عمار العركي – قراءة تحليلية لحوار الرئيس الإريتري لصحيفة الشرق الاوسط السعودية
تاريخ النشر: 16th, November 2023 GMT
• على هامش القمة السعودية الإفريقية الأخيرة ، أجرت صحيفة الشرق الأوسط حوار صحفى مطول مع الرئيس الإريترى “أسياس أفورقي”، تناول فيه عدد من المحاور والقضايا الإقليمية والدولية ، فى هذا المقال نتعرص بتحليل مختصر لبعض المحاور المتعلقة وذات الصلة بالسودان التى جأءت فى الحوار :-
• عُرف عن الرئيس الإريتري “اسياس أفورقي” بُعده عن الإعلام والتصريحات إلا فيما ندر، إلا بعد إختيار ذكي للتوقيت والمناسبة والمنبر لإرسال رسائله ، حتى يجعل من “الإختيار” فى حد ذاته رسالة ، والأمثلة كثيرة ، منها ما حدث فى العام 2018م، إيان زيارة (ابي احمد) اسمرة من غير دعوة مخترقاً سياج القطيعة والخصام الذى إمتدى لسنوات، ومباغتة “أفورقي” بمبادرة السلام الشامل المعروفة.
• حينها ، لم يصدرعن “أفورقي” أى ردة فعل تفيد القبول او الرفض ، فإن هو قبل يكون قد منح خصمه -ابي احمد – كسب ورصيد سياسىي لا يستحقه، سيما وهو المتطلع للزعامة الإقليمية ،ومنافسة “أفورقى كعميد متوج بين رؤساء إفريقيا ، وان هو رفض فذلك سيقلل من زعامته وعمادته تلك ويظهر بمظهر أمير الحرب.
• فانتظر” أفورقى” فترة اسبوعين من تاريخ الدعوة ،حتى حان آوان الاحتفال السنوى ” لعيد الشهداء الارتريين الذين قُتلوا فى الحرب مع أثيوبيا”، وبكل الذكاء والمكر الذى عُـرف به قال “افورقي” فى خطابه ( أقبل دعوة أخى (ابى احمد)، ان كانت تُلبى المطالب التى ضحى من اجلها هآؤلا الشهداء أولاً ،والشعب الإرترى ثانياً).
• وها هو “أفورقى” ،الصامت منذ يوليو الماضى بعد آخر حديث له فى “قمة دول جوار السودان بالقاهرة، والتى كانت بذات مواصفات “إلإختيار” اعلاه ، ليختارالحديث على هامش ” القمة السعودية” ، ومن العاصمة الرياض ، على منبر جريدة (الشرق الأوسط) تحديدا دون المنابر الأخرى ، ليجعل من المكان والتوقيت والمنبر فى حد ذاته رسالة.
• نستشف من الحوار ، ثبات وتمترس “افورقى” حول مواقفه – أُتفق أو أُختلف حولها – وعدم التأثر بالضغوط كغيره من رؤساء دول المنطقة ، مثلاً لذلك : (موقفه من كل الكيانات الإقليمية وعدم التمحور)، من منطلق بأنها محاكاة للنموذج الغربى الخارجي لتمرير الأجندة الغربية والخارجية
• لذلك ظل “افورقى”ثابت على مبدأ رفض الإنضمام لجامعة الدول العربية رغم الدعوات المتكررة من الجامعة منذ لحظة استقلال ارتريا فى 1993م وحتى تاريخ اليوم ، فيما اتسمت علاقة اريتريا بالاتحاد الإفريقى والإيقاد بالتوتر والإنسحابات والقطيعة المتكررة من قبل ارتريا ، وفى أحيان كثيرة يصف “أفورقى” العلاقة بأنها عدائية تجاه بلاده ، وتتبنى أهداف ومصالح خارجية ، وبالتحديد “مصالح الولايات المتحدة” التي انتقلت علاقتها مع إريتريا من الإيجابية، الى الفتور، ثم التردى حالياً، خاصة بعد اتهمت تقارير رسمية إريترية “أمريكا” بخلق بيئة دبلوماسية عدائية ومساعي دولية معادية للمصالح الإريترية في المنطقة.
