«المقاومة والنضال» شعار السينما الفلسطينية على مر السنين
تاريخ النشر: 16th, November 2023 GMT
رصدت السينما الفلسطينية إرث الصراع العربى الإسرائيلى منذ نشأته، واستطاعت رغم كل العوائق والحصار أن تسجل مشاركات مهمة عالميًا، وتؤكد قوة حضور السينما الفلسطينية فى المشهد الإبداعى والنضالى الفلسطينى، فقد تمكنت السينما الفلسطينية لاحقا ولو بتجارب فردية أن تناضل لإثبات وجودها، كما يناضل الشعب الفلسطينى لإثبات حضوره، وظهر ذلك جليًا فى مشاركة العديد من المخرجين الفلسطينيين فى المهرجانات الدولية.
وعكست نجاحات الأفلام الفلسطينية فى المهرجانات العالمية، صورة أخرى للفلسطينيين فلا الحصار ولا الدمار حال دون اهتمام السينمائيين بعرض القضايا الخاصة بالصراع، ولعل فى هذه الأيام العصيبة والمجازر الانسانية التى يعيشها أبناء غزة، كشفت الملايين من القصص الانسانية المريرة التى سيرصدها السينمائيون خلال الأيام المقبلة.
ونستطرد فى هذا التقرير أهم الافلام الفلسطينية وصناعها الذين تخطوا حدود المحلية ليصلوا إلى العالمية لتصبح افلامهم لسان حال النضال الفلسطينى امام العالم فى التعبير عن واقعهم المأسوى الذى يمرون به منذ الصراع العربى الاسرائيلى.
كان فيلم المخرج قاسم حول «عائد إلى حيفا» عن رواية غسان كنفاني، أول فيلم روائى تنتجه الثورة الفلسطينية-، حيث كانت الأعمال السينمائية الفلسطينية مباشرة فى خطابها، فى التعبير عن انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 وبدايات الكفاح المسلح، وتأسس وقتها «وحدة أفلام فتح» التى أشرف عليها المخرج مصطفى أبو على، وكان مجمل التصوير من المعسكرات لنقل الكفاح والحراك الثورى.
وكان المخرج ميشيل خليفى أول من أخرج السينما الفلسطينية من خانة الثورية بالمعنى الذى كان سائدا بالستينيات والسبعينيات من القرن الماضى وأسس لسينما جديدة تغادر المعسكرات وخنادق المواجهة المسلحة لتدخل منازل الأسر الفلسطينية تحت الاحتلال ولتطرح القضية الفلسطينية سواء عبر افلامه «الذاكرة الخصبة» و«عرس الجليل» من منظور مختلف وتقنيات مختلفة.
ويعد فيلم «عُرس الجليل» الذى قدمه المخرج ميشيل خليفى، عام 1987، ضمن أهم الأعمال الروائية التى قدمت عن المقاومة، وهو ثانى أعمال المخرج ميشيل خليفى، المقيم فى بلجيكا، بعد فيلمه الوثائقى عن فلسطين أيضاً، وأثبت الفيلم نجاحه فى المهرجانات والمحافل الدولية، وتدور أحداثه فى مدينة الجليل بالأرض المحتلة، حيث يرغب كبير القرية بتزويج ابنه فى عُرس تتحدث عنه الناس، وبما أن التجمعات الكبيرة مرفوضة، يضطر إلى دعوة الحاكم العسكرى الإسرائيلى للعرس، وتتباين ردود الأفعال داخل القرية على هذا القرار،ومن يقاطع العُرس، ومن ينوون استغلال قدوم الإسرائيليين لتدبير هجوم عليهم، وقبل نهاية العُرس يسرقون حصانا عربيا يعجبهم، ويضل الحصان طريقه وسط حقل ألغام، ويتعاون الجميع لإنقاذه، لكن فى نهاية الأمر يودعون المحتلين بوابل من الحجارة، ليعبر الفيلم عن أهمية ثورة الحجارة.
وعبر الأجيال، ظهرت موجة سينمائية جديدة تمكنت من تجاوز المعوقات العديدة، وخلقت مشهدا مختلفا، وتواصلا مع المشاهد الغربى والعربى ونقلت الكثير من الحقائق والأحداث الساخنة سواء فى المخيمات أو الداخل الفلسطينى بلغة مميزة وتقنيات سينمائية عالية ونشطة خاصة السينما التسجيلية.
من ابرز هؤلاء المخرجين «إيليا سليمان» الذى حققت افلامه ردود فعل قوية عالميا، ومنها «يد إلهية»، و»سجل اختفاء» وغيرها.
