«السديس» يدعو لشعب فلسطين بالثبات في خطبة الجمعة: «إن نصر الله قريب»
تاريخ النشر: 17th, November 2023 GMT
أم الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، المصلين في خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، متحدثا عن الدعوات لإغاثة شعب فلسطين المنكوب الذي يواجه حربا بربرية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدا أن خَيرُ ما يُوصى به في أول الأمر وبَادِئه، وخِتَامِهِ وعَائِدِه: تقوى الله -عزَّ وجل- في كل الآناء، لا سيَّما في الكُرَب واللأواء، والمِحَن والبَأْساء، فتقواه –سبحانه- تَكْشِفُ كُرَبًا وقَلَقًا، وتُحقِّقُ نَصْرًا وأَلَقًا.
وقال إنه في خِضمِّ المآسي والكروب، ومَعَامِع الخطوب، وحوالك الدُّروب، تَشْرَئِبُّ النفوس، إلى الخلاص من أسباب الوهْن والانكسار، والأخذ بأسباب العزّة والانتصار، وتَتَطلع الأرواح إلى أَرَجِ الرَّحمات المُفَرِّجات، وعَبَقِ النفحات المُصَبِّرات، إنَّ مِن سنن الله -جل وعلا- أن جعل لكلِّ شيءٍ أسبابًا ونتائجًا، وغَايات ومَبَاهجًا، وأمر عباده باتخاذ الأسباب، للوصول إلى أسمى الغايات معاقد العزَّة والانتصارات.
أضاف «السديس»: «يأتي في مقدمة هذه الأسباب: التوحيد والإخلاص، فإنَّ أعظم ما أمر الله به التوحيد والإخلاص، فالتوحيد والإخلاص في العمل من أعظم أسباب النص، فضلا عن الإيمان والعمل الصالح؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51]، بالإضافة إلى أن نُصرةُ دينِ الله؛ قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:7]، وكذلك اجتـماع الكلـمة على الحق، وإصلاح ذات البين، وعدم التــنازع والتـفرُّق؛ قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:103]ن وإعداد ما يُستطاع من قوَّة؛ قال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾» [الأنفال: 60].
فيديو خطيب المسجد الحرام الشيخ عبد الرحمن السديس: تنظيم الحملة الشعبية الإغاثية وعقد القمة العربية الإسلامية يأتيان ضمن مواقف المملكة الدائمة والداعمة لفلسطين #الإخبارية pic.twitter.com/1cbQLsQKCt
— قناة الإخبارية (@alekhbariyatv) November 17, 2023وأوضح أن من بين الأسباب هو التوكُّل على الله، قال جلَّ في علاه: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران:160]، فضلا عن الصبـْر والثبات، قال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:45]، وإقامةُ الصلاة والإكـثـارُ مـن ذكر الله -سبحانه- واستغفارهُ ودعـاؤهُ والاستغاثةُ به واللَّجَاءُ إليه، قـال الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 238- 239]، والتجافي عن طريق أهل الضلال ومسالك أهل البطِر والرِّياء: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: 47]، والدعاء الدعاء، فتلك أيها الأُباة عشرٌ كاملة من الوقفات النَيّرَات، مع أهم أسباب النصر المبين والعِزَّة والتمكين، استنهاضًا للهِمَم، ورُنُوًّا لِبلوغ القِمَم؛ للدفاع عن رمْزِ مقدَّسات الأمة وحُرُماتها، المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
خطبة الجمعة في الحرم المكيأوضخ رئيس الشؤون الدينية، أنّه من الواجبِ على أهل التوحيد والإيمان الآملين في تأييد القويّ المنّان؛ أن يَتدَرَّعُوا بأسباب النصر والعزَّة والتمكين، ويأخذون بها في كل مكان وحِين، وأنَّ أعظم ما أمر الله به؛ التوحيد والإخلاص، فالتوحيد والإخلاص في العمل من أعظم أسباب النصر، فمن أعظم أسباب النصر؛ إقامة دين الله، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصر المستضعفين في الأرض.
