فرضت مصر سطوتها على خياله قبل رحلته إليها بعقود عدة، وأثناء الرحلة وفى أعقابها، كتب عنها وشعر بشوق إليها قبل أن تطأها قدماه، من خلال ما شاهده من إبداع أبنائها فى المعرض الدولى الذى أقيم فى باريس سنة 1867، وفى المتاحف والمعارض، وما عرفه عنها بفضل قراءاته الشرقية الواسعة وعندما بلغها بعد طول انتظار وشغف، تعرض لحادث حول رحلته، من « المشاء الكبير» الذى كان يعول على نظراته بقدر ما كان يعوّل على ثقافته، إلى «سفرٍ ثابت»، إذ إن إحدى ذراعيه قد تعرضت للكسر على متن السفينة، ما اضطره لمداراة ذراعه المجبرة، والاكتفاء بالتطلع إلى المدينة التى كانت تستقطب كل أحلامه من شرفة فندق «شبرد» حيث أقام.
لكن بفضل قريحة الكاتب وذكرياته عن مصر التى لطالما رآها فى أحلامه وقراءاته، تمكن الشاعر الفرنسى تيوفيل جوتييه (1811- 1872) من أن يعوض نسبياً عدم قدرته على الحركة فى طول القاهرة وعرضها كما كان دأبه فى سائر رحلاته.
شاء القدر أن ينقل إلى أرض الفراعنة على أريكة، وخلال زيارته لصعيد مصر كتب رواية «المومياء» وبعد أن أخبر صديقه الشاعر جيرار دى نرفال قائلًا: أنا تركى، لست من القسطنطينية ولكن من مصر، يبدو لى أننى عشت بالشرق، ولما كنت أتنكر ببعض القفطان وبعض الطربوش أثناء المهرجان، بدا لى أننى أستعيد ملابسى الحقيقية، كنت دائمًا أستغرب من عدم سماعى اللغة العربية بطلاقة، لا بد أننى نسيتها، وكان كل ما يذكرنى بالموريين فى إسبانيا يثير اهتمامى بشدة وكأننى كنت ابن الإسلام وأدافع عنه.
فى عام 1885 مول رجل الصناعة الفرنسى المثقف إيميل جيميه بعثات تنقيب عن الآثار فى صعيد مصر، نفذها «جوتيه»، وقد استمرت هذه البعثات حتى عام 1911.
نقّب «جوتيه» فى أطلال مقابر الأقباط القديمة بجوار ملوى فى المنيا، واستخرج منها آلاف القطع من الملابس وأدوات الحياة اليومية، حيث كان الأقباط يدفنون موتاهم فى ملابس جديدة، ويقومون بلف طبقات من الستائر والشيلان والمفارش ويثبتونها بالأربطة حول المتوفى بحيث يشبه شكل الجثة فى النهاية مومياوات العصور الفرعونية.
قام «جوتيه» بعرض نتاج حفرياته فى معرض باريس الدولى عام 1900، من خلال جناح عرض فيه مائة قطعة من المنسوجات القبطية فى قصر دو للأزياء.
وقد أحدث نشرها دويًا بين أوساط الفنانين والمثقفين الفرنسيين، فقد انبهروا بجمال الملابس القبطية، «التونيك القبطى» ودقة نسيجها ورقة زخارفها وموديلاتها حتى تمت إعادة إنتاج بعضها على يد مصممى ذلك العصر وصارت موضة رائجة بين سيدات الطبقة الراقية فى أوروبا وأمريكا، خاصة أنها بدأت من باريس صانعة الموضة.
كما قامت النجمة الفرنسية سارة برنارد بتفصيل فستان وشال على الطراز القبطى ظهرت بهما فى مسرحية «ثيدورا» عام 1902، وفى عام 1911 رسمت الفنانة البريطانية هلين كليمانتين دوف لوحة تصور فيها نفسها وهى مرتدية ثوبًا قبطيًا.
ويقول «جوتيه» فى كتابه (رحلة إلى مصر) «هناك فكرة تتبادر إلى ذهن حتى المسافر الأقل انتباها، منذ يخطو خطواته الأولى فى مصر السفلى، هذه حيث راكم النيل، منذ أزمنة سحيقة، طميه بطبقات دقيقة، منها فكرة الحميمية العميقة التى تجمع الفلاح المصرى بأرضه، فيغدو مناسبا وصفها بأنها علاقة راسخة.. هو يخرج من هذا الطين الذى يمشى فيه، وهو مصنوع منه ولا يكاد ينتزع نفسه منه، شأنه مع أرضه شأن الطفل مع ثدى المرضعة، يقلبها ويعصرها كى يجعل حليب الخصوبة ينبجس من هذا الضرع الأسمر.
يبقى الفلاح المصرى فى أرضه إلى أبد الآبدين منتبها إلى أدنى ما تحتاجه جدته العريقة، أرض كيمى السوداء، إن عطشت سقاها، وإن أزعجتها كثرة المياه خلصها منها، وكى لا يجرحها يفلحها بلا آلات تقريبا، يفلحها بيده، ولا يكاد محراثه يلمس أديمها الذى يغشى كل سنة بأديم جديد تأتى به الفيضانات».
حفظ الله مصر وأهلها
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ندى صلاح صيام مصر
إقرأ أيضاً:
نص كلمة الرئيس السيسي بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ43 لتحرير سيناء
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن مصر ستبقى بوحدة شعبها، وبسالة جيشها ورعاية ربها رافعة الرأس، عزيزة النفس، شديدة البأس، ترعى الحق وترفض الظلم.