إيليا المولود فى الناصرة عام 1960 اعتقل فى عمر الـ17 عندما كان فى تل أبيب وطلب منه الاعتراف بعضويته فى منظمة التحرير الفلسطينية، رفض إيليا ذلك، وبعد وقت قصير هاجر إلى لندن ثم إلى فرنسا، حيث أقام عاما عاد بعده إلى فلسطين المحتلة.
وبعد أن أقام فى الناصرة سنوات عدة أبدى فيها اهتماما بالسينما هاجر إلى نيويورك عام 1982 حيث أقام لمدة 12 عاما.
صنع أول أفلامه الروائية الطويلة «سجل اختفاء» وحصل خلاله على جائزة العمل الأول من مهرجان فينيسا، 1996، لتصبح أول جائزة من مهرجان كبير يحصل عليها فيلم فلسطينى، وبعد 5 سنوات قدم فيلم «يد إلهية»، وحصل خلاله على جائزة لجنة التحكيم وجائزة لجنة النقاد.
وهو الفيلم الذى قدمه عام 2001، ويحكى قصة حب بين فتى فلسطينى من سكان أراضى فلسطين التى احتلت عام 1948 وفتاة فلسطينية من سكان الضفة، يلتقيان فى سيارة فارهة على حاجز إسرائيلى (نقطة تفتيش)، ويراقبان ما يحدث خلف حواجز الاحتلال الإسرائيلية من قهر للفلسطينيين وإساءة معاملة.
يطيّر من نافذة سقف سيارته بالونا عليه صورة ياسر عرفات، يرتفع عرفات على البالون ويستطيع الإفلات من حاجز المحتل وطلقات الجنود، ويزور عرفات المرسوم على البالون الأحمر القدس بكنائسها ومساجدها ويستقر على قبة مسجد الحرم القدسى.
أيضا من ضمن أهم مخرجي فلسطين الذى اثبت انه مخرج عالمى قادر على تخطى الحدود المخرج، هانى أبو أسعد، ابن الناصرة المولود عام 1961، هاجر إلى هولندا وتلقى من الجوائز السينمائية العالمية بقدر ما تلقى من الهجوم بسبب فيلمه «الجنة الآن» الذى تطرق إلى الليلتين الأخيرتين من حياة شابين فلسطينيين قبل تنفيذ عملية استشهادية ينويان القيام بها، واتهم من قبل الإعلام الغربى بمناصرة العمليات الاستشهادية.
حصل فيلم «الجنة الآن» للمخرج هانى أبو أسعد على جائزة «ولدن جلوب» عام 2006، كما شارك فى مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى ووصل إلى التصفيات النهائية.
وتدور احداثه حول الصديقين الفلسطينيين سعيد وخالد اللذين يعيشان حياة صعبة فى نابلس ويعملان جنبا إلى جنب فى ورشة لإصلاح السيارات، حيث كان من الصعب جدا الحصول على الوظائف.
تشمل تلك الحياة الصعبة الشعور وكأنهما سجينان فى الضفة الغربية بسبب عدم السماح لهما بالتنقل والسفر، يدركان أن كل مشاكلهما تعود للقمع الذى يمارسه الإسرائيليون، فيتطوعان فى مجموعة مقاومة فلسطينية لتنفيذ مهمة فى تل أبيب على أن تكون الخطة هى تفجير قنبلة، وبعد وهلة يتم تفجير قنبلة أخرى فى الموقع نفسه، وكان عليهما أن يعبرا بشكل غير قانونى إلى إسرائيل لتنفيذ المهمة، ويفكرا فى الأمر، إنهما لا يخافان الموت، لأن حياتهما الصعبة تشبه الموت بالفعل.
ايضا ضمن أهم افلامه، «عمر»، الذى عرض فى مهرجان كان السينمائى ضمن فعالية “نظرة ما، ويعد الفيلم الأول من نوعه الذى ينجز بطاقم فلسطينى، وإنتاج فلسطينى كامل، ويرصد نموذجا آخر لشاب فلسطينى يدعى عمر ويعمل خبازا، يحب فتاة فلسطينية على الجانب الآخر من الجدار الفاصل، ويحترف تفادى الرصاص الذى يطلقه جنود الاحتلال فيما يتسلق الجدار لرؤية الفتاة، وبينما يخططان بحماس للزواج تنحرف الخطط عن مسارها عقب اعتقاله بسبب تورطه فى قتل أحد جنود الاحتلال.
