قراءة في فكر الوليد مادبو … ثورة الوسط نموذجا (1/4)
تاريخ النشر: 16th, November 2023 GMT
Mohamedmosa.imam@gmail.com
في تناولنا لكتاب "ثورة الوسط" "أعالي أشواق الإنسان المهدور", بالقراءة والتحليل عبر منهج "التفكيك" , عمدنا الى سبر غور المكتوم والمجهور في قضية الإقليم المهجور, فهناك الكثير من المكتوم – المسكوت عنه - في تداعيات "الثورة" كفعل مرافض للواقع المعاش عبر الخروج عن الوضع الراهن طلبا لواقع جديد أكثر رضاً , والقليل من المجهور به – المفصح عنه - في أحوال "الوسط" كجهة مناطقية وهي ما عبّر عنه الكاتب في العنوان الفرعي بـ"أعالي أشواق الإنسان المهدور" في تلك المناطق المتطلعة لوضع أفضل يسكن نوبات غضبهم .
أتى كتاب "ثورة الوسط" الصادر عن دار مدارك للنشر – الخرطوم – بتاريخ 2013 , في 390 صفحة , احتل شعار دار النشر الربع الأول من صفحة الغلاف متوسطاً باللون الأزرق الداكن , كما تم تموضع عنوان الكتاب (ثورة الوسط) النصف الثاني من الربع الأول للغلاف , إعتمد المصمم على الخط الحُر المستند على خط الديواني الكلاسيكي , أي خارج على قاعدة الديواني , أتى العنوان بخط غليظ مَمْهور باللون الأسود الذي يشي إلى كئآبة إنسان الوسط , كما تم تنقيط الأحرف باللون الأحمر الذي يشير إلى الدماء التي أهدرتْ , أوالتي ستُسفك . الملاحظة التي ينتبه لها المتلقي من أول وهلة هي طريقة كتابة (ثورة الوسط) التي أتت بحجم كبير وخارج عن القواعد الرسمية لخط الديواني , مع النّقاط المتراصة رأسياً باللون الأحمر , وإستطالة الألف واللاّم , وحرف الطاء فيه "تشويه متعمد" مقصود من قبل الخطاط , مما يشي أن لدى الخطاط أو الكاتب أو كليهما رسالة يريدان بعثها للمتلقي من خلال التصميم . فكلمة (الوسط) أتت أكبر حجما نسبياً من كلمة (ثورة) كما لو أن الثورة تستظل وتحتمي بالوسط , فما هي دلالات هذا التصميم ؟ وما هو هذا الوسط ؟ هل هو "الوسط" المناطقي الجغرافي أم هو "الوسط" الإثني الديموغرافي ؟ , علامات استفهام كثيرة تتقاطر في ذهن المتلقي من خلال دراسة الغلاف كـ(نص موازي) ومدخل طبيعي قبل الولوج إلى متن الكتاب , مجمل تصميم العنوان الرئيس يحمل إشارة إلى نزعة الرّفض لدى الكاتب والتمرد لدى الخطاط السر حسن سيد احمد .
أتى العنوان الفرعي تحت العنوان الرئيس مباشرة واضعاً حداً فاصلاً بين النصف الأعلى للغلاف عن النصف الآخر موسوم بـ"أعالي أشواق الإنسان المهدور" , حيث تمت كتابته بخط طباعي رقمي مستند على خط النسخ اليدوي , كما تم إعتماد اللون البني المائل إلى الإحمرار وهو لون الفقراء الكادحين (البروليتاريا) . حيث اللون البني يمكن أن ينتج بسهولة عن الأوساخ والعَرَقْ والغبار العالق في ملابس هؤلاء الغلابة , لذلك نجد لوحة الغلاف أتت تحت العنوان الفرعي مباشرة وهي صورة "مونوكروم" رمادية لعدد من "المتطلّعين" ينتشلون الماء من بئر سحيقة , وإعتماد المصمم على هذا اللون الرمادي ليتفادى كثرة الألوان في الغلاف حتى يتجنّب التشويش وإفساح المجال للقارئ للاستنتاج والتَفَكُر والتَبَصُر في حال ومئآل هؤلاء .
