مسائل وشخصيات وقراءات في حب الوطن .. هوى السودان في ذاكرة معاوية يسن
تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT
abusamira85gmail.com
عندما تكون المغامرة في قلب الحياة، هذا ما يميز الصحافي المقتدر والباحث المتمكن معاوية حسن يسن هو أنه يضعك دوما في قلب المغامرة. وهذه صفة جديرة بأولئك الأسلاف الصحافيين الأوائل، رغم أن أكثرهم لم يكتب كتابا واحدا، فبقيت المغامرة مجهولة، لكن أثرها ظل يشم على الدوام عبر ليالي الحكايات، وهنا يتعين علينا أن نترحم على أرواح أساتذة إجلاء يعود الفضل إليهم في ما حققنا من نجاح في دنيا الصحافة، يتقدمهم أحد قادة أول إضراب لطلبة كلية غردون قيلي أحمد عمر، وسيد الرأي والفهم فضل الله محمد.
ويمتد الأثر إلى أساتذة أجلاء سبقونا في المهنة نسأل الله أن يمتعهم بالصحة والعافية، وفي مقدمتهم: سليل المريوماب طلحة الشفيع، سبطة صاحب العبقرية الفذة الإمام عبد الرحمن المهدي الدكتورة زينب عبد الرحمن أزرق، ولا انسى (بت أمدرمان القيافة) سونا أو بثينة عبد الرحمن حسن.
مناسبة هذه التقدمة لهؤلاء الأساتذة الأجلاء أن الأداء المهني الراقي للأستاذ معاوية حسن يسن ينتمي إلى تلك المدرسة وكان أدائه المهني محل إشادتهم وتقديرهم، وكنت أنا شخصيا التقي بتلك الإشادة عبر قراءة صفحات أرشيف جريدة الصحافة خلال تلك الفترة من 1977 إلى 1980.
أصل الحكاية
أما أصل الحكاية، فقد اختار الأستاذ معاوية يسن نماذج من تجربته الصحفية تتمثل في مسائل وشخصيات وقراءات في حب الوطن، ودونها في كتاب جديد صدر أخيرا بعنوان (في هوى السودان).
كتاب من 464 صفحة من الحجم المتوسط أصدرته دار مدارات للطباعة والنشر.
جاء عنوان الكتاب من ثلاث كلمات (في هوى السودان) وحرف الجر في في لغة العرب يفيد الكلية، رغم أن الكتاب جهد فردي يعادل جهد مؤسسة، يخدم الصحافة الحديثة ويوصلها بتجربة الحرية في تشكيل الوعي، حرية يتميز بها الواقع السوداني وطالعة من بند الحرية المتفرد في التكوين الثقافي للوطن الذي لا يزال جديدا.
معاوية يسن صاحب قلم متميز، كصحافي عريق،وباحث متمكن، لكن شهرته الكبرى جاءت من رصده لسيرته الغناء والطرب في السودان منذ زمن بعيد (قبل الناس تعرف الناس)، وله أربع مجلدات في هذه السيرة الجهيرة التي لها فيها حكايات داخل وخارج السودان أقرب إلى أساطير الأولين.
يتخطى بك معاوية في كتابه (هوى السودان) بأبوابه الخمسة حدود تلك الأيام، ينتشر رائحته في الشوارع الأزقة والساحات ويقتحم النوافذ إلى الغرف القصية، ينتقل بك مثل نهر النيل هادئا مرة ثم صاخبا مزمجرا وفي الحالين يحمل الخصب والنماء، لكن سرعان ما يفيض ويكتسح القرى والمدن.
خيارات متعددة
حين تهب نسائم الليل بين صفحات الكتاب تجعل خياراته متعددة، واحتضانه للغريب حميما حتى تصهره فيها. وعشق معاوية يسن لليل ونسماته وأوقاته تخاله أحيانا نرجسية مفرطة، أو محاولة لتطويع هذه الأمواج حتى تزيده جموحا وتمردا.
