جريدة الوطن:
2025-03-04@07:39:56 GMT

بؤس السياسة البريطانية

تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT

على عكس ما يتصوَّر البعض في منطقتنا، وتروِّج بعض وسائل الإعلام، لَمْ تأتِ إقالة وزيرة داخليَّة بريطانيا سويلا بريفرمان من منصبها نتيجة تصريحاتها ضدَّ المتظاهرين الدَّاعين لوقف الحرب في غزَّة. فموقفها هذا لا يختلف عن موقف رئيس الوزراء ريشي سوناك ولا موقف وزير الخارجيَّة السَّابق الَّذي حلَّ محلَّها في الداخليَّة جيمس كليفرلي.

كُلُّ ما في الأمْرِ أنَّ بريفرمان تزايد على سوناك في التوجُّه اليميني المتطرِّف داخل حزب المحافِظين الحاكِم. ولَمْ يكُنِ المقال الَّذي نشرَتْه في صحيفة «التايمز» عشيَّة المَسيرة الأخيرة الرَّافضة للحرب في غزَّة والَّذي حرَّضتْ فيه على شُرطة العاصمة؛ لأنَّها رفضت طلبها بإلغاء المظاهرة، سوى تكئة لسوناك كَيْ يقيلَها من حكومته. وحسب ما نقلت وسائل الإعلام عن رئاسة الحكومة فإنَّ طردها لَمْ يكُنْ بسبب تصريحاتها الَّتي عَدَّت المَسيرات ضدَّ الحرب على الفلسطينيِّين خِطاب كراهية، وإنَّما لتصريحاتها السَّابقة الَّتي بدا فيها أنَّها تستهدف قتْلَ المُشرَّدين الَّذين ينامون في شوارع.
أيَّا كان السَّبب المباشر الَّذي اتَّخذه رئيس الوزراء ذريعة للتخلُّص من شخصيَّة مثيرة للجدل والشِّقاق، فقَدْ كان ريشي سوناك يعمل على تعديل وزاري من قَبل ذلك بأسابيع، وفي القلب مِنْه التخلُّص من بريفرمان ووزيرة البيئة تيريزا كوفي. إذ يعدُّ هؤلاء والبعض غيرهم مفروضين عَلَيْه لمواءمات حزبيَّة حين اختاره نوَّاب حزب المحافِظين، دُونَ حتَّى انتخابات بَيْنَ أعضاء الحزب الحاكِم العامَّ الماضي لخلافة سلَفِه ليز تراس الَّتي لَمْ تمضِ في الحكم أكثر من ستَّة أسابيع. كانت ليز تراس أيضًا ضمَّت بريفرمان لحكومتها قصيرة الأجل كوزيرة للداخليَّة بعدما نافستها على زعامة الحزب ورئاسة الحكومة خلفًا لبوريس جونسون، ورفضت بريفرمان التنازل عن الترشُّح لكنَّها خسرت سباق الزعامة أمام تراس. إلَّا أنَّ تراس، في مواءمة مع الجناح اليميني المُتشدِّد في الحزب، ضمَّتها لفريقها. وقَبل استقالتها بأيَّام أقالتها من الحكومة لانتهاكها مدوَّنة السلوك الوزاري، لكنَّ سوناك أعادها للوزارة بعد تولِّيه السُّلطة. وحتَّى من قَبل تصريحاتها الأخيرة، هناك تسريبات بأنَّها تنوي تجميع ما يكفي من النوَّاب لسحْبِ الثِّقة من سوناك ومعاودة المنافسة على رئاسة الحزب والحكومة قَبل الانتخابات.
أمَّا ضمُّ سوناك لرئيس الوزراء السَّابق ديفيد كاميرون لحكومته وزيرًا للخارجيَّة فالهدف مِنْه ممالأة تيار يمين الوسط في الحزب كَيْ يضْمَنَ رئيس الحكومة ما يكفي من الدَّعم لقيادته الحزب في انتخابات مايو القادم. كُلُّ تلك المناورات تتعلق بالسِّياسة الداخليَّة، ولا تعني أيَّ تغيير في مواقف بريطانيا فيما يتعلق بالسِّياسة الخارجيَّة. وهي مناورات تعكس الشِّقاق والخلافات في حزب المحافِظين الحاكِم والَّتي تزداد حدَّة مع اقتراب الانتخابات، وما يبدو من استطلاعات الرأي أنَّ الحزب الَّذي بقِيَ في الحُكم لعَقْدٍ ونصف العَقْد من الزمن يفقد ثقة الناخبين ويُمكِن أن يُمنَى بهزيمة واضحة أمام أحزاب المعارضة. والواقع أنَّ السِّياسة البريطانيَّة تعاني من التَّدهور السَّريع والمستمر منذ استفتاء الخروج من الاتِّحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016. ولا يقتصر ذلك على حزب المحافِظين الحاكِم، وإنَّما يطول أيضًا حزب المعارضة الرئيسي، حزب العمَّال، الَّذي كان متقدِّمًا جدًّا في أوساط الناخبين قَبل إقالة زعيمه السَّابق جيريمي كوربين بتهمة عدم تصدِّيه لانتشار انتقاد «إسرائيل» في الحزب. وتآمر بقايا أنصار توني بلير مع «رجل المؤسَّسة» كيير ستارمر للإطاحة بكوربين. وزادت انشقاقات حزب العمَّال في ظلِّ زعامة ستارمر، الَّذي قاد الحزب نَحْوَ اليمين بعيدًا عن قاعدته العمَّاليَّة واليساريَّة التقليديَّة. ورغم أنَّ استطلاعات الرأي تُظهر تقدُّم العمَّال على المحافِظين ببضع نقاط، إلَّا أنَّ مواقف ستارمر الَّتي يزايد فيها أحيانًا على المحافِظين واليمين السِّياسي تفقد الحزب قدرًا كبيرًا من قاعدته الانتخابيَّة.
صحيح أنَّ الحزب الثالث في المشهد السِّياسي البريطاني، وهو حزب الليبراليِّين الديموقراطيِّين، لا يشهد تلك الانقسامات والمشاكل الداخليَّة الَّتي يشهدها المحافظون والعمَّال، لكنَّه مهما كانت حظوظه الانتخابيَّة العام القادم فلَنْ تمكِّنَه من الحصول على أيِّ أغلبيَّة ولا حتَّى نسبيَّة. والأرجح في ظلِّ بؤس السِّياسة البريطانيَّة ألَّا تسفر انتخابات مايو عن أغلبيَّة واضحة لأيِّ حزب، وإنَّما عمَّا يُسمَّى «برلمان معلَّق» يحتاج فيه أحَد الحزبَيْنِ الرئيسيَّيْنِ للتحالف مع أحزاب صغيرة لضمان أغلبيَّة كافية لِتشكيلِ حكومة. وعلى مدى تاريخ بريطانيا المعاصر لَمْ تثبت الحكومات الائتلافيَّة قدرتها على قيادة البلاد بشكلٍ جيِّد. وفي الأغلب الأعمِّ تزيد من مشكلات الحكومة وتقود من بؤس سياسي إلى تدهور أكبر. وربَّما يكُونُ بؤس السِّياسة، ممثلة في الأحزاب، انعكاسًا لبؤس عامٍّ في بريطانيا ككُلٍّ يتمثل في تدهور مستوى المعيشة فيها مقارنةً مع نظرائها من الدوَل الَّتي تُوصَف بأنَّها «متقدِّمة». ويكفي أن تعبرَ القنال الإنجليزي لِتشعرَ على الفور بالفارق بَيْنَ مستوى الخدمات وكلفة المعيشة وغيرها من مظاهر الحياة. لكن طبعًا يظلُّ «الصَّلف الامبراطوري» يطغى على أعيُن الناظرين فيرون أنفُسَهم أفضل من الآخرين على عكس ما هو الحال في الحقيقة. وما ذلك إلَّا تعبير آخر عن البؤس البريطاني العامِّ وليس بؤس السِّياسة فحسب. ولا يتوقع أن ينتهيَ ذلك قريبًا في ظلِّ تردِّي الاقتصاد وانشقاقات وخلافات الأحزاب وفقدان النَّاس الثِّقة في النخبة والمؤسَّسة بشكلٍ عامٍّ.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: بؤس الس