فدلالات الصورة ليست واضحة للجميع , فأهل غرب السودان يعرفون أن هذه البئر عميقة وذلك من خلال وقفة الناس حول البئر , وطريقة تعاملهم مع (الدلو) لإستجلاب الماء , فطريقة الوقفة تُنبئ بعمق البئر وثقل (الدلو) , لذلك نقول إن الغرض الوظيفي من إختيار هذه الصورة دون سواها هو محاولة للربط بين الصورة والعنوان الفرعي للكتاب , فكلنا يعلم مدى إهتمام دار مدارك للنشر بجودة التصميم وهذا واضح في أغلفة منشوراتها , لذلك لا يسعنا سوى أن نركن إلى الإستنتاج الأوحد وهو أنّ مجمل عناصر التصميم المستخدمة في الغلاف أتت بشكل مدروس ومقصود لخلق عنصر "لفت إنتباه" المتلقي "العارف" , فالفنان السر حسن سيد احمد , خطاط محترف ومجوّد لصنعته . احتل الربع الأخير من الصفحة إسم الكاتب بالخط الديواني الكلاسيكي مصبوغ باللون الرمادي , منسجماً مع اللوحة كإعلان مُبطن يشي بإنتماء الكاتب لهؤلاء النّفر . ولا يفوتنا بأن الخط الديواني هو الخط المعمول به رسمياً في دواوين البلاط العثماني إبان الإمبراطوية العثمانية وبالتالي هو خط "بلاطي/ملكي" , ربما بطريقة مقصودة أو غير مقصودة يليق بمقام ومكانة الكاتب المنحدر من سلالة (آل مادبو) الذين تعاقبوا على مَشْيَخَة ونَظَارَة عموم قبيلة الرزيقات المشهود لهم بالعلم والتأدب الذي أشتقّ منه إسم العائلة (موديبو/المؤدّب) أي المُعلّم , كما عُرفوا بالكفاح القبلي المسنود بالحكمة والمقاومة الوطنية المؤصّلة بالرُّشْدِ. تذَيَّلَ صفحة الغلاف وتحت إسم الكاتب مباشرة تاريخ الإصدار 2013 باللون الأحمر , وهو ذات اللون المستخدم في تنقيط حروف العنوان (ثورة الوسط) وهو ما ينبئ الى التذكير بالدماء التي أهْرِقَتْ في 2013 , عبر ثورة المرافضين المتطلّعين للتغيير الذين يحركهم عدم الرضا والتطلّع الى الأفضل .
أتى تصميم الغلاف ككل باللون الازرق السماوي الفاتح (baby blue) من تصميم الياس فتح الرحمن , الذي إعتمد هذا اللون ليبعث من خلاله ببارقة أمل في قلوب "المتطلّعين" المغلوبون على أمرهم "الثوار" من الهامش وطمأنتهم بغَدٍ أفضل , وأن السكينة والطمأنينة آتية لا محال , فمثلما سَكَنَتْ وإنسَجَمَتْ وتآلفَتْ هذه الأحرف والكلمات والصور مع بعضها البعض رغم بعثرتها وإضّدادها رغم خرقها للقواعد المدرسية , إلا أنها إستقرت بإتّفاقٍ وثبوتٍ وإنتظام . وحقاً , فإن الغلاف يحتوي على أربع أنماط من الخطوط وهذا بحدّ ذاته إقحامٌ مخلٌ لعنصر التصميم , فالتصميم الناجح يركن إلى تبسيط العناصر , فما الجمال إلا في البساطة . ومع ذلك , نجد أن مجمل العناصر المكونة لتصميم الغلاف رغم تباينها "شكلا" إلا أنها منسجمة وتخدم بل تدعم بعضها البعض "مضمونا" , فحالة الإرباك "البصري" التي يتعرض لها المتلقي المختص عند أول وهلة تنجلي بعد المرور سريعاً على محتويات الكتاب , فاللوحة ككل تندرج تحت مسمى (الكولاج collage) . شمل الغلاف الأخير للكتاب أربعة عناصر أساسية , "عنوان الكتاب" كما هو مستخدم في الغلاف الرئيس ولكن بحجم أصغر (الثلث) , يعقبه صورة ملونة للمؤلف , رغم أن إقحام الصور الشخصية في أغلفة الكتب هي عادة (الفرنجة) – أمريكية/غربية , أكثر من غيرهم من البلدان . يليه فقرة من التصدير الذي خطّه أستاذ التاريخ عبد الله الفكي البشير للكتاب , ثم يليه شعار دار مدارك للنشر يتذيله عنوان دار النشر . فالتصميم في مجمله جيد وناجح , إلا أننا نرى ضرورة توحيد عناصر التصميم مع الغلاف الرئيس , فصورة الكاتب كان بالإمكان أن تكون "مونوكروم" رمادية , فاللون الرمادي سليل الأبيض والأسود ومن السهولة أن ينسجم مع الأزرق بدرجاته المعتمدة في الغلاف ككل .
