سودانايل:
2025-04-28@16:17:07 GMT

قراءة في فكر الوليد مادبو … ثورة الوسط نموذجا (2/4)

تاريخ النشر: 17th, November 2023 GMT

Mohamedmosa.imam@gmail.com

إستهل الكاتب سفره بمقال "المدينة الآثمة" (ص 39), وأتم السفر بمقال "منفستو المدينة الفاضلة" (ص 375). السؤال هنا : لماذا إفتتح الكاتب بمقال يصف فيه الخرطوم (العاصمة/المركز) بالمدينة الآثمة , ثم يختتم ببيان المدينة الفاضلة , أو المدينة المرتجاة ؟ وهي أعالي أشواق الإنسان المهدور الذي ينتظر الذي يأتي ولا يأتي .

ما العلاقة بين "الإثم والفضيلة" ؟ هل يسعى الكاتب من خلال مقالاته أن يُدَشّن بيان حقيقي لإقامة "المدينة الفاضلة" أو "الفردوس المفقود" على أنقاض المركز المتهالك المتداعي ؟ , أليس الإثم هو الذنب , والذنب مغفورٌ عنه بعد التوبة ؟ هل ينتظر الكاتب في خُصيصة نفسه من "حَاكمٍ طَاغٍ" أن يتوب ويستغفر فيُغفر له ؟ . إن التوبة تعني الإعتراف ضمنياً بالجُرم , ولم نشهد على مدى تاريخنا السياسي الحديث أن إعترف أحد "طُغاتنا" بجرم إرتكبه , لذلك إستشهد الكاتب في صدر مقاله بآية من القرءان الكريم في قوله تعالى «... وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا..»، سورة (الإسراء : 58) . هذا الحكم الإلهي ليس مُطلقاً , فحرف (إنْ) لا تفيد التقييد بقدر ما تفيد التوكيد والتأكيد على القدرة الإلهية المطلقة غير السببية , وبالتالي نخلص إلى فحوى ومضمون الآية أن كل قرية غافلة وغير مصلحة إلا والله مهلكها أو معذبها وهذا واضح فى قول الحق سبحانه: ‭(‬وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجُوْعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‭‬ (النحل: 112) . يقول الكاتب (... سيّما أن هذا التجلّي القدري يسنده منطق شرعي , لقد أمهلنا كثيرا كي نعتبر فنعي المشكل .. لكننا تمادينا في العماية , بل آثرنا الغواية باتّباعنا ذات المنهجية التي أوردتنا المهالك من قبل , فهل عقمت المدينة من نجيب ينذرها مغبّة التمادي ويرشدها سبل المفازة ..؟) اهـ . بهذه المقدمة في المقال الأول بدأ الكاتب بنكأ الجرح , فالشواهد على ما يقول كثيرة والأمثلة واضحة وصريحة , فالكاتب يرى ما لم يره "الطُّغاة" , يرى خاتمتهم وما ينتظرهم من العذاب والهلاك معاً , فالعذاب هو الألم في الدنيا والهلاك هو الألم في الآخرة , لذلك يقول (... فهل عقمت المدينة من نجيب ينذرها مغبّة التمادي ويرشدها سبل المفازة ..؟) اهـ . إن إستمراء التآمر على الوطن والمواطن طوال فترة قرن من الزمان لا أحسب أن يكون هناك من يرشد إلى المفازة بين ظهرانينا, فما المفازة إلا تفاؤل هالك بالنجاة . ويقول (... لا , لكنهم أصبحوا ضحايا تفكير مركزي لا يرى ثورية خارج الأطر التقليدية , ولا يرون ريادة إلا لنقوش سطّرتها دور العبادة وإن كانت لغير الله) اهـ . (ص 39) . ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
عندما خرج النفط, تنفّس الإنقاذيون الصّعداء, وخرجوا من النفق الضيّق إلى دنيا واسعة شاسعة أوسع من (الدين الإسلامي) الذي اعتمدوه دستوراً وإماماً لهم, فالدين لا يصلح إلا مع الفقراء فقط, لأن الدين هو الوحيد الذي يحوّل آمال الفقراء ويترجم مآسيهم إلى واقع إفتراضي يعيشونه في حاضرهم ويقتاتون عليه في مستقبلهم. لقدأصبح صَيت زمرة الإنقاذيين أكبر من كَيسهم , فشعار (الإنقاذ) كان , ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل القتاد (نوع من الشوك مر الطعم) , وهذا السلوك ترجمة نوعية لنمط من أنماط النرجسية الثقافية cultural narcissism , فالإنسان ذو البعد الواحد one dimensional man , هو الذي تتلبّسه الفكرة التي مفادها أن موارد النقد في العالم الحديث قد إضمحلّت إلى حد إختفت فيه عمليّاً إمكانية تصوّر مستقبل مختلف وأفضل بدونه , وهكذا فإننا نعيش الأن في مجتمع ليس له سوى بُعد واحد ألا وهو "بُعد الواقع القائم" – الزاوية التي يرى منها الطّغاة - مما يودي إلى ما يسمى بالتناقض الأدائي , إلا أننا آثرنا أن نُغيّب الحقيقة داخل ذاكرتنا الجمعية ونستمر في التكاذب . إن الدين لا يمكن أن يكون عاملاً لتوحيد الأمم والشعوب, كما الدين لا يمكن أن يكون سمة لهوية ما لشعب ما. إن ما يجمع الأمة هو قوميتها وثقافتها وليس دينها. فمن حق أي مواطن أن يكون ما يكون, بصرف النظر عن ماهيّة إعتقاده أو إنتماءاته العقدية أو المذهبية فهي لا تُمثّل هويّته الرسمية التي بها ينتمي إلى بلده أو قوميّته. إن الهوية الرسمية للدولة يجب أن تكون جامعة واضعة في الإعتبار جميع القوميات والثقافات لهذه الأمة.