• اما حديث “أفورقي” عن الدور السعودي المؤثر والإيجابي على الصعيدين الإقليمي والإفريقى وجدوى الشراكة الذكية فى ذلك ، اضافة لإشادته بمنبر جدة الخاص بالسودان ….الخ ، فقد يظن البعض أنه نوعاً من التقرب والتكسب السياسى والمادى ، ولكن المتابع لعلاقة ارتريا بالسعودية ومستوى التنسيق والتعاون الإستراتيجي بينهما يلحظ غير ذلك ،وواقع العلاقة يُصُدق قول “افورقي” بالواقعى ، خاصة فيما يتعلق بإبعاد “الإمارات” عن المؤانى الإرترية والغاء إتفاقية إيجارها لصالح السعودية ، والتنسيق مع السعودية فى حرب اليمن ، وأمن البحر الأحمر ، وتأسيس مجلس الدول الثمانية المشاطئة له كفكرة سعودية وتنفيذ مشترك مع ارتريا ، والدور الكبير الذى قام به أفورقي في الاتصالات والتواصل واقناع بعض من دول الساحل قاطعاً الطريق امام “الامارات” التى كانت تنافس السعودية فى تصدر وقيادة المجلس.
• فيما يخُص الشأن السودان ، قدم أفورقى قراءة حصيفة مشخصاٌ المشهد السودانى تشخيص دقيق حيث قال افورقى ( التعقيدات في المشهد السوداني نتاج تدخلات وأجندات خارجية، ومن دون جدلية، أستطيع القول إن النظام السابق علّم السودانيين كيفية أن يحسنوا اختياراتهم، ولذلك انطلقت الانتفاضة بشكل عفوي، فالشعب عبأ نفسه بنفسه، وليس لأي قوى سياسية أو حزب، الحق في أن يدعي تبني ثورة ديسمبر2019م).
• كما ذكر”أفورقى” عوامل وتطورات زادت من تعقيد وتأزم المشهد، حددها بقوله ( الثورة السُودانية العفوية والفترة الإنتقالية تعرضتا لعملية غسل من قبل الأجندات الخارجية بمساعدة داخلية، وذلك لأن السودان مستهدف من حيث الموقع الجغرافي والسياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي).
• وعن دور (الإتحاد الإفريقى) و(هيئة الإيقاد) فى الأزمة السُودانية ، تحدث “أفورقى” من منطلق موقفه المبدئى المعروف بمعارضته ومخالفته للإتحاد الافريقي حيث قال (كما يقولون فإن “الاعتراف بالحق فضيلة”، يتحتم علينا أن نقرّ بشكل عام ،بأنه لا وجود فعلي لأي منظومة أفريقية، سواء منظمة اتحاد أفريقي أو منظمة إيغاد) ثم تناول الدور الإفريقى فى السُودان بشكل خاص موضحاٌ ان (الدور الأفريقي في القضية السودان مخزٍ، موجه سؤلاً إعتراضياً لماذا يحدث للشعب السوداني ما حدث؟ كل المنظمات الأفريقية فضلاً عن منظمة الأمم المتحدة، فشلت في السُودان، كاختباراً حقيقياً لوجودية هذه الكيانات التي درجت على تأجيل الحلول).
• وعن دور الأحزاب والقوى السياسية السُودانية ، أبدى أفورقى “اسفه” قائلاً: ( بعدم وجود قوى سياسية في السودان بالمعنى، ولا أعترف بها وليس منها جدوى، لانها تعقد العملية السياسية،وتأتى بالتدخلات الخارجية)، فهذا موقف وراي ثابت لدى “أفورقى” ادلى به قبل خمسة سنوات ، لوفد المجلس العسكرى الإنتقالى الذى زار “أسمرة” لتوضيح ضروريات التغير الذى تم فى السُودان ، فحمل “أفورقى” الوفد رسالة ونصيحة غالية “للبرهان” وهى (بان يستمر المجلس العسكرى الإنتقالى فى السُلطة وإدارة حكم البلاد لفترة انتقالية مدتها عام ، محذراٌ من اشراك “الأحزاب والمدنيين” مهما تعرضوا لضغوط ومعارضة ، وليس أمامهم إلا الذهاب والإستعداد والتجهيز لإنتخابات عامة بعد مُضى العام).
