من ثمار التفاعل الصوفى مع الواقع.. التكايا والزوايا ساهمت فى التربية ونشر العلم.. صلاح الدين الأيوبى اهتم بالتصوف وأقام الخانقاوات لرفع الشعور الدينى بالأمة.. المماليك تنافسوا على خدمتهم
تاريخ النشر: 16th, November 2023 GMT
التكايا والزوايا من المؤسسات المهمة التى أنتجتها الحضارة الإسلامية؛ لتقدم نموذجًا فريدًا فى خدمة المجتمع والرسالة الدينية والقيم الإنسانية، وكانت تحديدًا من ثمار التفاعل الصوفى مع الواقع وتيسير أفضل السبل لتحقيق الغاية من سلوك طريق التصوف، وهناك عددٌ من المفاهيم لا بد من بيانها قبل الحديث عن أثر هذه المؤسسات الصوفية فى الحضارة الإسلامية.
الخَانِقَاوات أو التَّكَايا
هى منشآت كانت تخصَّصُ لإيواء المتصوفة والمنقطعين للعبادة، وتطلق على الحرم الكبير الذى تُشاد فوقه قبة عالية وتقام فيه الصلوات الخمس والأذكار، ويعين له المؤذنون والقرَّاء والمدرسون والمقدَّمون والمنشدون، وكانت تُسمَّى فى الدولة العثمانية بالتَّكايا، ومفردها تَكِيَّة، وانتشرت هذه المؤسسات فى الأقطار الإسلامية المختلفة، ولا سيما إيران ومصر والأقطار العثمانية.
أما الزَّاويَة: فهى مسجد لإقامة شعائر الدين الحنيف، وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعهد لطلب العلم فى الشريعة والحقيقة.
الرُّبط
وهناك الرُّبط، جمع رِبَاط: التى كانت تقام فى المناطق المعرَّضة للهجوم العسكري، وكان من يقيمون بها يسمون المرابطين، وكانت للتهجُّد والتأمل والاستغراق بشهود عظمة الله تعالى، وفى الوقت ذاته معسكر يحمى بلاد المسلمين من هجوم الأعداء؛ ولذا انتشرت بأعدادٍ أكبر على السواحل الإسلامية مثل البحر الأبيض وغيره، وهذا هو سبب انتشار أضرحةٍ لأولياء صالحين فى المدن السَّاحليَّة، حيث كانوا يقيمون مع مريديهم فى هذه الربط لعبادة الله والتعليم والتأمل والجهاد.
وكانت التَّكَايا والزَّوايا والرُّبط إحدى الركائز الهامَّة للتربية الدينية والاجتماعية، فقد كانت تعتمد أنظمة دقيقة فى إدارتها وتنظيم شؤونها، وتُعقد فيها حلقات الذكر، ومجالس العلم، وكان بعضها يُدَرِّسُ فقهَ أحدِ المذاهب والبعضُ الآخرُ يُدَرِّسُ أكثر من مذهب، وكانت نموذجًا تطبيقيًّا للتضحية والفداء من أجل خدمة العقيدة والدفاع عن المجتمع، وكان لاستشهاد الكثير من مشايخ وعلماء التصوف الموجودين فى هذه المؤسسات أثناء مقاومة الغزو المغولى أو رد هجمات الصليبيين، أثر بليغ فى ترسيخ المعانى السامية المتعلقة بحماية الأمة والمجتمع وبذل الغالى والنفيس من أجل حماية الأوطان والعقائد.
