نقد السّرديّـة الاشتـراكيّة
تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT
ربّما كانتِ السّرديّةُ الاشتراكيّة أكبر السّرديات المعاصرة تأثيرا ونفوذا ومزاحمةً للسّرديّة اللّيبراليّة، على امتداد فترةٍ طويلة فاصلة بين نهاية أربعينيّات القرن التّاسع عشر ونهاية ثمانينيّات القرن العشرين. الفكرتان معا تبادلتا السّلطةَ الإيديولوجيّة على معظم شعوب العالم، وتهيّأت لكلّ واحدةٍ منهما أسبابُ ذلك السّلطان المعنويّ في النّاس، وأوّلها المورِد الأساس الذي مَـتَحَتْ كلُّ منهما مشروعيّـتها منه.
مَبْنَى الفكرة الاشتراكيّة على نقد ما ازْوَرَّتْ عنه الفكرةُ اللّيبراليّة في منظومة حقوق مواطني الدّولة الحديثة، وعلى نقْد ما حسِبتْه مقدَّسَها السّياسيّ. لقد أَتَت تاليةً على اللّيبراليّة في التّطوّر، لذلك ما كان لها غير أن تؤسِّس پاراديغماتها في ضوء ما استحدثتْهُ سابقتُها. وهكذا، في مقابل فكرة تشديد اللّيبراليّة على المساواة في الحقوق السّياسيّة للمواطنين أمام القانون، انتصب تشديد الفكرة الاشتراكيّة على وجوب تحقيق المساواة في الحقوق الاجتماعيّة- الاقتصاديّة، وعلى وجوب توزيع الثّروة توزيعاً عـادلاً. العدالة الاجتماعيّة في مقابل الحرّية، ولكن لا بمعنى أنّ العدالة تلغي الحرّية، بل بمعنى أنّ الحرّية نفسَها لا تكتمل إلاّ متى شملتْ حقوقَ مَن يقع التّمييز والمُـفاوَتَةُ بين حقوقهم، فيُعْدَل في ما بينهم على صعيد حقوقهم. وهذه ظلّت مَـوْطن نقد اللّيبراليّة التي لم تكن ترى في فكرة تكافؤ الفرص والعدالة في الثّروة سوى محاولة متنكّـرة لضرب قُـدْس أقداسها: حرّية التّملّـك.
ولمّا كان مبْنى السّرديّـة الاشتراكـيّة، ثانياً، على القـول إنّ المُلْـكـيّة ينبغي أن تكون عامّـة - للمجتـمع رُمّـةً - لا خاصّة حتّى ترتفع الأسبابُ الحاملةُ على التّفاوُت الاجتماعيّ بين النّاس؛ التّفاوت الذي يجعلهم ينقسمون إلى طبقات: طبقات مالكة لوسائل الإنتاج وطبقات محرومة من وسائل الإنتاج...، كان على النّـقد اللّيبراليّ لها أن ينصرف إلى بيان ما تُضْمِرُه تلك السّرديّـة من قـوْلٍ بوجوب إبطال مبدإ الحرّية من الأساس؛ لأنّ أُسَّـه الأساسَ هو حرّية التّـملُّـك: ومتى بَطَـل هذا سقطتِ الحرّيةُ جملةً (= في المعتقد اللّيبراليّ). وإلى ذلك فإنّ تأميم المُلكيّـة ووسائل الإنتاج -الذي تدعو إليه الفكرةُ الاشتراكيّة- نقضٌ لأهمّ قوانين الاقتصاد والإنتاج عند اللّيبراليّة؛ أي نقضٌ لمبدأ المنافسة التي بها تَعْظُم الثّروة، لذلك ترفض القولَ به وتنتقده. ثمّ إنّ الدّولة حين تُخضع الاقتصاد والإنتاج ووسائله والملكيّة والثّروة لسلطتها، باسم المجتمع، تعتدي اعتداءً سافرًا -في نظر اللّيبراليّة- على حقٍّ طبيعيّ ومدنيّ يعود إلى الأفراد. هكذا، باسم المجتمع، تمارس الاحتكار وتصادر الحقوق الفرديّة والحريّـات، والحال إنّه ليس للدّولة -يقول النّـقد اللّيبراليّ- أن تتدخّل في الاقتصاد، أو أن تزاحم الخواصّ في الإنتاج والاستثمار، بل واجبها الوحيد هو أن تَحْمِيَ المُلكيّة الخاصّة وتُحيطَها بالضّمانات القانونيّة، وأن تحميَ الاقتصاد الحـرّ ممّا يتهدّده: أي منها هي أيضاً!
