يقف العالم بتعدد دوله، وأطيافه، وتياراته، وتباين توجهاته وأفكاره، على مفترق طُرُق، فلا بوصلة عقل ترشد سيره، ولا كابح أو لاجم لحالة التغول والاستشراس التي تسري في عروقه.
فظاعات تُرتَكب، وبشاعات تفاجئ البشرية في وجدانها جرّاء الصور والأحداث المرعبة التي لم تَعُدْ تقيم للإنسانية أي وزن أو تقدير.هذا القُبح والبشاعة واستسهال الأرواح البشرية لم ينحصر الشعور بها لدى العرب والمسلمين فقط؛ بل إن حالة التوجّع والألم بتلك الفظاعات والمجازر انسحبت على كل من يشترك معنا في إنسانيتنا؛ باعتبارها المُشترَك الأهم بين الشعوب في كافة أنحاء عالمنا الشاسع.
بات الاحتجاج واستشعار الغبن بمواجع الإنسان أيّاً كان موقعه؛ عنصراً مشتركاً يتوجّع له الكل. ولم تعد تُفلح محاولات التعمية أو التجميل أو التبرير والتسريع لارتكاب تلك الإبادات، إذ إنّ كل العقلاء والمنصفين، ومن يمتلكون أدنى درجات الإنسانية والتحضّر يأنفون من تجاوزها أو قبولها ولو كان مرتكبوها من دولهم. فالظلم ظلم أياً كان مصدره، والشعور به ورفضه ولفظه هي رد فعل طبيعي للنفس السويّة الناشدة للخير والعدل والتسامح مع الجميع.
ويبدو أنها هزيمة العقل؛ تلك التي أعلنها الكاتب النمساوي ستيفان سفايج؛ الذي لم يحتمل رؤية تلك المجازر والبشاعات وانتهاكات القوى المدمرة للبشرية، فعبّر عن تلك المآسي بأنها نتيجة طبيعية لهزيمة العقل الذي فقد رُشده أمام أطماعه ونزوعاته الشرّيرة. تلك الهزيمة طالت العالم بأسره؛ ولم يسلم منها الغرب؛ برغم ادّعائه الحياد وتبنّي قيم العدل والحضارة والحوار وغيرها من قيم نبيلة. كلها أثبت الزمن أنها مجرّد شعارات وإكليشيهات يتشدّق بها هنا وهناك. هذا الغرب الذي يقف عاجزاً أو مُتعامياً عن القيام بأدواره؛ برغم إرثه الثقافي والفلسفي والإنساني لم ينجُ من الوقوع في وهدة هذا الإخفاق الذريع، ولم تسعفه فلسفته على امتداد تاريخها في أن يلعب دوراً إنسانياً حقيقياً؛ فأصبح الكيل بمكيالين هو الملمح الأبرز لسلوكه ومواقفه.
في مأساة غزة، وفظاعاتها الوحشية تهاوت كل تلك القيم والإرث الثقافي والحضاري أمام نزوعات الشّر والهيمنة والأطماع، فكانت الصورة الجلية هي حرب جائرة واعتداءات سافرة لم تكترث بأي رادع أخلاقي أو قيمي أو ديني أوإنساني أو حضاري.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة غزة وإسرائيل
إقرأ أيضاً:
الغرب “الأخلاقي” جدًّا !!
عبدالرحمن الشيباني
لا يمكن أن تكون إسرائيل دولة متحضرة مهما روَّج الغرب لذلك، واستخدم نفوذة المالي والسياسي والإعلامي من أجل هذا الأمر؛ فخلفيتها الدينية التلمودية التي تدعو إليها في أحقيتها في فلسطين تجافي المنطق والحق والتاريخ، كما أن سلوكها العنصري وفوقيتها تجافي القِيَم الإنسانية وتنسف مبدأ التعايش، في أن يرى شعب ما أو جماعة أو ديانة أنها شعب اختاره الله وفضَّله على خلقه أجمعين، لذلك تتصرف إسرائيل اليوم على هذا الأساس؛ فالجرائم والمجازر المروعة التي فاقت التصور والتي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني واللبناني، لا يمكن أن تخفي تلك الأيديولوجية المتوحشة المتعطشة للدم، يدعمها اليمين المسيحي المتطرف في أمريكا..
لقد صحا العالم اليوم على حقيقة مطلقة أن إسرائيل دولة فوق القانون الدولي وأن ما ترتكبه من فظائع أصبح مُشرعاً له من قِبَل الإمبريالية الأمريكية وحلفائها الغربيين تحت دعاوى “الحق في أن تحمي إسرائيل نفسها”، وتريد هذه الدول أن تقتع العالم بذلك، حتى عندما أصدرت محكمة الجنايات الدولية قرارها التاريخي بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه جالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية انبرت أمريكا تدافع عنهما وتقول إنه قرار مُشين، وقال بايدن أيضاً إنه يرفض القرار رفضاً قاطعاً والمحكمة لا تتمتع بولاية قضائية، والتحقيق الجنائي شابه أخطاء مقلقة..
