ألجأتني مِحنةُ الخرطوم الكبرى ورَحى الحربِ الدائرة فيها إلى قرية صغيرةٍ في أواسط البلاد حين فُتحت يأجوجُ ومأجوجُ فهُم من كلّ حَدَبٍ ينسلون. جيشٌ تجمَّع فيه كلُّ لسنٍ وأمةٍ فما تُفْهِمُ الحُدَّاثَ إلا التراجم، يطأون الأرضَ بأخفافٍ كأخفافِِ النَّعام لسرعتهم، وعسى أن تُسعدَ الأيامُ لأصِفَ بعضَ ما رأيتُ من استحرارِ القتل في العّزَّلِ الآمنين، شيخاً كان أو امرأةً أو طفلاً في غيرِ ما ذنبٍ جنَوه، وإن كان جلالُ الرّزء يدِقّ عن الوصف، ما هؤلاء بشرا!!

ولا تخلو تلك المنافي من العجب فالحياةُ دروسٌ وعبَر.

شهدتُ في تلك القرية مشهداً استوقفني لامرأةٍ من النازحات من ذوي القُربى وقفت تُساومُ طفلا من أهلِ القريةِ كلَّفته بكنس فناء الدار فساومته مساومة الأعرابيِّ لحُنين. كان الطفل رثَّ االقمبص ممزق السراويل أشعثَ الشعر حافي القدمين، طلب الطفلُ أربعة جنيهات فقالت المرأة في حزم (جنيهان لا غير) . ولما كنتُ في منزلة من رأى منكم مُنكراً فليُغيرْه بلسانه هتفتُ بها ( اجعليها ثلاثةً) فنقدته الثلاثةَ مُكرهةً وهي تتذمّرُ تذمُّرَ المغبون وانصرف الطفلُ البائس تلهو الريحُ بسِرباله الخلق،. فانتحيتُ بالمرأة ناحيةً وقلتُ لها ( سيدتي، لقد شهِدتُ لأبيك مٌشهداً لا يزال ذكرُه يتلجلجُ في صدري.

كان من كبار المسئولين في الدولة وكنتُ في أواخرِ سنيّ الطفولة. كان يُعدُّ لختان أبنائه فخرج ليشتريَ بعضَ الأغراض وكنتُ أثيراً لديه فاصطحبني معه ومعنا سائقُ السيارة. فقصدنا أولاً سوق النساء. كانت سوقاً لنساءٍ ترمٌْلنَ وافتقرْنَ أو فقدن الكاسبَ فتعفَّفْنَ واخترن الكسب الحلال والمطعم الطيب فانتبذن مكاناً قصياً من سوق الخرطوم الكبرى يبعن فيها المواقدَ والأطباقَ المنسوجة من سعْفِ الدوم وأنيةٌ القهوة المُزخرفة المصنوعة من الخزف والقلانس وغيرها من المصنوعات اليدوية فياخذن ما تدرّه عليهن تلك البضاعةُ المُزجاة من ربحٍ ضئيل فيغشين في أوبتهن سوق الخضارِ واللَّحمِ فيشترين ما يتبلّغن به هنّ وصغارُهن. وقفنا أمام امرأةٍ خمسينيةٍ تبيع المواقد فسألها عن الثمن فأخبرته فنقدها الثمن فوراً وأشار للسائق فوضع الموقد في صندوق السيارة. نظرتُ إليه في عجبٍ وقلتُ( لمَ لمْ تساومْها؟) فقد نشأتُ بين قوم في شرقيِّ البلاد لهم ولعٌ عجيبٍ بالمساومةِ وأذكرُ أنَّ أحد الأعراب جاء من البدوِ وهو يحملُ خطايا في ظرفٍ يريدُ أن يبعثٌ به إلى قريب له أو صديق فذهب إلى مكتب البريد وسأل الموظفََ عن ثمن طابع البريد فذكر له الثمن، فوضع الأعرابيُّ ساقاً على ساق، مُتكئاًً على عصاه وقال لموظف البريد ( ما هو آخِرُ كلامِِك؟) لِيستهلَّ المساومة فاغتاظ موظفُ البريد غيظاً شديداً وقال له ( يا أخي هذه طوابعُ بريدٍ تملكُها الدولةُ ليس فيها أوّلٌّ ولا آخِر) فانصرف الأعرابيُُّ غاضباً وأبي أن يشتري، فأينََ حلاوةُُ المساومة؟ .

لما اعترضتُ على عمي نظر إليَّ نظر العاتب، وقال ( أتريدُني أن أساومَ امرأةً حملتها الحاجةُ وشظفُ العيشِ على الجلوس في الأسواق وهي شرّ الأماكن لتعولََ أطيفالاً صغاراً توفي عنهم أبوهم) كان درساِ لا يُنسى كان رجلاً سمحاً اذا اشترى. قلتُ للمرأةِ( هذا طفلٌ فقد أبوه البصر واضطرته الحاجةُ وحمله العوٌزُ على أن يحملٌ أدواتِ الرجال بدلاً من حقيبة المدرسة وأنتِ تُساومينه، فهلّا صنعت مثل صنيع أبيك؟) وتذكرت قصة الصديق يوسف علي نبينا وعليه الصلاة والسلام لما كان على خزائن أرض مصر فقال لإخوته ( ألا ترونَ أني أوفى الكيلَ وانا خيرُ المنزلين) وكان كذلك هذه هي أخلاق الوزير. ولما رجعوا إليه تارةً أخرى (. قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضْرْ وجئنا ببضاعةٍ مُزجاةٍ فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إنٌّ الله يجزي المتصدِّقين) أهي خزانةُ دولة أم منظمة خيرية!! ولكن يوسف الصديق كان أهلاً للصنيعِ الحسن في كلِّ أحواله. كان أهلاِ للوفاءِ والعفافِ حين قال لامرأة العزير ( معاذَ الله إنه ربي أحسن مثواي) وكان أهلا لعزّةِ النفس حين أبى أنْ يخرجَ من السجنِ منّاً من الملك إلّا أن تُبرَّأ ساحتُه فرد الرسولٌ الذي بعثه الملكُ قائلاً ( ارجعْ إلى ربِّك فاسألهُ ما بالُ النسوةِ اللائي قطَّعن أيديهنّ) وكان أهلاً للبرِّ والإحسانِ وهو على خزائنِِ مصر، يُكرمُ وَفادةِ التُّجَّار، سمحاً في بيعِِه وشرائه، وكان سمحاً صفوحاً حين قال لإخوته حينَ التمسوا الصفحََ ( لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمين )
أليس لنا في قَصَصهم عبرة؟