وقال إن أولُ طريقِ التمكين للأُمة؛ تقوى الله والإصلاح، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال:46] أي: نصْركم وقُوَّتكم.القوَّة للمؤمنين المدافعين عن دينهم وأمَّتهم مطلب شرعي، فالإسلام دين القُوّة والعزة، وقِوامُه بكتابٍ يهدي، وسلاحٍ ينصر، وإنَّ من حقِّ إخوانكم في الأرض المقدسة عليكم؛ نصرتهم بالتضرُّع إلى الله والدعاء والإلحاح عليه، والتذلل بين يديه سبحانه، وسؤاله عاجل النصر والثبات والتمكين.
وتابع بأنّ العدوان الصهيوني الغاشم، يعاني من بطشه وضراوته وقسوته إخواننا في فلسطين الأبيَّةِ؛ لقد دَمَّروا البلاد، وأفْنَوُا الذُّريَّة والعباد بِأَقْمَإ الوجوه وأقسى الأكباد، وأفتك الصَّواريخ والقَنَابِل والعَتَاد، في كارثةٍ إنسانيةٍ بشعة، فاللهم رحماك ربَّاه رحماك، وحسبنا الله ونعم الوكيل، فيا إخواننا في فلسطين: صبرًا صبرًا، وثباتًا ثباتًا، وكلُّنا أملٌ وتفاؤلٌ واستبشار، ألا إنَّ نصر الله قريب، فلَكَمْ تقتضينا أُخُوَّتُنا القعْساء، وعقيدتُنا الشمّاء، مؤازرةَ أهالينا في فلسطين الإباء؛ ليحَقِّقوا الأمن والانتصار، وحقْنَ الدماء والاستقرار، وفكَّ الحصار، ووقف العُنف والتهجير القسْريّ، ووصول المساعدات والإغاثة الإنسانية.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: إمام الحرم المكي إمام المسجد الحرام خطبة الجمعة في المسجد الحرام أسباب النصر أسباب ا
إقرأ أيضاً:
(نص) المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي
يمانيون/ صنعاء نص المحاضرة الرمضانية الـ 19 لقائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، 21 رمضان 1446هـ/21 مارس 2025م
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في الاستكمال للحديث عن غزوة بدرٍ الكبرى؛ للاستفادة مما فيها من الدروس والعبر، ولحاجتنا إلى استذكار سيرة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، الذي هو لنا الأسوة والقدوة، ونحن في مرحلة تاريخية مصيرية وحساسة لِأُمَّتنا فيما تواجهه من التحديات والأخطار، فنحن كأُّمةٍ مسلمة أحوج ما نكون إلى الاستفادة من سيرة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”؛ تحدثنا عن سياق غزوة بدرٍ، والمُقَدِّمات المهمة لذلك، ووصلنا إلى تَحَرُّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” من المدينة، عندما اتَّخذ قراراً بالتحرُّك، وفق توجيهات الله وأوامره “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، القائل في القرآن الكريم: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}[الأنفال:5].
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي وجَّه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” بالتحرُّك، فتحرَّك بأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بالرغم أن البعض من المؤمنين كان لديهم وجهة نظر أخرى، وفق الحسابات المتعلقة بالإمكانات، والعدد، والعُدَّة، والظروف المحيطة؛ فكانوا متخوفين، في أن تكون النتائج خطيرة جدًّا، ألَّا تكون لصالح المسلمين، وانتصار المسلمين؛ ولـذلك قال الله عنهم: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال:6]؛ لأنه أحياناً في الوسط الإيماني نفسه، في الأُمَّة المؤمنة، مع الإقرار من الجميع بأن الموقف حقٌّ، تأتي لدى البعض الحسابات السياسية، المخاوف، المخاطر، النتائج، ردود الأفعال: [ماذا سيحدث؟]، تبعات الموقف: [ماذا سيترتب عليه؟ إن كان مناسباً في هذه المرحلة أم لا؟].
