في ذكراه ال 65 لماذا شارك الحزب الشيوعي في المجلس المركزي؟
تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT
نتابع فى الذكرى 65 لانقلاب 17 نوفمبر تجربة مشاركة الحزب الشيوعي السوداني في المجلس المركزي التي كانت مع المشاركة في انتخابات النقابات بقانون 1960م الرجعي ، في وجهة تصعيد النضال الجماهيري للتحضير للاضراب السياسي العام الذي رفعه الحزب منذ أغسطس 1961م لاسقاط الانقلاب العسكري.
في هذا الصدد نعيد مع التنقيح والاضافات نشر هذا المقال حول " تجربة مشاركة الحزب الشيوعي في المجلس المركزي" .
1
اوضحنا سابقا أن الحزب الشيوعي انطلق من الواقع السوداني ، لا بفتح كتب لينين حول التكتيكات والمشاركة في البرلمان، رغم أهميتها في الفكر الثوري العالمي ، ولا بتوجيه من السوفيت بعد تحسين علاقة نظام انقلاب 17 نوفمبر معهم كما يصور البعض. فمنذ تأسيس الحزب والصراع من أجل وجوده المستقل في منتصف عام 1947م ، توصل الي حل مشكلة التحالف مع الأحزاب الأخري المناهضة للاستعمار، مع الاحتفاظ باستقلاله التام في تنظيم الجماهير وقيادة نضالها ، والصراع ضد الاتجاهات المهادنة للاستعمار، إضافة لتأكيد استقلاله في التحالفات، واصل الحزب التقاليد الثورية وسط الحركة الجماهيرية التي تبلور بعضها منذ ثورة 1924م ، وتقاليد المظاهرات والمنشورات والندوات الجماهيرية والمقفولة والمخاطبات والليالي السياسية .الخ.
2
مع تصاعد الحركة الجماهيرية بعد قيام مؤتمر الخريجين عام 1938م ، حاولت الإدارة البريطانية شق الحركة الوطنية السودانية بقيام مؤسسات دستورية صورية مثل : المجلس الاستشاري لشمال السودان عام 1944م ، ولكنها فشلت ، ومع تطور نهوض الحركة الجماهيرية الواسع بعد الحرب العالمية الثانية ، حاول الاستعمار قطع الطريق أمامها بتكوين جمعية تشريعية في ظل وجود الحكم الاستعماري والقوانين المقيدة للحريات!! ، كان الهدف منها تزييف ارادة الشعب ، وإطالة أمد الحكم الاستعماري ، ولم يفتح الحزب الشيوعي كتاب لينين “مرض اليسارية الطفولي .. حول المشاركة في البرلمانات الرجعية” ليقرر المشاركة فيها ، بل درس الواقع وكشف زيف الجمعية التشريعية ، ونظم مقاومة واسعة ضد الجمعية التشريعية عام 1948م التي استهدف الاستعمار بقيامها قطع الطريق أمام نمو الحركة الجماهيرية ، وصارع ضد الأصوات الداعية للدخول فيها وتعديلها من الداخل ، ونظم الحزب مظاهرات مع أطراف الحركة الوطنية الأخري ضدها ولم تكن المقاطعة سلبية بل ارتبطت بنهوض جماهيري واسع شمل كل المديريات الرئيسية ، كما في عطبرة التي قدمت شهداء الجمعية التشريعية، وساهم الحزب في تأسيس جبهة الكفاح ضد الجمعية التشريعية باقتراح منه ، وحتى الإدارة البريطانية بعد فترة اقتنعت أن الجمعية التشريعية صورية ولا تمثل الشعب السوداني ، وحاولت ترقيعها بتكوين لجنة لتعديل الدستورولكنها فشلت .
هذا اضافة ، كما اشرنا سابقا ، لتصعيد الحركة الجماهيرية ، وتاسيس رابطة الطلبة الشيوعيين والنساء الشيوعيات ، ومؤتمر الطلبة ، مؤتمر العمال عام 1949م، وبعدها تأسيس اتحادات الطلاب والمزارعين والعمال والموظفين والمعلمين ، واتحاد الشباب والاتحاد النسائي ، والجبهة الديمقراطية للطلاب في نوفمبر 1953م بعد انفراط عقد مؤتمر الطلبة ، وتكوين الجبهة المتحدة لاستقلال عام 1953م ، وتواصلت الإضرابات والمقاومة الجماهيرية التي تراكمت وتطورت حتى استقلال السودان عام 1956م.
