في سنة 2002 وقف الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي على منصة الأمسية الشعرية المُقامة ضمن فعاليات المعرض بالقاهرة، وقال «أقدم لكم ابننا الشاعر الصعيدي ..عبد الناصر علاّم» ، ثم جلس «الخال» على مقعده وأخذ يستمع بإعجاب شديد إلى بلدياته. 

«شفت عساكر دورية بتدور علي الحرامية ..حرامية عيني عينك، وشايفهم أو شايفنك» ضجت القاعة بالتصفيق الحار أثناء إلقاء عبد الناصر علاّم لقصيدة «الخرس المبّاح» بلكنة ولغة أهل الصعيد الجواني، كان إعجاب «الخال» ببلدياته وتقديمه له في أمسية ضخمة في محفل ثقافي كبير، إشارة واضحة للوسط الثقافي والإعلامي في العاصمة أن الأبنودي اختار من يخلفه في شعر العامية وكتابة الأغاني للوسط الغنائي، وفي الوقت ذاته شهادة ميلاد لعبد الناصر علّام ممهورة بتوقيع الراحل الكبير.

 

وعلى غير المتوقع لم يلتصق «علّام» بعبد الرحمن الأبنودي وأصر أن يكون صوتًا شعريًا مغايرًا، ويفسر المقربون من «خليفة الأبنودي» اتجاهه لذلك إنه عاني من جفاء «الخال» وعدم تقديم له يد العون له بعد تقديمه للجمهور في معرض الكتاب. أقام عبد الناصر علّام في القاهرة فترة طويلة بعد أن حصل على إجازة من عمله في التربية والتعليم، ولم يستطع أن يتحمل قسوة ونفعية الوسط في القاهرة أو يتعامل معها مثلما كان يتعامل معها غيره ممن تحملوا ذلك ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، وربما كان شخصية عبد الناصر علام التي لا تقبل البقاء في المنطقة الرمادية سببًا مباشرًا ليترك القاهرة، إضافة لظروفه العائلية. 

عاد «خليفة الأبنودي» إلى بلده قنا، نجمًا كبيرًا كان وهجه قادرًا على تنحية من سبقوه في مجاله في أية مناسبة أو فعالية ثقافية، وكان يسافر إلى القاهرة على استحياء لعله يجد فرصة مناسبة لغناء قصائده العامية، وكذلك لمباشرة طباعة دواوينه وقصائده لدي المؤسسة الثقافية بفروعها، وله 17 ديوان شعري بالعامية وقصيدة فصحي ومسرحية واحدة، ورشح عدة مرات لجائزة الدولة التشجيعية، وحصل على عدة جوائز إقليمية في الثقافة عدة مرات. 

كان التقدير المعنوي الذي يناله عبد الناصر علام من مشاهير الثقافة والإعلام سببًا أن يجعله يكمل رحلته، إضافة إلى أنه يصنف أنه يكتب الشعر لأجل الشعر، قيّمه الشاعر الكبير سيد حجاب أنه شاعرًا يمتلك الصنعة واللغة، وعلى دراية جيدة بالعروض والبحور الشعرية المختلفة، ويمتلك رؤية واضحة تمكنه من صياغة القصيدة بشكل بنائي متفرد. 

أثناء مشاركة «علام» بمباراة لكرة القدم ـ وهي هوايته بعد الشعر، في مدرسة أبو بكر الصديق الإعدادية بمدينة نجع حمادي حيث يعمل، سقط على ظهره ليصاب بكسر في الفقرات، واعتزل الساحة الثقافية لمدة سنة ونصف السنة، بسبب المرض وعدم قدرته على الحركة واكتشف بالتزامن مبادئ إصابته بالسرطان، ومر برحلة علاجية أعجزته عن الحركة تمامًا وزاد وزنه بشكل ملحوظ بسبب جرعات العلاج. 

كان«علام» في رحلته الأولي مع المرض كحجر الصوان عنيدًا وصلدًا للغاية وقاوم المرض بصبر كبير حتي برأ منه، وأصبح شخصًا طبيعيًا وعاد إلى رشاقته المعروفة عنه، ونزل إلى الساحة الثقافية مجددًا بموهبته التي أثقلت وبخبرة 37 سنة في كتابة الشعر، وأصبح ضيفًا في كل مؤتمرات الثقافة الإقليمية في الجمهورية، وترأس نادي الأدب في بلده نجع حمادي، وبدأ في الغوص أكثر في المحلية منظرًا عمليًا لفكرة الاستغراق في المحلية وخصص أيامًا في الأسبوع لاكتشاف المواهب في المدارس الإعدادية والثانوية كما بدأ يظهر بوضوح في الفعاليات الثقافية الإقليمية، وأقام خيمة رمضانية في صحيفة محلية في بلده في شهر رمضان الماضي، واستضاف فيها شعراء وأدباء الصعيد في أمسيات شعرية وفنية وهو ما وصفته الأوساط الثقافية بأنه أعطي قبلة الحياة للحالة الثقافية المتحضرة منذ وقت طويل. 