تناول الكاتب مصطلح (النخبة) في سفره, ووردت كثيرا بين مقالتَي (المدينة الآثمة والمدينة الفاضلة) دون الإنتباه إلى كُنْه هذه الكلمة التي تتنافر والمُشبّه بهم كمصطلح يخدم أغراض موضوع المقال المطروح , فالطبقة أو الشريحة السودانية المعنية بمصطلح (النخبة) لا ينطبق عليها هذا الوصف ولا يستقيم عوده إلا عنوة . لأن مصطلح (النخبة elite) أو الصفوة تعني الخلاصة , وخلاصة الشيئ خياره , كما أن الإنتخاب هو الإختيار والإنتقاء , لقد درج الأدباء والمثقفون وعلماء الإجتماع على إستخدام مصطلح النخبة على قادة الرأي العام الذين يشكلون إتجاهات وتوجهات المجتمع , كما تتمثل في القادة الدينيون ووجهاء الطوائف الدينية وعلى الأقلية الحاكمة المسيطرة ذوي القدرة والنفوذ . يقول عالم الإجتماع الإيطالي فلفريدو باريتو "... أن النخبة هم أولئك المتفوقون في مجالات عملهم .. (التكنوقراط) , ويتمتعون بقدرة هائلة على ممارسة وظائفهم السياسية أو الإجتماعية والتي تخلق منهم طبقة حاكمة ليست بحاجة إلى دعم وتأييد جماهيري , لأنها تعتمد في حكمها وإصطفائها على مواصفات ذاتية تتمتع بها , وهذا ما يميزها ويؤهلها لإحتكار المناصب ." اهـ , فالسؤال الذي يتبادر ويتقافز في عقولنا لأول وهلة : ما الذي يميّز السياسيين السودانيين (النخبة) عن من سواهم ؟ . ما الذي يمتازون به لا يملكها بالمقابل أفراد وجموع الشعب السوداني ؟ . هل تقلّد هؤلاء النّفر (النخبة) مناصبهم وإحتكروا المنصّات والمنابر عقوداً لأنهم يتمتعون بتأطير أكاديمي رفيع عَمّنْ سواهم وتحلّوا بقدر من النزاهة والأخلاق تجعل منهم أنصاف آلهة ؟ . حسب المعطيات لدينا فإننا لا نرى فيهم سوى أرجاس أوثان حان أوان تحطيمها , لأنهم ليسوا سوى (أراذل) - كمقابل لغوي لكلمة (نخبة) - إستخفّوا قومهم بالتعالي والأنانية والكلف (والبريستيج) الكاذب , فكسروا إرادة الفرد وخسروا ثقة المجتمع وحطّموا ما تبقى من وطن .
يقول بن عطاء الله السكندري "من لم يُقبل على الله بملاطفات الإحسان , قُيّدَ إليه بسلاسل الإمتحان"اهـ . فما هو هذا الإحسان الذي يتحدث عنه السكندري ؟ , أليس هو ذاك الإحسان – المُراد به الرقابة الذاتية -الذي ورد في الحديث الشريف "أن تعبد الله كأنك تراه , فإن لم تكن تراه فإنه يراك" رواه مسلم وابن ماجه . فالإحسان في الإسلام هو إتقان العمل الذي يقوم به المسلم (التكنوقراطي) وبذل الجهد لإجادته ليصبح على أكمل وجه , فإن كان العمل خاصاً بالناس وجب تأديته على أكمل وجه . أليس هذا هو مضمون ما تحدث عنه عالم الإجتماع (باريتو) في تعريفه لمصطلح النخبة ؟ . هل ينطبق ما ورد أعلاه من حديث وتعريفات على (الطبقة/الفئة) المتصدّرة للمشهد السياسي السوداني منذ ولادة الدولة السودانية الحديثة وإلى يومنا هذا ؟ , لا أظن ذلك .
في مناجاة للكاتب يقول فيها ".. فهل عقمت المدينة من نجيب يُنذرها مغبّة التمادي , ويُرشدها سُبُل المفازة" اهـ , ما النجيب سوى ذاك الفاضل النبيل الخالص , وهي تعريفات لـ(الصّفَوِيّة) , ولكن هيهات لا جواب لسُؤْلَ الوليد بين يدي هؤلاء . ويستطرد الكاتب "... سيّما أن هذا التجلّي القدري يسنده منطق شرعي" اهـ , فإذا قرأنا منطوق الآلهة , هذا المنطق الشرعي , ووضعنا مقاربة بينها وبين ما يرمي إليه الكاتب في معرض حديثه نجده لا يخرج كثيراً عن ما جاء في سفر منصور خالد الموسوم (النخبة السودانية وإدمان الفشل) . فكيف لفئة تم تصنيفها (صفوية/نخبوية) منتقاة أن تفشل وتفشل حتى يؤول بها الحال والمآل إلى إدمان الفشل , فتُصبح أنموذجاً يُضرب بها المثل وتُسطّر تجربتها في القراطيس المقرطسة تكون مادة للدراسة وعبرة للأجيال . أما آن الأوان لقبر مفهوم (النخبوية) كمصطلح قُيّدنا بسلاسله ردحاً من الزمان ؟ . أليس هذا دليلاً كافياً لإستبدال هذا المصطلح السياسي بمصطلح يليق بالمُشبّه بهم وذلك حسب معطيات النتائج التاريخية والسياقات الموضوعية وما يقتضيه الوصف المنهجي لهذا المصطلح ؟ .
لقد تناول المفكر اللبناني علي حرب في كتابه "أوهام النخبة أو نقد المثقف" دور المثقف وتفاعله في المشهد السياسي وطرح بعض الأسئلة الجوهرية . لماذا لم يفلح المثقفون في ترجمة شعاراتهم ؟ . لماذا يتحوّلون إلى مجرد باعة للأوهام ؟ . لماذا لم يتمكنوا من تجديد عالم الفكر وتغيير الواقع . يقول : "إن النقد هو تحليل للعوائق التي تحول دون أن يكون المفكر مبدعاً في حقول الفكر , منتجاً في ميادين المعرفة , هذه العوائق هي عبارة عن أسئلة عقيمة أو ثنائيات مزيّفة أو مقولات كثيفة , أو بداهات محتجبة , وكلّها أوهام خادعة تحجب الكائن وتطمس المشكلات بقدر ما تنفي الحقيقة وتقصي الذوات . والأوهام كثيرة منها وَهَمْ النخبة , أعني بهذا الوَهَمْ سعي المثقف إلى تنصيب نفسه وصيّاً للمجتمع والأمة ... بنرجسيّته وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي إصطفائي , أي إعتقاده بأنه يمثل عقل الأمة أو ضمير المجتمع أو حارس الوعي . إنه صار في المؤخرة بقدر ما إعتقد أنه يقود الأمة , وتهميش دوره بقدر ما توهّم أنه هو الذي يحرّر المجتمع من الجهل والتخلّف" اهـ . المصدر(كتاب أوهام النخبة , المركز الثقافي العربي 1998) .