ولمّا كانت الفكرةُ الاشتراكيّة وجدت لنفسها تجسيدا، سياسيّا ومؤسسيّـا، في النّظام السّوفـييتيّ وردائفه في بلدان أوروبا الشّرقـيّة -أي في ما عُـرِف، في ما مضى، باسم المعسكر «الاشتراكيّ»-؛ ولمّا كان مضمون هذه «الاشتراكيّة» السّوفييتـيّة هو سيطرة الدّولة على الاقتصاد وتأميم وسائـل الإنتاج والإشراف المباشر على القطاعات العامّة للاقتصاد، صار أكثرُ النّـقد اللّيبراليّ للسّرديّـة الاشتراكيّة نقداً سياسيّاً للـتّجربة السّياسيّة السّوفييتـيّة ونظائرها، وليس نقداً فكريّـاً للنّظريّة الماركسيّة في الاشتراكيّة و، بالتّالي، بات سهلاً تصيُّـد أخطاء تلك التّجربة وخطاياها وتركيب استنتاجات عليها تطال الفكرةَ والنّظريّة معاً، لا فقط النّظام السّياسيّ الذي قام باسمهما. وهكذا حينما وقعت الواقعة وانهار الاتّحاد السّوفييتيّ، تحت وطأة تناقضاته القوميّة والسّياسيّة الدّاخليّة، وجد النّـقدُ اللّيبراليّ في سقوطه دليلَه الماديّ على بطلان الفكرة التي عليها قام (أي الاشتراكيّة)، من غير أن يحترم المسافة بين الفكرة العليا وتطبيقاتها التي لا تكون، في الغالب، مطابِقة ولا واحدة.
على أنّ ما ميّز السّرديّة الاشتراكيّة عن مثيلتها اللّيبراليّة أنّها لم تكن موضعَ نقـدٍ من الخارج، من اللّيبراليّة حصراً، بل وقع انتقادُها حتّى من الدّاخل؛ أي من قِبَـل مَن تشكّكوا في أن تكون روايتُها عن الاشتراكيّة روايةً صحيحة، ومَن أصرّوا على أنّها رواية سوفييتـيّـة لا رواية اشتراكيّة. كان في جملة هؤلاء الصّين: ماوتسي تونج وتلامذته، والتروتسكيّون، والمجالسيّون، ومدرسة فرانكفورت، والتيّار الألتوسيريّ، وماركسيو العالم الثّالث ومدرسة التّبعيّة (أندريه غاندر فرانك، سمير أمين)، وشارل بيتلهايم: صاحب الدّراسة الأوسع والأشـمل (ثلاثة أجزاء) عن الاتّحاد السّوفييتيّ وتلامذته من الاقتصاديين الغربيّين...إلخ. وما كان نقد هؤلاء للسّرديّـة تلك أقـلّ حـدّةً وشدّة من النّـقد اللّيبراليّ لها، بل كثيراً ما تخطّاه إلى الأبعد؛ ولم تكن تلك حالُ اللّيبراليّين مع السّرديّة اللّيبراليّة إلاّ جزئيّاً و، غالباً، في فترات التّـأزّم الرّأسماليّ.
إذا كان لنا تلخيص جوهر النّقد الماركسيّ -غيرِ المُسَفـيَت- للسّرديّـة «الاشتراكيّة» السّوفييتيّة، فإنّ أظهر ما يفرض نفسَه علينا في ذلك النّـقد قضايا ثـلاث نعْرِضها في إسراعٍ. أوّلها أنّ الاشتراكيّة، بوصفها مرحلةً انتقاليّة، ليست تمركُزًا للسّلطة وتضخُّمـاً لجهاز الدّولة -على نحو ما حصل في الاتّحاد السّوفييتيّ وشرق أوروبا- بل سمتُها الرّئيس هي اضمحلال الدّولة التّدريجيّ وبلوغ المجتمع مرحلة النّضج لتنظيم نفسه ذاتيّـاً. وثانيها أنّ الاشتراكيّة، في تعريفها النّظريّ، هي المرحلة الاجتماعيّة التي تفتح الطّريق نحو السّيطرة المباشرة على وسائل الإنتاج من قِبَـل المنتجين، بينما انتهت الاشتراكيّة المُسَـفْـيَـتَة إلى سيطرة الدّولة على تلك الوسائل فتحوّلتِ الدّولةُ بذلك إلى مالكٍ رأسماليّ جديد، وأقامت نمطَ إنتاجٍ جديد هو رأسماليّة الدّولة (سمَّـتْه اشتراكيّة). وثالثها أنّ الاشتراكيّة تديرها سلطة مؤلّـفة من القوى المنتجة أو من مجالس تمثّـلها، والحال أنّ الطّبقة التي تدير سلطة الاشتراكيّة السّوفييتيّة هي برجوازيّـة الدّولة. وقد اقترن نقد المضمون الاجتماعيّ للاشتراكيّة المطبَّـقة هـذا بنقد مضمونها السّياسيّ، وخاصّة بنقد نموذج النّظام الكُـلاّنيّ (= التّـوتاليتاريّ) الذي شهد على بناء أساساته ومعماره في العهد السّتالـينيّ، واستمرّ قائماً إلى حين انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة الاشتراکی ة الاجتماعی ة الس یاسی ة ة الد ولة الحر یة الن ظام ة التی ردی ـة
إقرأ أيضاً:
“الصير مارين” تتسلّم ناقلتين حديثتين للمنتجات البترولية والكيماويات
أعلنت شركة الصير مارين للمعدات والتوريدات البحرية، تسلّمها ناقلة “سيف” وسفينة أخرى من شركة “كي لبناء السفن” الكورية.
