صفحة جديدة فـي تاريخ النهضة العمانية المباركة
تاريخ النشر: 17th, November 2023 GMT
يحتاج التاريخ وقتًا حتَّى تتمَّ كتابته، مقولة سمعتها قديمًا من أحَد أساطين التاريخ وأساتذته الَّذين تتلمذت على يدَيْهم، وعزَّز مقولته بضرورة دراسة ما حدَث من تقدُّم إيجابي أو سلبي، وما ترتَّب عَلَيْه من أحداث كبيرة أو صغيرة، شكَّلت فارقًا وتغييرًا كبيرًا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي العالَمي والمحلِّي، لِيتمَّ وضعها في إطارها الجديد بشكلٍ تستحقُّ معه أن يطلقَ عَلَيْها حدَث تاريخي مفصلي، يسرده البَشَر في تاريخهم الشَّفهي، وتوثِّقه الأوطان في سجلِّها التاريخي، لِيكُونَ حدًّا فاصلًا بَيْنَ مراحل متعدِّدة ومتباينة الملامح، يحبل بالأحداث المتراكمة ذات التأثير الفارق، متولِّدة من تحدِّيات وأزمات كبيرة، كان لتدخُّل البَشَر فيها، سواء من القيادات أو الشعوب دَوْر مُلْهِم في تلقِّي الصَّدمات والمِحَن، والانطلاق نَحْوَ الرُّقي والصعود.
ولعلَّ نهضة عُمان المباركة الَّتي شُيِّدت على يَدِ المغفور له بإذن الله تعالى السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ على امتداد سنواتها الَّتي قاربت الخمسين والَّتي انطلقت في الـ23 من يوليو 1970 وحتَّى وفاته في الـ10 من يناير 2020م، هي نموذج لهذا التفسير العلمي في كتابة التاريخ، ونحن شهود عيان على تلك المرحلة، سواء ما سمعناه من الآباء والسَّابقين عن شكلِ سلطنة عُمان في بداية عصر النَّهضة المباركة، أو ما لمستُه شخصيًّا في مراحله البسيطة، فإقامتي الأولى للدراسة في بداية التسعينيَّات من القرن الماضي عاصرتُ ذروة تلك النَّهضة، وزادت قناعاتي بها عِندما جئتُ للعمل في بداية الألفيَّة الجديدة، ورأيتُ بأُمِّ عَيْني مدى التطوُّر الكبير الَّذي أحدث في عقدٍ من الزمان. واذا حاولنا تطبيق هذه المقولة المرتبطة بأحكام كتابة التاريخ سنجدُها أيضًا تنطبق بشكلٍ جليٍّ على ما بذله حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في سنواته الأولى في الحُكم من جهود حقَّقت المستحيل رغم قِصر المدَّة، فقَدِ استلمَ جلالته البلاد في ظرفٍ شديد الدقَّة، مكبَّلة بديون تكوَّنت بفعل الانخفاض غير المسبوق في أسعار النفط، وما تبعها من ظروف استثنائيَّة فرضتها جائحة كورونا «كوفيد19»، وأثَرها السلبي اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وما تبعها من ضرر بالغ على سلاسل الإمداد والتوريد عالَميَّا نتيجة الأحداث الجيوسياسيَّة الَّتي مرَّ بها العالَم أجمع، وتراجعت على إثرها كافَّة التصنيفات الائتمانيَّة العالَميَّة، وترنَّحت دوَل كبرى نتيجة تبعات تلك الأزمات المتلاحقة، ناهيك عن الآثار السلبيَّة لتغيُّر المناخ العالَمي. تلك الصورة القاتمة تجعل من سنوات حُكم جلالة السُّلطان المُعظَّم القليلة حدثًا استثنائيًّا تاريخيًّا، وصفحات مضيئة في السِّجلِّ التاريخي العُماني المليء بالإنجازات، فكانت الرؤية الثَّاقبة الثَّابتة في وجْهِ تلك الظروف الصعبة، والعمل على تخطِّيها وفق التوجيهات السَّديدة لجلالة السُّلطان المُعظَّم ـ أبقاه الله ـ والَّتي وازنت بَيْنَ الاحتياجات الاجتماعيَّة والظروف الاقتصاديَّة الطارئة، بترشيدٍ في الإنفاق، علاجًا ناجعًا أوَّلًا لكبح جماح الدَّيْن العامِّ، الَّذي لا تنسجم جهود البناء العُماني مع وجوده على مرِّ التاريخ الطويل، نظرًا لتأثيره العميق على استقلال القرار الوطني، ثمَّ ما رأينا من إعجاز غير مسبوق في توليد فائض يُسهم في سدِّ الديون وتقليصها للحدِّ الأدنى، ودوران الاقتصاد الوطني بشكلٍ تشهد به الأرقام المتوالية عامًا بعد عام، لِنرَى عهد النَّهضة المباركة يتجدَّد بفعل تلاحم الشَّعب العُماني الوفي مع قائده الفذِّ، لِيسطِّروا سطرًا نهضويًّا جديدًا.. فكُلُّ عامٍ وسلطنة عُمان شَعبًا وقيادةً بألف خير، في عيدهم الوطني المَجيد.