أراد الوليد هنا أن يشير إلى أسباب فشل الطٌغمة السياسية الحاكمة خلال قرن من الزمان في إدارتها للحكم, وما إن كان هذا الفشل مردّه الى مفاهيم غالطة نابعة من عقول فطيرة إتكأت على وسائد مهترئة من التراث المستقاة البعض منه من معين الدين الخاضع للتأويل الذاتي المنغلق الأحادي المنظور. إذا تتبعنا الحراك السياسي للطبقة السياسية السودانية منذ ما قبل الإستقلال إلى يومنا هذا, نجدها قد وضعت إطاراً مُحكماً جعلت كل الحراك السياسي بالبلاد يدور بداخله دون وضع أي إعتبار للمشاكل الحقيقية التي يعاني منها الشعب. وقد تعاملت بقية النُّظُم أجيالاً تلو الأجيال مع القضايا الوطنية من منطلق هذا المنوال المؤطّر, فأصبحت السياسة في بلادنا عبارة عن محفوظات مرعية – كالأناشيد - يتناولها كل سياسي داخل أي حزب بذات المنظار بصرف النظر عن الإختلاف في الزوايا والرؤى , لذلك نجد أن جميع الأحزاب السياسية في السودان - دون استثناء - لم تقدّم جديداً يُعوّل عليه ويُكتب له النجاح في الساحة السياسية ويباركه الشعب ويرتضي به. لقد جرّب الشعب السوداني كل ألوان الطيف السياسي, والمحصّلة لم ينجح احد .. لماذا ؟ هذا هو السؤال المحيّر. يقول الكاتب (..أن الطاغوت لا يكتسب قوته من حيويته الذاتية , وإنما من بؤس المعارضين وضعف بصيرتهم..) اهـ . إن الذهنية "الملائكية" التي تسيطر على الشخصية السودانية كان لها الدور الرئيس في فشل هذه الطبقة السياسية بمختلف مشاربها وتياراتها في ادارة البلاد. ربما يعجب البعض لهذه المقاربة, ولكننا نجد أن هناك عوامل عدة تتدخل في بناء وصقل قدرات شخصية الإنسان وذلك حتى يكون قادراً على التكيّف مع محيطه والتعامل مع المجتمع – أي مجتمع - وللأسف الشديد نجد أن هذا العامل مفقود في الحالة السودانية . ونحن نتحدث في المقام الأول عن الإنفتاح والشفافية في التعامل من الأسرة الصغيرة داخل البيت ثم الإنتقال إلى البيئة الخارجية المدرسة, ثم الجامعة فالإنتقال إلى بيئة العمل. إذ نجد في جميع هذه المحاور هناك عنصر مفقود وهو عنصر الإنفتاح والشفافية (التدقيق) ثم المسائلة والمحاسبة (التحقيق). إن مسألة قبول الآخر بعلاّته وتبعياته ثم التسليم من بعد بمبدأ الإختلاف والتغاير مسألة مهمة وليست بالأمر الهيّن, ولكننا مجتمع تعوّد على تجرّع الحقد وتعاطي الكذب والنفاق في كل شيئ فحصد مازرع. ألم يهتف البعض في ثمانينات القرن الماضي (العذاب العذاب .. ولا الأحزاب؟) وذلك من منطلق الحقد والكراهية والإنتقام السياسي البغيض ليس إلاّ . لقد لبّى مجيب الدعوات نداء الداعي سريعاً مستجيبا لهم بـ(ثورة الإنقاذ) وكانت المحصلة الشعور بـ(إغتراب) غير مبرّر, نشعر به داخل الوطن ويتخللنا بدون استئذان...؟
يقول الكاتب في منفستو المدينة الفاضلة – (375 - 383) , (... إن الحِكَم الإلهية التي وردت في جميع الكتب السماوية تقول : "بأن المرء يحتضر تماما في الوقت الذي يظن فيه بأنه مقتدر"..) اهـ .
ونقول , بأن هناك معادلة بسيطة مفادها أنه كلما زادت الإلتزامات الإستراتيجية للدولة على إمكانياتها الإقتصادية فانها تسقط بلا أدنى شك. كما لا نغفل عامل المصداقية الأخلاقية للدولة والتي حين تختل لابد لها أن تؤدي إلى الإضمحلال والتفكك . يبتكر (الأراذل) في بلادنا ويبتدع مؤيدوهم أسطورة الدولة أو دولة الأسطورة ويصدّقهم الناس تحت تأثير دق الطبول وزعيق المزامير, وتصبح الأسطورة واقعاً لا يرتقع. لأن العالم الذي يتجرد – تدريجيا - من كل القيم أصبح براغماتياً لا يعرف غير الواقع ولو كان نتيجة إغتصاب. فيصدق الذين يتنكرون لكل القيم مؤمنين بما يصدقون أو ساخرين بتصاريف السياسة وألاعيب الساسة أو مصفقين معجبين بنجاح المغامرة وقدرة "الحواة" المغامرين أو خاضعين لأمر واقع فرضه السلاح والمغامرة والغلبة, وإلى أن تتبين للمعجبين غرّتهم وغفلتهم يكون شيئ اسمه (الدولة/المسخ) قد تكوّن في الواقع, وليس في مقدورهم أن يتنكروا لواقع رغم بشاعته . يستطرد الكاتب : (... إن هذا النظام فاقد لأي مشروعية أخلاقية وفكرية تؤهله لإدارة البلاد والخروج بها من الأزمة , عليه يجب ان يبادر قادته العقلانيون منهم بالتعاون مع القوى السياسية لإختيار حكومة قومية تحدد أولوياتها ..) اهـ . وفي هذا المنوال أتت (الإنقاذ) بمجموعة من (المغامرين/الأراذل) يزعمون أنهم يقيمون دولة جديدة على أساس الدين فقد كان حريّا على البعض الآخر – المستنيرين - أن يناهضوا هذا الفكر الذي يستغل الدين لأغراض السياسة ويتلاعب بإسم دين معيّن ليبني على أساسه دولة "معيّنة" بايديولوجية "معيّنة". كان حريّا بهم أن يناهضوا بإسم الفكر المتحرر من سلطان الدين على الدولة, والفكر العلماني الذي يعلن أن لا دين للدولة ولا دولة على أساس الدين, ولا توجد دولة دينية خاضعة لقانون أكبر من الدولة نفسها. وإن وجدت دولة تستعمل الدين للوصول إلى أهداف غير دينية, كما الدولة لا تقوم على أساس العرق... (يتبع)  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الکاتب فی بقدر ما أن یکون