ولكنَّ مثل هذه الحسابات قد تصل أحياناً إلى مستوى سلبي، في تأثيرها الخطير في تجميد الأُمَّة، وتكبيلها عن التحرُّك في المراحل الحساسة والخطرة، فأن يكون الموقف حقاً، هذه مسألة في غاية الأهمية، ثم أن يكون هناك أيضاً هداية من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وإدراك لأهمية الموقف، من خلال هذه الرؤية العميقة، الهادية في القرآن الكريم، التي تُرَبِّينا على أن نكون أُمَّةً سَبَّاقة، تتحرَّك لمواجهة المخاطر، قبل أن تدهمها وأن تصل إلى مستوى الانهيار.
ولذلك نجد- مثلاً- في حسابات البعض ورؤاهم، عادةً ما تكون خياراتهم- بالنسبة لوضع الأُمَّة وموقف الأُمَّة- أن يُترك المجال للعدو حتى يصل إلى المحطة الأخيرة، وإلى النقطة الأخيرة، حتى تتحرَّك الأُمَّة.
فمثلاً: ما يهدد بلداننا من جانب الخطر الأمريكي والإسرائيلي، رؤية البعض: أن يُترك المجال لأمريكا وإسرائيل حتى تَحْتَل الأوطان، وتُسيطر، وتستحكم سيطرتها على بلدان أُمَّتنا، وتُجَرِّد أُمَّتنا من كل عناصر القوة، ثم- في نهاية المطاف- تُدرك الأُمَّة وتقتنع بأنه بات ضرورياً أن تتحرك، وهذه النظرة هي نظرة خاطئة: نظرة تمكين العدو أولاً، ثم التحرك ما بعد تَمَكُّنِهِ واستحكام سيطرته ثانياً.
القرآن الكريم هو كتاب هداية من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ورسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” هو القدوة والأسوة، كيف تحرَّك بشكلٍ استباقي، دون الانتظار حتى يتمكَّن العدو، وتستحكم سيطرته، ثم يأتي القرار بضرورة التَّحَرُّك آنذاك، في مثل تلك الأحوال تكون الأُمَّة قد فقدت الكثير الكثير من عناصر قُوَّتها المعنوية، وحتى على مستوى الظروف، تكون قد فقدت الكثير من الظروف المُهَيِّئَة لموقفٍ أقوى، وتحرُّكٍ فعَّال، وتحقيق نجاحٍ أكبر، وهذه مسألة مهمة؛ لأن الظروف- نفسها- لها تأثير كبير في واقع الأُمَّة.
مثلاً: في قصة فلسطين، لو أن المسلمين أدركوا جيداً، وبالاهتداء بالقرآن الكريم، أن تخاذلهم في البداية، في بداية تَدَفُّقِ اليهود الصهاينة برعاية بريطانية إلى فلسطين، سيترتب عليه: أن يتمكن أولئك الأعداء من السيطرة التامة، وبناء واقعٍ قوي، ثم تكون مواجهتهم فيما بعد أصعب من مواجهتهم آنذاك، ومواجهتهم آنذاك وهم عصابات صهيونية، بأسلحة متوسطة وخفيفة، وبشكل لا يزالون في بداية أمرهم بشكل ضعيف، فارقٌ كبير بين واقعهم آنذاك وفيما بعد؛ بعد أن استحكمت سيطرتهم، وتنظَّموا أكثر، وشكَّلوا جيشاً كبيراً، قوياً، متمكناً، مسلحاً بأعتى السلاح، ثم- فيما بعد ذلك- عزَّزوا من سيطرتهم من خلال جرائمهم الكبيرة، التي كان لها تأثير سلبي في كسر الروح المعنوية لدى السكان، ولدى المجتمع العربي.