وفى 2002 صنع المخرج الشاب هانى أبو أسعد أول أفلامه «عُرس رنا» من إنتاج وزارة الثقافة الفلسطينية، وحقق نجاحات مرموقة فى مهرجانات عالمية وعربية.
ويأتى المخرج رشيد مشهراوى، ليقدم مجموعة من اهم الاعمال السينمائية التى تعبر عن الواقع الفلسطينى بشكل واقعى مغاير، فهو أول سينمائى فلسطينى يصنع أفلاما فى الأرض المحتلة، حيث قدم افلام «جواز سفر» اول افلامه القصيرة فى سن الـ24، وبعدها قدم «الملجأ» و«دار ودور» و»أيام طويلة فى غزة».
أنشأ رشيد البنية الأساسية للسينما الفلسطينية من خلال شركة أيلول للإنتاج السينمائى، وقدم من خلالها فيلمه الروائى الأول «حتى إشعار آخر» 1993، وتدور احداثه على مدار يوم واحد فى غزة، ويرصد معاناة أهلها الممتدة تحت وطأة الاحتلال،حقق الفيلم نجاحات كبيرة فى المهرجانات العالمية والعربية، ما مهد الطريق إلى فيلمه التالى «حيفا» (1996) الذى شارك فى مسابقة مهرجان «كان» باسم فلسطين لأول مرة، كما حصل على عدد كبير من الجوائز والمشاركات الأخرى، كما أنشأ مركزا للإنتاج السينمائى فى رام الله.
وهو مؤسس مهرجان سينما الطفل الذى أنتج عددا كبيرا من الأفلام، ثم قدم فى عام 2008 فيلم «عيد ميلاد ليلى» الذى فاز بأكثر من عشرين جائزة عالمية.
وفى عام 2013 أنجز فيلمه الروائى الطويل السادس بعنوان «فلسطين ستيريو» الذى افتتح فى مهرجان تورنتو للعام نفسه، وقدم الفيلم الوثائقى الطويل «رسائل من اليرموك» 2014 عن حصار مخيم اليرموك فى سوريا.
أحدث أعماله هو فيلم «يوميات شارع جبرائيل» الذى صنعه مضطرا بعد أن منعه الإغلاق العام بسبب كورونا من تصوير فيلمه الروائى الجديد فى باريس، الذى يربط فيه بين الإغلاق العام وحظر التجول الذى يفرضه الاحتلال على الفلسطينيين بشكل شبه دائم.
أيضا ضمن نجوم فلسطين المميزة المخرج والممثل محمد بكرى، الذى قدم رواية «أبى سعيد المتشائل» لإميل حبيبى فى صورة مسرحية لسنوات طويلة داخل فلسطين وخارجها، وهو مطارد بأبيات درويش المتسائلة دائمًا عن حب البلاد الأسيرة.
ومن اعماله التى تسببت فى أزمات بينه وبين الكيان المحتل فيلمه «جنين» حين استفزته مذبحة جنين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلى عام 2000، فقدمها فى الفيلم بشكل جريء، ولكن إسرائيل تصدت للفيلم وحاربته على مدى أكثر من 20 عاما، وأصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا حكما بمنع عرضه، ورغم ذلك عرض الفيلم على مدار العالم.
المخرجة دارين سلام ايضا تخطت الحدود بتقديم 5 أفلام قصيرة، وهى ممثلة ومخرجة، حصلت على درجة البكالوريوس فى التصميم الجرافيكى من جامعة العلوم التطبيقية عام 2009، ونالت درجة الماجستير عام 2012 فى الفنون السينمائية من معهد البحر الأحمر للفنون.
وفى عام 2021 أنجزت فيلمها «فرحة»، من خلال لفتاة الفلسطينية «فرحة» التى تطمح لاستكمال دراستها فى الخارج، لكن النكبة تؤجل كل مشروعات الحياة، فيحبسها والدها خوفا عليها. وعندما عرض الفيلم على منصة نتفليكس، هاجمه وزراء فى حكومة الاحتلال، وتم شن حملات لخفض تقييمه على مواقع النقد المتخصص فى العالم، وقوبلت بحملات لمناصرة الفيلم على مواقع التواصل الاجتماعى.
ايضا المخرجة مى المصرى قدمت فى 2001، فيلم «أحلام المنفى» وحقق نجاحا كبيرا بعرضه فى كندا حيث رصد أحلام ومخاوف الأطفال فى المخيمات، وكان من الأعمال التى فتحت عيون الكثيرين فى الغرب على أشياء لا يعرفونها بشأن الاحتلال الإسرائيلى، فهو ليس مجرد سينما وثائقية ولكنه يركز على القصص الإنسانية.