(هوى السودان) تجربة جديدة للكتابة تخوض في بحر من السفن الغرقى والناجية، ربما تلمح مناديل الوداع وتلويح الأيدي لراحلين بلا عودة. ولو أن ذاكرة السودان تشيخ لما اختارها معاوية ذاكرة له.
عند (هوى السودان) يجلسك معاوية، لقراءة 463 صفحة من القطع المتوسط، لن تشعر بالزمن قد انقضى أو أنه كان سريعا، نراقب في ذاكرة يتسع أمامها كل ضيق، لا تقيم حدودا، فيشرح الصدر هذا الهواء المحمل بالصدق وبراءة التجربة ومرارتها أيضا، نتحد به لتنطلق أحلامنا بلا حدود، ونقول إن الآخر جزء من تكويننا.
بنية الكتاب
تقع بنية كتاب (هوى السودان) في باب انفتاح الذات على تاريخها، ولعل هذا الكتاب التحقيقي للباحث في باب التراث والموسيقى وسائر شئون وشجون حياة أهل السودان معاوية حسن يسن يجسد هذه النزعة العلمية في البحث ورغبتها في تأسيس وعي آخر بالشفوي والمرئي والفني الثقافي عموما. ولعل انفتاح المؤلف على المراكز الثقافية ومخطوطاتها يعتبر تثمينا لواقع جديد ننتظر أن يعم في كل أبحاثنا وكتاباتنا لما فيه من خير عميم على البحث والقراءة.
تصنف الأستاذة سناء أبو قصيصة صاحبة دار مدارات التي نشرت الكتاب، تصنف الكتاب في إطار فكرة Bookzaine التي تعد من أحدث الطرق في النشر التي تجمع بين الكتاب والمجلة.
أما كاتب المقدمة الدكتور أحمد الصادق صاحب أشهر برنامج إذاعي في استعراض الكتب عرفته إذاعة أمدرمان (خارج المكان)، فقد استعار لنفسه وصف حاج الماحي (الوليد الزويل الهين). وصف د. أحمد الصادق الكتاب بـ (إنها كتابة واثقة بطعم ومذاق سودانيين تكشف فيما تكشف فضول معاوية الذي لا حدود له لكل ما له علاقة بالشأن السوداني).
يرسخ كاتب المقدمة الثانية للكتاب الدكتور الحاج سالم مصطفى استاذ علوم المكتبات في ذهن القارئ أن المؤلف معاوية يسن (لم يقتصر على مجرد الكتابة والوصف، بل أنه يجتهد وينقب، وينفق الوقت والمال، ويضرب أكباد الطائرات لأقاصي الدنيا، بحثا أو استيثاقا لمعلومة من مظانها، وعن جدتها وأصالتها).
انفتاح الذات
هوى السودان كتاب في انفتاح الذات، كتاب الهوى الغلاب عند معاوية يسن ليصبح ملحمة جديدة في ميدان الكتابة السودانية، فهو يحاكي أنواعا وأجناسا كتابية عدة، فمرة يعكس صورة الرواية الكلاسيكية المتضمنة محاكاة الذات، ومرة نراها دراما متعددة الشخوص والأحداث والأزمنة، لكن معاوية يسن في مؤلفه يمسك بـ (هوى السودان) ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بين بين أبواب الكتاب الأربعة وفصوله التي بلغت 38 موضوعا، اجتهد في تقسيمها مثل أنصبة شرعية في تركة وطن.
ولعل تركيبة الكتاب الجديدة والغريبة جزء من قيمته الإبداعية، فقد طغت عليها المشاعر الإنسانية بشدة وبرع الكاتب في تأثيث الأحداث تأثيثا جيدا، فخلق المكان في مدينة ساحرة مثل أم روابة وألبسه رداء الزمن الغابر في حكايات (بت السودان) و(جمالي البريد) وإثارة سؤال مهم فحواه من رسم (بوتريه الإمام المهدي). يجمع المؤلف كل هذه اللقطات ليقدم صورة شعرية عن الوفاء والطفولة وأحلام المستقبل المنشود وصعوبات الحياة.