• فى ذات السياق، كشف “افورقي” فى حديثه عن طرح مبادرة ( انا لدي مسودة لمبادرة بخصوص السُودان ، تختلف عن أطروحات بعض السياسيين، التي ترتبط ببعض الأجندات الخارجية، المقدمة في عدة عواصم أفريقية. لكني لن أفصح عنها للإعلام أو النشر، إنما ساعرضها على دول الجوار،)، هذه الإفادة تحمل العديد من الأهداف التى يسعى “أفورقى تحقيقها ، ورسائل يريد إرسالها ،” فهو يهدف الى “إثبات” ان “الحل” فى السودان “ارترى” خالص ، وهذا ما يجعله يُصر على محاولات تكرار التقدم بمبادرته، التى فيما سبق، إما أُهملت “عمداٌ” وإما رُفضت “صراحة” من الجانب السُودانى فى مناسبات عديدة – سبق ان تناولها مبادرات أفورقى بالتحليل وأوضحنا رفضها لم يكن لأسباب تتعلق بإرتريا او رئيسها ، بقدر ما هى تقديرات سياسية داخلية متعلقة بأطراف الصراع فى السودان – كذلك هدف “افورقي” الى إثارة غريزة الإستطلاع والإهتمام والملاحقة الإعلامية بمنح مبادرته نوع من الخصوصية والسرية ، فى ذات الوقت ارسل رسائله فى بريد المبادرين الحاليين والعواصم المتدخلة في السودان الذين يتجاوزنه وبلاده فى مساعيهم ،بإعتبار الأولى والأحق بالتدخل من أى دولة أو رئيس دولة غير.
• خلاصة القول ومنتهاه:
• إفادات وإجابات أفورقى أكدت على أنه الرئيس الوحيد على مستوى المحيطين العربى والإفريقي الذى يجيد قراءة المشهد السُودانى على حقيقته المجردة ، ويفهم تعقيداته التى نعتقد،على ضؤها صمم مبادرته ، وهذا يجعلنا نُذكر بخلاصاتنا السابقة عن الرئيس أفورقى:-
افورقى” يعتقد ان للسودان فضل عليه و وعلى الشعب الإريترى منذ إنطلاقة ثورة التحرر والنضال حتى نيل حق الإستفتاء والإستقلال ، لكنه مسكون بهواجس وظنون الماضى ، بينما ” السودان ” وبسبب ادارة خاطئة للعلاقة سابقاً وحاضراً ، ضل طريقه الى إرتريا.
* السياسبة والعلاقات الخارحية لا تعترف بالثوابت والذهنية الإنطباعية ، وهى فى حالة تحول وحراك بحسب بوصلة المصالح ،فى هذا الإطار وفى ظل الأوضاع السُودانية الراهنة ،أقبل “أفورقى” نحو السودان بخطوات قولية وفعلية ، بشكل يُحتم على “السُودان والبرهان” التعاطى والتقارب وتعزيز العلاقة
المصدر: نبض السودان
كلمات دلالية: العركي تحليلية عمار قراءة لحوار الس ودان فى الس
إقرأ أيضاً:
السودان: حرب على أرض الجراح المفتوحة – بعين مستشرق
بقلم: الدكتور عزيز سليمان
منذ سنوات، والسودان يدور في دوامة لا تهدأ من الأزمات المتوالية التي تأتي على مقدراته وشعبه. بدا الأمر وكأن السودان يسير نحو مستقبل أكثر استقراراً بعد الإطاحة بنظام عمر البشير، حيث عانق السودانيون أملاً جديداً بمستقبل خالٍ من الديكتاتورية. لكن الأحداث الجارية على الأرض أظهرت أن هذا الأمل لم يكن إلا سراباً يبتعد مع كل أزمة جديدة تندلع. والمشهد في السودان اليوم يشبه إلى حد كبير لوحة مؤلمة من فوضى عارمة تملؤها الدماء، والانقسامات، والأزمات المتراكمة.
جذور الأزمة... التاريخ يعيد نفسه
يبدو أن التاريخ في السودان لا ينتهي، بل يعيد نفسه بطرق أكثر تعقيدًا. السودان الذي حُكم لسنوات طويلة بأنظمة ديكتاتورية وجد نفسه محاصراً بصراعات قبلية وعسكرية بعد سقوط البشير. قوات الدعم السريع، تلك الميليشيات المدججة بالسلاح والعتاد، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تقف على رأس مشهد الصراع ضد الجيش النظامي بقيادة عبد الفتاح البرهان. وعلى الرغم من شعارات الحرية والعدالة التي رفعت خلال الثورة، فإن الأمر اليوم تحول إلى حرب نفوذ وصراع سلطة لا يرى فيه المواطن السوداني إلا مزيدًا من المعاناة.
ما وراء القوة والسلاح: من المستفيد؟
من يستفيد من هذه الحرب المدمرة؟ الإجابة تكمن في تفاصيل معقدة من مصالح القوى الإقليمية والدولية. فالسودان، بموارده الغنية وموقعه الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر، يظل مطمعًا للدول التي تسعى لمد نفوذها في المنطقة. دول عديدة تتدخل هنا وهناك، بعضها يمد قوات الدعم السريع بالسلاح، والبعض الآخر يدعم الجيش، وأخرى تكتفي بالمراقبة وانتظار لحظة مناسبة للدخول كوسيط، لكن بجدول أعمالها الخاص.