إقرأ أيضاً:

ثورة الزمن الكمومي.. هل يمكن للمستقبل أن يغيِّر الحاضر؟

مقدمة الترجمة

ماذا لو لم يكن المستقبل ذلك الأفق البعيد الذي ننتظره، بل كان حاضرا خفيا ينسج خيوطه في تفاصيل يومنا؟ ماذا لو كانت اللحظة الراهنة ليست إلا صدى لحدث لم يقع بعد؟ في عالم ميكانيكا الكم، لا تخضع الأشياء دوما للمنطق الذي اعتدناه، حيث يمكن أن يتبدّل ترتيب الزمن، ويصبح للمستقبل دور في رسم ملامح الحاضر، بل وربما التأثير في الماضي ذاته.

في هذا الكون المراوغ، تذوب الحدود بين ما كان وما سيكون، وتظهر فكرة "السببية الرجعية" بوصفها واحدة من أكثر المفاهيم غرابة وجدلا: أن تكون النتيجة هي من تخلق السبب، وأن يُعاد ترتيب الزمن كما يُعاد ترتيب الكلمات في قصيدة. فهل نحن على أعتاب ثورة جديدة في فهمنا للزمن؟! وهل تملك "آلة الزمن الكمية" مفاتيح هذا اللغز المحيِّر؟

يتدفق الزمن في اتجاه واحد، حيث تسير الأحداث من السبب إلى النتيجة وليس العكس (بيكسابي) نص الترجمة

لو أنك كسرت ذراعك غدا بعد الظهر، فهل من الممكن أن تجدها معلّقة في جبيرة هذا الصباح؟ بالتأكيد لا، فالسؤال بحد ذاته منقطع الصلة بالمنطق، فالسبب دائما يسبق النتيجة. لكن، ربما لا تسير الأمور وفق هذا النسق من البساطة بالنسبة للفوتون، ففي عالم الجسيمات دون الذرية، حيث تحكم قوانين ميكانيكا الكم وتحدث أمور تبدو مستحيلة بمنطقنا اليومي، قد يكون الشيء الوحيد الذي كنّا نظنه مستحيلا (أي حدوث النتيجة قبل السبب*) ممكنا بالفعل.

إعلان

الفكرة التي تشير إلى أن المستقبل يمكن أن يؤثر على الحاضر، ويمكن للحاضر أن يؤثر على الماضي، تُعرف باسم "السببية الرجعية"، وهي فكرة ضاربة في القِدَم، تسكن زوايا الفكر منذ زمن بعيد، لكنها ظلت حبيسة الهامش، لم تجد من يمنحها اهتماما جادا، ولا من يفسح لها مكانا في فضاء الفكر السائد.

والسبب واضح، وهو أننا لا نعتاد في حياتنا اليومية رؤية نتيجة تظهر قبل السبب. ومع ذلك، ظهرت مستجدات حديثة تكشف عن خلل جوهري في الأسس النظرية لميكانيكا الكم، وهو ما قد يدفعنا إلى إعادة النظر فيما اعتبرناه يوما من المسلّمات.

ما من أحد يزعم أن السفر عبر الزمن بات واقعا ملموسا، فهو لا يزال حبيس الخيال لم تطأ قدماه أرض الواقع بعد. ولكن، إذا تمكن أصحاب نظرية السببية الرجعية -الذين يذهبون إلى المستقبل ليعيدوا النظر في الماضي- من ترسيخ فكرتهم وإثباتها، فإن العواقب الناتجة ستؤجج فينا شعورا بالدهشة والذهول.

هذه الفكرة قد تفسر العشوائية التي تبدو متأصلة في سلوك العالم الكمي، بل وقد تُعيد تشكيل هذا العالم بطريقة تجعله -أخيرا- متوافقا مع أفكار أينشتاين عن الزمان والمكان، وهو إنجاز ظل غائبا عن عالم الفيزياء لعقود، رغم الجهود المتواصلة التي بذلها العلماء في سبيل تحقيقه.

وتأكيدا على ذلك، يقول "ماثيو ليفر" من جامعة تشابمان في أورانج بكاليفورنيا: "إذا قبلنا بفكرة السببية الرجعية (أي أن المستقبل يمكن أن يؤثر على الماضي)، فإن هذا قد يفتح الباب أمام تطوير نظرية جديدة للواقع تكون أكثر انسجاما وتوافقا مع المبادئ والأفكار التي يعتقد العلماء أنها يجب أن تكون صحيحة (لكنها لا تتماشى تماما مع نظرية الكم في شكلها التقليدي*)".

لفهم هذا النوع الغريب من "التلاعب بالزمن"، علينا العودة بالزمن إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حينما أطلت ميكانيكا الكمّ برؤاها العجيبة وتصوراتها الغريبة وهي تحمل بين طيّاتها ثورة فكرية تهز أركان المفاهيم العلمية التي ظلت راسخة لقرون من الزمن.