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: العال م
إقرأ أيضاً:
وصية المخدوم الأعظم سلطان بن مسعود بن سلطان
تُعَدُّ الوصايا من بين أكثر أصناف الوثائق انتشارًا في التراث الوثائقي العماني، ولعل ما رأيناه من أمثلة سابقة في هذه السلسلة إنما هو من المنقول منها في كتب الفقه في سياق استفتاء الفقهاء عمّا ورد فيها وما يثبت منها وما لا يثبت. أما السواد الأعظم من الوصايا الباقية فهي محفوظة ضمن المجموعات الوثائقية الخاصة، لكنها لا تتعدى في الغالب من حيث تأريخها القرون الثلاثة الأخيرة. ومن بين الأمثلة على المنقول من الوصايا القديمة وصية مشحونة بالعجيب من الموصى به، مثيرة للاهتمام، محفِّزة للبحث والسؤال، وهي وصية نُقِلت في بعض مخطوطات كتاب (بيان الشرع)، مما زِيدَ على الكتاب. وهي وصية سلطان بن مسعود بن عدي بن شاذان، وهو فيما يظهر من أمراء بني صلت الذين كانت لهم زعامة خلال القرنين التاسع والعاشر الهجريين، وآثار معقلهم ومقبرتهم باقية في ناحية من وادي بني خروص.
وقد جاء في النص المنقول أن الوصية عُرِضت على الفقيه أحمد بن مدّاد (ق10هـ) وهي بخط الفقيه محمد بن عبدالسلام، من فقهاء النصف الثاني من القرن التاسع وأول القرن العاشر الهجري، ومن تلامذة الفقيه صالح بن وضّاح المنحي (ت:875هـ)، وعلى هذا كان عرض الوصية على ابن مدّاد بعد زمان صاحبها، ومن قرائن ذلك أن الذي عرضها عليه فيما يظهر تلميذه محمد بن سعيد بن محمد بن عبدالسلام، ويُفهم ذلك من قوله في جوابه على كتابه: «وفهم المُحب ما شرحتَه في كِتابك الشريف، في حال وصية السُّلطان الأعظم، سُلطان بن مسعُود بن سُلطان، التي هي بخط جدك الفقيه محمد بن عبد السلام».
وقد وُصِف الموصي في النص وملاحقه بـ«المخدوم» و«السلطان» وفيهما إشارة إلى السلطة والنفوذ، كما يُفهَم من النص أيضًا أن مقرّه كان بمدينة نخل، في عبارة: «وأوصى بخمسمائة ألف دينار هرموزي يفرق على كل من يُؤدي القلم من أهل داره نخل، الغني والفقير». ولعل أكثر ما يلفت النظر في الوصية كثرة ما أوصى به وتنوّعه وتفرّعه، وما يترتب عليه من أموال مُعيَّنة بـ«الدينار الهرموزي» نسبة إلى مملكة هرمز، وهو نقد كان -فيما يظهر- متداولًا في عُمان.