هذا كتاب جدير بالبحث والدراسة بما يكتنزه مسائل وشخصيات وقراءات في حب الوطن، ولعله قد يعطي دافعا قويا للأدباء والباحثين والكتاب والنخب المثقفة للسير وراء هذا الصنف الكتابي الجديد الذي من الواجب أن يتناوله النقاد بصدق وأكاديمية عالية.
بين العنوان والمتن تبرز ميزة هذا الكتاب الإضافية أنه قد يفتح الوعي العام بعد قراءته أمام مقاربات نقدية فاعلة عن النص وعلاقته بمكوناته كاسم المؤلف والعنوان، إضافة للمصاحبات الإضافية للنص، مما يدخل القارئ في جدل قرائي بين بنية محيط النص الخارجي ومكونات النص النص بذاته. وهنا ينطبق تعريف كريفل للعنوان يعطي صدقا لقوله هو إعلان عن طبيعة النص وعن الرؤى الوطنية التي انبثق عنها.
اغراء العناوين
تغري العناوين شكليا ودلاليا عبر وظائفها المتعددة القارئ وإثارته وتشويقه لقراءة النص والمواصلة، بل حتى استفزازه بما يثيره من أسئلة على الصعيدين البصري والقرائي، بوصفه بنية قائمة في ذاتها وتخضع في تحليلها لقانون العلاقات الداخلية. وقد نجح هنا المؤلف بلفت نظرنا إلى شخصيات عالمية قتلها الحب للسودان وتسعى للانتساب إليه، بل أن هناك الكثير من الأسر والمدن والشوارع تنسب نفسها إلى اسم السودان ومدنه المختلفة.
من المعروف أن عوامل نجاح أي نص كتابي ضخم احتواؤه على عوامل أساسية تشد القارئ وتجذب فكره نحو المواصلة لمعرفة المزيد، ومن هذه العوامل في هذا العمل الوضوح والصدق حيث كانا من أفضل عوامل التشويق، فنرى المؤلف ينصف الشاعر الفحل محمد الواثق، ثم يرد الاعتبار للمرحوم محمد نور سعد حين يورد الرواية الرسمية لقصة غزوته المسماة بـ (المرتزقة) في 1976، ثم يعود ليستشهد بأكثر من أغنية شعبية تتبنى الأحداث وتنميها وتوفر للقارئ حيزا استيعابيا أكبر.
هل كان المؤلف يريد تغيير العالم؟ قطعا الإجابة هي لا، لكن اعتقد أنه لم ينظر إليها كمهمة سهلة، رغم إيمانه بها. وغالب ظني أن معاوية يسن ركض وراء الهوية في كتابه (في هوى السودان)، وهي فكرة جميلة رآها على الورق ففتن بها، وحين رآها على الأرض دون رتوش ذهب إلى المرآة وحدق فيها مليا ثم عاد ليكتبها بهذا البهاء.
لغة الكتاب
يكمن سر لغة معاوية يسن في (هوى السودان)، في طريقته السردية. فهو يتنقل بالقارئ بين عوالم في الكتاب مختلفة تماما، ويربط بينها باستخدام اللغة التي تصبح المشترك الأوحد بين هذه العوالم. وهنا يحاول أن يربط بين هذه العوالم ويبحث عن علاقات مشتركة جديدة بينها، وتكون نتيجة هذا الجهد الذهني أن يجد القارئ نفسه خلال لحظات القراءة يدخل ويخرج ويغوص ويطفو في عوالم متعددة لم يكن يظن أن بمقدوره التنقل بينها بهذه السرعة، بالضبط هذا ما أحسست به عندما في تنقلت في باب الكتاب الرابع (مسائل في هوى السودان)، بين أسئلته العديدة ولعل أبرزها:
1 ـ أين هو ذلك السوداني أب عينا حمرة وشرارة؟.
2 ـ د. الترابي كيف سيحكم عليه التاريخ؟.
3 ـ جلالة علي دينار في بلاط سلفا كير؟.
4 ـ الثورات .. نهايات سعيدة أم تعيسة؟.
5 ـ كرومة والشيخ خوجلي والدلوكة في إيران واليونان؟.