إعلان

فوفقا لهذه النظرية، لا تكون الجسيمات دون الذرية (مثل الإلكترونات والفوتونات*) في حالة محددة وواضحة، بل توجد في حالة من الاحتمالات الغامضة إلى أن تُرصَد، وعندها فقط تتخذ وضعا محددا وواقعيا. غير أن ألبرت أينشتاين لم يكن مقتنعا بهذه الفكرة، ورفض أن يكون الكون محكوما بالعشوائية، وأعرب عن اعتراضه بقوله: "لا يمكن للكون أن يكون محكوما بالصدفة وحدها، ولن يتركه الله لعبث الاحتمالات".

ورغم رفض أينشتاين لفكرة العشوائية في فيزياء الكم، فإن ما استوقفه بحق في هذا العالم العجيب لم يكن عشوائيته، بل ما هو أعجب منها في تجاوزه لحدود الإدراك المألوف. ففي تجربة ذهنية شهيرة، أوضح أينشتاين أنه إذا كان ما تقوله فيزياء الكم عن الاحتمالات صحيحا، فذلك يعني أن هذا هو بالفعل شكل الواقع الحقيقي.

ومن ثم، فإن قياس أي جسيم دون ذري يمكن أن يؤثر فورا على حالة جسيم آخر، حتى وإن كان الجسيمان متباعدَين بمسافات شاسعة. وأصبح يُعرَف هذا التأثير الغريب والمباشر فيما بعد باسم "التشابك الكمّي".

عندما يتجاوز الحاضر حدود الزمن

تصوَّر أن جسيمين اصطدما ببعضهما وانطلقا في اتجاهين متعاكسين، وفي أعماق هذا التلاقي، نشأت آصرة غريبة بينهما، حيث أصبحا متشابكين وفقا لقوانين الكم. في هذه الحالة، لا يمكن تحديد سرعة الجسيمين بدقة قبل القياس.

ومع ذلك، إذا قررت قياس سرعة أحد الجسيمين، فإنك ستتمكن فورا من معرفة سرعة الجسيم الآخر، وكأن هناك اتصالا فوريا بينهما رغم أنه لا وسيلة كانت متاحة لمعرفة ذلك سابقا.

ستواجه خلال هذه اللحظة خيارين: إما أن الجسيمين يؤثران على بعضهما بعضا فورا عند القياس، أو أن كلا منهما يحمل سرعة محددة منذ البداية، حتى وإن كانت فيزياء الكم عاجزة عن تحديدها.

راهن أينشتاين على الخيار الثاني، لاعتقاده أن الاتصال الفوري بين الجسيمات البعيدة مستحيل وفقا لنظريته في النسبية الخاصة، التي فرضت حدا صارما للسرعة التي يمكن أن تنتقل بها الإشارات بين الأجسام، وهي سرعة الضوء.

إعلان

في ذلك الوقت، أصر أينشتاين على أن جميع النظريات لا بد أن تخضع للحد الذي تفرضه الطبيعة: لا انتقال لحظيا، ولا تجاوز لسرعة الضوء، وهو المبدأ المعروف بـ"المحلية". وبناء على ذلك، وصف أينشتاين ظاهرة التشابك الكمّي بأنها "فعل شبحي عن بُعد"، مشيرا إلى أن هذه الظاهرة ما هي إلا وهم عابر، سيزول حين تبرز إلى السطح نظرية أعمق تُميط اللثام عن الحقيقة الكامنة.

لكن التشابك الكمّي لم يتلاشَ كما ظن أينشتاين، بل خرج من غموض المعادلات إلى نور التجربة. ففي ستينيات القرن الماضي، قدّم الفيزيائي الأيرلندي الشمالي "جون بيل" طريقة بارعة لاختبار ذلك "الفعل الشبحي عن بُعد"، الذي طالما أثار الجدل.

ومنذ ذلك الحين، نجحت التجارب المتعاقبة في إثبات ذلك بوضوح مدهش. وبلغت هذه الاختبارات ذروتها في عام 2015، حينما أُجري اختبار عُرف بـ"اختبار بيل الخالي من الثغرات"، والذي عُدّ بمثابة المسمار الأخير في نعش مبدأ المحلية. وسواء أعجبنا الأمر أم لم يُعجبنا، فقد بات "الفعل الشبحي عن بعد" أو ما يُعرَف بـ"اللامحلية" حقيقة راسخة في قلب الفيزياء الحديثة.

لكن، هل اللامحلية هي بالفعل قدّر لا مفرّ منه؟ ربما لا، فثمّة احتمال آخر يلوح في الأفق قد يبدّل قواعد اللعبة، ونحن هنا نتحدث عن السببية الرجعية التي تُعدّ فكرة جريئة تقول إن الحاضر قد يمد يده ليُعيد تشكيل الماضي.

طبيعي أن يبدو ذلك ضربا من العبث عند الوهلة الأولى لأنه ببساطة يناقض كل ما اعتدناه من تدفق الزمن في اتجاه واحد، حيث تسير الأحداث من السبب إلى النتيجة وليس العكس، لكن ما إن نتأمل الأمر بعمق، حتى ندرك أن فكرة تأثير الحاضر على الماضي ليست أشد غرابة من التشابك الكمّي نفسه، وقد تكون المفتاح لفكّ عقدتين من أعقد ألغاز الفيزياء الحديثة.

في السياق ذاته، يعلِّق "هيوو برايس"، الفيلسوف الذي يدرس الفيزياء في جامعة كامبريدج: "من المؤكد أن جون بيل نفسه اعتقد أن أعماله تكشف عن توتر عميق مع نظرية النسبية الخاصة، وتجسد هذا التوتر في التناقض بين مفاهيم ميكانيكا الكم وقوانين النسبية الخاصة، إلا أن جاذبية السببية الرجعية تكمن في قدرتها على إزالة هذا التوتر".

إعلان

في هذا السياق، فإن فكرة السببية الرجعية قد تمنحنا فرصة لإعادة بناء نظرية الكم بطريقة أكثر توافقا مع نظرية النسبية العامة لأينشتاين، التي تشرح كيف أن الزمكان ينحني تحت تأثير المادة والطاقة، وهو ما يُفضي إلى ظهور الجاذبية.

