مقدمة الترجمة:

كانت ثورة الهند عام 1857، أو ما عُرفت بثورة السيبوي (نسبة إلى جنود السيبوي الذين أشعلوا شرارة الثورة وشكّلوا جزءا من جيش شركة الهند الشرقية البريطانية، وهي مؤسسة استعمارية بريطانية حكمت معظم الهند في ذلك الوقت)، إحدى أكبر الانتفاضات ضد الحكم البريطاني في الهند، ويعدها كثيرون أول حرب استقلال خاضتها البلاد وأول تجلٍّ للمشاعر الوطنية الهندية.

يُعتَقد أن الثورة نشبت بالأساس بسبب اعتراض الهنود من المسلمين والهندوس على السواء على أوامر الجيش البريطاني التي كانت تُجبرهم على التعامل مع شحوم الخنازير والبقر (المحرمة عند كلٍّ من المسلمين والهندوس على الترتيب)، لكنها توسعت لتشمل الاحتجاج على كل المظالم التي تورطت فيها شركة الهند البريطانية.

اتخذت الثورة من بهادر شاه الثاني، آخر أباطرة مغول الهند المسلمين، زعيما لها. ولكن في نهاية المطاف، تمكنت القوات البريطانية من سحق الثورة بحلول عام 1859 بطريقة انتقامية وحشية، شملت إعدام العديد من أبناء أسرة بهادر شاه، فيما تولت الحكومة البريطانية السيطرة الكاملة على المنطقة بدلا من شركة الهند البريطانية. يشرح بلال أحمد في مقاله في "ذا ديبلومات" أوجه التشابه بين الطريقة التي سحقت بها بريطانيا الثورة في الهند، وبين ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي في غزة اليوم، خاصة على صعيد الطريقة التي شوهت بها سمعة المقاومة الهندية (تماما كما يفعل الاحتلال الإسرائيلي مع المقاومة الفلسطينية اليوم) وكيفية تمرير دعوات الإبادة الجماعية لشعب كامل استنادا إلى معلومات منقوصة ودعايات كاذبة صُممت أساسا لخدمة أغراض المستعمرين ورغائبهم.

كانت الثورة التي خاضها جنود السيبوي لتحرير دلهي مؤقتا من الحكم البريطاني في مايو/أيار 1857 بمنزلة فشل عسكري واستخباراتي غير مسبوق للبريطانيين. (الصورة: مواقع التواصل) نص الترجمة:

ربما قد يراودك تساؤل عن وجه التشابه بين الانتقام البريطاني بعد استعادة دلهي من المتمردين (المقاومين)* عام 1857 والهجوم العسكري العنيف الذي تشنه إسرائيل على قطاع غزة اليوم، فرغم فارق الزمن الذي يفصل بين الحادثتين ويصل إلى 165 عاما، فإن هناك أوجه تشابه واضحة للغاية لا يمكن التغاضي عنها.

كانت الثورة التي خاضها جنود السيبوي لتحرير دلهي مؤقتا من الحكم البريطاني في مايو/أيار 1857 بمنزلة فشل عسكري واستخباراتي غير مسبوق للبريطانيين. اندلعت الثورة من مدينة ميروت، وسرعان ما أثارت اهتمام العديد من الممالك الكبيرة والصغيرة في شمال الهند وقررتْ الانضمام إلى الثورة. ومع ذلك، لم تكن هذه الهجمات غير مُبررة بأي حال من الأحوال كما ادعى العديد من المسؤولين البريطانيين في ذلك الوقت، وصبوا جُل اهتمامهم في أن تتصدر هذه الكذبة العالم.

لا يمكن فصل رد الفعل الفلسطيني في عملية طوفان الأقصى عن الأسباب والظروف التي أججت اندلاعه، وتلك الأسباب تستند في الحقيقة إلى تاريخ طويل وكثيف للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. (الصورة: فيديو القسام)

خلال 100 عام من حكمهم للهند، لم يتورع البريطانيون عن وسيلة لانتهاك كل ما يعتز به الهنود ويقدسونه. ولهذا جاءت الثورة بمنزلة رد فعل عنيف، لكنه مفهوم بعد قرن من الاستعباد والإذلال وتجريد السكان من إنسانيتهم. وإحدى الحوادث التي فاقمت الوضع هو ما حدث في مدينة كانبور خلال الثورة الهندية حينما قُتل نحو 150 بريطانيا، من بينهم مدنيون ونساء وأطفال. وفي بحثه الذي يحمل عنوان "الشيطان يُطلَق على الأرض"، أشار المؤرخ الهندي رودرانجشو موخيرجي إلى أن جنود السيبوي عرضوا في البداية تأمين ممر آمن للبريطانيين المُحتجزين في مدينة كانبور، لكن بعد تحميلهم على متن قوارب في ميناء قريب، تعرضوا لإطلاق نار عشوائي وهو ما عقَّد الأمور أكثر.

