ميلاد رسول الله «دراسة تربوية بلاغية لبعض آيِ الذكر الحكيم» «8»
تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT
والتركيب الإضافي (سول الله) واردٌ للتشريف، فتكون الإضافة على معنى اللام، أيْ رسول لله أرسله لنا، ولصلاحنا، أيْ رسول لله؛ وذلك لبيان عظمة المرسِل، وشرف المرسَل، وكمال ما به أُرْسِلَ، أو تكون الإضافة على معنى (من)، أي رسول من عند الله، فهو مرسل من قبله ـ جلَّ شأنه ـ أو تكون الإضافة على معنى (عن) أي: رسول مبلغ عن الله، آخذ عن مولاه، ومخبرٌ عن ربه، قد ربَّاه على عينه، كما أخبر عن نفسه الشريفة، حيث قال:(أدبني ربي، فأحسن تأديبي)، فهو علويُّ التربية، سماويُّ الخُلُقِ، ربانيُّ الرعاية، وكلمة:(أسوة) مأخوذة من الفعل:(أسا ـ يأسو) بمعنى طبَّب يطبِّب، ويُسَمَّى الطبيبُ الآسيَ؛ لأنه يأسو جراح، أي: يعالجها، ويطبِّبها، ويكون ـ بعد الله ـ سببًا في علاجها، وبرء صاحبِها منها، والرسول أتى ليطبِّب البشرية، ويأسُوَ بسيرته جراحَها، وينهض بها من وهديتها، وكبوتها، وينتشلها من أمراضها المستعصية، أمراضها النفسية، وأمراضها الاجتماعية، وأمراضها الفكرية، وأمراضها العقدية، ويرفعها إلى مستوى الإنسانية اللائق بها، وقوله:(أسوة) هو نكرة، والنكرة تفيد العمومَ، والشمولَ، وهي كناية عن صفة هي سعة مقام القدوة، واتساع مناحي الأسوة، فهو أسوةٌ في كل صفات الخير، وسمات الحُسْنِ، فهو مَأْسُوٌّ به، ومُقْتَدًى به في العفو، والصفح، والحلم، والتعاون، والتسامح، والبر، والصلة، والكرم، والأخوة، والذكاء، وحسن التخلص، والصدق، والنبل، ورقة المشاعر، ورهافة الإحساس، وسعة العطاء، وكمال سعة الصدر، وغيرها من كل كمالات البشر، فقد تَجَمَّعَتْ في شخصه الشريفِ كلُّ الأخلاقيات التي يتعشَّقُها الكبراءُ، ويهواها النبلاءُ، ويحرص عليها الأولياءُ، وهي من خصائص المقربين.
ثم وُصِفَتْ بكلمة:(حسنة) التي هي من أوزان الصفات المشبهة التي تعني أن الحُسْنَ ثابتٌ لها، أزليٌّ فيها، وأنها واردة على التنكير الذي يعني كلَّ حسن، وجميعَ الحُسْنِ، فهي كناية عن صفة هي اتساعُ الحُسْنِ، واستمراره، وسرمديته، فكلُّه (صلى الله عليه وسلم) حسن، وقدوتُه حسنةٌ، والأسوةُ فيه بكلِّ ألوان، وأصناف، وأطياف الحسن، والكمال التام موفورة، وهي بكمالها وجمالها وجلالها ممهورة، مشكورة.
ثم وَضَّحَتِ الآية المقصودَ بالضمير (كم) في قوله:(لكم) المتقدِّم، فهي بدلٌ منه، وشرحٌ له، وتوضيحٌ لمرادها، وبيان لمقصودها، بدليل اللام التي وضَّح النحويون صفتَها، وأنها إذا كان المبدل منه معها ضميرا أعيدَ في المبدَلِ ما كان قد اتصل بالمبدل منه من حروف الجر، وقد تقدَّم المبدلُ منه ضميرًا متصلا سبقتْه لامُ الجر، فأعيدَ في البدلِ حرفُ الجر نفسُه، وهو اللام:(لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا)، وهنا ورد اسم الموصول العام، أو المشترك:(من) الذي يعود على الذكر والأنثى، الكبير والصغير، الأبيض والأسود، العربي والعجمي، من في الشمال، ومن في الجنوب، ومن في الشرق، ومن في الغرب، مادام مسلمًا، أيا كانت جنسيته، ولونه، وثقافته، ومكانه، كلُّهم داخل في:(من).
د.جمال عبدالعزيز أحمد ❋
❋ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة – جمهورية مصر العربية
Drgamal2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الح س ن
إقرأ أيضاً:
شخصيات إسلامية.. سمع النبي قراءته في الجنة حارثة بن النعمان الأنصاري
الصحابي الجليل حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ نَفْعِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ الأنصاري، أَبو عَبْدِ اللهِ.. شهد بدرًا والمشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أحد الثمانين الذين ثبتوا وصبروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حُنَين.
من مناقبه رضي الله عنه: أنه كان من أشدّ الناس برًّا بأُمه، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه سمِع قراءته في الجنة، فعن أمّ المؤمنين السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ كَذَاكُمُ الْبِرُّ، كَذَاكُمُ الْبِرُّ».»مسند أحمد«.
وله من المناقب أيضًا: ما رُوي في «المعجم الكبير» عَنْ محمد بن عثمان، عن أبيه قَالَ: كان حارثة بن النعمان قد ذهب بصرُه، فاتّخذ خيطًا في مصلّاه إلى باب حجرته، ووضع عنده مِكتَلًا فيه تمرٌ وغيره، فكان إذا جاء المسكين فسلّم أخذ من ذلك المِكتلِ، ثم أخذ بطرف الخيط حتى يناوله، وكان أهلُه يقولون: نحن نكفيك. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مُنَاوَلَةُ الْمِسْكِينِ تَقِي مِيتَةَ السُّوءِ».
وجاء في كتب السير أنه كان لحارثة رضي الله عنه منازل قرب منازل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فكان كلما أحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهلًا تحوّل حارثة عن منزله، حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَقَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ مِمَّا يَتَحَوَّلُ لَنَا عَنْ مَنَازِلِهِ»، فبلغ ذلك حارثة فَتَحَوَّلَ، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَقَال: يا رسول الله، هذه منازلي، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله، والله يا رسول الله المال الذي تأخذ مني أحبّ إليّ من الذي تدع، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم..وتُوفّي في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.