ويقول "كين وارتون"، عالم الفيزياء النظرية من جامعة ولاية سان خوسيه في كاليفورنيا: "حاول العديد من العلماء إعادة صياغة الجاذبية وفقا لمفاهيم ميكانيكا الكم، لكن ربما من الأفضل أن نأخذ الأمر من زاوية معاكسة، فبدلا من محاولة تفسير الجاذبية وفقا لميكانيكا الكم، ربما علينا إعادة تصور نظرية الكم نفسها في إطار الزمكان (الزمان والمكان) كما فسرته نظرية النسبية العامة. ويبدو أن السببية الرجعية هي السبيل لتحقيق ذلك".

لم تكن فكرة أن الحاضر قد يؤثر على الماضي في عالم الكم إلا ضربا من الخيال حتى أواخر الأربعينيات، حينما اكتشف الفيزيائي الشاب "أوليفييه كوستا دي بويرغارد" وهو في باريس طريقة مبتكرة لتفسير التشابك الكمّي بين الجسيمات دون الحاجة للجوء إلى اللامحلية (أي التأثير الفوري بين الجسيمات البعيدة).

اقترح كوستا دي بويرغارد أن قياس أحد الجسيمين يرسل إشارة إلى الماضي، إلى اللحظة التي اصطدم فيها الجسيمان. وهذه الإشارة قد تُعيد تشكيل مسارها لتسافر مواكبة للجسيم الآخر في المستقبل، لتضمن أن سرعته تتناغم تماما مع القياس الذي أُجري على الجسيم الأول.

وإذا سلكت الإشارة هذا المسار، فيمكننا حينذاك الحفاظ على مفهوم المحلية، دون الحاجة إلى افتراض أن الجسيمات المتشابكة قد حُددت سرعاتها في لحظة التقاء مصيرهما. وبذلك نكون قد تجنبنا التواصل الفوري بين الجسيمات، دون انتهاك مبادئ النسبية التي تقيِّد سرعة أي تفاعل بين الأجسام.

في تلك الحقبة، لم يقدِّم أحد دليلا قاطعا على أن اللامحلية هي حقيقة واقعية، إلى أن ظهر جون بيل وألمح إلى وجود أسباب تدفعنا لإعادة النظر في اقتراح كوستا دي بويرغارد بجدية. ولكن حتى في ذلك الوقت، ورغم توافد العديد من التفسيرات المبدعة التي حاولت تفسير النتائج المحيرة لتجارب بيل، لم تتمكن السببية الرجعية من العثور على موضع قدم راسخ لها أو قبول واسع في الأوساط العلمية.

إعلان

لم يحاول برايس إحياء فكرة السببية الرجعية حتى عام 2010، وقد دافع عن هذه الفكرة بناء على مبدأ يُسمى "تناظر انعكاس الزمن"، وينص هذا المبدأ من الناحية الرياضية على أن القوانين الأساسية للفيزياء تعمل بالطريقة ذاتها سواء كان الزمن يسير إلى الأمام أو إلى الوراء.

بالطبع، هذا التفسير لا يتماشى مع تجربتنا اليومية، إذ لا يمكنك مثلا إعادة البيضة المخفوقة إلى ما كانت عليه، أو إعادة الزجاج المكسور إلى حالته الأصلية (ويعتقد العلماء أن السبب في ذلك يعود إلى القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن الإنتروبيا -وهي مقدار الفوضى- تزداد دائما مع مرور الزمن عندما يتعلق الأمر بأعداد كبيرة من الجسيمات)".

لكن الحقيقة هي أن الفيزياء الأساسية لا تهتم تقريبا باتجاه الزمن. ويتفق الغالبية العظمى من الفيزيائيين على أن معظم القوانين الأساسية للفيزياء لا تخالف انعكاس الزمن، كما أنهم لا يرغبون في التخلي عن هذا المبدأ.

الفيزياء الأساسية لا تهتم تقريبا باتجاه الزمن في هذا الكون (ناسا) الحاضر.. خديعة كونية

انطلاقا من مبدأ أن قوانين فيزياء الكم تخضع لتناظر انعكاس الزمن، توصل برايس إلى أن السببية الرجعية ليست مجرد احتمال، بل نتيجة حتمية. غير أن حجته لم تكن محصنة تماما، بل تسلّلت إليها ثغرة خفيّة. فقد افترض برايس أن "الحالة الكمومية"، ذلك التوصيف الرياضي للجسيمات، تمثل كيانا حقيقيا في العالم المادي، وليست مجرد أداة رياضية تعكس جهلنا بماهية الجسيمات. وكان هذا الافتراض وحده كافيا لتجاهل أطروحة برايس ما دام أن الجدل حول حقيقة "الحالة الكمومية" لا يزال قائما، يتأرجح بين الواقع والافتراض.

في عام 2017، وجد كل من "ليفر" و"ماثيو بوسي"، اللذان يعملان الآن في جامعة أكسفورد، طريقة لسد الثغرة في حجة برايس. فقد جمعا بين أفكار برايس حول تماثل انعكاس الزمن وأفكار جون بيل عن التشابك الكمومي.

إعلان

وفي هذا السياق، أثبتا أن السببية الرجعية هي ضرورة لا غنى عنها للحفاظ على تناظر انعكاس الزمن بغض النظر عما إذا كانت الحالة الكمومية حقيقية أم لا. وهكذا، طرح كلاهما سؤالا جديدا ومُربكا: هل نتخلى عن هذا المبدأ الأساسي في الفيزياء وهو تناظر انعكاس الزمن، أم نضطر لقبول فكرة أن المستقبل قد يؤثر على الماضي في عالم الكم الغارق في الغموض؟

إن نظرية أينشتاين عن النسبية، والتي تدمج الزمان والمكان في كيان واحد يُعرف بـ"الزمكان"، تهزّ بصورة جذرية فكرة أن هناك "لحظة حاضرة" يعيشها الجميع في الكون. فما يحدث "الآن" في مكان محدد يعتمد على موقعك وسرعة حركتك، لذا قد يرى مراقبان مختلفان أشياء مختلفة في الوقت ذاته وفي المكان ذاته، فالمشهد يتبدل بتبدل الموقع، ويتلوّن وفق السرعة التي تمضي بها.