3
لكن الحزب الشيوعي لم يقاطع انتخابات النقابات والمجالس البلدية رغم تحفظه علي قوانينها بهدف توسيع النشاط الجماهيري وتحقيق مطالب الجماهير في تحسين مستوي المعيشة والأجور مع تركيز الأسعار والخدمات في الصحة والتعليم وصحة البيئة وحفر المجاري لتصريف مياه الأمطار ، وتوفير خدمات المياه والكهرباء والسكن والضمان الاجتماعي وضمان الأمن. الخ ، كما شارك في انتخابات تحت ظل نظم ديمقراطية نسبية مثل: أول انتخابات ديمقراطية في نوفمبر 1953م بعد اتفاقية الحكم الذاتي في فبراير 1953م ، وانتخابات 1958م ، وانتخابات 1965م بعد ثورة اكتوبر 1964م ، وانتخابات 1986م بعد انتفاضة مارس- ابريل 1985م، تلك الانتخابات التي جرت في ظل دساتير كفلت الحقوق والحريات الأساسية نسبيا ، رغم ضيق رئيس الوزراء عبد الله خليل بالديمقراطية الأولي بتسليم الحكم للعسكر في 17 نوفمبر 1958م ، وضيق أحزاب الأمة والاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي بالديمقراطية الثانية وخرق الدستور بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان عام 1965م ، مما خلق أزمة دستورية أدت لفوضي كان من نتائجها انتهاك استقلال القضاء وحكم القانون وقيام انقلاب 25 مايو 1965م، وضيق الجبهة الإسلامية بالديمقراطية الثالثة بتنفيذ انقلاب 30 يونيو 1989م الذي دمر البلاد والعباد، اضافة لانقلاب اللجنة الأمنية لنظام الانقاذ في 11 أبريل 2019 الذي قطع الطريق أمام الثورة، وانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي قوض "الوثيقة الدستورية" ، وأدي للحرب اللعينة الجارية حاليا.
4
موقف الحزب الشيوعي من المجلس المركزي:
ايضا شارك الحزب الشيوعي في انتخابات المجلس المركزي والمجالس البلدية خلال الحكم العسكري الأول ، بهدف كشف وفضح تلك المهزلة على أوسع نطاق باعتبارها تشويها للديمقراطية ومحاولة من النظام العسكري لمد أجل بقائه، كما جاء في بيانه بتاريخ أول يوليو 1961م الذي أشار الي أنه “امتداد للمخطط الاستعماري كما في المجلس الاستشاري في 1943م ” ليشرك السودانيين في إدارة شئون بلادهم”ولكن شعبنا المطالب بالاستقلال التام قاطع المجلس المزعوم وحطمه فولد ميتا . وبعد خمس سنوات جاء الاستعمار بالجمعية التشريعية” وبنظام الانتخابات “عله يضلل شعبنا هذه المرة ، ولكن يعلم كل المواطنين ـ ماعدا الطغمة الحاكمة ـ المصير الذي آلت إليه الجمعية التشريعية . وفي عام 1952م عدل الاستعمار قانون الجمعية التشريعية ليوسع “حقوق الانتخاب ” وجاء بما يسمى “بدستور ستانلي بيكر”، ولكن القانون المعدل حطم في مهده تحت ضربات شعبنا ولم ير النور . لقد فشلت إذن كل محاولات الاستعمار في صرف كفاح شعبنا عن طريق الاستقلال والديمقراطية . فشلت كل محاولاته في أن يقنع شعبنا البطل بأن يرضي بالفتات . وأنتصر شعبنا على الاستعمار وحقق الاستقلال ، وحقق البرلمان المنتخب إنتخابا حرا مباشرا من الشعب بأجمعه” .
كما أشار الحزب أن “الديكتاتورية العدو اللدود للديمقراطية ، لا يمكن أن تؤتمن لا على الديمقراطية ولا على تطبيقها ولا على (صنعها) ففاقد الشئ لا يعطيه ، والديكتاتورية لا يمكن أن تلد الديمقراطية ولايمكن أن تتطور في أتجاهها . وكل من يصدق أن نظام 17 نوفمبر يمكن أن يمنح الديمقراطية أو يتجاوب معها أما أن يكون ساذجا واما يكون متهافتا“.
اضافة الي أن المجلس المركزي “في الواقع مؤتمر للحكومات المحلية ، تكملة لمسرحية مجالس المديريات التي كانت ذنبا بدون رأس” ، وجاء باقتراح من أمريكا بعد طلب الحكومة مزيدا من المعونة الامريكية ، فقبل كنيدي بشرط واحد ، وهو إقامة أي نوع من التمثيل الصوري ، لكي يقال أن المعونة تذهب إلى نظام ديمقراطي ، ولن يتأكد بالطبع ماقاله عبود عن صلة السودان بما يسمى (بالعالم الحر) وديمقراطياته المزيفة”.