 

لكن دعونا ننتقل إلى تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حينما استيقظ العالم على سلسلة من الأخبار الصادمة بسيطرة حركة حماس ولو مؤقتا على بعض المناطق القريبة من الحدود بين غزة وإسرائيل. حملت هذه الهجمات، بالإضافة إلى طابعها الفريد وغير المسبوق، أهمية رمزية كبيرة (تفوق الأهمية المجردة للأحداث ذاتها). فقد تمكنت حماس من السيطرة على نقاط التفتيش والمستوطنات، بل واستطاعت حتى تجريف أجزاء من جدار الفصل العنصري، ورمزتْ هذه الأفعال كلها إلى الاحتجاج ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي استمر لنصف قرن.

 

كان هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول عنيفا بلا شك، ولكنه على غرار ثورة 1857، لم يكن خاليا من الاستفزاز. وبالتالي لا يمكن فصل رد الفعل الفلسطيني عن الأسباب والظروف التي أجَّجت اندلاعه، وتلك الأسباب تستند في الحقيقة إلى تاريخ طويل وكثيف للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والعنف الحكومي على الأراضي الفلسطينية. فخلال نصف قرن، لم تصفُ حياة الفلسطينيين من شوائب الكدر، لأن كل ما يعتزون به بداية من المسجد الأقصى وصولا إلى أشجار الزيتون شهد تدنيسا متكررا على أيدي القوات الإسرائيلية والمستوطنين.

تزييف الحقائق

بعد تحرير بعض المناطق من قبضة البريطانيين، سرعان ما فقد جيش السيبوي زخمه بالتزامن مع وصول تعزيزات من البنجاب التي قررت طرد متمردي (مقاومي)* السيبوي من دلهي. حينذاك، لم تكن قصة مدينة كانبور قد انتشرت من الهند إلى أوروبا فحسب، بل أُضيفت إليها الكثير من المبالغات. وفي خضم الفوضى التي تكتنف الأحداث، اكفهرّت الأجواء وبدأت قصص لا أساس لها من الصحة عن تعذيب الأطفال والاغتصاب الجماعي للنساء البريطانيات في الانتشار، وأدت هذه الروايات دورا كبيرا في تشكيل الرأي العام في إنجلترا لصالح الاستخدام المفرِط للقوة ضد السكان الأصليين الذين ظهروا للغرب بمظهر "الهمجيين".

 

وعندما حان الوقت لمعاقبة السيبوي، لجأ الجنود البريطانيون ووسائل الإعلام إلى هذه الشائعات لا لتبرير الاستخدام المُفرط للقوة وفرض انتقام واسع النطاق فحسب، بل وللمطالبة أيضا بسحق دلهي بالكامل. فعلى سبيل المثال، دعا كُتّاب بريطانيون مرارا وتكرارا في صحيفة "لاهور كرونيكل" (Lahore Chronicle) إلى إعدام سلطان الهند وتسوية مدينته بالأرض، فيما طالب أحد القراء بتجنب "المسجد الجامع" خوفا من إهانة المسلمين وإثارة غضبهم، في حين على الجانب الآخر ظهرت اقتراحات لتحويل المسجد الجامع إلى كنيسة.

في عالم تترصد فيه الحرب في كل مكان، ضربت هذه الكتابات والاقتراحات والمطالب على وتر حساس لدى القوات البريطانية في دلهي، وأثارت استجابة قوية بين الجنود البريطانيين. حتى بعد عمليات النهب والقتل الجماعي في دلهي، استمرت المطالب بضرورة إلحاق الويلات بالمدينة وسحقها بالكامل. وبذلك، برر الاستعمار البريطاني القتل الجماعي الذي بلغ مستوى من الإبادة الجماعية على أساس أكاذيب مُلفقة.