إقرأ أيضاً:

إعادة هندسة السياسة السودانية- نحو ليبرالية رشيدة وتجاوز إرث الفوضى

من المعلوم أن التحزب والانقسام غير الموضوعي هما من الأسباب الأساسية التي ساهمت في تخلف السودان السياسي. فمنذ الاستقلال، لم تشهد البلاد بيئة سياسية مستقرة تؤسس لحكم ديمقراطي رشيد، بل ظلت تتأرجح بين النظم العسكرية والانقلابات، وبين الأحزاب المتصارعة التي لم تستطع تقديم رؤية متماسكة لخدمة الوطن والمواطنين.
إن الممارسة الديمقراطية الحقيقية تستند إلى تمثيل بعض المواطنين للكل عبر تنظيمات سياسية قوية تتبنى رؤى واضحة حول قضايا الحكم، بحيث يتمتع الجميع بالحرية والسلام والعدالة. غير أن المشهد السياسي السوداني ظل يعاني من تعددية حزبية مفرطة تفتقد للبرامج الواقعية، مما أدى إلى ضعف الأداء السياسي وعدم القدرة على تحقيق الاستقرار.
نحو هيكلة جديدة للحياة السياسية
تجارب الدول الكبرى أثبتت أن وجود حزبين رئيسيين يمثلان الاتجاهات الفكرية العامة في البلاد يحقق استقرارًا سياسيًا أفضل، في حين أن نظام الحزب الواحد قد يؤدي إلى تسلط السلطة وغياب المحاسبة، كما حدث في الاتحاد السوفيتي سابقًا. ورغم أن النموذج الصيني يقدم مثالًا على نجاح الحزب الواحد، إلا أن هذا النجاح مرتبط بعوامل ثقافية وسياسية خاصة بالصين، ولا يمكن استنساخه في السودان.