لو كانت النظرة القرآنية، والرؤية القرآنية، والاهتداء بالقرآن، وبسيرة رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، هو الذي يحكم التفكير، والتدبير، والتَّوجُّهات، وتحرَّك المسلمون، والمرحلة- من تلك اللحظة، من ذلك الظرف- هي مرحلة نفير، أن ينفروا خِفَافاً وَثِقَالاً، وأن يستشعروا الخطر الكبير، حتى في تقييم مستوى الخطر، مستوى الخطر اليهودي الصهيوني، لو كانت لديهم رؤية القرآن الكريم، والاهتداء بها، في تقييم مستوى ذلك الخطر على الأُمَّة بكلها، على المنطقة بأجمعها، على شعوب هذه البلدان بِرُمَّتِها؛ لكانت المسألة مختلفة تماماً.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” حينما يذكر لنا حال بعض المؤمنين، والذين انطلقوا- في نفس الوقت- مع رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، لكنهم كانوا يحاولون أن يُقْنِعوا رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” بأن يُغَيِّر موقفه، وأن يؤخِّر التحرُّك في مواجهة قريش، لم يكن لديهم أملٌ بالنصر، بحسب الحسابات آنذاك، وموازين القوى، الحسابات المادية وموازين القوى، ما بين واقع المسلمين وهم في حالة استضعاف تام، لم يخوضوا قبل ذلك معركة عسكرية كبيرة؛ إنما اشتباكات محدودة، من خلال سرايا كان يرسلها رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”.
فالله يقول عنهم: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}[الأنفال:6]، قد تَبَيَّنَ الحق والموقف الحق، لكنَّ العامل النفسي، والرؤية المحدودة القاصرة، كانت مؤثِّرةً على موقفهم، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال:6]، يعني: لم يكن عندهم أملٌ بِالنَّصر.
تَحَرُّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” بمن استجاب له من المسلمين، ودعا المسلمين إلى أن يتحرَّكوا معه، استجاب له منهم (ثلاثمائة)، وفي بعض الأخبار يقولون: (وأربعة عشر شخصاً)، منذ بداية التحرُّك كان هناك حملة في المدينة المنورة للإرجاف، والتهويل، والتثبيط، من قِبَل المنافقين والذين في قلوبهم مرض.
فئة المنافقين، وفئة الذين في قلوبهم مرض، من أبرز ما يميزها- وهذا تكرر كثيراً في القرآن، وهذا درسٌ مُهِمٌ جدًّا لِأُمَّتنا في هذه المرحلة- من أبرز ما يُمَيِّزها، ويكشفها، ويُوَضِّحها، ومن أبرز علاماتها: أنَّها تُثبِّط الأُمَّة عن مواجهة الأعداء من الكافرين، وتخلخل في واقع الأُمَّة من الداخل، وتتحرَّك بالإرجاف والتهويل والتثبيط، هذه العلامة بارزة جدًّا لها في القرآن الكريم، وتحدث عنها القرآن الكريم بوضوحٍ كبير في (سورة آل عمران)، وفي (سورة الأنفال)، وفي (سورة التوبة)، وفي (سورة الأحزاب)، وفي (سورة الفتح)… وفي سورٍ أخرى في القرآن الكريم.
وهذه مسألة مهمة؛ لأن من أهم ما تحتاج إليه أُمَّتنا: أن تمتلك الوعي الكافي القرآني عن المنافقين:
– من هم؟
– ما هي علاماتهم؟
– ما هي أعمالهم؟
– ما الذي يشكِّلونه من خطورةٍ على الأُمَّة؟
– كيف هو ارتباطهم بالكافرين؟
– ما هو دورهم في إطار استهداف الكافرين لأمتنا؟
هذه من أهم الأمور التي تحتاج إليها الأُمَّة، وأن يتعمم هذا الوعي في أوساط الأُمَّة؛ لأن أكبر دورٍ خطيرٍ على أُمَّتنا من الداخل هو دور المنافقين؛ لأنهم يقدِّمون خدمةً كبيرةً للكافرين، يوالون الكافرين؛ لأن هذا هو المشكلة الكبرى، التي جعلت منهم منافقين، يعني: كان بالإمكان أن يكونوا فَجَرَة، أو فَسَقَة… أو أي عنوان من العناوين السيئة الأخرى، لكنَّ عنوان النفاق فيه: أن يكون الإنسان منتمياً للمسلمين، موالياً لأعداء الإسلام والمسلمين، هذه حقيقة النفاق؛ لأنه ضُرِب حتى تفسير معنى المنافق (ما هو النفاق؟ ومن هو المنافق؟).