لكل ما تقدم فان الحزب الشيوعي الذي وقف قبل 17 نوفمبر محذرا من وجود مؤامرة أمريكية للاطاحة بالدستور ووقف في طليعة القوى المناضلة ضد الحكم العسكري يرى الآتي :
أولا ـ تشديد النضال وسط القوى الاساسية التي تمثل الجبهة الوطنية الديمقراطية والتي قام على أكتافها عبء النضال ضد النظام الدكتاتوري تشديد النضال وسط العمال والمزارعين والقوى الوطنية التي تتناقض مصالحها مع مصالح الاستعمار والحكم العسكري ـ الطلبة والتجار والمثقفين الوطننين .
ثانيا ـ لكي يضمن تنفيذ شعار عودة الحياة الديمقراطية بعد تحطيم الحكومة الرأهنة لابد من :
– تشكيل حكومة إنتقالية وطنية مؤقتة تشرف على عودة الحياة الديمقراطية وألا يترك هذا الامر في يد الحكومة العسكرية الرأهنة.
– العمل بالدستور المؤقت حتى يتم وضع الدستور أمام برلمان منتخب أنتخابا حرا.
– رفع حالة الطوارئ
– الغاء القوانين المقيدة للحريات حسب ماجاء في قرار البرلمان السابق 1/1/1956 ، والقوانين الاستعمارية المقيدة للصحافة ، وقانون الحبس التحفظي ، وأطلاق سراح سجناء العمال والجيش والشيوعيين وكل من أعتقل أو سجن من الاحزاب الاخرى.
– عودة النقابات على أســـــــاس قانون 48 ريثما يتم تعديله لمصلحة العامل وعودة إتحادات الطلبة وإتحادات المزارعين.
(راجع بيان المكتب السياسي – الحزب الشيوعي السوداني: 5 / 12 / 1961م، في كتاب ثورة شعب اصدار الحزب الشيوعي ، 1965م).
5
موقف الحزب الشيوعي من الانتخابات .
تقرر موقف الحزب من الدخول في معركة الانتخابات في دورة اللجنة المركزية المنعقدة في يناير 1963م ونورد فيما يلي نص القرار كما ورد في التقرير الرئيسي الذي أصدرته دورة اللجنة المركزية .
واشار القرار الي :
“أننا نعلم الطبيعة الرجعية للمجلس المركزي ، كما نعلم أهداف القوى اليمينية الحاكمة من ورائها. ومن أجل هذا علينا أن نفضحة من الداخل وأن نسخره ما أمكن كمنبر للدفاع عن الديمقراطية ولمخاطبة الجماهير التي حرم حزبنا من الوصول أليها نتيجة مصادرة الحقوق الديمقراطية ، واستنهاضها في النضال من أجل حقوقها ، ومن أجل الاطاحة بالنظام الراهن وقيام حكومة وطنية ديمقراطية” .
كما أشار الحزب الشيوعي في بيانه لجماهير الشعب بتأريخ 9/3/1963 الي الموقف الخاطئ الذي أتخذته الاحزاب من تلك المعركة جاء في البيان:-
وفي هذه الايام بالذات حيث يدور الجدل عاليا حول دخول أو مقاطعة الانتخابات للمجالس المحلية ، فأن الحزب الشيوعي السوداني يرى من واجبه أن يؤكد بصورة قاطعة أن الاضراب السياسي العام مازال السلاح القوى الذي يمكن أن تشهره الجماهير لاسقاط النظام الرأهن ، وأنه لا مقاطعة الانتخابات ولا دخولها يمكن أن يكون بديلا لهذا الاضراب . ان الاضراب السياسي سيظل دائما هو المحك لاختيار صحة الطريق الذي تسلكه الجماهير في هذه القضية أو تلك بما في ذلك قضية المقاطعة أو عدمها . وفي حالة الانتخابات للمجالس المحلية ، بينما يرى الحزب الشيوعي السوداني أهمية خوض هذه المعركة وتحويلها إلى مظاهرة كبرى . والارتفاع بمستوى المعركة الجماهيرية سياسيا وتنظيميا من أجل التحضير للاضراب السياسي ، يرى البعض الآخر ضرورة مقاطعتها كأسلوب من أساليب المقارمة للنظام العسكري .ومن الواضح أن كلا الشعارين يهدفان في ظاهرهما إلى غرض واحد هو معارضة النظام الرأهن والرغبة في أنهائه.