من نماذج تنظيم وإدارة هذه المؤسسات ما يذكره ابن بطوطة فى "رحلاته" حيث قال: [ولكل زاوية شيخ وحارس وترتيب أمورهم عجيب، ومن عوائدهم فى الطعام أنه يأتى خُدَيْمُ الزاوية إلى الفقراء صباحًا فيعين له كل واحد ما يشتهيه من الطعام، فإذا اجتمعوا للأكل جعلوا لكل إنسان خبزه ومرقة فى إناء على حدة، لا يشاركه فيه أحد، وطعامهم مرَّتان فى اليوم، ولهم كسوةُ الشتاء وكسوةُ الصيف، ومرتَّبٌ شهريٌّ من ثلاثين درهمًا للواحد فى الشهر إلى عشرين، ولهم الحلاوة من السكر كل ليلة جمعة، والصابون لغسل أثوابهم، والأجرة لدخول الحمام، والزيت للاستصباح وهم أعزاب، وللمتزوجين زوايا على حدة، ومن المشترط عليهم حضور الصلوات الخمس، والمبيت بالزاوية، واجتماعهم بقبة داخل الزاوية، ومن عوائدهم أن يجلس كل واحد منهم على سجادة مختصة به، وإذا صلوا الصبح قرأوا سورة الفتح وسورة الملك وسورة عم، ثم يؤتى بنسخ من القرآن العظيم مجزأة، فيأخذ كل فقير جزءًا ويختمون القرآن ويذكرون، ثم يقرأ القرَّاء على عادة أهل المشرق، ومثل ذلك يفعلون بعد صلاة العصر، ومن عوائدهم مع القادم أنه يأتى باب الزاوية فيقف به مشدود الوسط وعلى كاهله سجادة وبيمناه العكاز وبيسراه الإبريق؛ فيعلم البواب خُدَيْمُ الزاوية بمكانه فيخرج إليه ويسأله: من أى البلاد أتى وبأى الزوايا نزل فى طريقه ومَنْ شيخُه؟ فإذا عَرَفَ صحةَ قوله أدخله الزاوية وفرش له سجادته فى موضع يليق به، وأراه موضع الطهارة فيجدد الوضوء ويأتى إلى سجادته فيحل وسطه ويصلى ركعتين ويصافح الشيخَ ومن حضر ويقعد معهم، ومن عوائدهم أنهم إذا كان يوم الجمعة أخذ الخادم جميع سجاجيدهم فيذهب بها إلى المسجد ويفرشها لهم هنالك ويخرجون مجتمعين ومعهم شيخهم فيأتون المسجد ويصلى كل واحد على سجادته فإذا فرغوا من الصلاة قرؤوا القرآن على عادتهم، ثم ينصرفون مجتمعين إلى الزاوية ومعهم شيخهم].
نموذج للتربية على العبادة والانضباط
كانت هذه الزوايا والخانقاوات نموذجًا عمليًّا للتربية على العبادة والنظام والانضباط والنظافة واحترام الراق وخدمة الناس والتعاون على البر والتقوى.
وكان لهذه التكايا والزوايا والخانقاوت أيضًا دور بالغ الأثر فى نشر الإسلام فى أواسط آسيا وأفريقيا، حيث كانت تفتح أبوابها للراغبين فى التعرف على الإسلام والتعلم والمحتاجين والمرضى، وتستقبل المسافرين والقوافل؛ فحازت ثقة كثير من أبناء هذه المجتمعات التى انتشر الإسلام فى كثير من بقاعها دون حرب أو قتال. وقد اهتم السلاطين العثمانيون بالتكايا والزوايا بشكل كبير، ووفق تقديرات إحصائية لتكايا إسطنبول سنة ١٦٤٠ م فإنها بلغت حوالى ٥٥٧ تكية، و٢٢٠٠٠ زاوية وحجرة للشيوخ أو الدراويش الذين كانوا يعيشون فيها.
واهتم صلاح الدين الايوبى بالتصوف وأقام الخانقاوات والربط والزوايا من أجل رفع الشعور الدينى فى الأمة وزيادة استعدادتها لمقاومة الأخطار التى تهدِّدُها، كما حُبِسَتْ عليها الأوقاف التى تُنفق على هذه المؤسسات وتوفر لها ما تحتاجه من نفقة ومؤونة، فانتشرت بكثرة فى دمشق وفلسطين وسائر مدن الشام والعراق. وكان أمراء المماليك أيضًا يهتمون ويتنافسون فيما بينهم فى خدمة الصوفية وإنشاء الخانقاوات أو التكايا لهم، كما كانوا يهتمون بعمارتها، وتزيينها وزخرفتها، وفق تصور فنى بليغ، ومن أمثلة ذلك، خانقاه بيبرس الجاشنكير التى بدأ فى إنشائها الأمير بيبرس الجاشنكير بالقاهرة فى سنة ٧٠٦هـ/ ١٣٠٦م قبل أن يتولى السلطنة، وأنشأ بجانبها رباطًا كبيرًا، وقرر بها ٤٠٠ صوفي، وبالرباط ١٠٠ جندى وآخرين.