من أبرز الأفلام التى رصدت بدايات التصعيد فى الضفة الغربية والأراضى المحتلة عقب الانقلاب الذى قامت به حركة «حماس» فى 2007، فيلم «5 كاميرات محطمة» الذى صنعه كل من الفلسطينى عماد برناط والإسرائيلى جاى دافيدى فى 2011، عندما كان هناك بعض الآمال والإمكانيات للتعاون بين الطرفين.
والفيلم يرصد جزءًا من حياة عماد الذى يهوى التصوير الفوتوغرافى، والذى قام بشراء كاميرا لتصوير مولد ابنه فى 2005، ولكن سرعان ما تحولت الكاميرا إلى أداة لرصد الانتهاكات والاعتداءات التى يتعرض لها الفلسطينيون، وعلى مدار السنوات التالية تحطمت 5 كاميرات قام عماد بشرائها فى خضم أحداث العنف المتصاعد.
ايضا فيلم «غزة مونامور» للأخوين التوأم عرب وطرزان ناصر، وهو ثانى أعمالهما الطويلة بعد فيلمهما «ديجارديه» الذى شارك فى مسابقة مهرجان «كان»، ويرصد الحياة داخل صالون حلاقة فى غزة.
يروى «غزة مونامور» الذى يشارك فى بطولته هيام عباس وسليم ضو، قصة حب بين صياد عجوز وبائعة تخطت منتصف العمر، على خلفية من الواقع السياسى الصعب الذى يعيشه سكان المدينة بين الحصار الإسرائيلى من ناحية وتطرف «حماس» من ناحية ثانية.
وميزة أفلام الأخوين ناصر أنهما يرويان قصصا بسيطة، لا تتناول الحرب والعنف بشكل مباشر، ولكنها ترصد نتيجتها على حياة الناس اليومية، وهما مثل كثير من أهل غزة، قادران على التفاؤل والضحك فى أحلك الظروف، ومن ثم تسرى فى أعمالهما نبرة كوميدية شديدة اللطف.
حصل «غزة مونامور» على عشرات الجوائز العالمية ومثل فلسطين فى الأوسكار، وفوق ذلك تم توزيعه فى بلاد كثيرة، وهو من الأعمال الفلسطينية القليلة التى عرضت فى دور العرض العربية فى مصر ولبنان.
ومن هنا اصبحت الكاميرا بمرور الوقت جنبا إلى جنب البندقية، وأضحت سلاح مقاومة حقيقيا فى مواجهة الاحتلال بعيدا عن منطق التسلية والتجارية.
وما زالت الكاميرا تسجل التاريخ وتوثق الجرائم البشعة التى يقوم بها الاحتلال الصهيونى.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: السينما الفلسطينية الصراع العربي الإسرائيلي الأفلام الفلسطينية الثورة الفلسطينية
إقرأ أيضاً:
«جمال الغيطانى»
جميعنا سيطوينا النسيان، لا أحد يفلت من سطوة الزمن، ستتلاشى الذكريات، الأحاديث الحميمة، خطواتنا المتكررة أمام عتبات البيوت والسعى اليومى بين الشوارع والأمكنة، جلساتنا المبهجة على المقاهى ووسط الأحباب، الناجى الوحيد من محرقة دقائق العمر وساعاته هو الكاتب والمصور والرسام، هؤلاء يقومون بتسجّيل مضمون اللحظة التى تفنى عبر الكتابة والصورة الفوتوغرافية واللوحة الفنية، فستبقى رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنيز عن الثورة الفرنسية، وآلاف الصور الفوتوغرافية عن المجازر الإسرائيلية فى المخيمات الفلسطينية، ولوحة «جرنيكا» للرسام الأشهر فى القرن العشرين «بيكاسو» عن الحرب الأهلية الأسبانية.. حاضرة بكل عنفوانها صالحة للتفكيك من أجل الفهم والتأمل لكل جيل.
يدخل الروائى الكبير «جمال الغيطانى» فى المتاهة الزمنية مع هؤلاء السابق ذكرهم وغيرهم، كحكاء وصانع للسجاد وعاشق للمعمار وصوفى تغشاه التجليات، والغريب والعجيب من السرد فيسجلها بمداد القلم على الورق ممسكاً باللحظة حتى لا تتسرب منه.