ولسنا بصدد نقل نص الوصية هنا فهو طويل وتتخلله عبارات الفقيه أحمد بن مدّاد معلقًا بـ«يثبت» أو «لا يثبت» مع بيان العلّة في بعض المواضع، ثم علّق ابن مدّاد بعد نص الوصية مبيّنًا منهجه وطريقته، وعلى عدم ثبوت بعض ما في الوصية، ثم تلت ذلك زيادة بخط عبّاد بن محمد بن عبدالسلام وهو ولد كاتب الوصية، وقد جاء في أول الزيادة: «لقد حضرنا عند المخدُوم الأكرم سُلطان بن مسعُود بن سُلطان، وقد أثبت وصيته التي أوصى بها، بخط والدي محمد بن عبد السلام، فهي ثابتة في السقم والحضر والسفر، والمحيا والممات، وقد جدد التوبة بمحضرنا...الخ»، ثم ذكر ما زاده الموصي في وصيته، ونقرأ في تلك الزيادة تعليقات أحمد بن مدّاد أيضًا على ما يثبت منها وما لا يثبت وفق رأيه، ثم جاء بعد ذلك ردّ أحمد بن مدّاد على محمد بن سعيد بن محمد بن عبدالسلام، حفيد كاتب الوصية الأصل، وهو الذي عَرَض عليه الوصية فيما يظهر.
ومما يُدهِش في هذه الوصية أنها استغرقت كثيرًا من الضمانات فيما يبدو، وهي منتشرة في نواحي وبلدان عمان، ولعل ذلك يوحي بأن نفوذ صاحبها قد بلغ أماكن بعيدة عن داره ومقرّه، كما أن الأموال الموصى بها بالدينار الهرموزي تصل إلى ملايين، ناهيك عن حقوق كثير من الناس ممن ذكرهم بأسمائهم أو ببلدانهم.
وإذا ضربنا صفحًا عن الشِّق الفقهي المتمثل في تعليقات أحمد بن مدّاد، فإن مجموع ما أوصى به مثير للدهشة بحق، والعجب أن كل تلك الضمانات من «ثلث ماله» فحسب، وقد جاء في أول الوصية: «هذا كِتاب ما أقر به وأوصى، المخدوم الأعظم، سُلطان بن مسعُود بن سُلطان بن عدي بن شاذان، وهو صحيح العقل والبدن، ومُقر بجُملة الإسلام. أوصى المُقدم ذِكره ابتداءً بعطره وكفنه، وما يحتاج إليه الميت من رأسماله وجميع الضمانات التي عليه من رأسماله ووصيته من ثلث ماله». ومما أوصى به ثلاث حجات، وأجرة كل حجة سبعون ألف دينار هرموزي. وممن أوصى لهم من أصحاب الحقوق وذُكِروا بأسمائهم: خلف بن راشد، وعبيد بن شمخيل، وعمر بن أحمد السيباني، وسلطان بن عدي بن دهمان، وبَهم بن سرحان بن نمر، وورثة راشد بن عاصم الباطني، وراشد بن فضيل بن فضل الباطني، وابن هدّاب صاحب فنجا، وسالم بن سبت، وغسان بن محمد بن سعيد، وراشد بن مجنب، وغسان بن عبدالله، وابنة مسعود بن مالك، وراشد بن محمد البحري.
ومن الضمانات التي أوصى بأدائها للناس بالجملة: أوصى لأهل داره نخل، وأهل المسلمات (مسلمات) وأفي وحبراء وهي من بلدان وادي المعاول، للغني والفقير منها، وفيها إشارة إلى أنهم كانوا يؤدون الخراج له. ولبعض البلدان التي خُشِي منها مال أي أُتلِف شيء من نخلها أوصى كذلك، ومن تلك البلدان سمائل ومنح، كما أوصى للفقراء في العديد من البلدان منها: إزكي، وسيفم (غربي بهلا) وسُونِي وعِيني، والمربا، ومناقي، والقلعة، ووبل، وباطنة السويق «كذا»، وأوصى لبعض الجماعات من الناس ومنهم: بنو صبح، والنعب، والسريريون، والبدو. وأوصى لمسجد جامع نخل، وبأن تفرَّق غلة مال من أمواله يوم الحج سنة في مسجد الجامع من الغريض، وسنة في جامع مسجد المُسلمات، وسنة في جامع أفي، وسنة في جامع الطو. والحق أن في هذه الوصية مادة تاريخية جديرة بالدراسة والتأمل.