وفى وصف هذه الخانقاه يقول الدكتور حسن الباشا: [تتألف الخانقاه من صحن مستطيل التخطيط فى جانبين متقابلين منه إيوانان كبيران معقودان أحدهما إيوان القبلة، وفى الجانبين الآخرين خلاوٍ للصوفية، بعضها فوق بعض، زخرفت أعتابها بمُقَرْنَصَات وعقود ذات أشكال متنوعة، ويتميز إيوان القبلة وهو أكبر الإيوانات بأنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام، ويتوسطه محراب حجرى يتميز بالبساطة والخلو من الزخارف مما يتناسب مع طبيعة الخانقاه.
وكانت الخانقاه فى عصر المماليك تجمع أحيانًا بين المدرسة والتكية والضريح، كما هى الحال بمدرسة أمير كبير قرقماس بالقاهرة، وخانقاه فرج بن برقوق، وخانقاه الأشرف برسباي].
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الحضارة الاسلامية
إقرأ أيضاً:
رئيس جامعة الأزهر: 1085 عامًا والأزهر قلعة العلم وحصن الدين ودرع الأمة يرد عنها غوائل الزمان
أكد الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، اليوم الجمعة، أن الجامع الأزهر بتاريخه العريق يمثل قلعة العلم، وحصن الدين، وعرين العربية، وقد وهبه الله منحةً لمصر وللعالم، ودرعًا للأمة، يرد عنها غوائل الزمان، ونوازل الحدثان.
وأضاف رئيس جامعة الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي أقامها الأزهر للاحتفال بذكرى مرور 1085 عامًا على تأسيس الجامع الأزهر، أن اسم «الجامع» يدل على أنه محراب عبادة ومنارة علم، والعلم عبادة، كما يدل اسمه «الجامع» على أنه يجمع شمل الأمة، ويقاوم تفرقها وتشتتها، لتعود كما أراد الله تعالى لها في قوله جل وعلا: «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ».
وأضاف الدكتور سلامة داود أن الغاية القرآنية السابقة، هي الغايةُ النبيلةُ والسعيُ الموَفَّقُ الدؤوبُ الذي يقوم به فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، حفظه الله تعالى، في الحوار الإسلامي-الإسلامي، الذي يسعى إلى نبذ الفرقة والتعصب، والاجتماع على الثوابت والأصول المشتركة التي اتفقت عليها الأمة على اختلاف مذاهبها، لأن العالم الإسلامي لم يجنِ من الفرقة إلا الضعف والوهن، ولم تكن الأمة أحوج إلى الاتحاد واجتماع الكلمة ولمِّ الشمل منها الآن بعدما تداعت عليها الأمم.
وأشار رئيس جامعة الأزهر إلى أن الأزهر نسبٌ شريف، يعود في نبعته المباركة إلى أم أبيها السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله ﷺ، وفي تسميته «الأزهر» جمالٌ من الزهر، لأنه يتفتح عن العلوم كما تتفتح الأزهار عن أكمامها، وفي تسميته «الأزهر» بصيغة اسم التفضيل دلالةٌ على أنه يعيش مع أشرف العلوم وأعلاها، وعلى أنه لا يرضى لمن ينتسب إليه إلا أن يكون هو الأزهرَ والأنورَ والأبهرَ والأقدر، فلا يرضى لمن ينتسب إليه أن يكون تابعًا لغيره في مضغ العلوم والمعارف، بل يتمثل قول الرسول ﷺ: «اليد العليا خير من اليد السفلى».
وتابع سلامة داود: واليد العليا هي اليد التي تملك قوة العلم وتنتج العلم، واليد السفلى هي اليد التي تستورد العلم وتعيش عالة على ما أنتجته عقول الآخرين، لذا عاش الأزهر هذه القرون الطويلة وهو ينتج المعرفة، وكانت البعثاتُ التي أرسلها محمد علي باشا إلى أوروبا من النابهين من أبناء الأزهر، الذين قامت على أكتافهم في مصرنا الحبيبةِ كلياتُ الطب والهندسة وغيرُها من العلوم التطبيقية، فكانت النهضة الحديثة في مصر على أيدي علماء الأزهر.