وتمثل الناقلتان الدفعة الثانية من الأسطول المتطور الذي تم بناؤه حديثًا من قبل الشركة الكورية، ويضم ست ناقلات متوسطة المدى.
وقد تم تزويد كلتا الناقلتين بنظام تنقية غازات العادم، وتجهيزهما لاستخدام الوقود البديل قليل الانبعاثات مثل الغاز الطبيعي المسال، أو الوقود الخالي من الانبعاثات مثل الأمونيا، والميثانول.
وتؤكد تلك المزايا التزام “الصير مارين” بتكنولوجيا المستقبل، وامتثالها الصارم للوائح والأنظمة البيئية، مع تلبية الطلب المتزايد عالميًا على نقل الكيماويات والمنتجات البترولية النظيفة.
وقد تم تمويل عملية تسلّم الناقلتين من قبل شركة “بوكوم للتأجير التمويلي”، التابعة لبنك الاتصالات الصيني، بقيمة 80 مليون دولار “40 مليون دولار أمريكي لكل ناقلة”، في خطوة تعزز شراكتها مع “الصير مارين”، والتي انطلقت في أغسطس 2024 بتمويل ناقلتي “بيتيلجوس” و”بيلاتريكس” بالقيمة نفسها، ليرتفع إجمالي استثمارات “بوكوم للتأجير التمويلي” مع “الصير مارين” إلى 160 مليون دولار أمريكي.
وقال جاي نيفينز، الرئيس التنفيذي لشركة الصير مارين للمعدات والتوريدات البحرية، إن الشركة تواصل تعزيز استثماراتها الإستراتيجية وتوسيع أسطولها من ناقلات المنتجات البترولية والكيماويات؛ إذ يُعد هذا المجال أحد أكثر القطاعات الواعدة في صناعة النقل البحري.
وأضاف أن مضاعفة استثمارات “بوكوم للتأجير التمويلي” تُؤكد الثقة الكبيرة في قدرات أسطول الشركة وفرص النمو الكامنة في أسواق الشحن البحري، حيث تتماشى هذه الخطوة مع رؤية الشركة في الوصول إلى الريادة العالمية لتلبية الطلب المتنامي على الكيماويات والمشتقات البترولية المكررة.
وتبلغ حمولة كل ناقلة نحو 50 ألف طن ، ويمكن لكل منهما نقل ست حمولات مختلفة من النفط والمواد الكيماوية في ستة مستودعات منفصلة تمامًا عن بعضها البعض، ما يرفع من كفاءة التشغيل ويلبي متطلبات عمليات الشحن العالمية بمرونة عالية.
وتمتاز السفينتان بالقدرة على الرسو في مختلف الموانئ الكبرى حول العالم، بفضل تصميمهما المتقدم وحجمهما المثالي، ويمكنهما الإبحار بكفاءة عبر جميع الممرات المائية الدولية.
وقد تم تأجير الناقلتين بعقد يمتد إلى خمس سنوات مع شركة “ريلاينس للصناعات” بقيمة 42 مليون دولار لكل ناقلة، لتنضمّا إلى ناقلتي “بيتيلجوس” و”بيلاتريكس” المؤجرتين للشركة نفسها سابقًا.
وبعد تسلّم الناقلتين الحديثتين، يتبقى سفينتان فقط ضمن أسطول الناقلات الست التي تم طلبها العام الماضي من شركة “كي لبناء السفن” الكورية، ويتوقع تسلّم الناقلتين الأخيرتين في يناير 2025.
وسيسهم تأجير “سيف” والناقلة الأخرى في تعزيز إيرادات الشركة، والتي ارتفعت إلى 580 مليون درهم “158 مليون دولار” خلال النصف الأول من عام 2024، ليبلغ إجمالي أصولها 7.5 مليار درهم “2.04 مليار دولار “.
وسيعزز توسيع أسطول الشركة مكانتها باعتبارها لاعبًا رئيسًا في قطاع النقل البحري في دولة الإمارات؛ حيث تجاوزت قيمة استثماراتها الإستراتيجية في موانئ أبوظبي، و”أدنوك للإمداد والخدمات” 1.45 مليار درهم “395.1 مليون دولار”.وام