطاعي، سجلت بعض المجالات أداء استثنائيا، حيث شهدت قطاعات مثل الأنشطة المتخصصة العلمية والتقنية زيادة سنوية كبيرة لقيمتها المضافة، تجاوزت 50 في المائة بين عامي 2017 و 2023.
وفضلا عن ذلك، أوضحت إدريسي أن قطاعات التجارة والصناعة التحويلية والبناء مازالت هي المهيمنة أكثر من حيث رقم المعاملات، حيث تمثل نحو 72 في المائة من إجمالي رقم معاملات المقاولات.
وأشارت في هذا الصدد إلى أن قطاع التجارة شهد انخفاضا طفيفا في حصته من السوق، حيث انتقل من 35،2 في المائة سنة 2017 إلى 34،1 في المائة سنة 2023، في حين أن حصة الصناعة التحويلية عرفت زيادة، لكن بوتيرة معتدلة.
وعلى مستوى التشغيل، أفادت إدريسي أن المقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة، التي تمثل 73 في المائة من العاملين، شهدت تباطؤا في نمو التوظيف، الذي انخفض من 8،7 في المائة قبل الجائحة إلى 6 في المائة بعدها، مشيرة إلى أن بعض الجهات مثل سوس ماسة، ومراكش آسفي، والشرق سجلت زيادة في أعداد العاملين، في حين شهدت جهة الدار البيضاء السطات تباطؤا رغم أنها مثلت، سنة 2023، 32،1 في المائة من المقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة و38،3 في المائة من إجمالي العاملين.
وفي هذا الصدد، أشارت إلى أن قطاع الخدمات الذي واصل نموه، مثل 66،5 في المائة من إجمالي العاملين في المقاولات، مقابل 62،2 في المائة سنة 2017.
ويقدم التقرير السنوي للمرصد صورة عن الوضع الديموغرافي والاقتصادي والمالي للنسيج المقاولاتي المغربي، مع تسليطه الضوء بشكل خاص على تطور التوظيف في سياق ما بعد الجائحة. كما يتضمن مؤشرات عن المقاولين الذاتيين ونتائج دراسة حول ريادة الأعمال النسائية.
كلمات دلالية المغرب مقاولات نساء