ولعل هذا الفن الكتابي التنقلي الخاطف بين عوالم مختلفة متداخلة عند معاوية يسن قد يولد حالة غريبة من الكشف الذهني لدى القارئ. وقد يكون هناك شبه بين أسلوب الانتقالات المفاجئة بين العوالم المختلفة لتصبح متداخلة على طريقة معاوبة يسن، وبين الهدف الذي سعت إليه المدرسة السريالية بقيادة الشاعر الفرنسي أندرية بريتون من محاولة تحقيق التداخل بين عوالم الحلم والواقع.
إلا أن سر نجاح معاوية يسن، يكمن في أنه لا يغرق في ممارسة الحلم كبديل عن الواقع، لكن ما نصادفه لديه يتمثل في الانطلاق من جذر الواقع نفسه بهدف إعادة تشكيله وفق الحلم. وهذا ما فصله المؤلف بوضوح في تقديمه للكتاب.
حقيبة الفن
اشتهر معاوية بسن بكتاباته التي تحكي عن سيرة الغناء والموسيقى في السودان، وله في هذا المجال مجلدات دونت بواقعية متزنة سارت بذكرها الركبان، لكن الباب الخامس من كتاب هوى السودان الذي يحمل عنوان (مسائل في الغناء السوداني)، يفتح آفاقا جديدة في هذه السيرة العطرة، فتراه يقدم لنا لقاءُ نادرا مع حمزة علاء الدين لعل الأول والوحيد من نوعه، ثم يعود في محاولة جرئية وجديدة جدا ليشرح لنا قصيدة خليل فرح (في الضواحي وطرف المدائن)، ويمتد إلى نماذج من شعر الحقيبة رافضا أن يسجن الغناء السوداني في ماضوية شعر الحقيبة الذي يمتد إلى فترة تاريخية لا تتجاوز 20 عاما. على أن المهم في هذا الباب الإشارة إلى ان فنون كردفان هي التي اجتاحت سوق الغناء السوداني، وهنا يحضرني قول لعبد الكريم الكابلي فحواه (إن معظم غناء أهل السودان مستمد من فنون كردفان حيث ألحان الجرار والبوباي والشاشاي وخلافها). والشيء بالشيء يذكر فقد اهتم مولانا أحمد محمد هارون (فك الله أسره) والي شمال كردفان الأسبق إبان مشروع نهضة كردفان بهذا الأمر وسعى بخلفيته القانوينة إلى توثيق تراث كردفان الفني عبر حفظ حقوق الملكية والحقوق المجاورة.
في باب مسائل في الغناء السوداني اعتمد معاوية يسن على استرجاع زمان الأحداث ليحيك بنية هوى السودان وترتيب سلسلتها الفكرية والمنطقية، حين يستحضر (عتيق صريع النظرة الأولى) ويحدثنا عن (برعي محمد دفع الله في اللقاء الأول). ويسرد في ذهنية جميلة (ثنائي النغم الحكاية الكاملة وحادثة دبابة جوبا). ثم يقف أجلالا أمام (الفريق العظيم جعفر فضل المولى). ويعود مستخدما المونتاج المكاني حين يحدثنا عن (الوجه الآخر لانقلاب 19 يوليو 1971).
كنوز دفينة
في تقدير الأكاديميين أن كتب التاريخ كنوز دفينة، فهي عمل مفصل قام بسرده المؤرخون، ودائماً، ما تغمرنا هذه الكتب بالسعادة من جهة الحنين إلى الماضي، ولكن ليس هذا كل شيء بالنسبة للمؤرخين المعاصرين، لأننا لسنا فقط في حاجة لتقديم الماضي، بل أيضاً لشرحه وتفسيره، إلى طبقة أكبر، تخرجه من ظلام عباءة الماضي إلى ضياء الحاضر وفضاء المستقبل.