هكذا يتضح أن "الآن" ليس سوى وهم، وأن الزمن في حقيقته لا "يمر" كما نتخيل، بل يظلّ ساكنا. كما أن شعورنا بانسياب الوقت ليس سوى نتيجة لنظرتنا المحدودة للعالم.

أما الواقع الأعمق، فهو أن الماضي والحاضر والمستقبل يشكّلون معا كُتلة واحدة أبدية. ففي "الكون الكتلي"، حيث يتعايش الماضي والمستقبل جنبا إلى جنب في نسيج واحد لا يتغير، تصبح فكرة السببية الرجعية أمرا أقل غرابة.

خلال هذا التصور، لا يختفي الماضي بمجرد قدوم المستقبل، بل كل الأحداث، سواء كانت في الماضي أو المستقبل، موجودة في الوقت ذاته، ومن ثم يمكن للمستقبل أن يؤثر على الماضي بسهولة.

يرى ليفر أننا بحاجة الآن إلى نسخة جديدة من نظرية الكم، تأخذ بعين الاعتبار مفهوم "الكون الكتلي"، بحيث تسمح للسببية الرجعية بأن تظهر بصورة طبيعية في صياغة النظرية.

ويقترح أننا لا ينبغي أن ننظر إلى فيزياء الكم على أنها تسير في خط زمني يبدأ من الماضي ويمتد إلى المستقبل، بل يجب أن نصوغها بوصفها صورة كاملة واحدة تشمل كل أبعاد المكان والزمان دفعة واحدة، كما لو كنا نعمل على تركيب أحجية، إذ لا نبدأ دائما من الأسفل ونتدرج للأعلى، بل كل قطعة تؤثر على موضع باقي القطع من حولها.

إعلان

وبالمثل، يمكن للفيزياء أن تعمل بهذه الطريقة: كل جزء من الزمكان يفرض قيودا وشروطا على الأجزاء المجاورة له، أي أن الأحداث في المستقبل يمكن أن تؤثر على ما يحدث في الماضي، والعكس.

لكن إذا كان عالم الكم يعمل فعلا ضمن إطار "كون كتلي" يخترقه مبدأ السببية الرجعية، فلماذا لا نلاحظ هذا التأثير في حياتنا اليومية، فنحن -في نهاية المطاف- مكوّنون من الجسيمات الكمية ذاتها؟ يكمن الجواب في مبدأ "اللايقين" الذي صاغه هايزنبرغ، وينص على أنه من المستحيل أن نعرف بدقة في نفس اللحظة كلا من موضع الجسيم وسرعته (أو زخمه).

وبسبب هذا الحد الفاصل في معرفتنا، تظل بعض خصائص العالم الكمي خفية عن إدراكنا دائما. هذا الغموض هو ما يفتح الباب لاحتمال أن يكون هناك تأثير رجعي، دون أن يكون بمقدورنا استغلال ذلك لإرسال رسائل إلى الماضي. وعن ذلك، يقول وارتون: "إذا كان قراري بعد دقيقة سيحدد شيئا كمّيا لا أعرفه الآن، فلن أستطيع استخدامه لإرسال رسالة إلى نفسي في الماضي، ورغم ذلك يظل ما حدث شكلا من أشكال السببية الرجعية".

يُعدّ "وارتون" أحد العلماء الذين يرون أن فكرة السببية الرجعية ليست أغرب من التشابك الكمّي ذاته. وبرأيه، فإنها لا تفتح بابا للغرابة فقط، بل تأتي أيضا بمزايا عديدة، أهمها أنها قد تتيح للفيزيائيين فرصة إعادة بناء نظرية الكمّ بطريقة تتناغم مع نسيج الزمكان. فمن خلال استعادة نوع من "المحلية"، يمكن للسببية الرجعية أن تقودنا إلى تفسير طال انتظاره، وهو كيف تنشأ الجاذبية في العالم الكمّي.

كل جزء من الزمكان يفرض قيودا وشروطا على الأجزاء المجاورة له (مواقع التواصل الإجتماعي) الكون يعمل وفق قوانين وألغاز معقدة

تقول "إميلي أدلام"، الباحثة النظرية في جامعة كامبريدج، إن العديد من الفرص والطرق العلمية لم تُكتشَف بسبب اعتماد الناس على الطريقة التقليدية في فهم الكون والزمن المستندة إلى نظرية نيوتن في الحركة والفيزياء.

إعلان

في هذه الصورة، يُعتبر الزمن متسلسلا ومحددا في اتجاه واحد فقط (من الماضي إلى المستقبل). وقد تفتح السببية الرجعية أبوابا جديدة من الاحتمالات التي قد تساعدنا في الخروج من الحالة المأزومة التي نواجهها حاليا.

قد يكون للعشوائية في فيزياء الكم، التي كانت دائما تزعج أينشتاين لأنها تتعارض مع فهمه التقليدي للكون، تفسير من خلال السببية الرجعية. وفقا لإميلي أدلام، قد تقدِّم السببية الرجعية حلا أنيقا لهذه العشوائية: فالفراغ أو العشوائية في فيزياء الكم ليست حقيقة جوهرية، بل هي مجرد وهم ينشأ بسبب أننا نرى جزءا فقط من الصورة الكبيرة في كل لحظة (بمعنى آخر، عندما ننظر إلى الظواهر الكمومية، نحن لا نرى سوى جزء من التفاصيل التي تجعلها تبدو عشوائية، في حين أن الصورة الكاملة قد تشرح تلك العشوائية بطريقة أكثر تنسيقا وترتيبا*).

ما قد يبدو لنا عشوائيا في عالم فيزياء الكم قد لا يكون حقيقيا، بل هو نتيجة لنقص في رؤيتنا الكاملة للمشهد الزمكاني. وتؤكد إميلي أدلام أن اعتراض أينشتاين على خضوع الكون للصدفة لم يكن في غير محله، فقد كان محقا في اعتقاده بأن وراء هذا العالم نظاما دقيقا تحكمه قوانين معقدة، لا فوضى عشوائية.

الأمر أشبه بمن يحاول حل لغز سودوكو من اليسار إلى اليمين. قد تبدو الأرقام التي تُملأ وكأنها تظهر عشوائيا، لكن لو نظرنا إلى الشبكة بأكملها دفعة واحدة، لوجدنا أن هناك قواعد دقيقة تحكم كل خانة، وأن ما بدا لنا فوضويا هو في الحقيقة ناتج عن نظام صارم ومحدد.