لكن الأمر كان مُختلفاً بخصوص الرئيس السوداني السابق عمر البشير والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قالت أمريكا “إن القرار كان نقطة قوية للمحكمة ونرحّب به وندعمه”، في حين قالت “إنها ستفي بالتزاماتها القانونية” حيال المحكمة، بينما رفضت فرنسا تطبيق قرار المحكمة الجنائية الدولية، وقال وزير خارجيتها إن نتنياهو محصن، يجب أخذ ذلك بعين الاعتبار (أليست فرنسا عضواً في الاتحاد الأوروبي، والذي قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل القرار ملزم لكل أعضاء الاتحاد) ويجب دعم المحكمة الجنائية الدولية وتجنُّب تقويضها، وذلك في نداء وجَّهه مؤخراً..
هذا يذكّرنا بالتاريخ الفرنسي المخزي تجاه القضية الفلسطينية فقد تخلت فرنسا عن موقفها الذي كان يعتبر الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967م شرطاً لقيام السلام في الشرق الأوسط، أما فيما يتعلق بالاستيطان فقد كانت الأخيرة تعارضه باعتباره خرقاً للمواثيق والقرارات الدولية، لكنها تسمح لشركاتها المتخصصة بالبناء للعمل في الأراضي المحتلة، ناهيك عن الدعم الكبير في بناء مفاعل ديمونة النووي الذي كان لفرنسا الدور الأبرز في إنشائه كقوة ردع لإسرائيل أمام محيطها العربي الذي يتربص بها كما تقول، أما ألمانيا النازية فذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما علَّقت وزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك بأن من حق إسرائيل قصف المدنيين، وأنها أي ألمانيا ستدرس أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ووزير دفاعه، لكن على ما يبدو أن الأخيرة تريد الظهور بأنها تمسك العصا من الوسط، غير أن قول أحد الساسة الألمان إن أمن إسرائيل هو جوهر السياسة الخارجية الألمانية ينسف ما تقوله بأنها “تدرس قرار المحكمة الدولية”.. إنها مراوغة مكشوفة وعُقدة التاريخ المزيفة التي لا تستطيع ألمانيا التخلص منها..
إذا كلّ هذا الدم المسفوح، وأمريكا والغرب عموماً يرونه طبيعياً طالما كانت إسرائيل تقف خلفه، أليس ذلك يمثل انحطاطاً للحضارة الغربية التي تدَّعي القِيَم؟.. إنه تاريخ طويل من بؤس هذه الحضارة المتشظّية المنهَكة بتغذية الحروب في دول شتى من العالم، لم يكن من المستغرب إذن أن يبشر للرئيس الأمريكي “المنتخب” ترامب عهده الجديد بمواصلة ما قدمه بايدن المنتهية ولايته قريباً من خلال التعيينات التي سيصدرها فريق إدارته في البيت الأبيض؛ وجُل هذه القرارات المرتقَبة تأتي لشخصيات يهودية متصهينة حتى النخاع، وهو تقليد سبقه بايدن فيه أيضاً الذي يقول إن دعم بايدن لم يكن كافياً، كما توعد بتوسعة مساحة إسرائيل الذي قال إنها صغيرة..
ولعل بيت هيجسيث، الذي اختاره ترامب لوزير الدفاع، دليل على أن إدارة البيت الأبيض الجديدة ماضية في عِدائها للعرب وحقوقهم المشروعة.. هيجسيث معروف بعِدائه للعرب، ويؤكد مراراً على دعمه الثابت لإسرائيل، ويقارن المناخ الجيوسياسي الحالي بالحروب الصليبية في القرن الحادي عشر في كتابه، الحملة الصليبية الأمريكية: معركتنا من أجل الحرية، بل ويدعو إلى “حملة صليبية” ضد هجرة المسلمين، بحجة أنها تهدد القِيَم “اليهودية المسيحية”، ويصف تزايد عدد السكان المسلمين بأنه غزو ثقافي، ويصف هيجسيث الإسلام بأنه غير متوافق مع السلام، ويصف الدول ذات الأغلبية المسلمة بأنها معادية للمسيحيين واليهود، وألمح إلى الاستعداد للصراع قائلاً: «نحن لا نقاتل بالسلاح في الوقت الراهن”..
ويعتبر هيجسيث إسرائيل “طليعة” الحضارة الغربية، معتبراً أنها “ضرورية لفهم أمريكا والتقاليد اليهودية المسيحية الأوسع”، كما أنه يعارض الالتزام باتفاقيات جنيف، بحجة أنها تضعف فعالية الجيش الأمريكي.. هكذا يعبّر “هيجسيث” عن الذات الغربية بكل صفاقة..
من المستغرب حقاً أن يأتي شخص ليقول لماذا يكرهوننا ؟