جريدة الوطن:
2024-09-19@11:04:08 GMT

بؤس السياسة البريطانية

تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT

على عكس ما يتصوَّر البعض في منطقتنا، وتروِّج بعض وسائل الإعلام، لَمْ تأتِ إقالة وزيرة داخليَّة بريطانيا سويلا بريفرمان من منصبها نتيجة تصريحاتها ضدَّ المتظاهرين الدَّاعين لوقف الحرب في غزَّة. فموقفها هذا لا يختلف عن موقف رئيس الوزراء ريشي سوناك ولا موقف وزير الخارجيَّة السَّابق الَّذي حلَّ محلَّها في الداخليَّة جيمس كليفرلي.

كُلُّ ما في الأمْرِ أنَّ بريفرمان تزايد على سوناك في التوجُّه اليميني المتطرِّف داخل حزب المحافِظين الحاكِم. ولَمْ يكُنِ المقال الَّذي نشرَتْه في صحيفة «التايمز» عشيَّة المَسيرة الأخيرة الرَّافضة للحرب في غزَّة والَّذي حرَّضتْ فيه على شُرطة العاصمة؛ لأنَّها رفضت طلبها بإلغاء المظاهرة، سوى تكئة لسوناك كَيْ يقيلَها من حكومته. وحسب ما نقلت وسائل الإعلام عن رئاسة الحكومة فإنَّ طردها لَمْ يكُنْ بسبب تصريحاتها الَّتي عَدَّت المَسيرات ضدَّ الحرب على الفلسطينيِّين خِطاب كراهية، وإنَّما لتصريحاتها السَّابقة الَّتي بدا فيها أنَّها تستهدف قتْلَ المُشرَّدين الَّذين ينامون في شوارع.
أيَّا كان السَّبب المباشر الَّذي اتَّخذه رئيس الوزراء ذريعة للتخلُّص من شخصيَّة مثيرة للجدل والشِّقاق، فقَدْ كان ريشي سوناك يعمل على تعديل وزاري من قَبل ذلك بأسابيع، وفي القلب مِنْه التخلُّص من بريفرمان ووزيرة البيئة تيريزا كوفي. إذ يعدُّ هؤلاء والبعض غيرهم مفروضين عَلَيْه لمواءمات حزبيَّة حين اختاره نوَّاب حزب المحافِظين، دُونَ حتَّى انتخابات بَيْنَ أعضاء الحزب الحاكِم العامَّ الماضي لخلافة سلَفِه ليز تراس الَّتي لَمْ تمضِ في الحكم أكثر من ستَّة أسابيع. كانت ليز تراس أيضًا ضمَّت بريفرمان لحكومتها قصيرة الأجل كوزيرة للداخليَّة بعدما نافستها على زعامة الحزب ورئاسة الحكومة خلفًا لبوريس جونسون، ورفضت بريفرمان التنازل عن الترشُّح لكنَّها خسرت سباق الزعامة أمام تراس. إلَّا أنَّ تراس، في مواءمة مع الجناح اليميني المُتشدِّد في الحزب، ضمَّتها لفريقها. وقَبل استقالتها بأيَّام أقالتها من الحكومة لانتهاكها مدوَّنة السلوك الوزاري، لكنَّ سوناك أعادها للوزارة بعد تولِّيه السُّلطة. وحتَّى من قَبل تصريحاتها الأخيرة، هناك تسريبات بأنَّها تنوي تجميع ما يكفي من النوَّاب لسحْبِ الثِّقة من سوناك ومعاودة المنافسة على رئاسة الحزب والحكومة قَبل الانتخابات.
أمَّا ضمُّ سوناك لرئيس الوزراء السَّابق ديفيد كاميرون لحكومته وزيرًا للخارجيَّة فالهدف مِنْه ممالأة تيار يمين الوسط في الحزب كَيْ يضْمَنَ رئيس الحكومة ما يكفي من الدَّعم لقيادته الحزب في انتخابات مايو القادم. كُلُّ تلك المناورات تتعلق بالسِّياسة الداخليَّة، ولا تعني أيَّ تغيير في مواقف بريطانيا فيما يتعلق بالسِّياسة الخارجيَّة. وهي مناورات تعكس الشِّقاق والخلافات في حزب المحافِظين الحاكِم والَّتي تزداد حدَّة مع اقتراب الانتخابات، وما يبدو من استطلاعات الرأي أنَّ الحزب الَّذي بقِيَ في الحُكم