المنافق: هو الذي ينتمي للإسلام، لكن ولاءه لأعداء الإسلام، هو مع أعداء الإسلام، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}[البقرة:14]، فهذه المعيَّة (مَعِيَّتهُم مع الكافرين) هم مع الكافرين أعداء الأُمَّة، وفي نفس الوقت يقول عنهم في (سورة النساء): {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:139]، فهو يُعَرِّفهُم، بأنهم هم هكذا: هم {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء:138-139].
من يتأمل في القرآن الكريم في (سورة البقرة)، في (سورة آل عمران)، في (سورة النساء)، في (سورة الأنفال) في (سورة التوبة)، في (سورة الفتح)… في غيرها من السور القرآنية، في (سورة المنافقون)، يجد أن هذه علامة بارزة جدًّا للمنافقين: هم يعملون على خلخلة وإضعاف الأُمَّة في موقفها من أعدائها من الكافرين، ويحاولون أن يُعِيقُوا تحرُّك المؤمنين ضد الكافرين، وينشطون ضد المؤمنين، وضد الموقف الإيماني، فيما يتعلق بمسألة الجهاد في سبيل الله، إقامة القسط… كل ما فيه الخير للأُمَّة، والقوة للأُمَّة، والعِزَّة للأُمَّة، يحاولون أن يخلخلوا من الداخل.
ولـذلك عندما تحرَّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، ومن استجاب لهم من المسلمين، بدأت على الفور حملة في داخل المسلمين، في المدينة المنورة؛ للإرجاف، للتهويل، للتثبيط، للتيئيس، أنه: [لا جدوى من هذا الموقف، لا فائدة، لا يمكن لكم أن تنتصروا، لا يمكن لكم أن تهزموا الأعداء ولا أن تغلبوهم، ليس هناك لموقفكم هذا أي فائدة؛ إنما هو انتحار، إنما هو خطر… وهكذا]، {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:49]؛ فهم يعتبرون المؤمنين مغرورين، وَمُغَرَّرٌ بهم، وأن اعتمادهم على مبادئ الإسلام، والثقة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومبدأ التوكل على الله، كل هذه المبادئ بنظرهم: [مبادئ فارغة، لا معنى لها، لا قيمة لها، ليست واقعية، لا يمكن الاستناد إليها في مواجهة واقع كبير، وتحديات خطيرة قائمة]؛ فلـذلك هم يَسْخَرون من المؤمنين، يعتبرونهم لا يمتلكون الواقعية، والرؤية الصحيحة تجاه الواقع، وتجاه حجم وتأثير الأعداء.
حينما تحرَّك رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” من المدينة، وصل الخبر إلى قريش في مكة، واستنفرهم أيضاً أبو سفيان، من خلال رسول أرسله إليهم؛ ليستنفرهم بالطريقة التي كانت- آنذاك- معروفةً عندهم في الاستنفار، والاستنجاد، والاستغاثة، في أسلوب يساعد على أن يُهَيِّجهم للقتال، وأن يُحَرِّكهم على الفور وبشكلٍ عاجل، وهم تحرَّكوا، قريش تحرَّكوا بشكلٍ عاجل، ولكن مع إعداد العُدَّة، ومع النفير العام في أوساطهم، حشدوا إمكانات ضخمة؛ بحكم أنهم متمكنون مالياً، اقتصادياً، عسكرياً، لديهم العُدَّة والعدد، وتحرَّكوا بقوة عسكرية قريباً من (ألف مقاتل)، بإمكانات ضخمة، البعض خرج ومعه درعين، وسيفين… وهكذا، تحرَّكوا بإمكاناتهم، معهم العدد الكبير من الإبل، التي ينحرون منها في كل يوم، يأكلون اللحوم، ويشربون الخمور، وبعروض لإمكاناتهم؛ في مقابل ظروف المسلمين الصعبة، حتى عندما تحرَّكوا من المدينة.
قريش قرَّروا أن يجعلوا من الموقف فرصةً:
– للقضاء على النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”؛ لأنهم- أصلاً- كانوا يريدون أن يقوموا بعملية عسكرية كبيرة؛ لاستهداف النبي والمسلمين والقضاء عليهم؛ وبالتـالي يعتبرون الفرصة قد حانت وأتت، ويعتبرون الظروف مهيأةً بالنسبة لهم، من حيث الإمكانات، من حيث العدد، من حيث العُدَّة، أن لديهم الإمكانية الكافية واللازمة لإنجاز ذلك، فهم كانوا يطمئنون إلى أن المسألة متاحة وممكنة؛ وإنما يتحرَّكون لتنفيذ ذلك.