لذلك كل الشكر والامتنان للقائمين على مؤتمر أدباء مصر فى دورته السادسة والثلاثين والتى ستنطلق يوم الأحد القادم فى محافظة المنيا، على تقديم الروائى الكبير الراحل «جمال الغيطانى» شخصية المؤتمر، بعد مرور تسع سنوات على غيابه جسدياً فى عام 2015.
كما أدعو إدارة المؤتمر أن تعيد تقديم ومناقشة ماقامت بنشره صحيفة «أخبار الأدب» فى الذكرى السابعة لرحيل مؤسسها الكاتب والروائى «جمال الغيطانى»، حيث قدمت فصلا من كتاب «المقريزى: وجدان التاريخ المصرى» الذى كان سيصدر فى ذلك الوقت للدكتور ناصر الربّاط أستاذ كرسى الآغا خان ل العمارة الإسلامية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT». وفيه يرصد التأثيرات التى دخلت على كتابة الغيطانى جراء تعمقه فى استلهام وتحليل كتابات المؤرخ البارز تقى الدين المقريزى، وكيف قام بتوسيع وتعزيز وإعادة تخيل الواقع الاجتماعى للقاهرة عبر السرد الخيالى.
شكل تقى الدين المقريزى، مؤرخ مصر الأهم، مصدر إلهام بالنسبة لجيل أدباء وشعراء ما بعد هزيمة ١٩٦٧. وأصبح بفضل تحليله التاريخى العميق ونفسه الوطنى العارم والمبثوث فى تضاعيف كتبه، وبخاصة كتابه الأهم، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، نموذجًا للوطنية الحقة ودليلًا هادياً للبحث المؤلم عن الهوية ومثلًا عن مقاومة الفساد والقمع عن طريق الكلمة الجريئة والحس الأخلاقى الذى لا يساوم.
وقد امتد تأثيره إلى عدة أنواع أدبية تتراوح بين الرواية التاريخية والسيرة الذاتية الخيالية إلى السفر عبر الزمن والإرهاصات الشعرية الجريئة..
ولج المقريزى المجال القصصى والروائى على يد روائيين كبار على رأسهم المرحوم جمال الغيطانى الذى ولد فى قرية جهينة من صعيد مصر لكنه نشأ فى حى الجمالية القاهرى الذى خلدته ثلاثية معلمه نجيب محفوظ. لم يغادر الغيطانى فضاءات المدينة القديمة حتى عندما انتقل إلى الجزء الحديث من القاهرة. ظلت لديه أماكنه المفضلة فى قاهرة الفاطميين والمماليك- الأزقة والمنازل التاريخية والمقاهى، التى عاد إليها مرارًا وتكرارًا. أثرت هذه الأماكن، وعبق تاريخها، على كتابات الغيطانى الإبداعية بعمق، وتحول بعضها إلى إشارات مفعمة بالرسائل الانتمائية والحضرية والمعمارية الخالصة استخدمها الغيطانى لتأطير الكثير من رواياته فى المكان والزمان. علاوة على ذلك، لجأ الغيطانى، ربما كمظهر من رد فعل جيله على صدمة هزيمة ١٩٦٧ وتعثر مشروع النهضة والتحديث قبلها وبعدها، إلى التقاليد الأدبية العربية الكلاسيكية والتراث الصوفى. فهو، بجانب الإلهام التاريخى، كان يبحث بشغف عن نماذج من أساليب الكتابة الصوفية الإشراقية التى كان يمكن له أن يتبناها والتى سيزداد تأثيرها على أسلوبه فى التعبير والكتابة لاحقًا. كان الغيطانى، على حد تعبير المترجم الشهير همفرى ديفيز الذى ترجم نصوصًا لكل من محفوظ والغيطانى، رائدًا فى ابتكار «نوع من الواقعية السحرية ولكن من الطراز المصرى المكثف، له جذور فى تاريخ الأدب العربى ولكن أيضًا فى مجالات التصوف والغيبيات وما شابهها». كان نوع الخطط، بتركيزه الشديد على مصر، أحد الأشكال الأدبية التاريخية الرئيسية التى جذبت الغيطانى. وهى قد أثرت على مشروعه الروائى على مستويين: كدليل هادٍ لتاريخ وجغرافيا المدينة التى تؤطر بنية العديد من رواياته، وكأساليب نصية أصيلة تصلح للكلام عن الأماكن والمبانى التى احتلت حيزًا مهمًا فى سرد الغيطانى.
وأخيراً يقول عنه الناقد الأدبى الدكتور حسين حمودة: «لا يزال الغيطانى حاضرا معنا، فقد راهن دوما على أن يدفع سطوة النسيان، وهو درس الخلود الذى استقاه من أجداده الفراعنة.