ندلف إلى محتويات الكتاب والتي أتت في الغلاف قبل الأخير , بمقدمة قصيرة وتصدير , حيث إقتصرت المقدمة على إهداء للكاتب يَبِرُّ فيه والديه , جاهداً معتصراً للكلم ليبذل لهم شيئ من عرفان مستحق , وفي كلمات لم تتجاوز أربعون كلمة في خمس أسطر يهدي الكاتب سفره للكادحين المُجْهَدِينَ من أبناء وبنات الوطن الآملين بغد مشرق , أعالي أشواقهم إنتظار الذي يأتي ولا يأتي . تلي المقدمة تصدير خطّه أستاذ التاريخ عبد الله الفكي البشير في ثلاثون صفحة , وحسب تقديرنا فالكاتب الوليد ليس في حاجة لمن يُقَدّمَه , فهذا –التصدير- يُعْتَبر نَصٌ موازي , كان بإمكان عبدالله الفكي طرح قراءته لكتاب "ثورة الوسط" في أنهار الصحف اليومية كقراءة نقدية "موازية" , فكلا الكاتبين لهما وزنهما المعرفي ورصيدهم الأدبي , وقد عرفنا وخبرنا كلا الكاتبين وما يَتَحَلّون به من جرأة في الطرح وقوة في الشخصية والإعتداد بالنفس ورصانة في القلم, وبالتالي يأتي التصدير كـ"عربون" مجاني لا يحتاج إليه كلاهما . هناك بعض الكُتّاب يحتاجون إلى من يقدمهم وهذا عُرْفٌ معمولٌ به لدى الكثير من الكتاب وأصحاب الأقلام , ولكن ليس الوليد حسب ظنّنا وتقديرنا .
ضم الكتاب بين دفّتيه ست محاور إشتملت على ثمانية وثلاثون مقالاً في النقد السياسي , والإسلام السياسي , والرثاء , والنقد الإجتماعي , وشيئ من العرفان . مجمل هذه المقالات رغم تنوّعها تصب في حوض جلد الذات .... (يتبع)
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی الغلاف
إقرأ أيضاً:
مَـوْسِـم الْهِجْـرَة من القَــرْيَة للمَدِينَــة ( إقليم شفشاون نموذجا)
يعيش المغرب منذ بضع سنوات تبعات التغير المناخي الذي أدى إلى توالي سنوات الجفاف وتراجع الموارد المائية فباتت عدة مناطق مغربية تعاني من نقص حاد في الموارد المائية وبالتالي من تراجع الأنشطة الفلاحية التي تشغل غالبية سكان القرى وهو ما اضطر العديد من المزارعين إلى التخلي عن الزراعة والهجرة إلى المدن، وقد دفعت أزمة العطش التي تعانيها منها القرى بل حتى بعض المدن المغربية الشيء الذي حذّر منه ناشطون بيئيون الى تداعيات استمرار سوء تدبير الموارد المائية واستنزافها في زراعات دخيلة في بلد يعاني الشح المائي فالأزمة ناجمة ليس فقط عن ارتفاع درجة الحرارة والجفاف بل ترجع كذلك إلى سوء التدبير اليومي للمياه أيضاً فالفلاحين يدبرون الماء بعشوائية كما نلاحظ غياب استراتيجية لتعبئة الموارد المائية والاستثمار في المياه ،ويشار أن ملك المغرب “محمد السادس” حذر مسؤولي الشأن المائي حدوث أزمة مياه وأعطى توجيهاته وتعليماته لتشكيل خلية لمعالجة الوضع وتوفير الماء الصالح للشرب و عليه أعلنت الحكومة المغربية في هذا الصدد تنفيذ مشروعات مائية بقيمة 40 مليار دولار لمواجهة شح المياه ويعد المغرب من البلدان التي تعتمد على القطاع الفلاحي في نموها الاقتصادي.