أخيرا استطاع الحزب الشيوعي أن يعرى ضيق العسكر بالديمقراطية، وزيف المجلس المركزي ، حين اعتقلوا المرشحين الشيوعيين، وضرورة تحقيق هدف الحزب الأساسي الاضراب السياسي العام والعصيان المدني لاسقاط الانقلاب وقيام الحكم الديمقراطي ، وثابر عليه بمختلف الأشكال حتى نجح الاضراب السياسي العام في الاطاحة بالديكتاتورية العسكرية في ثورة أكتوبر 1964م ، والذين اصبح من أهم دروس أكتوبر الأخضر.
حاشية : لخص الحزب تجربة المشاركة في المجلس العسكري وفضح زيف الديمقراطية التي ضاق بها الحكام العسكريين الذين اعتقلوا حتى المرشحين الشيوعيين ، "للمزيد من التفاصيل راجع : ثورة شعب : اصدار الحزب الشيوعي السوداني 1965، مصدر سابق".
alsirbabo@yahoo.co.uk
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحزب الشیوعی السودانی الحزب الشیوعی فی المجلس المرکزی السیاسی العام المشارکة فی فی المجلس یمکن أن من أجل
إقرأ أيضاً:
أزمة الديمقراطية هي في الواقع أزمة اليسار
ذهبت بلدان يوجد بها أكثر من نصف سكان العالم إلى صناديق الاقتراع في انتخابات العام الماضي. وكانت الرسالة الأساسية التي بعث بها الناخبون لحكوماتهم هي عدم الرضا والغضب من الوضع القائم. وبدا إحباطهم مركَّزا خصوصا على الطرف الذي ظل يُربَط تقليديا بالحكومة الكبيرة وهو اليسار. (يعرِّف قاموس ويبستر الأمريكي الحكومة الكبيرة بالحكومة التي تُعتبَر منتهكة لحقوق المواطنين الأفراد بسبب جهازها البيروقراطي الكبير وإجراءاتها التنظيمية وسياساتها التدَخُّلية- المترجم.)
في أي مكان نظرتَ إليه تقريبا تجد اليسار قد بات حطاما. فمن بين بلدان الاتحاد الأوروبي (27 بلدا) هنالك قلة قليلة فقط هي التي تقود فيها أحزاب من يسار الوسط ائتلافاتِها الحكومية. وحزب يسار الوسط الأساسي في البرلمان الأوروبي (التحالف التقدمي للاشتراكيين الديمقراطيين- المترجم) لديه الآن 136 مقعدا من جملة 720 مقعدا. حتى في البلدان التي تمكنت من وقف صعود الشعبوية اليمينية مثل بولندا، يمين الوسط هو الذي يزدهر وليس اليسار. وبالطبع يوحي حجم فوز دونالد ترامب (حوالي 90 مقاطعة أمريكية تقريبا تحولت إلى اليمين) بأن الولايات المتحدة أصبحت جزءا من هذا الاتجاه.
أزمة الحكومة الديمقراطية إذن هي في الحقيقة أزمة الحكومة التقدمية. فالناس كما يبدو يشعرون بأنهم تفرض عليهم الضرائب والإجراءات التنظيمية ويلاحقون بالأوامر ويروَّعون بواسطة ساسة يسار الوسط لعقود. لكن النتائج سيئة وتزداد سوءا.
نيويورك حيث أقيم وفلوريدا التي كثيرا ما أزورها تقدمان مثالا مثيرا للمقارنة. فهما متقاربتان في عدد السكان (20 مليون نسمة في نيويورك و23 مليون في فلوريدا.) لكن موازنة ولاية نيويورك أكثر من ضعف موازنة فلوريدا (239 بليون دولار مقابل 116 بليون دولار تقريبا). ومدينة نيويورك التي تزيد قليلا عن ثلاثة أضعاف حجم مقاطعة ميامي- ديد لديها موازنة تبلغ 100 بليون دولار أو تقريبا حوالي 10 أضعاف موازنة ميامي- ديد.