جاء ذلك خلال كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لعيد تحرير سيناء.
وجاء نص كلمة الرئيس السيسى بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ"43" لتحرير سيناء:
نحتفل فى هذا اليوم المجيد، بالذكرى الثالثة والأربعين لتحرير سيناء .. تلك البقعة الطاهرة من أرض مصر، التى طالما كانت هدفا للطامعين، وظلت على مدار التاريخ، عنوانا للصمود والفداء .. سيناء؛ التى نقشت فى وجدان المصريين، حقيقة راسخة لا تقبل المساومة.. بأنها جزء لا يتجزأ من أرض الكنانة محفوظة بإرادة شعبها وجسارة جيشها، وعزيمة أبنائها الذين سطروا أروع البطولات، حفاظا على ترابها المقدس.
لقد كان الدفاع عن سيناء، وحماية كل شبر من أرض الوطن، عهدا لا رجعة فيه، ومبدأ ثابتا فى عقيدة المصريين جميعا، يترسخ فى وجدان الأمة جيلا بعد جيل، ضمن أسس أمننا القومى.. التى لا تقبل المساومة أو التفريط.
وإننا إذ نستحضر اليوم هذه الذكرى الخالدة، فإننا نرفع الهامات، إجلالا للقوات المسلحة المصرية، التى قدمت الشهداء، دفاعا عن الأرض والعرض، مسطرة فى صفحات التاريخ، ملحمة خالدة من البذل والتضحية .. جنبا إلى جنب مع رجال الشرطة المدنية، الذين خاضوا معركة شرسة، لاجتثاث الإرهاب من أرض سيناء الغالية.
كما نذكر بكل فخر، الدبلوماسية المصرية وفريق العمل الوطنى، فقد أثبتوا أن الحقوق تنتزع بالإرادة والعلم والصبر، وخاضوا معركة قانونية رائدة، أكدوا بموجبها السيادة المصرية على طابا.. عبر تحكيم دولى .. فكان ذلك نموذجا ساطعا.. فى سجل الانتصارات الوطنية.
شعب مصر الكريم، لقد أثبتم، برؤيتكم الواعية، وإدراككم العميق لحجم التحديات، التى تواجه مصر والمنطقة، أنكم جبهة داخلية متماسكة، عصية على التلاعب والتأثير .. وأن الوطن فى أيديكم، وبوعيكم وفطنتكم، محفوظ إلى يوم الدين.
وفى ظل ما تشهده المنطقة، من تحديات غير مسبوقة، تستمر الحرب فى قطاع غزة، لتدمر الأخضر واليابس، وتسقط عشرات الآلاف من الضحايا، فى مأساة إنسانية مشينة.. ستظل محفورة فى التاريخ.
ومنذ اللحظة الأولى، كان موقف مصر جليا لا لبس فيه، مطالبا بوقف إطلاق النار، والإفراج عن الرهائن والمحتجزين، وإنفاذ المساعدات الإنسانية بكميات كافية، ورافضا بكل حزم، لأى تهجير للفلسطينيين خارج أرضهم.
إن مصر تقف - كما عهدها التاريخ - سدا منيعا، أمام محاولات تصفية القضية الفلسطينية .. وتؤكد أن إعادة إعمار قطاع غزة، يجب أن تتم وفقا للخطة العربية الإسلامية، دون أى شكل من أشكال التهجير، حفاظا على الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وصونا لأمننا القومى.
إننا نؤكد مجددا، أن السلام العادل والشامل، لن يتحقق إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وفقا لمقررات الشرعية الدولية .. فذلك وحده، هو الضمان الحقيقى، لإنهاء دوائر العنف والانتقام، والتوصل إلى السلام الدائم والتاريخ يشهد، أن السلام بين مصر وإسرائيل، الذى تحقق بوساطة أمريكية، و نموذج يحتذى به، لإنهاء الصراعات والنزعات الانتقامية، وترسيخ السلام والاستقرار.
واليوم، نقول بصوت واحد: "إن السلام العادل، هو الخيار الذى ينبغى أن يسعى إليه الجميع" .. ونتطلع فى هذا الصدد، إلى قيام المجتمع الدولى، وعلى رأسه الولايات المتحدة، والرئيس ترامب تحديدا، بالدور المتوقع منه فى هذا الصدد.
وكما كان تحرير سيناء واجبا مقدسا، فإن السعى الحثيث لتحقيق التنمية فى مصر، هو واجب مقدس أيضا ..وإننا اليوم، نشهد جهودا غير مسبوقة، تمتد عبر كل ربوع مصر، لتحقيق نهضة شاملة، وبناء مصر الحديثة.. بالشكل الذى تستحقه.
وفى الختام، حرى بنا الوقوف وقفة إجلال وإكبار، أمام شهدائنا الأبرار، الذين ضحوا بأرواحهم، فداء للوطن، ودفاعا عن المواطنين وستبقى مصر بوحدة شعبها، وبسالة جيشها ورعاية ربها، رافعة الرأس.. عزيزة النفس.. شديدة البأس، ترعى الحق وترفض الظلم.
كل عام وأنتم بخير ومصر فى أمان ورفعة وتقدم ودائما وأبدا "تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر.