الإنسانية العالمية في مرآة غزة
تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT
تقصف إسرائيل المستشفيات بشكل مباشر فيتطوع قادة الدول الغربية للدفاع عنها وتبرئة ساحتها ويحال الاتهام إلى صواريخ حماس. يستهدف جيش الاحتلال سيارات الإسعاف ويُحَول الجرحى إلى أشلاء متناثرة على الإسفلت فيقول الغرب: كانت تحمل مصابين من حركة حماس! يقتل الجيش الذي لا يقهر آلاف الأطفال والنساء، فتقول الصحف الغربية في تغطيتها الصحفية «حسب ادعاء حماس»، تنشر وكالات الأنباء صورا لمئات الشهداء ملفوفين في أكفان بيضاء تقطر دما فتكتب الصحف الأمريكية: ما بدا للوهلة الأولى أن أطفالا ملفوفون في تلك الأكفان! يقتحم الجيش الذي يخوض حرب «الحضارة»، بحسب وصف نتانياهو، مستشفى الشفاء بعد أن قطع الكهرباء والماء والدواء وقتل الأطفال الذين وضعوا على الأجهزة، والكبار الذين يحتاجون إلى الأوكسجين وكل ذلك أمام شاشات الفضائيات فيصمت الجميع حتى الانتهاء من مونتاج السردية الجديدة التي باتت معروفة، وهي أن جيش الاحتلال قد وجد في وسط المستشفى مخابئ لحماس وأسلحة دمار شامل، وربما شط الخيال بالسردية، ما دامت أساطير إسرائيل لا تنتهي، للقول بأنهم وجدوا أسلحة نووية! فالمطلوب هو سرد مُسوّغ بغض النظر عن صدقه أو حتى منطقيته وإلا فإن الصورة الحقيقية قد باتت واضحة للجميع حول هذه الحرب الغاشمة التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة.
لقد تحرك ضمير الشعوب في مختلف دول العالم، بعد أن ظن البعض أنه قد مات، وخرجوا في مظاهرات مليونية للتنديد بالمجازر والمحارق الكونية التي يرتكبها الكيان الصهيوني لكن ضمائر القادة الغرب ومؤسساتهم التي تستطيع وقف مجازر إسرائيل لا تستيقظ، ولا يبدو أنها يمكن أن تستيقظ أبدا.. ففكرة المجازر واحدة مات فيها ألف أو عشرون ألفا.
إن ما يحصل في غزة عار سيبقى عالقا على جبين البشرية تتناقله الأجيال جيلا بعد آخر، سيطارد الجميع في منامهم، وعندما ينظرون في أعين أطفالهم، سيحيط بهم ويحاصرهم، كيف كانوا يستطيعون إنقاذ آلاف الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة ولم يفعلوا، ولم يحركوا ساكنا، بل مدوا الكيان الغاصب بالدعم والتشجيع وزودوه بالصواريخ والطائرات والآليات العسكرية ورفضوا رفضا قاطعا وقف إطلاق النار أو حتى مجرد طرحه كمبادرة إنسانية.
لقد فضحت وجوه أطفال غزة الغرب وعرته ووضحت قيمه وأخلاقه ومبادئه على المحك، كما فضحت الضعف والخنوع العربي، وساهمت في تشظية ما كان يحاول التماسك. إنه منعطف خطير جدا في تاريخ الأمة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وما بعد غزة، مع الأسف الشديد، سيكون أسوأ بكثير مما كان قبلها فيما لو استمر الوضع على ما هو عليه ولا شيء يشير إلى خلاف ذلك.
هذا هو المشهد الإنساني كما بدا في المرآة ولا عزاء لأحد.. لا عزاء.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
إعادة تدوير الاستعمار: كيف يحاول الغرب شرعنة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟
يبدو أن العقلية الاستعمارية الغربية لم تتغير كثيرا منذ القرن التاسع عشر، إذ ما زال منظروها يبحثون عن مسوغات جديدة لفرض سيطرتهم على شعوب لا يرونها جديرة بالحياة المستقلة. المقال الذي نشره ثين روزنباوم في جويش جورنال ليس إلا مثالا جديدا لمحاولات قلب الحقائق، وتقديم الضحية كجلاد، وتبرير جرائم الاحتلال بذرائع "حضارية" و"تنموية"، لكنه كغيره من الأبواق الصهيونية، ينسى أو يتناسى حقيقة راسخة: فلسطين ليست للبيع، وأهلها ليسوا عبيدا لأجندات الاستعمار الجديد.
مغالطات صهيونية مكررة: هل يصدقها أحد؟
ينطلق روزنباوم من مغالطة شائعة يكررها الإعلام الغربي بلا كلل؛ أن الفلسطينيين رفضوا فرصا متكررة للسلام و"قالوا لا" لخمس عروض لإقامة دولتهم. لكنه يتجاهل حقيقة أن تلك العروض لم تكن سوى محاولات لشرعنة سرقة الأرض وتفتيت القضية الفلسطينية إلى فتات لا يصلح إلا ليكون سجنا كبيرا لأصحابه.