 

على المنوال ذاته، روَّج الإعلام الغربي بعد وقت قصير من هجوم حماس على إسرائيل شائعات مبالغا فيها ولا أساس لها من الصحة، أشهرها قصة الأربعين طفلا الذين قُطعت رؤوسهم، التي اختلقها جندي احتياط إسرائيلي في مقابلة أجرتها معه المراسلة نيكول زيديك. ومع ذلك، سرعان ما ردد رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأميركي ادعاءات مماثلة دون التأكد من صحتها، مما أثار موجة غضب شديدة في جميع أنحاء العالم. لكن بعد يومين تقريبا، تراجعت زيديك عن التقرير لعدم وجود أي دليل يؤكد قطع الرؤوس. ولكن بحلول ذلك الوقت، كانت القصة قد انتشرت على نطاق واسع في وسائل الإعلام الدولية وساهمت في تشكيل رأي عام لصالح اتخاذ إجراءات انتقامية مهولة ومروّعة ضد قطاع غزة.

 

مطالب بالإبادة الجماعية  ما تقوم به إسرائيل في غزة جرائم حرب ترقى إلى الإبادة الجماعية. (الصورة: الفرنسية)

ظهرتْ مطالب من مختلف الجهات تدعو إلى تدمير قطاع غزة بالكامل وتسويته بالأرض، وسرعان ما حظيت هذه المطالب بدعم من الجيش الإسرائيلي، وكثيرا ما اتخذت منهجا مُشبعا بطابع ديني وعنصري يحاول تصوير الإسرائيليين على أنهم "أبناء النور"، بينما الفلسطينيون هم "أبناء الظلام". وشملت العمليات الإسرائيلية على قطاع غزة حتى الآن قصف المستشفيات، والمباني السكنية، والجامعات، ومخيمات اللاجئين، والمعابر الحدودية، بالإضافة إلى قطع إمدادات المياه والغاز والكهرباء عن القطاع. ونتيجة للقصف الإسرائيلي المستمر على غزة، قُتل -حتى وقت كتابة هذا التقرير- أكثر من 10 آلاف شخص (أصبحوا الآن أكثر من 11 ألفا)* نسبة كبيرة منهم من الأطفال، وهو ما يوضح مقدار الأهوال التي تقدر الحرب على الإتيان بها. ومع ذلك، لا تزال هناك مطالب متواصلة بتدمير غزة بالكامل.

 

إن هذه العمليات التي -إذا اتبعنا حتى أضيق تعريف لها- سترقى بالتأكيد إلى مستوى جرائم الحرب، تُبررها ردود الفعل الدولية حاليا على أساس مزاعم لا أساس لها من الصحة تدَّعي بأن المسلحين (المقاومين)* الفلسطينيين يقطِّعون رؤوس الأطفال ويغتصبون النساء، فضلا عن أن المبالغة التي أُضيفتْ إلى السرد المحيط بهجوم حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول ساعدت في خلق صورة وحشية لجميع الفلسطينيين، الأمر الذي يجعل قصف منازلهم ومدارسهم الآن يبدو أقل مأساوية.

 

إذا كان هناك شيء واحد تؤكده المقارنة بين الانتقام البريطاني في 1857 والتدابير الانتقامية لإسرائيل في 2023 فهو حقيقة أن قواعد اللعبة الاستعمارية ظلت ثابتة دون تغيير تقريبا. فمن جهة، ثمة رفض للاعتراف بالعنف الاستعماري غير المباشر، الذي يتجلى في شكل قوانين تمييزية، وجدران الفصل العنصرية، فضلا عن تهيئة الأرض لتصبح مرتعا للمستوطنات، ونقاط التفتيش. ومن جهة أخرى، يُبَرر العنف الاستعماري المباشر حاليا على قطاع غزة عن طريق تجريد السكان الأصليين من إنسانيتهم وخلق صورة "الحيوانات البشرية"، التي لا يمكن ترويضها أو كبح جماحها إلا بعنف هائل وعشوائي.

———————————————————————-

هذا المقال مترجم عن The Diplomat ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: البریطانی فی قطاع غزة لا یمکن

إقرأ أيضاً:

مقاطعة الإعلام الحربي كأداة مقاومة ضد آلة الدعاية العسكرية

مع كل نشرة أخبار — أصبحت مقاومة الحرب تبدأ بزرّ “كتم الصوت”. لم نعد بحاجة إلى جيوشٍ ولا خنادق، فالمعارك الآن تُخاض على الريموت كنترول، والهزيمة تُقاس بعدد مرات المشاهدة.
نحن جيلٌ يتصفّح الجحيم بين الإعلانات، ويستلهم ضميره من فواصل درامية مدفوعة.

لم نعد بحاجة إلى السلاح أو الجنود لنخوض الحروب، بل أصبحت المعركة تُخاض اليوم عبر شاشات التلفزيون، حيث تَتَحَكَّم التقارير الإخبارية في مصائرنا أكثر من أي معركة حقيقية. أصبحنا نعيش في عصرٍ يتخلله مشهد العنف والتدمير الذي يُعرض بين فواصل الإعلانات، في وقتٍ أصبح فيه الموت مجرد حدث يومي تُبث تفاصيله دون توقّف، وكأنما نحن جزء من مسرحيةٍ درامية لا تنتهي.

في هذا العصر، ماذا يعني أن تقاطع نشرة الأخبار؟ ببساطة، يعني أنك ترفض الانغماس في الحقيقة التي تُصاغ وفقًا لاحتياجات السلطة، وتصر على عدم أن تكون جزءًا من السرديات التي تُستخدم لإعادة تشكيل الواقع وفقًا لمصالح القوى المسيطرة.

إن مقاطعة الأخبار التي تُروّج لحكايات الصراع لا تعني إنكار الواقع، بل هي محاولة واعية لتحرير الوعي من عبودية الدعاية التي تُخفي وراءها مآسي الإنسان وتُهمّش معاناته. هذا الفعل لا يُعدّ هروبًا من الواقع، بل هو نوع من العصيان المدني الهادئ، الذي يهدف إلى كسر دائرة الرأي العام المُستعبَدة بتكرار صور العنف والدمار. غير أن هذا التأمّل لا يأتي من فراغ، بل ينبثق من وعيٍ جمعيّ تحاول المؤسسات الإعلامية الموجّهة أن تُجهضه يوميًا.

الإعلام هنا لم يعد ناقلًا للواقع، بل مُهندسًا له، خادمًا مطيعًا في بلاط السلطات العسكرية والمليشياوية، لا ينقل الأخبار بقدر ما يُعيد تشكيل الإدراك العام، وفق خطة متقنة لغسيل الدماغ الجمعي. وكأنّ من يدير هذه الماكينة الإعلامية قد قرأ بتمعّن أطروحة نعوم تشومسكي عن “تصنيع القبول”، ثم أساء استخدامها على نحو تراجيدي.

أما أولئك “الخبراء الاستراتيجيون” الذين يُستدعون كل مساء لتحليل “الموقف الميداني”، فهم في الحقيقة تجسيدٌ حيٌّ لعبثية نخبةٍ شاخت دون أن تعي، وتكلّست دون أن تتقاعد.

خبراء بلا حس، لا يُحسّون بكهولتهم، لكنهم مصرّون على أداء دور الرُسل الزائفين الذين يحملون رسائل الخراب، وكأنهم يسعون إلى تحويل معاناة الناس إلى لوغاريتمات عسكرية. أولئك الذين يمتلكون القدرة على التفسير، لا على الفعل، يُكرّسون خطابًا يُحيل المعاناة اليومية إلى مجرد معادلات انتصار أو خسارة، كأنّ حياة البشر أصبحت نردًا مسعورًا في يد نخبة مستبدّة.

وهم لا يطلبون منّا شيئًا أقلّ من المشاركة في هذه الحرب الرمزية. بل يطلبون منّا أن نكون جنودًا في جيش التأويل، حتى لو كنّا على بُعد آلاف الأميال. يُطالبوننا بأن نحمل بنادق وهمية من وراء الشاشات، ونقف صفًّا في معركة لا تُشبهنا، ضد عدوٍّ لم نُحدّده نحن، ولصالح سلطةٍ لم نخترها.

إنهم لا يطلبون تأييدًا، بل ولاءً أعمى، يجعل من صمتنا جريمة، ومن أسئلتنا خيانة، ومن تعاطفنا مع الضحية دليلًا على الانحياز غير المقبول.
ولأجل ذلك، تُستخدم أدوات السادية الإعلامية دون وجل: مقاطع الفيديو التي تُوثّق الذبح، والتنكيل، وحرق الناس و هم احياء، لا تُعرَض من أجل إيقاظ الضمير، بل من أجل تخديره. لا لشيء إلا للتطبيع مع الموت، والتعوّد على القبح، وفقدان القدرة الأخلاقية على الارتجاف من الألم الإنساني.