وبالمثل، يمكن لما يحدث "هنا والآن" أن يؤثر في الماضي البعيد، حتى في مجرّة بعيدة، لكن هذه التأثيرات لا تكون مفهومة إلا إذا نظرنا إلى الكون من منظور "الكتلة الزمنية الواحدة" أو ما يعرف بـ"الكون الكتلي"، حيث لا يوجد فرق جوهري بين الماضي والحاضر والمستقبل، كلّها موجودة دفعة واحدة.

إعلان

ورغم أن هذا المفهوم يبدو كأنه خروج جذري عن قوانين الفيزياء التقليدية التي نفهمها، ترى العالِمة أدلام أن هذا ليس أمرا مقلقا، بل على العكس، تشير إلى أن افتراضنا بأن قوانين الطبيعة يجب أن تكون "مريحة" لنا أو منطقية وفق منظورنا البشري هو افتراض ساذج. ومن وجهة نظرها، لا يُعد تبني فكرة السببية الرجعية أمرا غريبا أو متطرفا، بل هو ببساطة رؤية مختلفة لما قد تكون عليه الطبيعة على حقيقتها.

لكن على الجانب الآخر، لا يشاطر الجميع حماس أدلام لفكرة السببية الرجعية. صحيح أن تناظر الانعكاس الزمني يُعد سمة محبوبة ومقدّسة في معظم القوانين الأساسية للفيزياء، إلا أن النسخة التي استخدمها كلٌّ من ليفر وبوسي في حجتهما ليست النسخة التقليدية المتعارف عليها، فبدلا من أن يعكسا اتجاه الزمن في قوانين الفيزياء نفسها، قاما بعكس ترتيب خطوات تجربتهما الذهنية (أي أنهما لم يغيّرا القوانين، بل غيّرا تسلسل الأحداث في التجربة ليروا إن كانت النتائج ستظل كما هي).

وبالفعل، لاحظا أن النتائج لم تتغير. أثار هذا الفرق الدقيق شكوك عدد من الفيزيائيين المتحفظين، ودفعهم إلى التريث قبل قبول الفكرة أو اعتبارها دليلا حاسما على صحة السببية الرجعية.

وعلى الرغم من أن السببية الرجعية تفتح آفاقا جديدة في فهم العالم الكمومي، فإنها ما زالت عاجزة عن تقديم إجابات كاملة لكل الأسئلة المعقدة التي تطرحها فيزياء الكم، على الأقل في الوقت الحالي.

ومن جانبه، يضيف الفيزيائي "وارتون" أن القصة لا تزال في بداياتها، والفصل التالي منها بدأ للتو. ويكمن التحدي الأكبر الآن في بناء نظرية متكاملة للسببية الرجعية، تكون قادرة على تفسير كل ما تفسّره نظرية الكم القياسية المعروفة بدقتها ونجاحها الكبير حتى الآن.

صحيح أن السببية الرجعية في ميكانيكا الكم تُعد واعدة في تفسير بعض الظواهر المحيرة مثل نتائج تجارب بيل، إلا أنها ليست الحل السحري لكل مشكلات التفسيرات الكمومية. ففي عمل بحثي حديث للباحثين "سالي شرابنل" و"فابيو كوستا" من جامعة كوينزلاند في أستراليا، تبيّن أنه حتى نظرية كمومية كاملة قائمة على السببية الرجعية لن تتمكن من تجاوز جميع التحديات المطروحة.

إعلان

إحدى هذه التحديات تُعرف باسم "السياقية الكمومية"، وهي فكرة غريبة مفادها أن نتائج التجارب الكمومية لا تعتمد فقط على ما يقاس، بل أيضا على التجارب أو القياسات الأخرى التي تُجرى في الوقت نفسه.

وهذه الفكرة تُربك الفيزيائيين لأنهم يفضلون أن تكون نتائج التجارب مستقلة وواضحة، دون تأثرها بسياقات خارجية. وقد أظهر شرابنل وكوستا أن السببية الرجعية لا يمكنها ببساطة تجاهل مفهوم السياقية الكمومية. بمعنى آخر، حتى لو كانت السببية الرجعية تُقدِّم تفسيرا لبعض الظواهر الكمومية، فإنها لا تستطيع حل مشكلة السياقية الكمومية.

في نهاية المطاف، تدعم شرابنل فكرة السببية الرجعية، وتتفق مع ليفر على أنها تستحق الاستكشاف والدراسة، لكنها تُحذر من الاعتقاد بأنها حل سهل ومجاني لمشكلات ميكانيكا الكم، إذ تقول: "لا يقتصر الأمر على مجرد افتراض وجود تأثيرات تعود بالزمن إلى الوراء، ولكن فهم الواقع الكمّي يتطلب شيئا أبعد وأعقد من ذلك بكثير، شيئا يفوق التصورات التقليدية. ومع ذلك، أرى في ذلك جمالا خاصا، وتحديا يبعث على الدهشة والانبهار".

____________
* إضافة المترجم

هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت

مقالات مشابهة

  • هو شي منه قائد ثورة فيتنام ضد فرنسا وأميركا
  • المعارضة في الإكوادور تطعن في نتائج الانتخابات الرئاسية
  • الوليد بن طلال يرسم خطوته التالية بمليارات تعتمد على ماسك
  • عون: لبنان رغم كل جراحه سيظل نموذجا للوحدة ومنارة للقيم الإنسانية
  • خادم الحرمين: نعتز بما قدمه أبناء الوطن وما تحقق جعل المملكة نموذجاً عالمياً
  • من الثورة إلى الدولة.. سورية نموذجا
  • ثورة الزمن الكمومي.. هل يمكن للمستقبل أن يغيِّر الحاضر؟
  • الرزيقات بين فرية التحريض وسندان الوطن الجريح
  • رونالدو يوافق على بيع بلد الوليد وصراع مصري مكسيكي على الملكية
  • الشركة المتحدة تنعى الكاتب الصحفي إيهاب صابر