إن السودان اليوم في مفترق طرق خطير، وإذا استمر على نهجه الحالي فإنه قد يسير نحو مزيد من الفوضى والانهيار. لذا، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة المشهد السياسي عبر تأسيس نظام حزبي جديد يعتمد على:

تحديد عدد محدود من الأحزاب التي تستند إلى برامج سياسية واقتصادية واضحة، وليس على الولاءات القبلية أو العقائدية.

إعادة تعريف النخب السياسية بحيث يتم استبعاد الأجيال التي كانت جزءًا من الخراب السياسي، وإتاحة الفرصة للشباب القادرين على طرح رؤى جديدة ومتطورة.

وضع دستور واضح المعالم يحدد الإطار العام للممارسة السياسية ويمنع تعدد الأحزاب غير المنتج.
مقترح لنظام حزبي جديد
يمكن اقتراح نظام حزبي يتكون من حزبين رئيسيين:

حزب الاتحاد الفيدرالي (FUP): يقوم على مبدأ سيادة الدستور والقانون كأساس للحكم الرشيد.

حزب الاتحاد والتنمية (UDP): يركز على التخطيط الحديث، والتنمية المستدامة، والعدالة في توزيع السلطة والثروة.
قد توجد أحزاب صغيرة أخرى لإثراء الساحة السياسية، ولكن بشرط أن تقدم أفكارًا مبتكرة، لا أن تكون مجرد أدوات لانقلابات أو صراعات على السلطة.
إزالة الولاءات التقليدية
ينبغي أن يقوم هذا النظام الجديد على إنهاء هيمنة الطائفية والقبلية والوراثة السياسية، واستبدالها بمنظومة حديثة تعتمد على الكفاءة والقدرة على تحقيق تطلعات المواطنين. كما ينبغي استيعاب المجددين من مختلف الخلفيات الفكرية في هذه الأحزاب، شرط أن يكون تأثيرهم قائمًا على الإقناع الفكري لا على الإقصاء والهيمنة.
مستقبل السودان السياسي
من المتوقع أن تكون المنافسة بين الحزبين الرئيسيين قائمة على اختلاف الرؤى حول آليات التنمية وسياسات الحكم المحلي، ولكن ليس حول المبادئ الأساسية للحكم الرشيد. فبهذه الطريقة، يمكن أن تتحقق الديمقراطية الفاعلة التي تستند إلى اختيار القيادات على أساس الإنجاز والكفاءة وليس على أساس الولاءات الضيقة.
الخطوة التالية في هذا المشروع الطموح هي صياغة هذه المبادئ في دستور جديد وقوانين واضحة تنظم العمل الحزبي، بحيث يتم تجاوز أزمات الماضي والانطلاق نحو مستقبل سياسي مستقر ومزدهر.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • النيابة العامة تستقبل وفدًا من طلاب كلية القانون بجامعة لندن والجامعة البريطانية
  • محافظ بورسعيد يتابع مستوى أداء الشركة البريطانية للنظافة
  • روسيا تعرب عن اندهاشها من التغيير الهائل في السياسة الأمريكية
  • «الخارجية» ودورها في ترسيخ السياسة العمانية
  • إعادة هندسة السياسة السودانية- نحو ليبرالية رشيدة وتجاوز إرث الفوضى
  • صراع على زعامة حزب «الأمة» السوداني يهدد بانشقاقه .. الخلاف حول «الحكومة الموازية» فجّر الأزمة وأخرجها إلى السطح
  • إقبال قياسي على التمور السعودية في الأسواق البريطانية خلال رمضان.. فيديو
  • زيلنسكي يصل إلى مقر رئاسة الوزراء البريطانية لإجراء محادثات مع ستارمر
  • عندما تُملي السياسة على التكنولوجيا.. كيف غيّر ترامب مسار غوغل؟
  • السياسة الطاقية بالمغرب.. أية رهانات للانتقال؟ قراءة في كتاب