إنها أدوات غسيل دماغ ممنهج، تُراد لنا بها أن نُطبّع مع الرعب، أن نصبح شهودًا متواطئين في مسرحية دموية لا تنتهي. وكما يقول هربرت ماركوز: “الحرية التي تُمارَس في ظل هيمنة الصور الموجّهة ليست حرية، بل امتداد لنظام القمع في شكل جديد”. بل إنهم يُحفّزوننا — بإلحاح عاطفي ولغة مشحونة — أن نكون جزءًا من المعركة، حتى لو على البعد.

إنهم لا يريدون فقط أن نتابع أخبارهم، بل أن نتبنّى رؤيتهم للعالم، أن نحمل أعلامهم، ونغنّي أهازيجهم، ونلعن من يرفض هذا الانتماء القسري. إنهم، ببساطة، لا يطلبون وعينا، بل استلابه.

وعلى صعيد آخر، فإنّ هذه المقاطعة تُعيد إلى الجمهور السيطرة على المعلومات التي يتلقّاها، فتفتح المجال للتفكير النقدي وإعادة قراءة الأحداث من منظورٍ مختلف، بعيدًا عن التأطير الرسمي الذي يخدم مصالح الأطراف المتصارعة. إنها دعوة لإعادة صياغة رواية الحرب بحيث لا تبقى مجرد أرقام وإحصاءات تُبثّها محطات الأخبار، بل تتحوّل إلى قصة إنسانية تُبرز آلام الضحايا وتدعو إلى السلام والحوار.

إنّ في وجه هذا القمع الإعلامي والجماهيري، قد يكون صمت الفرد المقاوم، وامتناعه عن الاشتراك في ولائم الصور، أقرب إلى فعلٍ ثوريّ من ألف هتاف. كما قال محجوب شريف: “أخوي في الركن ساكت، ساكت… لكن الكلام فوقو بليغ”، فحتى السكوت يمكن أن يحمل صرخة كاملة حين يُصبح الوعي متيقظًا.

وفي ظل هذا الجنون الجماعي، تبدو كلمات الخاتم عدلان عن “الاستقلال الثاني للوعي” مُلحّة أكثر من أي وقت مضى. فمقاطعة الأخبار هنا ليست انسحابًا سلبيًا، بل بداية لانعتاق داخلي من منظومة إعلامية تُحوّل الإنسان إلى خلية ضمن معادلة ربح وخسارة. هو مقاومة ضد عقلية الحرب، وضد نظام يُعيد إنتاج الدمار باسم الواقعية السياسية.

في النهاية، تُعدّ مقاطعة أخبار الحرب في السودان فعل مقاومة، ليس فقط ضد محتوى الإعلام القمعي، بل ضد النظام الذي يُفضي إلى تكرار مآسي الماضي. هو تحدٍّ يُعبّر عن إرادة الشعوب في تحرير نفسها من دوّامة الدمار والإعلام المستعبِد، ورغبة في بناء مستقبل يُستمدّ من قيم الإنسانية والتضامن، بعيدًا عن أي محاولة لتزييف الحقيقة أو استغلال الألم لتحقيق مكاسب سياسية.

بهذا الصمت الثوري، يمكن أن يُكتب فصلٌ جديد في تاريخ المقاومة، فصلٌ تُعيد فيه الشعوب تعريف مصيرها بيدها، دون أن تُسكنها شاشات الحرب التي لا تُظهر سوى عَدائِها المستمر لكل مظاهر الحياة.

zoolsaay@yahoo.com

   

مقالات مشابهة

  • توقيت العشاء المثالي لعلاج مقاومة الأنسولين
  • أفضل وقت لتناول العشاء لعلاج مقاومة الأنسولين
  • داليا عبدالرحيم تكتب: "‏حماس".. عن أي مقاومة تتحدثون
  • مقاطعة الإعلام الحربي كأداة مقاومة ضد آلة الدعاية العسكرية
  • 2.5 مليون مسافر و16.7 ألف رحلة عبر مطارات سلطنة عمان خلال شهرين
  • وطنٌ مُعلَّقٌ على حافَّةِ النِّسيانِ
  • «أبو عبيدة»: نصف المحتجزين الأحياء في مناطق طلب الجيش الإسرائيلي إخلاءها
  • قائد الثورة يؤكد أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يتجلى في الممارسات الإجرامية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني
  • عاجل | السيد القائد: العدو الإسرائيلي استأنف الإجرام منذ أكثر من نصف شهر بذات الوحشية والعدوانية التي كان عليها لمدة 15 شهرا
  • المعارضة الإسرائيلية: حكومة نتنياهو ستسقط من تلقاء نفسها