في مطلع 2017 بدأت مضاعفات المرض تظهر عليه مجددًا وظل يقام كعادته، ويمارس حياته بشكل طبيعي، حتي تفاقمت حالته في الشهور الأخيرة وأصبح طريح الفراش وتم نقله إلى مستشفي أورام سوهاج للعلاج بجرعات الكيماوي، ثم للقاهرة لإجراء جراحة لوقف انتشار المرض، وفي رحلة مرضه الأولي والثانية  كان علام كعادته عزيز النفس وأنفق كل مدخراته واقترض من البنك ليعالج نفسه، ولم تتدخل المؤسسة الثقافية لعلاجه إلا بمناشدات زملاءه لإنقاذ حياته. 

وفي منتصف إبريل 2018 تحققت قصيدة عبد الناصرعلاّم «يلا إمشي يا موت» .. «أنا عارفه في سرك كتيمي في قميص موته عمال تغزل| شوف عمّال أقولك تطلع تنزل| خليه الأخر في الكشوفات| عارفاك غدار عارفاك قاسي ولا حاجة بتفلت من أيدك ولا حاجة تفوت| وأنا برضه يا موت واقفالك ومعايا النبوت يلا أمشي يا موت»!. 

خسر عبد الناصر علاّم الأخيرة مع المرض الذي أنهك جسده، توفي أخر الموهوبين فى قصائد العامية وهو لم يتجاوز الـ52 عامًا، وخسرت الساحة الثقافية فى صعيد مصر شاعرًا هو الأبرز فى السنوات الأخيرة. 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: بروفيل سلسال الموهوبين الخال قنا عبد الناصر

إقرأ أيضاً:

تسريبات عبد الناصر وتساؤلات الهوية والقضية

منذ أيام ولا تتوقف برامج "توك شو" عن مناقشة وتحليل تسريبات الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، حول إظهار عبد الناصر حالة الإحباط التي يشعر بها تجاه مواقف الرؤساء والملوك العرب، بعد هزيمة 1967، ورغبتهم في خوض مصر الحرب، دون أن يقدموا الدعم اللازم لذلك، في مقابل خطابات "شعبوية" على حد تعبير عبد الناصر، لا طائل منها.

هذا الحوار كان بمناسبة نية عبد الناصر قبول مبادرة وزير الخارجية الأمريكي السابق روجرز، والتي تهدف إلى وقف إطلاق النار بين مصر والاحتلال الإسرائيلي.

لعل الصادم في كلام عبد الناصر، رائد القومية العربية وزعيمها، هو حديثه عن أن على الفلسطينيين أن يقوموا بقضيتهم، وأن قضيته هي تحرير الأراضي المصرية التي احتُلت بعد هزيمة 1967، وإن كان الكلام اجتزئ من سياقه، إذ إن الرجل وللأمانة كان يعبر عن حالة إحباط لا استسلام، حتى ولو أن نيته كانت تحميل الفلسطينيين مسؤولية ما يخصهم من القضية العربية- الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يتم على أرض الواقع، ولا يدري أحد؛ لأن المنية كانت أسبق من أن ينفذ معتقده، أم أن كلامه في التسريبات كان من قبيل الغضب والكبت والإحباط، لا سيما وأن الهزيمة أوقعت رمزا كبيرا في مخيال الأمة العربية.

ويأتي الجدل حول التسريبات بسبب توقيت خروج هذه التسريبات، إذ إن الفلسطينيين ولا سيما المقاومة في غزة والضفة يعيشون أزمة كبيرة، جوهرها الخذلان؛ لا العدو والخسائر التي خلفها من عدوانه سواء على غزة أو الضفة، في وقت تطالبهم القوى العربية الكبرى؛ بأن يلقوا سلاحهم، ويتركوا مساحة لوقف العدوان من خلال مفاوضات إرضاء العدو، وهو ما أحدث هذا الجدل، سواء على مستوى الحاضر في دعوة العرب للمقاومة إلقاء سلاحها، أو على مستوى استشهاد من يرى ذلك بما تم تسريبه من لقاء عبد الناصر والقذافي، إذ يرى هؤلاء أن ذلك عين العقل، حيث يوفر قرار إلقاء السلاح وقف نزيف الدم والأرواح للمدنيين في غزة والضفة.