لعَقْدٍ ونصف العَقْد من الزمن يفقد ثقة الناخبين ويُمكِن أن يُمنَى بهزيمة واضحة أمام أحزاب المعارضة. والواقع أنَّ السِّياسة البريطانيَّة تعاني من التَّدهور السَّريع والمستمر منذ استفتاء الخروج من الاتِّحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016. ولا يقتصر ذلك على حزب المحافِظين الحاكِم، وإنَّما يطول أيضًا حزب المعارضة الرئيسي، حزب العمَّال، الَّذي كان متقدِّمًا جدًّا في أوساط الناخبين قَبل إقالة زعيمه السَّابق جيريمي كوربين بتهمة عدم تصدِّيه لانتشار انتقاد «إسرائيل» في الحزب. وتآمر بقايا أنصار توني بلير مع «رجل المؤسَّسة» كيير ستارمر للإطاحة بكوربين. وزادت انشقاقات حزب العمَّال في ظلِّ زعامة ستارمر، الَّذي قاد الحزب نَحْوَ اليمين بعيدًا عن قاعدته العمَّاليَّة واليساريَّة التقليديَّة. ورغم أنَّ استطلاعات الرأي تُظهر تقدُّم العمَّال على المحافِظين ببضع نقاط، إلَّا أنَّ مواقف ستارمر الَّتي يزايد فيها أحيانًا على المحافِظين واليمين السِّياسي تفقد الحزب قدرًا كبيرًا من قاعدته الانتخابيَّة.
صحيح أنَّ الحزب الثالث في المشهد السِّياسي البريطاني، وهو حزب الليبراليِّين الديموقراطيِّين، لا يشهد تلك الانقسامات والمشاكل الداخليَّة الَّتي يشهدها المحافظون والعمَّال، لكنَّه مهما كانت حظوظه الانتخابيَّة العام القادم فلَنْ تمكِّنَه من الحصول على أيِّ أغلبيَّة ولا حتَّى نسبيَّة. والأرجح في ظلِّ بؤس السِّياسة البريطانيَّة ألَّا تسفر انتخابات مايو عن أغلبيَّة واضحة لأيِّ حزب، وإنَّما عمَّا يُسمَّى «برلمان معلَّق» يحتاج فيه أحَد الحزبَيْنِ الرئيسيَّيْنِ للتحالف مع أحزاب صغيرة لضمان أغلبيَّة كافية لِتشكيلِ حكومة. وعلى مدى تاريخ بريطانيا المعاصر لَمْ تثبت الحكومات الائتلافيَّة قدرتها على قيادة البلاد بشكلٍ جيِّد. وفي الأغلب الأعمِّ تزيد من مشكلات الحكومة وتقود من بؤس سياسي إلى تدهور أكبر. وربَّما يكُونُ بؤس السِّياسة، ممثلة في الأحزاب، انعكاسًا لبؤس عامٍّ في بريطانيا ككُلٍّ يتمثل في تدهور مستوى المعيشة فيها مقارنةً مع نظرائها من الدوَل الَّتي تُوصَف بأنَّها «متقدِّمة». ويكفي أن تعبرَ القنال الإنجليزي لِتشعرَ على الفور بالفارق بَيْنَ مستوى الخدمات وكلفة المعيشة وغيرها من مظاهر الحياة. لكن طبعًا يظلُّ «الصَّلف الامبراطوري» يطغى على أعيُن الناظرين فيرون أنفُسَهم أفضل من الآخرين على عكس ما هو الحال في الحقيقة. وما ذلك إلَّا تعبير آخر عن البؤس البريطاني العامِّ وليس بؤس السِّياسة فحسب. ولا يتوقع أن ينتهيَ ذلك قريبًا في ظلِّ تردِّي الاقتصاد وانشقاقات وخلافات الأحزاب وفقدان النَّاس الثِّقة في النخبة والمؤسَّسة بشكلٍ عامٍّ.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: بؤس الس

إقرأ أيضاً:

قانون العفو: تذكرة جديدة للمفسدين أم إصلاح ما أفسدته السياسة؟

16 سبتمبر، 2024

بغداد/المسلة: أنهى مجلس النواب العراقي مناقشة مشروع قانون التعديل الثاني لقانون العفو العام، الذي يشمل المرتكبين للجرائم قبل إصدار قانون العفو العام لعام 2008.