زاد إنفاق مدينة نيويورك في الفترة من 2012 إلى 2019 بحوالي 40% أو أربعة أضعاف معدل التضخم. هل يشعر أي من سكان نيويورك بأنه حصل على خدمات أفضل بنسبة 40% خلال تلك الفترة؟
ما الذي يحصل عليه أهالي نيويورك مقابل هذه المبالغ الضخمة التي تُجمع بواسطة أعلى معدلات ضريبية في الولايات المتحدة؟ (إذا كنت ميسور الحال في مدينة نيويورك فأنت تسدد ضريبة دخل تقارب ما تدفعه في لندن أو باريس أو برلين دون أن تحصل على تعليم عالٍ مجاني أو رعاية صحية بلا مقابل). ومعدل الفقر في نيويورك أعلى منه في فلوريدا. كما لدى نيويورك معدل ملكية منازل أقل بقدر طفيف ومعدل تشرد أعلى كثيرا. وعلى الرغم من إنفاق ما يزيد عن الضعف على التعليم مقابل كل طالب إلا أن النتائج التعليمية لنيويورك (معدلات التخرج ودرجات امتحانات الصف الثامن) مماثلة تقريبا لنتائج فلوريدا.
من اليسير أن يُطَمئِن المرء نفسه باعتقاده أن هذه المعدلات العالية للضرائب والإيرادات الحكومية المتزايدة تضمن للحكومة التقدمية بعض مكوِّناتها بالغة الأهمية (يقصد الكاتب بذلك تمكينها من تمويل برامج الرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة والبنية الأساسية وغيرها من سياسات المساواة والعدالة الاجتماعية التي ينادي بها التقدميون- المترجم). لكن هذه الأموال، ببساطة، كثيرا ما تكون ثَمَنا للهدر وسوء الإدارة. فتكلفة المرحلة الأولى من تشييد مترو الأنفاق «سيكند آفينو» والتي بلغت 2.5 بليون دولار لكل ميل كانت أعلى بحوالي ثمانية أضعاف إلى 12 ضعف تكلفة عَيِّنة من مشروعات مماثلة في أماكن مثل إيطاليا والسويد وباريس وبرلين.
إلى ذلك، يذهب جزء كبير من الإيرادات الضريبية للمدينة والولاية إلى تمويل رواتب التقاعد. في مدينة إلينوي يذهب أكثر من 8% من الموازنة إلى رواتب التقاعد. أما في مدينة نيويورك فتخصص لرواتب تقاعد وفوائد العاملين الحكوميين 22% من الموازنة. لقد ظلت الوعود برواتب تقاعد سخية وسيلة ميسورة لشراء أصوات كتلة ناخبين حاسمة في أهميتها. فتكلفتها لن تظهر في الموازنات إلا بعد سنوات لاحقا.
المدن الكبيرة في الولايات المتحدة محاضن للنمو والحيوية والطاقة. ذلك هو السبب في تسليط الضوء عليها وعلى حوكمتها. وما شهده الناس مؤخرا هو انفلات الليبرالية. كانت السرقة متفشية في مدن كاليفورنيا لسنوات بسبب ضعف القانون الذي يعاقب على سرقة السلع في المتاجر. كما لا يحاسَب المشردون في نيويورك (بعضهم مدمنو مخدرات أو مرضى نفسيون) على مضايقة وتهديد المارة في الشوارع والأنفاق. والرجل الذي اتهم مؤخرا بمحاولة القتل بدفع رجل أمام قطار أنفاق سبق اعتقاله عدة مرات.
المقياس الحاسم بالطبع هو الكيفية التي يصوت بها الناس بأقدامهم. ظلت نيويورك لسنوات تفقد سكانا يرحلون منها إلى ولايات أخرى كفلوريدا. ونفس الحكاية يمكن أن تُحكى، باختلافات طفيفة، عن كاليفورنيا وتكساس.
الولايات الحمراء الكبيرة تنمو أساسا على حساب الولايات الزرقاء الكبيرة (الولايات الحمراء هي التي يصوت ناخبوها للجمهوريين والزرقاء للديمقراطيين- المترجم.) ويمكن ترجمة ذلك سياسيا إلى المزيد من التمثيل للجمهوريين في الكونجرس والمزيد من الأصوات الانتخابية.
هنالك الآن مساعٍ مثيرة من أشخاص مثل إيلون ماسك وفيفيك راماسواني للجمع بين المحافظة الثقافية والقومية الاقتصادية من جهة وبين الإصلاح الجذري للحكومة. يمكن أن يشكل ذلك «أيديولوجيا» جذابة لناخبين عديدين شعروا بالإحباط من حكومة لا يبدو أن أي شيء فيها يمضي على ما يرام.
على الجانب الآخر، إذا لم يتعلم الديمقراطيون بعض الدروس الصعبة من ضعف الحوكمة في العديد من المدن والولايات الزرقاء سيُنظر إليهم باعتبارهم مدافعين عن النخب الثقافية وايدولوجيا اليقظة (ووك) والحكومة المتضخمة وغير الكفؤة. وقد تكون تلك هي الوصفة (التي تجعل من الديمقراطيين) أقلية دائمة.