مصالح إقليمية، مثل الطموح الإماراتي لمد نفوذ في شرق إفريقيا عبر حميدتي، والمصالح المصرية الأمنية التي ترى في البرهان شريكاً استراتيجياً، تجسد التعقيد الأكبر في هذا الصراع. وحتى الدول الغربية التي طالما انتقدت نظام البشير بلسان حقوق الإنسان لم تقدم دعماً حقيقياً للسودانيين في مواجهة مصيرهم اليوم.
الشعب السوداني. ضحية جديدة كل يوم
أما الشعب السوداني، فهو الخاسر الأكبر في هذه الحرب. ملايين من الناس في دارفور وكردفان والخرطوم وجدوا أنفسهم بين مطرقة القصف وسندان الجوع. لم تعد الحياة الكريمة حلمًا، بل أصبحت لقمة العيش وأبسط أشكال الأمان أمنيات شبه مستحيلة في ظل حصار الحرب والنزوح. أصبحت المعونات الإنسانية غير كافية، وأصبحت المدارس والمستشفيات هدفاً للقذائف. وحتى الطرقات أصبحت مقابر جماعية لأبرياء خرجوا بحثًا عن الأمان.
الرهان على الحل السياسي.. أمل يزداد بُعدًا
البعض يتحدث عن حلول سياسية، وآخرون يراهنون على حوار بين الأطراف، لكن ما لا يفهمه الجميع هو أن هذه الأطراف قد لا ترغب في الحل. القوى المتصارعة، التي اغتنت وتوسعت عبر الحرب، لا تجد في السلام مصلحةً، بل ترى في استمرار الصراع فرصة لتكديس المزيد من الأموال والنفوذ. الرهان على الحل السياسي يبدو بعيداً في ظل تزايد التحالفات المتناقضة ووجود أطراف لا تهتم إلا بتعزيز نفوذها على حساب الدم السوداني.
مستقبل غامض.. ومسؤولية عربية ودولية
بينما يراقب المجتمع الدولي الوضع في السودان بقلق، يبقى صوت الشعوب العربية خافتًا. فالدول العربية التي تربطها علاقات تاريخية وأمنية وثيقة بالسودان لم تقم بجهود فعلية لوقف هذه الكارثة الإنسانية. وإذا كان هناك تحرك فهو تحرك بطيء ومحدود، فلا جهد عربي حقيقي لحل النزاع، ولا وساطة تُلبي تطلعات السودانيين.
ومع مرور كل يوم، يزداد السؤال إلحاحاً: هل يمكن أن نجد نهاية لهذا الصراع؟ أم أن السودان سيظل ساحة مفتوحة لصراع المصالح والمطامع؟ الأيام ستجيب، ولكن من المؤكد أن الشعب السوداني يحتاج إلى أصوات داعمة تتجاوز شعارات النوايا الطيبة وتقدم مبادرات حقيقية.
وطن يهزمه ابناءه
السودان، وطن يسكن ضمائر أهله ويفيض بكنوز الأرض وأسرارها، لكنه وطنٌ أرهقته خيانات أبنائه المتوالية. بلدٌ طواه جرح التاريخ طويلاً، فظل متماسكاً كالنخيل، شامخاً على ضفاف النيل العظيم، لكنه لم يسلم من أيدي العابثين الذين لطخوا ترابه بمآربهم وأحلامهم الصغيرة. وطنٌ ينادي أبناءه ليبنوا، فيرد عليه بعضهم بآلة الحرب والعنف، متناسين قدسية الأرض التي أنجبتهم.
أبناء السودان، الذين كان يُنتظر منهم أن يكونوا حراس ترابه وناشري الأمل فيه، أصبح بعضهم أدوات لصراعات عبثية، تُسقط هيبة الأرض وتفرّق الصفوف. وكيف لا يخيب الأمل حين يبيع البعض قيم الوفاء لصالح مطامع زائلة، تاركين خلفهم شعباً متألماً بين الحصار والفقر والنزوح؟ السودان، رغم كثرة الجراح، يبقى وفياً لأبنائه، ينتظر منهم العودة إلى حضنه، لعل يوماً يشرق فيه السلام على واديه الخصيب وأهله الطيبين.
quincysjones@hotmail.com