بروفيسور عبد الله محمد أحمد

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

مدير مكتب الجزيرة: حزب الله وحركة أمل بعثا رسالة واضحة خلال انتخاب عون رئيسا

قال مدير الجزيرة في بيروت مازن إبراهيم إن انتخاب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية كان محل اتفاق منذ أمس الأربعاء، مؤكدا أن الكتلة الشيعية أرادت فقط إثبات قوتها من خلال إحباط التصويت له خلال الجلسة الأولى.

وانتخب عون رئيسا بعد حصوله على 99 صوتا من أصل 128 نائبا قاموا بالتصويت خلال جلستين منفصلتين اليوم، لينهي بذلك شغورا استمر أكثر من عامين.

وفشل المجلس بانتخاب عون رئيسا خلال جلسة أولى حصل خلالها على 77 صوتا وشهدت مشادات بين بعض النواب. وقد رفع رئيس المجلس نبيه بري الجلسة ساعتين قبل العودة للتصويت مجددا.

وقال مدير مكتب الجزيرة إن عدم حصول عون على الحد الكافي لانتخابه من الجلسة الأولى كان رسالة واضحة من حزب الله وحركة أمل بأنهما قادران على تعطيل انتخاب الرئيس.

ونقل عن مصادر لم يسمها أن القوى السياسية كانت متفقة على انتخاب عون رئيسا منذ أمس، مشيرا إلى أن الرئيس الجديد يواجه تحديات كبيرة تفرضها الاعتبارات الداخلية والخارجية والمتغيرات الإقليمية وخصوصا ما حدث في سوريا.

مهمة صعبة

وحسب مدير مكتب الجزيرة، سيكون أمام عون مهمة صعبة تتمثل في تشكيل حكومة وصياغة رؤية وطنية متكاملة -حسب مدير مكتب الجزيرة- الذي قال إن الحصول على 99 صوتا يعتبر تفويضا كبيرا من البرلمان للرئيس.

إعلان

وقال أيضا إن عون "نأى بنفسه عن الخوض في السياسة خلال الأزمة الماضية، وسمح بالمظاهرات في حدود لا تنال من هيبة الدولة، وقد انتقده البعض لأنه لم ينخرط في قمع المتظاهرين".

وبعد أدائه اليمين القانونية، قال عون أمام البرلمان "إن لبنان وصل إلى لحظة الحقيقة التي يتعين عليه فيها إعادة تعريف فهمه للديمقراطية وحكم الأكثرية ومكافحة الفقر والعلاقات بالخارج".

وتعهد عون بالتصدي لتجارة المخدرات وتبييض الأموال، وقال إنه لن يتدخل في القضاء ولن يمنح حصانة لفاسد أو مجرم، وإنه سيمارس كافة صلاحياته كحكم بين كافة المؤسسات.

كما تعهد بالعمل مع الحكومة الجديدة على وضع قانون لاستقلال القضاء بما يتفق مع معايير الكفاءة والنزاهة، وتفعيل دور التفتيش القضائي وتسريع البت في الأحكام بما يضمن الحقوق ويشجع الاستثمار.

وتعهد رئيس الجمهورية بتأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح كونه قائدا أعلى للجيش الذي قال إنه سيعزز عقيدته كجيش وطني يعمل على ضبط الحدود وتثبيت أمنها واحترام اتفاق الهدنة ومنع الاعتداءات الإسرائيلية.

مقالات مشابهة

  • حكم المجاهرة بالذنوب والمعاصي وبيان خطورة ذلك
  • خلال 2024.. مقتل وإصابة 108 مدنيا جراء حوادث الألغام في الحديدة
  • عبدالله القحطاني: ركلة جزاء النصر غير صحيحة وكان يجب العودة إلى الـVAR .. فيديو
  • اتهام نيوكاسل وأستون فيلا بسبب عراك بين 20 رجلا
  • مدير مكتب الجزيرة: حزب الله وحركة أمل بعثا رسالة واضحة خلال انتخاب عون رئيسا
  • طنجة: ثلاث سنوات حبسا لطبيب وشريكه يتاجران في أدوية باهظة الثمن للمرضى
  • هجوم مسلح يستهدف القصر الرئاسي ويخلّف 19 قتيلا… تفاصيل
  • مفهوم الصدقة الجارية ومصارف أنفاق الأموال
  • لبنان على موعد مع محاولة جديدة لانتخاب رئيس  
  • رخيص الثمن.. مشروب طبيعي سحري للقضاء على الكحة الجافة