بعد أسبوع من انطلاق مسيرة بباريس دعماً لـ"القضية الفلسطينية"، استضافت العاصمة الفرنسية مسيرة أخرى، لكن هذه المرة ضد معاداة السامية.
وربما تقنع المسيرتان، اللتان أثارتهما الحرب المستمرة في غزة، الفرنسيين بإلقاء نظرة فاحصة على الرسائل التي تحملها المسيرتان، وتأثيرها على المشهد السياسي الفرنسي.ورغم نفي منظميها من الأحزاب اليسارية واليسارية المتطرفة، أبدت المسيرة الأولى التي سارت على الضفة اليمنى لنهر السين، عداءً واضحاً لإسرائيل، وتضمنت بعض الأحيان نغمات معادية للسامية.
أما المسيرة الثانية، التي خرجت الأحد الماضي، فقد نظمها رئيس مجلس الشيوخ جيرارد لارشيه، ورئيسة الجمعية الوطنية يائيل براون بيفيت، وكلاهما من تيار اليمين، واللذان أصرّا على أن المسيرة لم تكن تهدف إلى إظهار الدعم لحرب إسرائيل في غزة، وإنما الدفاع عن الجمهورية.
وعلى الضفة اليسرى لنهر السين، حيث عكف المثقفون الفرنسيون على مناقشة مصير البشرية على امتداد أجيال، اجتذبت مسيرة الأحد، التي حضرتُها بوصفي مراسلاً، أكثر من 100.000 شخص، ما يزيد بخمسة أضعاف على المسيرة الداعمة لفلسطين.
وتماشياً مع أسلوبه المعتاد في التعبير عن الوسطية، قرر الرئيس إيمانويل ماكرون الامتناع عن المشاركة في أي من المظاهرتين، متبعاً بذلك أسلوب باراك أوباما المتمثل في "القيادة من الخلف".
وبدت مظاهرة الأحد أكثر شمولاً عن الأخرى التي انطلقت السبت.
وتميزت بمشاركة العديد من الشخصيات اليسارية، إلى جانب رئيسَين سابقين للجمهورية، فرنسوا هولاند، ونيكولا ساركوزي، وعشرات الوزراء بقيادة رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، ومعظم أعضاء مجلس الشيوخ، والجمعية الوطنية.
اللافت كان مشاركة كثير من الشخصيات المسلمة، وبينها أئمة مساجد تجاهلوا "نصيحة" إمام المسجد الكبير في باريس بعدم الحضور. وأعلن مسؤولو المسجد الكبير أنهم يفضلون المشاركة في مسيرة "ضد كل أشكال العنصرية، بما في ذلك الإسلاموفوبيا". ويعني ذلك ضمنياً أن هؤلاء المسؤولين ينظرون إلى اليهودية والإسلام بوصفهما كيانين يخصان مجموعتين ترتبطان بعنصرين محددين من البشر، وليسا ديانتين.
بجانب ذلك، شارك ممثلو الديانات الأخرى في فرنسا، من البوذية إلى اليهودية والكاثوليكية، بالمسيرة.
وقاطع زعيم اليسار المتشدد جان لوك ميلينشون، المظاهرة؛ لأنها ضمت زعيم حزب التجمع الوطني، المنتمي لليمين المتطرف. ومع ذلك، فقد رحب ميلينشون نفسه بمشاركة لوبان في مظاهرة حضرها ضد إصلاح قانون التقاعد، في وقت سابق من العام.
وفيما يمكن أن يراه البعض أصوليةً علمانيةً، قاطع عدد قليل من المثقفين اليساريين المسيرة، ذلك أنهم رأوا في غزة حرباً بين ديانتين متنافستين.
وتضمنت مظاهرة الأحد عدداً أقل مما يطلق عليه الفرنسيون "الأقليات المرئية"، بينما شارك عدد أكبر من أبناء المقاطعات. كما شاركت أعداد أقل من المتظاهرين شبه المهنيين، بينما كان هناك عدد أكبر من المشاهير من مختلف الفئات.
وبدا المشاركون الذين تحدثنا إليهم في كلتا المظاهرتين عاجزين عن التمييز بين ما يعدّ قضية جيوسياسية وما يتصورون أنه صراع حضارات.
ولم يكونوا على استعداد للاعتراف بأن معاداة السامية شر تتجاوز تداعياته قضايا عابرة، مثل حرب غزة، أو الصراع الإسرائيلي ـالفلسطيني.