لكن هذا التعديل، الذي يثير جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية، يُعتبر من قبل بعض النواب تهديدًا للنظام القضائي وإعطاء الضوء الأخضر للفساد، خاصة فيما يتعلق بجرائم سرقة المال العام.

والقلق الأبرز في تعديل هذا القانون هو مخاوف من شمول ناهبي المال العام والفاسدين الذين ارتكبوا جرائمهم قبل عام 2008 اذ يرى البعض أن هذه الخطوة قد تُفهم على أنها عفو عن الفاسدين، الذين أساءوا استخدام المال العام دون عقاب.

النائب باسم خشان أشار إلى أن مشروع القانون يسمح بعودة هؤلاء المسؤولين إلى مناصبهم الحكومية، مما يعزز من الشعور بعدم محاسبة الفاسدين.

مساومات سياسية

في تطور آخر، كشف النائب حسين عرب عن مساومات بين القوى السياسية السنية، حيث تم التفاوض على قانون العفو العام مقابل تنازلات فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية فيما أوضح النائب رعد الدهلكي أن الإرادة السنية كانت غائبة تمامًا عن البرلمان في ظل غياب الرئاسة، مشيرًا إلى أن المندلاوي هدد بسحب قانون العفو في حال عدم تمرير قانون الأحوال الشخصية.

وهذه الديناميكية السياسية تعكس قوة الضغط المتبادل بين القوى المختلفة في البرلمان العراقي، حيث تُستخدم القوانين كأدوات للتفاوض السياسي، وهو ما قد يعرّض حقوق المواطنين ومصالحهم للخطر في حال تم التلاعب بالقوانين لتلبية أجندات معينة.

رأي القانونيين

وأكد المحامي علي التميمي على ضرورة أن يشمل تعديل قانون العفو العام توضيحًا دقيقًا للجرائم المشمولة، محذرًا من أن تكون التعديلات غامضة بما يسمح بتهرب الفاسدين من المساءلة.

وأشار التميمي أيضًا إلى أن قانون الأحوال الشخصية الحالي يُعد من أفضل القوانين في المنطقة، ما يعني أن أي تعديلات عليه قد تُسبب جدلاً كبيرًا.

و التعديل الجديد على قانون العفو العام يمكن أن يكون سيفًا ذا حدين،  فمن ناحية، يمكن أن يُنظر إليه كخطوة لإعادة دمج مرتكبي الجرائم غير العنيفة في المجتمع، خصوصًا أولئك الذين ارتكبوا جرائم طفيفة قبل عام 2008. ومن ناحية أخرى، هناك خشية من أن القانون قد يُستخدم لحماية المتورطين في الفساد، مما يؤدي إلى تقويض الثقة في النظام القضائي وفي مؤسسات الدولة.

والسياسة في العراق غالباً ما تُبنى على التحالفات والمساومات، وهذه المرة، يتضح أن المساومة السياسية تتجاوز الحدود المقبولة، حيث يتبادل السياسيون المواقف حول قضايا حساسة مثل قانون العفو العام وقانون الأحوال الشخصية.

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • السياسة والخلط بين أَحْكامِها وحُكّامِها.. أهل السنة لا يؤمنون بعصمة العالم
  • نتانياهو يهاجم الحكومة البريطانية بسبب "رسائل مختلطة"
  • بمشاركة كبار المسؤولين من الحكومة وشركات القطاع الخاص.. انطلاق فعاليات أكبر بعثة طرق أبواب مصرية لجذب الاستثمارات البريطانية
  • نواب الحزب الليبرالي الكندي: مستعدون للتصويت على حجب الثقة عن الحكومة الأسبوع المقبل
  • انفجارات البيجر تجر تايوان إلى السياسة في الشرق الأوسط
  • ‏مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي يدين تفجير أجهزة الاتصالات في لبنان
  • بنكيران في تصريح جديد: لو كنت رئيس الحكومة لما وافقت على التطبيع مع إسرائيل!
  • الدياشة ,,, وحوش السياسة
  • قانون العفو: تذكرة جديدة للمفسدين أم إصلاح ما أفسدته السياسة؟
  • السياسة الصناعية ورداؤها الجديد الخادع