دارت السجالات بين من رأى أن عبد الناصر كان واعيا ومقدرا للموقف أكثر من كل حكام العرب، في حينها، وهو الخط الذي سار عليه السادات من بعده، ولحقه كل العرب فيما بعد، ما يؤكد رجاحة عقله وثبت زعامته، وأن القومية لا تعني العنترية أو سحب البلاد إلى مغامرات غير محسوبة، وبين من يرى أن مغامرات عبد الناصر أودت بالعرب إلى ما هم عليه الآن، وأنه سبب الهزيمة في 1967 وما قبلها، وأنه هو من أدخل العنترية واللامنطقية إلى ساحات السياسة، وأن إسقاط موقف عبد الناصر و"حكمته" على الحالة الفلسطينية اليوم لا يمت للعقل ولا مقتضى المنطق. كما أن بحث كل قُطر عن مصالحه والانكفاء على حل مشاكله، ليس واجب الوقت كما يدعي أصحاب الرأي الأول.

وبين هؤلاء وهؤلاء يبرز تساؤل كبير حول الهوية والقضية، وما إذا كانت القضية الفلسطينية هي قضية العرب كلهم، كما يرى القوميون والعروبيون، أم هي قضية الفلسطينيين، كما يرى أنصار تيار التغريب والليبرالية و99 في المئة من خيوط القضية في يد أمريكا، أم هي قضية دين وعقيدة، كما يرى الإسلاميون، أم هي مسألة صراع سياسي كما كل الصراعات، كما يرى دعاة الحياد والأكاديمية.

لقد كانت القضية الفلسطينية بنت العروبية والإسلاموية، تتنازعاها، فالأول يرى أن أرض فلسطين هي أرض عربية اغتصبها شذاذ الآفاق وعلى القومية العربية أن تثبت هوية عروبتها، وهم في ذلك باحثون عن قضية جامعة رافعة لأيديولوجيتهم، التي جاءت على أنقاض الخلافة العثمانية "الإسلامية". فالقضية سابقة على ميلاد فكرهم بمئات السنين، وربما بما يقارب الألف عام، حين فتح عمر بن الخطاب القدس، لذا فإن الإسلاميين يرون أنها قضية إسلامية بدأت مع نزول الوحي وإسراء الله سبحانه بنبيه إلى المسجد الأقصى، وبالتالي هم أولى بالقضية من غيرهم. وعلى مستوى القضية الفلسطينية في العصر الحديث، فإن أول طلائع المقاومة على المستوى الشعبي، كانت مدفوعة بالعقيدة والتاريخ، وحتى على المستوى الرسمي، كما يقول البعض، كانت مدفوعة برغبة الملك فاروق في استعادة زعامة العالم الإسلامي بقيادة الجيش المصري للجيوش التي سافرت إلى فلسطين للذود عن حياض الأقصى وفلسطين.

القضية ليست يا سادة في تسريبات عبد الناصر، ولا من موقفه، ولا من الدفاع عنه أو إدانته، القضية بل الأزمة الحقيقية أننا كأمة أصبحنا لا نعرف من نحن، وماذا نريد. لقد مرت الأمة بقرن من أصعب القرون مرت عليها، وأصبح حالنا حال من يتخبطه الشيطان من المس، لا نعرف إن كنا عروبيين، أم إسلاميين، أم كما بعضنا انحاز إلى حضارة كانت على أرضه ولم يبق منها إلا بعض الحجارة والأساطير، فهذا فرعوني، وذاك آرامي، وهؤلاء سومريون، حتى أصبحنا أمة تبحث عن ذاتها، بل صار السؤال الكبير هو: هل نحن بالفعل أمة؟

هو السؤال الذي سنجيب عنه في سلسلة من المقالات إن شاء الله في الأسابيع القادمة..

مقالات مشابهة

  • ماذا يحدث للجسم عند تناول التمر الجاف
  • لمنع التساقط.. تعرفي على الطريقة الصحية لغسل الشعر
  • قبل عيد الأضحى 2025.. دار الإفتاء توضح حكم حلاقة الشعر وتقليم الأظافر
  • تحت الضوء
  • انتصرت على السرطان.. تفاصيل وفاة الفنانة السورية سمر عبد العزيز
  • وفاة الفنانة سمر عبد العزيز بعد صراع مع المرض
  • وزير الإسكان: دعم كامل لشركات المقاولات الوطنية لدفع عجلة التنمية العمرانية
  • تسريبات عبد الناصر وتساؤلات الهوية والقضية
  • نقيب المحامين: قانون الإجراءات الجنائية نقلة دستورية ومشاركة النقابة فيه مسئولية وطنية
  • نقيب المحامين: قانون الإجراءات الجنائية يصون كرامة الإنسان ويعكس شراكة تشريعية