وقياسا على ذلك فإن معاوية حسن يسن في كتابه (في هوى السودان) جسد ذاك البحث عن متلقي آخر، لأنه انخرط في كتابة جديدة يقتضيها ذاك الوعي الآخر بالحضارة السودانية في عمق احتفائها بالحرف والتراث والفنون، حيث المخطوط والغناء والطرب، فيتأسس القول المحتفي بالمعنى حيث عمق التواصل والتجريد.
(في هوى السودان) كتاب جدير بالقراءة والاقتناء.
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
بين المغالطات التاريخية والبذخ الإنتاجي.. هل فشل مسلسل معاوية؟
#سواليف
كان #الجدل الذي أثاره #مسلسل_معاوية متوقعا إلى حد كبير، نظرا لما تحتله شخصية صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أسس الدولة الأموية من مساحة هامة في التاريخ الإسلامي، لكن ما لم يتوقعه كثيرون هو ذلك الجدل الفني الذي نتج عن ضعف وعدم دقة لا يليقان بعمل بلغت تكلفته طبقا لتقارير صحفية 100 مليون دولار، وهو رقم لم يصل إليه عمل فني عربي من قبل.
المسلسل انتهى تصويره وتم تجهيزه للعرض في رمضان الماضي ولكنه لم يعرض، وهو من تأليف الصحفي المصري خالد صلاح، وإخراج كل من طارق العريان وأحمد مدحت، وبطولة لجين اسماعيل، وأيمن زيدان، وسامر المصري، ويزن خليل، وميسون أبو أسعد، وفادي صبيح.
لم تسجل أي جهة غيابا في كشف المعلقين على العمل، إذ انطلق جمهور مواقع التواصل الاجتماعي معلقا بقسوة على المسلسل منذ المشهد الأول الذي كان بداية أكثر من تقليدية لعمل غلب على ظن الجمهور والنقاد أنه لن يكون تقليديا أبدا، لكن ولادة الصحابي معاوية بن أبي سفيان في المشهد الأول أدت بشكل تلقائي إلى توقع وفاته غالبا في المشهد الأخير؛ في حكاية لا يبدو فيها الطموح الإبداعي على مستوى الطموح الإنتاجي!
مقالات ذات صلةوتصدى علماء الأزهر والنقاد والبرامج المختلفة للتعليق، وانخرط الجمهور في معارك استقطابية حاولت استعادة أجواء الفتنة، لكن مع نسبة لا بأس من “الأخطاء التاريخية” طبقا لما هو شائع في المراجع الأكثر شهرة.
ورغم أن الأعمال الفنية لا تلتزم عادة بحوادث التاريخ، فإن عليها الالتزام بحقائقه، وهو أمر يحتاج إلى نظر في العمل الذي ينتظر أن تحمل حلقاته القادمة مفاجآت جديدة وأسئلة خلافية جديدة.
تاريخٌ موازٍ؟
لم يصور المسلسل قصة حياة الصحابي معاوية بن أبي سفيان تحديدا، ولكنه يقدم صورة أراد صناعها أن تكون لحياة معاوية، ومن ثم أطلق صناع العمل لخيالهم العنان في إعادة صياغة التاريخ وكتابة أحداثه وبناء شخصياته بشكل لا يتسق مع ما روته كتب التاريخ.
ورغم خطورة “المغالطات التاريخية” في العمل، فإن القفزات الزمنية التي تجاوز بموجبها صناع العمل أحداثا مفصلية في حياة صاحب السيرة قد تمثل جريمة فنية بسبب دورها الكبير في توضيح الصورة وبيانها، فلا وجود في العمل لغزوتي بدر وأحد إلا بمرور سريع جدا.
وإذا كانت أشكال المنازل وتصميمها خارجيا وداخليا والملابس والإضاءة والإكسسوارات قد جاءت مغايرة تماما لما ينبغي أن تكون عليه الملامح الاجتماعية والثقافية لتلك المرحلة، فإن “تغيير” بنية الصحابي الجليل أبي بكر الصديق بدا مدهشا، فبينما ظهر الممثل الذي جسد دوره ضخم البنية قويا أكد الرواة والمؤرخون أن أبا بكر كان نحيلا.