إن الشح المائي بالدرجة الأولى الذي عرفه إقليم شفشاون مؤخرا خلق توترات اجتماعية لسكان القرى بحيث ما لبثوا يطالبون بحقهم في الماء وكذلك أسهم في خلق صراعات فيما بينهم تتطور أحيانا إلى مواجهات باستعمال الأسلحة النارية يتم هذا تحت أعين السلطات المحلية وأعوانها و في غياب كذلك لرؤية استراتيجية مائية من قبل الدولة لوضع مخطط مستقبلي لمواجهة التحديات المائية وتحقيق الأمن المائي، فبالنسبة إلى استعمال المياه السطحية والجوفية بالإقليم فتقريباً 85 في المئة منها تذهب إلى القطاع الفلاحي و التي تعد من بين أسباب أزمة العطش بالمنطقة ولما نقول القطاع الفلاحي نعني به أساسا زراعة القنب الهندي (الكيف) خاصة مع اكتساح أنواع أخرى من العشبة الدخيلة و التي تستهلك كميات كبيرة من المياه بينما 12 في المئة تخصص في الاستعمال اليومي أي الماء الصالح للشرب و 03 في المئة يستفيد منها القطاع السياحي، فأزمة الماء تعود إلى الاستغلال المفرط للموارد المائية الباطنية في زراعة القنب الهندي لتهريبها و تصديرها للخارج و الذي يعد بمثابة تهريب و تصدير للموارد المائية الخاصة بالأجيال القادمة التي ستحرم من حقها في المياه مستقبلا والذين صاروا يفكرون في هجرة قراهم قبل أن تقع الفأس في الرأس بل أغلبهم اتخذ قرار الهجرة و نفذه.
إن هجرة سكان العالم القروي إلى مدينة شفشاون أو المدن المجاورة لها تشكل عاملا سلبيا بالنسبة للتراث المادي وغير المادي الذي تعد الجبال والقرى الوعاء الحاضن له بامتياز إذ تفقد الهجرة هذا التراث من يعتني به ومن ثم يتعرض للاندثار علاوة على اختلال التوازن الطبيعي نتيجة توقف الأنشطة المحافظة عليه كالزراعة والرعي… فالهجرة القروية تؤدي إلى تدهور الجبل وضياع الثروات، ولم تؤد الهجرة المكثفة نحو المدن إلى فراغ قرى الإقليم من أهلها فحسب بل إن كثيرا من العادات المجتمعية المتوارثة بدأت تتلاشى فقبل خمسة عشر عاما فقط كانت الأسوق الأسبوعية تشهد نشاطا تجاريا مهما إذ يتوافد عليه سكان القرى المجاورة منذ الصباح الباكر ويستمر انعقاده إلى ما بعد صلاة العصر أما الآن فيقضون أغراضهم وينصرفون بسرعة ،و من التداعيات السلبية للهجرة من المناطق القروية إلى المدن كذلك فراغ هذه المناطق من السكان ما يؤدي إلى خلل في التوازن الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي حيث لا يتبقى فيها غير الشيوخ أو الأشخاص الذين لا تسعفهم إمكانياتهم للهجرة، كما تعزو هذه الهجرة شبه الجماعية إلى السياسة المتبعة من طرف الدولة التي تقوم على عدم المساواة بين المجال الحضري ونظيره القروي فمحور التنمية التقليدي هي المدن الساحلية التي تشكل مركز استقطاب للساكنة علاوة على أنها تشكل وعاء تتمركز فيه مشاريع التنمية وفرص الشغل خاصة في المدن الكبرى المتموقعة في محور الدار البيضاء/طنجة، فرغم تعدد مظاهر إغراء الهجرة حتى ولو كان توفير الحق في كأس من الماء واجب من واجبات الدولة ولا يستحق كل هذا العناء من منطلق أن هناك دولا مثل الجارة إسبانيا تشجع المواطنين الذين يريدون الاستقرار في البوادي عن طريق تحفيزات ضريبية ومالية.
إن المدخل الأساسي لأي تنمية حقيقية هو إحياء ثقافي حقيقي لمكونات الكينونة القروية بالمغرب ولكن هذا الإحياء يجب ألا يكون فولكلورياً كما يقع في كل مناسبة (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، النموذج التنموي الجديد، تقنين مادة القنب الهندي) بل يجب أن يكون عميقاً مرتكزاً على بحث سوسيولوجي وثقافي عميق يعيد إحياء علاقة الإنسان القروي بالطبيعة والذاكرة والتاريخ وإعادة إحياء قدراته على الإبداع في أوجه الحياة اليومية، بل في إطار تصور أنثروبولوجي جديد يحدد فيه الإنسان القروي شيوخا ،شبابا، نساء و رجالا كيف يتصورون صيرورة حياتهم في علاقتها مع واقعهم وطموحاتهم وقدراتهم، فلا يمكن أن نتحدث عن التغيرات المناخية من دون ذكر النشاط البشري لأن الإنسان يضطر إلى الهجرة بسبب التحديات البيئية و الاختيارات العشوائية.
عبد الإله شفيشو / فاس