– وفي نفس الوقت مع هذا الهدف- مع التحرُّك للقضاء على النبي “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، وعلى المسلمين، وإنهاء أمر الإسلام- أن يعزِّزوا من نفوذهم وهيبتهم في الجزيرة العربية، أمام بقية القبائل والقوى، بحيث يكون للموقف صداه في هيبتهم، في نفوذهم، في قوَّتهم، فأرادوا من ذلك أن يُعَزِّزوا من مكانتهم وهيبتهم لدى القبائل العربية الأخرى، والقوى الأخرى في الساحة، على المستوى الإقليمي والدولي، فأرادوا أن يجعلوا من ذلك فرصةً لذلك.
ركَّزوا على استعراض إمكاناتهم؛ ليسمع بها الناس، أنهم خرجوا بذلك العدد، بتلك الإمكانات الضخمة، كما قال الله عنهم في خروجهم: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنفال:47]، مهمتهم الأساسية- بالنسبة لهم- كانت هي: الصدّ عن سبيل الله، والعمل على إنهاء أمر الإسلام، (بَطَراً) بما هم فيه من النعمة والإمكانات، لم يشكروا نعمة الله عليهم، (رِئَاءَ النَّاسِ) قالوا: أنهم أرادوا أن يسمع بهم العرب جميعاً، بخروجهم ذلك، وبما كان معهم فيه من إمكانات ضخمة.
رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، وهو يتحرَّك قد خرج من المدينة، عرف أيضاً بخروجهم، أنَّهم قد تحرَّكوا عسكرياً، رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” مع أنه كان يأتيه الخبر من السماء، في الوحي من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لكنه أيضاً كان يهتم جدًّا بمسألة رصد تحركات الأعداء، وكان له نشاط استطلاعي، وجهاز معلوماتي، (جهاز معلوماتي) يعني: عناصر، أفراد، كانوا يسمونهم بـ(العيون) آنذاك، يرصدون له التَّحرُّكات، يُبَلِّغونه بالأخبار، فأتاه الخبر عن تحرُّك قريش، وخروجها بتلك القوة العسكرية، مع ذلك لم يتراجع رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، صَمَّم على مواصلة السير نحو القافلة لاستهدافها، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وعده ووعد المؤمنين معه بالتمكين من إحدى الطائفتين:
– إمَّا من القافلة، وعلى رأسها أبو سفيان ومن معه.
– وإمَّا من القوة العسكرية، التي خرجت للقتال من قريش.
بالنصر عليهم، والله يقول: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال:7]، هذا وعد بالنصر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال:7]، ما يرغب به المسلمون كان هو: السيطرة على القافلة التجارية، وليس الاصطدام بالقوة العسكرية، وإن كان في ذلك نصراً عليها، لكنَّهم كانوا يوَّدون الغنيمة.
لكن تدبير الله لما هو أهم: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال:7]، أراد الله من خلال أن يكون الظَفَر والنصر العسكري، الذي هو أهم من الغنيمة وتلك القافلة؛ لأنه الأكثر أهميةً لخدمة الموقف ودعم القضية، لإحقاق الحق، وإبطال الباطل.
وهذا درسٌ مهمٌ في الخيارات بالنسبة للمسلمين، عندما تُدْرَس الخيارات في إطار الموقف نفسه، في إطار التوجُّه ضد العدو نفسه، بين الخيارات: الخيار الذي هو أكثر تأثيراً على العدو، وأكثر خدمةً للقضية.
رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” واصل في حركته، ومسيره بمن معه من المسلمين، يريد الوصول إلى الطريق التي تَعْبُر منها القافلة، ووصل إلى أطراف (بدر)، على بُعد (مائة وخمسةٍ وخمسين كيلو) عن المدينة تقريباً، يعني: مسافة بعيدة عن المدينة؛ بينما أيضاً كان الجيش الذي يتحرُّك من مكة (جيش قريش) قد وصل أيضاً قريباً من (بدر)، ووصل الطرفان، يعني: في وقتٍ متزامن، وفي إطار التدبير الإلهي فاتت القافلة، {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ}[الأنفال:42]، القافلة فاتت، وحوَّل أبو سفيان مسارها من الطريق المعتاد، والذي كان رسول الله يسعى للوصول إليه، للوصول إلى القافلة فيه، فالقافلة حوَّل أبو سفيان مسارها، واتَّجهت من طريقٍ آخر، والتفَّت عن الطريق الذي هو معتادٌ للمرور والعبور فيه، وبقي الجيش، على مَقْرُبَةٍ من جيش المسلمين.
ما قبل المواجهة كان هناك تدبيرٌ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وما قبل أن يتراءى الجمعان، وأن يلتقيا، وأن تبدأ المعركة، كان هناك جملة من التدابير، والرعاية الإلهية التي كانت أيضاً مع الوعد السابق: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}[الأنفال:7]، كان هناك أيضاً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مُبَشِّرات من رعايته، تُعَزِّز حالة الاطمئنان لدى المؤمنين.
الليلة الأولى، ما قبل صبيحة يوم المواجهة، بات فيها المسلمون في (بدر)، في مَقْرُبَةٍ من جيش المشركين، وقد بات من الواضح أن المعركة العسكرية حتمية، ستأتي المعركة العسكرية، ففيما هم فيه من ظروف صعبة، من معاناة، حتى من أعباء السفر ومتاعبه، مع الخوف، مع الخطر، مع التوتر؛ التجأوا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}[الأنفال:9]، وهذه مسألة مهمة جدًّا.
التحرك في سبيل الله قائمٌ أساساً على أساس: الالتجاء إلى الله، الاستعانة بالله، الاعتماد كلياً على الله، التَّوَكُّل على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الثقة بالله “جَلَّ شَأنُهُ”، لا يعيش الإنسان حالة غرور، أو اتِّكال على نفسه، أو حالة إحباط ويأس، وهذا مصدر قوة مهم جدًّا:
– على المستوى المعنوي.
– وعلى مستوى ما يحظى به المؤمنون من رعاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومعونته، وتيسيره، ومدده الواسع والمتنوع.
فالاستغاثة مسألة مهمة، نحن عبيدٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو رَبُّنا، ولي رعايتنا، والمربِّي لنا، والمالك لنا، والمنعم لنا، نلتجئ إليه هو، نتوكل عليه هو، هو الذي ينفعنا، المسلمون في هذا العصر لم تنفعهم أي قوة أخرى من القوى العالمية، البعض- مثلاً- يعوِّل على الصين، أو يُعَوِّل على روسيا، أو قوة هنا أو هناك، الكل لن ينفعهم بشيء.
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}[الأنفال:9]، فمن الأشياء المهمة للأُمَّة المؤمنة المجاهدة: أن تكون مستغيثةً بالله، ملتجئةً إلى الله، كثيرة الدعاء، والالتجاء، والاستغاثة… هذه مسألة مهمة، في الميدان أيضاً، في ميدان المواجهة، في العمليات والتحرُّك لأداء المهام الجهادية، من المهم التركيز على الإكثار من ذكر الله، على الاستغاثة والالتجاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنفال:9]، تأتي من الله الاستجابة؛ هو أرحم الراحمين، هو خير الناصرين، هو مولى المؤمنين، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” القائل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}[محمد:11]، يتولَّاهم برعايته، بمعونته، بنصره، برحمته، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى}[الأنفال:9-10]، استجاب لكم، يستجيب برحمته، بفضله، يُعين، يؤيِّد، ينصر، يُسَدِّد، يُيَسِّر.
فدعمهم بعدد كبير من الملائكة، مثل عددهم أضعافاً، أكثر من ثلاثة أضعاف، {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}[الأنفال:9-10]، فالله يمنح الدعم المعنوي، وأكبر وأهم ما يحتاج إليه من يتحرَّكون في سبيل الله، وأهم المؤثرات في الموقف العسكري، هو: الحالة المعنوية، والروح المعنوية، بالروح المعنوية يمكن الثبات، الصمود، مقياس قوة الموقف والتحمُّل يتعلق بالروح المعنوية.