الواضح أنهم أُصيبوا بالشلل تحت تأثير التفكير الجماعي، ما جعلهم عاجزين عن تصور إمكانية وجود موقف به ضحيتان تؤذيان بعضهما البعض. البعض منهم، ما دام أحد الطرفين لديه شكوى مشروعة، فليس من المهم كيف يحاول معالجة هذه الشكوى.
في الواقع، كانت معاداة السامية ولا تزال قضية حية داخل فرنسا.
جدير بالذكر أن فرنسا كانت أول دولة تشهد مثالاً ملموساً لمعاداة السامية على مستوى الدولة، في قضية دريفوس عام 1894. وفي عام 1936، وقّعت فرنسا اتفاقية مع ألمانيا النازية، مهّدت الطريق لتعاون لاحق في ظل الاحتلال، وتضمن التعاون اعتقال الآلاف من اليهود لترحيلهم لاستغلالهم في العمل القسري، ثم نقلوا في النهاية إلى معسكرات الموت داخل الإمبراطورية النازية.
ومنذ ذلك الحين، لم يمر عام تقريباً في فرنسا دون أن تتصدر بعض الأعمال المعادية للسامية عناوين الأخبار. ولا يرتبط سوى القليل من هذا التاريخ بالقضية الإسرائيلية الفلسطينية، رغم أنه كثيراً ما استخدم في السنوات الأخيرة من قبل النازيين الجدد وأو النشطاء المناهضين لإسرائيل بوصفها ذريعة.
ويتألف الناخبون الفرنسيون المعادون للسامية، في الجزء الأكبر، حسبما يتجلى في "مجموعة العمل الفرنسي"، من أفراد وجماعات تكره العرب والمسلمين واليهود، ناهيك عن السود، والأمهات العازبات، والمثليين.
وبسبب حرب غزة، شهدت الحوادث المعادية للسامية ارتفاعاً كبيراً، وحتى وقت كتابة هذه السطور، تقدر هذه الحوادث بأكثر من 1300 حادثة في شهر واحد.
الواضح أن معاداة السامية ليست نتيجة ثانوية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وإنما شر في حد ذاته، وتهديد لما يدعي حتى ماكرون أنه يؤيدها بوصفها "قيم حضارتنا".
من جهتهم، سعى البعض إلى التقليل من شأن هذا التهديد، من خلال تقديم معاداة السامية بوصفها شكلاً آخر من أشكال الخوف المرضي من الآخر، أو ضمنياً على الأقل، مسعى لإعادة التأكيد على التماثل أو الوحدة الوطنية.
ومع ذلك، فإن هذا يرقى إلى تغليف الكراهية الفظة في غلاف فلسفي، حيث تتفوق الجماليات الفكرية على الأخلاق.
من ناحيتها، عانت الأمم المتحدة من الشلل، جراء المواقف السياسية التافهة، وقد أخفقت في تعريف معاداة السامية بوصفها تهديداً "للقيم العالمية"، علاوة على سماحها لبعض أعضائها بتضمين استعارات معادية للسامية في خطاباتهم.
في الواقع، من الخطأ الاعتقاد بأن معاداة السامية لا تعني سوى اليهود.
الحقيقة أنه ليس من الضروري أن تكون من أنصار إسرائيل لتعارض معاداة السامية. وهناك بعض الأصوليين المسيحيين الداعمين لإسرائيل، لكنهم معادون للسامية. كما أن هناك طوائف يهودية معادية لإسرائيل، لكنها غير معادية للسامية.
تشكّل معاداة السامية تحدياً للمبادئ الأساسية لما يمكن أن نسميه الحضارة الحديثة، ذلك أنها تنكر وجود البشر بوصفهم أفراداً يتمتعون بحقوق راسخة تتجاوز الخلفيات الدينية والعرقية والعنصرية وغيرها. وتقضي معاداة السامية على مفهوم المواطنة بوصفها أساساً للعلاقة بين الفرد والدولة.
أيضاً، تمثل معاداة السامية انتهاكاً للمبدأ الذي بموجبه لا يمكن قبول الذنب بالتبعية والعقاب الجماعي. والأسوأ من ذلك أن معاداة السامية ترفض مبدأ افتراض البراءة حتى تثبت الإدانة من قبل محكمة، وبالتالي فإنها تقوض جذور الأنظمة القانونية المتحضرة.