منطق ترامب لا يختلف عن منطق المستعمرين الأوروبيين في أفريقيا، الذين كانوا يرون أن المشكلة ليست في الاحتلال بل في السكان الأصليين أنفسهم، وأن الحل هو تهجيرهم أو "إعادة تأهيلهم" ليكونوا أكثر "تمدنا". إنه تفكير استيطاني عنصري يرى الأرض ملكا لمحتليها، وأهلها عبئا يجب التخلص منه
أي "دولة" يقصد؟ تلك التي بلا سيادة، وبلا جيش، وبلا موارد، والتي تبقى رهينة لإملاءات المحتل؟! إن ما يُسمى بـ"حل الدولتين" لم يكن يوما سوى فخ لإضفاء الشرعية على كيان استيطاني أُنشئ بالقوة، بينما يُترك الفلسطينيون يتوسلون حقوقا أساسية كحرية التنقل والمياه والكهرباء، التي يتحكم بها الاحتلال.
منطق الاستعمار: "إما أن تقبلوا الاحتلال أو تُهجّروا"
يقترح الكاتب، بكل استعلاء، أن الحل في غزة هو "نقل سكانها" إلى مصر والأردن والدول العربية، متناسيا أن التهجير القسري هو جريمة حرب وفق القوانين الدولية. لكن في نظره، الفلسطينيون ليسوا بشرا لهم حقوق، بل مجرد "عقبة" في وجه المشروع الصهيوني.
ثم يحاول تبرير اقتراحه عبر مقارنة الفلسطينيين باللاجئين السوريين في أوروبا، متناسيا أن الفلسطينيين لم يأتوا إلى غزة أو الضفة الغربية مهاجرين، بل هم سكانها الأصليون الذين شرّدهم الاحتلال الإسرائيلي من ديارهم عام 1948، وما زال يمنعهم من العودة حتى اليوم.
أكثر من ذلك، يزعم أن إسرائيل تمتلك "سند ملكية أقوى" للأرض، متجاهلا كل الوثائق التاريخية التي تثبت أن فلسطين كانت مأهولة بأهلها العرب قبل أن يأتي الاحتلال البريطاني ليزرع الكيان الصهيوني بالقوة. هل نسي أن معظم المستوطنين الإسرائيليين اليوم هم يهود جاؤوا من أوروبا وروسيا وأمريكا، بينما أصحاب الأرض الأصليين يُمنعون من العودة إلى بيوتهم؟!
مشروع ترامب: الوجه الجديد لنكبة 1948
ما يطرحه ترامب ليس "رؤية بديلة" كما يدّعي روزنباوم، بل هو امتداد لذات العقلية التي قامت عليها النكبة عام 1948، لكن بثوب اقتصادي جديد. يريد أن يحول غزة إلى "ريفييرا" أو "كازينو"، لكن بدون أهلها!
منطق ترامب لا يختلف عن منطق المستعمرين الأوروبيين في أفريقيا، الذين كانوا يرون أن المشكلة ليست في الاحتلال بل في السكان الأصليين أنفسهم، وأن الحل هو تهجيرهم أو "إعادة تأهيلهم" ليكونوا أكثر "تمدنا". إنه تفكير استيطاني عنصري يرى الأرض ملكا لمحتليها، وأهلها عبئا يجب التخلص منه.
الحقيقة التي يخشاها الغرب: الاحتلال إلى زوال
العقلية العنصرية التي ترى الشعوب المستعمَرة غير مؤهلة للحكم الذاتي، وهو نفس الخطاب الذي قيل عن الجزائريين قبل ثورتهم، وعن جنوب أفريقيا قبل سقوط نظام الفصل العنصري
ما يحاول روزنباوم وغيره من أبواق الاحتلال إخفاءه هو أن المشروع الصهيوني يواجه أزمة وجودية حقيقية، وأنه، رغم كل الدعم الغربي، عاجز عن تحقيق الأمن لشعبه. فالمقاومة الفلسطينية لم تنهزم كما يدّعي، بل أثبتت أنها الرقم الصعب في المعادلة، وأن كل محاولات تهجير الفلسطينيين أو كسر إرادتهم ستفشل كما فشلت من قبل.
أما حديثه عن أن الفلسطينيين "غير مستعدين لدولة"، فهو جزء من العقلية العنصرية التي ترى الشعوب المستعمَرة غير مؤهلة للحكم الذاتي، وهو نفس الخطاب الذي قيل عن الجزائريين قبل ثورتهم، وعن جنوب أفريقيا قبل سقوط نظام الفصل العنصري.
الخاتمة: لا شرعية للاحتلال، ولا مساومة على الحق
يحاول الغرب، عبر أقلام مأجورة، أن يقلب الحقائق ليبرر استمرار الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي. لكن الحقيقة واضحة كالشمس: فلسطين للفلسطينيين، وكل المشاريع التي تهدف إلى إزاحتهم من أرضهم ستفشل كما فشلت سابقاتها.
قد يظن روزنباوم وأمثاله أن بإمكانهم خداع العالم بمقالاتهم المغلفة بلغة "الواقعية السياسية"، لكن التاريخ علّمنا أن المحتل مهما طال به الزمن، فهو زائل لا محالة. فكما سقط الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فإن الاحتلال الصهيوني إلى زوال، مهما حاول منظّروه إيجاد مبررات جديدة لوجوده.