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:10]، هذا مبدأٌ عظيم: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}؛ فلـذلك يبقى التجاؤنا إلى الله، اعتمادنا على الله، ثقتنا بالله، تَوَكُّلنا على الله، استعانتنا بالله، يقيننا بأنه القادر على أن يُنْجز وعده بالنصر، مهما كانت التحديات، ومهما كان العدو، ومهما كان يمتلكه العدو، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران:160]؛ لـذلك أتى هذا المدد والدعم.
هذه البشارة كان لها تأثيرها الكبير في نفوس المسلمين، إيمان المؤمنين بالملائكة، وأنَّهم من جنود الله، وأنَّهم من مدد الله، الذي يُمِدُّ به المؤمنين في ميدان المواجهة، وأن لهم تأثير كبير في الحالة المعنوية والنفسية، بحضورهم مع المؤمنين يؤدون هذا الدور المعنوي، يستمرون حتى أثناء المعركة، أثناء المواجهة، في التأثير النفسي والمعنوي الإيجابي العظيم، الذي تكون من نتائجه:
– السكينة.
– والطمأنينة في القلوب والنفوس.
– والثقة.
– والإحساس بالقوة.
وهذه أمور مهمة للغاية في ميدان المواجهة.
مع ذلك أيضاً، ومن مظاهر الرعاية، والرحمة، والمعونة، والمُبَشِّرات التي منَّ الله بها على المؤمنين، قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}[الأنفال:11]، (النُّعاس): النوم الخفيف، تلك الليلة الأولى ما قبل صبيحة يوم المواجهة، وكان هذا مهماً للمسلمين؛ لأن له إيجابية كبيرة في الهدوء من التوتر العصبي والنفسي، وحتى الذهني، وهذه أمور مهمة للمواجهة، كلما كان الإنسان أكثر اطمئناناً، وأقل توتراً، وأقل اضطراباً على المستوى النفسي، العصبي، الذهني؛ كلما كان أقدر على الثبات، وأقوى في الموقف، وأقوى أيضاً على مستوى الفعل؛ فالنعاس كان مريحاً لهم، مريحاً لأبدانهم، لأعصابهم، واستفادوا من ذلك، ولم يكن نوماً شديداً؛ حتى لا يغتنم الأعداء الفرصة عليهم، وهم في حالة نوم، يَغُطُّون في النوم، بعد السفر الطويل، بعد التعب، كان لهذا أيضاً تأثير إيجابي، وفي إطار هذه السكينة التي نزلت عليهم: {أَمَنَةً مِنْهُ}[الأنفال:11].
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}[الأنفال:11]، كذلك نزول الماء من السماء، يعني: المطر (الغيث)، كان من تلك المُبَشِّرات والمقدمات التي بَشَّرَهُم الله بها، والتي يلمسون من خلالها رعاية الله بهم، وكانوا بحاجة كبيرة إلى الماء:
– للشرب، وهذه مسألة أساسية بالنسبة لهم.
– للطهارة، وهذه مسألة مهمة بالنسبة لهم.
– للنظافة.
– للانتعاش على المستوى البدني والنشاط.
– وأيضاً للتخلُّص من وساوس الشيطان، بما فيها حول موضوع الماء: [كيف سيتوفر لكم الماء؟ ستتعبون من العطش، ستموتون من العطش، لن تستطيعوا الصمود، قد غلب الأعداء على آبار المياه المهمة…إلخ.].
كذلك كانت هذه الرعاية الملموسة من رعاية الله من المُبَشِّرات لهم.
– ولتهيئة ميدان المعركة، المنطقة التي هي رملية أو شبه رملية، تَلَبَّدت وتماسكت مع المطر؛ مما يهيئ القتال عليها براحة، هيأ الله لهم حتى الميدان، رعاية فيما لا يمكن لأحد أن يفعله أصلاً، رعاية عجيبة.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