وقد بلغ ذلك “التغيير” والتعديل” حدودا لا تليق حين صوّر نساء تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الجزيرة العربية والإسلام وقد ارتدين ملابس لا تليق بهن ولم يصح نقل أي وصف لما ترتديه نساء المسلمين بهذا الشكل، وخاصة ما ارتدته الصحابية هند بنت عتبة والدة مؤسس الدولة الأموية.
والغريب أن ذلك التغيير يبدأ من سنة ميلاد الصحابي معاوية بن أبي سفيان التي وردت باعتبارها قبل الهجرة النبوية بـ13 عاما، بينما ترجح الروايات أنها في السنة 15 قبل الهجرة.
ويصور العمل إسلام معاوية قبل فتح مكة، بل يقدم صناع العمل مشهدا لمعاوية بن أبي سفيان يتوضأ للصلاة، بينما يدخل جيش المسلمين إلى مكة، في حين أورد الرواة والمؤرخون أنه أسلم بعد الفتح أو يوم عمرة القضاء.
وأكد الخطأ التاريخي في استخدام سيوف دمشقية لم تشتهر وتعرف إلا في مرحلة تالية أن صناع العمل لم يرهقوا أنفسهم بتوظيف مراجعين لتاريخ مرحلة بهذه الأهمية والحساسية في تاريخ المسلمين.
فكرة قوية ونص ضعيف
منذ الحلقة الأولى، يظهر البذخ الإنتاجي في المشاهد، بتصويرها الفخم وديكوراتها، وهو ما دفع البعض إلى اعتباره “أقوى عمل درامي إسلامي” في تاريخ الدراما العربية.
وقدم العمل معاوية -الذي يؤدي دوره الممثل لجين إسماعيل- كشخصية مركبة، فهو قائد طموح، لكنه يتألم ويخطئ كأي إنسان. ورغم معقولية الفكرة، جاء الحوار، الذي كان يفترض أن يكون بليغا وملحميا، فاترا وضعيفا، يفتقر إلى العاطفة، كما افتقر إلى العمق في بناء الشخصيات، إذ بدت سطحية وغير مؤثرة، كما لو أن صانع العمل لم يكلف نفسه الغوص عميقا في تفاصيل شخصية معاوية السياسي والقائد ومعاونيه.
كان على صناع العمل أن يدركوا أنهم في مواجهة شرسة مع توتر بدأ منذ أكثر من 14 قرنا ولم ينته حتى اليوم، وقد رافق هذا التوتر أحداث الفتنة التي بدأت بحصار الخليفة عثمان بن عفان، مرورا بكل سنوات الأزمة وظلالها التي مزقت العالم الإسلامي.
لم يدرك صناع العمل ذلك “التوتر” الذي تستدعيه ذاكرة الأمة، فجاء إيقاع العمل باردا وهادئا، بينما تدور المواجهات التاريخية دون أدنى مستوى من الانفعال، خاصة مع عشوائية التنقل بين تلك المواجهات.
فخامة إنتاجية وتاريخ فقير
خلال الحقبة التي عاشها معاوية بن أبي سفيان، كانت الملابس بسيطة وعملية تتناسب مع بيئة صحراوية قاسية وحياة قبلية، وقد كان يلبس الرجال أردية خفيفة من الصوف أو الكتان ذات ألوان طبيعية تميل إلى البيج أو البني الفاتح، بلا زخرفة، أما النساء، مثل هند بنت عتبة والدة معاوية، فكنّ يرتدين ثيابا فضفاضة تغطي الجسم مع غطاء رأس بسيط مزين أحيانا بقليل من الحلي القبلية المصنوعة يدويا من الفضة أو الحجر.
لكن الشخصيات ظهرت بأزياء أكثر فخامة مما يناسب العصر بينها أقمشة لامعة أو مطرزة بزخارف غنية، تشبه أزياء العصور الإسلامية اللاحقة (مثل الحقبة العباسية) أو حتى تأثيرات عصرية.