تشدد معاداة السامية على الفكرة الهمجية للخطيئة الموروثة المتخيلة والتي بموجبها، كما قال إليوت، يجب أن تراق دماء الأطفال للتكفير عن ذنب الأب. وتعيدنا معاداة السامية، بذلك، إلى المفهوم اليوناني القديم لكبش الفداء بوصفه رمزاً للخطيئة الجماعية التي تطهر تضحياتها المجتمع، وتؤذن ببداية جديدة. من جهتها، دمّرت المسيحية هذا المفهوم من خلال مفهوم منافس يقوم على فكرة كبش الفداء البريء.
كانت مظاهرة الأحد الأكبر في فرنسا منذ عام 1990، والأولى التي تعلن رفضها على وجه التحديد لمعاداة السامية. ومن ناحيتها، قالت رئيسة الجمعية الوطنية، براون بيفيه، إن المظاهرة سعت إلى إظهار وجود أغلبية صامتة ترى أن معاداة السامية تشكل تهديداً للجمهورية الفرنسية ـ وهي على حق.
وتُعَدّ مظاهرة الأحد بدايةً جيدةً للتعامل مع الأمر على حقيقته: شر يهددنا جميعاً.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة فرنسا معادیة للسامیة مظاهرة الأحد
إقرأ أيضاً:
هل يعود زيدان إلى التدريب من جديد؟
أنور إبراهيم (القاهرة)
منذ رحيل «الأسطورة» زين الدين زيدان عن ريال مدريد في 2021، لم يعد إلى «دكة المدربين» في أي مكان آخر حتى الآن، رغم العروض الكثيرة التي إنهالت عليه خلال هذه السنوات الثلاث الأخيرة، إلا إن «فيروس» كرة القدم يناديه ويطالبه بالعودة وقبول أحد العروض المطروحة عليه، ولهذا حدد موقفه وحسم وجهته القادمة، بعد أن أمضى 1306 أيام بعيداً عن الكرة، رافضاً خلالها عروض مانشستر يونايتد وبايرن ميونيخ ويوفينتوس، وعدداً من المنتخبات الوطنية، وبعض أندية الدوري السعودي.
وكشفت صحيفة ماركا النقاب عن أن زيدان بطل العالم المتوج بمونديال فرنسا 1998 لاعباً، يظل مخلصاً ومتمسكاً بإستراتيجيته في التفكير، ويحتفظ بفكرة محددة فيما يتعلق بمستقبله التدريبي، تتمثل في «خيارين» لاثالث لهما، وهما إما تدريب منتخب فرنسا أو ريال مدريد.
ولما كان المنصبان يشغلهما حلياً كل من ديدييه ديشامب مديراً فنياً لـ «الديوك» والإيطالي كارلو أنشيلوتي مديراً فنياً للريال، إضطر زيدان إلى التحلي بالصبر وعدم التعجل، لحين تأتي الفرصة المناسبة لتحويل طموحه إلى واقع ملموس.
وأضافت ماركا إن الحالة الوحيدة التي تجعل زيدان الحاصل على 3 ألقاب دوري أبطال مع الريال، يعيد النظرفي أفكاره، هي أن يجد مشروعاً جديداً طموحاً ومختلفاً، وهو مالم يحدث بعد.
وأشارت الصحيفة إلى إنه إذا كان منتخب فرنسا وريال مدريد على رأس أولوياته، فإن مستقبل زيدان يتوقف على تطور وضع كل من ديشامب وأنشيلوتي، إذ أن الأول جدد تعاقده قبل عام مع الاتحاد الفرنسي لكرة القدم حتى نهاية مونديال 2026، والثاني وضعه مستقرفي «السانتياجو برنابيو» حيث تحسنت نتائجه كثيراً بعد بداية موسم صعبة، وعلقت الصحيفة قائلة: هذا الأمر يزيد من صعوبة عودة «زيزو» لأي منهما، وإن كانت العودة على أية حال لايمكن تجنبها في المدى المتوسط.
ويعيش زيدان حالياً بصفة شبه دائمة في مدريد، حيث يتابع مسيرة أبنائه الكروية، ولكونه عاشق للأجواء الإسبانية التي شهدت أفضل إنجازاته لاعباً ومدرباً مع «الميرينجي».