وشبَّه الدكتور سلامة داود الأزهر بماضيه وحاضره كالشمس، من اقترب منها ذاب فيها، فما من بلد في الدنيا إلا وللأزهر عليه يدٌ بيضاء في نشر العلم والوسطية والاعتدال، والوافدون في رحابه - وهم اليوم نحوُ ستين ألفَ طالبٍ وافد من نحو مائة وثلاثين دولة - هم حملة النور والإسلام والوسطية إلى بلادهم، هم معاهد الأزهر وجامعاتُه في دول العالم، جهَّزهم الأزهر وصنعهم على عينه، فله الفضل عليهم بحق الأستاذية والتعليم والرعاية، وما قطعوا بلدًا أو نشروا علمًا إلا وكان للأزهر نصيبٌ من أجره وثوابه، لقول الرسول ﷺ: «من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا»، وقد جهَّزهم الأزهر للأمة كلِّها، وللعالم كلِّه، هداةً مهديين، فإذا نشروا علمه في البلاد كان لهم فضلٌ عليه أيضًا، لقول علمائنا: «ما من أحد إلا وللشافعي عليه فضل، إلا البيهقي فإن له الفضل على الشافعي لنشره مذهبه»، وهذه هي رحم العلم بين الأستاذ وتلميذه.
ولفت رئيس جامعة الأزهر إلى أن من علماء الأزهر من يستنكف أن يتكلم في درسه ومحاضرته بكلمة عامية واحدة، فإذا اضطُرَّ إلى نطقها قال: «أقولها بالعامية وأستغفر الله»، حرصًا منه على نشر اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن الكريم، وتكلم به سيد السادات ﷺ، وحرصًا منه على تقويم اللسان وتنشئة الجيل على حب العربية.
وأردف قائلاً: أدركنا من علمائنا من كان يقول لنا في البحث العلمي: لا تكرر من سبقك، بل ابحث عن رَوْضٍ أُنُفٍ، والروض الأنف هو الحديقة الغناء التي لم تطأها قدمٌ، أي ابحث عن موضوع لم يدرسه أحد قبلك، لتقف على ثغرة ليس عليها مرابط، وهي كلمة جليلة قالها شيخنا المحمود الأستاذ الدكتور محمود توفيق محمد سعد، عضو هيئة كبار العلماء، الذي فقده الأزهر الأسبوعَ الماضي ونعاه إمامُه الأكبر، حفظه الله. كلمةٌ جليلة تربط البحث العلمي بالدفاع عن ثغور الأمة، والمرابطة عليها، لأن حماية الفكر من حماية الوطن.
ومدح الدكتور سلامة داود الأزهرَ الشريف ومنهجه المتين، قائلاً: تعلمنا من علمائك، أيها الأزهر المعمور، أنه لا يخلو كتاب من فائدة، وأنه لا يغني كتاب عن كتاب، وأن يجعل الكاتب كتابه يغني عن غيره ولا يغني عنه غيرُه.
وتابع: تعلمنا من علمائك أن نضحي من أجل العلم بأوقاتنا وأقواتنا وشرخ شبابنا وزهرة أعمارنا وماء عيوننا، حتى قال أحدهم لتلميذه يومًا: «بع الجبة والقفطان واشتر اللسان»، يقصد معجم لسان العرب، الذي ينمي الثروةَ اللغويةَ والمحصولَ اللغويَّ لمن يقرؤه.
ونصح فضيلته أبناء الأزهر بقراءة تراجم سير علماء الأزهر، والاقتطاف من أزاهيرها، والتأسي بهم في علو الهمة، وغزارة العلم، ومكارم الأخلاق: «فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم * إن التشبه بالرجال فلاحُ»
وتابع: وإني لأرجو أن يُوفَّقَ بعضُ أولي العزائم الصادقة إلى جمع هذه الشمائل والمكارم من سيرهم، وحُسْنِ عرضها، وتجليتها، وكشفِ جوانبها المضيئة، لتكون نبراسًا يضيء لنا وللأجيال القادمة، فإن الأخلاق تُعدي، وإن التأسي بالتجارب الرائدة والنماذج المشرقة هو خير باعث على النهضة.
واختتم رئيس جامعة الأزهر حديثه ببيت شعر للشاعر الأزهري الدكتور علاء جانب، عن الأزهر المعمور: «من سره فخرٌ بغيرك إنني * حتى بجدران المباني أفخرُ»
اقرأ أيضاًنائب رئيس جامعة الأزهر يشارك في افتتاح المؤتمر الطلابي «خطوة على الطريق»
«رئيس جامعة الأزهر»: تطورات العلم الحديث تعزز فهمنا للقرآن الكريم
انطلاق احتفالية مرور 1085 عامًا على تأسيس الجامع الأزهر