فعلى سبيل المثال، إذا ارتدت هند ثوبا حريريا مزخرفا وارتدى أبو سفيان عباءة ذات ألوان زاهية مع إكسسوارات معدنية لامعة فهذا يتناقض مع بساطة تلك المرحلة، إذ لم تكن التجارة العالمية قد جلبت بعد مثل هذه المواد الفاخرة، وقد تكون رؤية المخرج تتعلق بإضفاء لمسة درامية بصرية لكنها في الواقع أضعفت المصداقية التاريخية.
وينطبق الأمر نفسه على البيوت التي كانت من الحجر الخام، والأسقف التي صنعت من جريد النخل أو القماش الثقيل مع أرضيات ترابية أو مغطاة بحصر من سعف النخيل، وأثاث محدود مثل الأسرّة المنخفضة أو الحصير.
ومن ثم فإن مشهد الولادة كان ينبغي أن يصوّر في غرفة ضيقة تحوي مصباحا زيتيا واحدا وأدوات بسيطة مثل إناء للماء أو قطعة قماش للمساعدة، ولكن مشهد البداية جاء خياليا تماما.
يعدّ مسلسل “معاوية” الذي بدأ عرضه مع أول أيام شهر رمضان الكريم عملا جريئا في طموحه، إذ يحاول إعادة صياغة شخصية تاريخية بإنتاج ضخم يستحق الإشادة بصريا، لكنه يعاني من سيناريو ضعيف افتقر إلى البلاغة والعمق، وأداء بارد لم يرتق إلى التوقعات لشخصيات تاريخية كبرى.
الجدل الديني والسياسي والمنع
امتد الجدل، بين الجمهور وبين مختلف الجهات، إلى المضمون التاريخي والديني، إذ عبر الدكتور عبد الفتاح العواري من الأزهر الشريف عن رفض تجسيد الصحابة مثل معاوية واعتبر ذلك “حراما شرعا”، في حين أجازت دار الإفتاء المصرية التجسيد بشرط عدم التشويه، لكن باستثناء الصحابة العشرة وآل البيت، وهو ما أثار تساؤلات عن ظهور علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان.
ومنع العراق عرض العمل الذي أثار جدلا كبيرا إذ رأى منتقدون أن المسلسل قد يقدم معاوية من “وجهة نظر سنية متشيعة”.
وأثار الاختلاف في الروايات “شبهات” حول الدقة التاريخية، خاصة مع تجسيد أحداث حساسة مثل صراع معاوية مع الصحابي الجليل علي بن أبي طالب، مما جعل العمل متهما بتحريف الحقائق لأغراض درامية أو سياسية.
ردود فعل الجمهور على مواقع التواصل كانت من جانبها مرآة لانقسام بين المشاهدين، حيث أشاد البعض بالعمل، مشيرين إلى قوة معاوية التاريخية التي صنعت “إمبراطورية ثالث أقوى دولة في التاريخ”. ورأى أحد المستخدمين أن الحلقة الأولى “لا بأس بها”، مع أمل بتحسن لاحق، مما يعكس انطباعا متفائلا محدودا.
لكن السلبيات سيطرت بسرعة؛ فبعد 3 حلقات، وصف أحد المشاهدين الشخصيات “بالبرود” والحوارات “بالضعف”، مشتكيا من افتقارها إلى العاطفة أو القوة الملحمية، ومطالبا بخطابات تليق بمعاوية كشخصية محورية. تعليق آخر هاجم الجودة، واصفا المسلسل بأنه “رديء” ومخز”، مع اتهامات للعمل بالتجسيد “غير اللائق” لصحابية، في إشارة إلى مشاهد ولادة هند لمعاوية.
ولعل أزمة مخرج العمل طارق العريان الذي انسحب تاركا المجال للمخرج أحمد مدحت إثر خلافات غامضة قد أسهمت في شعور البعض بأن مستوى العمل متواضع ومملوء بالمشاهد الضعيفة، كما وُصف على منصة “إكس”.
هذا الاستقطاب جعل المسلسل حديث الساعة، لكن صناع العمل دفعوا الثمن إذ فقدوا ثقة جزء كبير من الجمهور بمصداقيته الفنية والتاريخية.