ساعة حنين لبغداد التي احببناها ووقفنا في خندقها
تاريخ النشر: 9th, July 2023 GMT
عدنان نصار تركت بغداد في العام 1984..لكني عدت اليها مشاركا بتسع مؤتمرات على مدار تسع سنوات كان آخرها مؤتمر القوى الشعبية العربية سنة 2001.. كانت بغداد تحت قصف الطغاة (اميركا) ومن تعلق في ذيلها، ولعق صديد سياستها الماجنة .. (1) ها آنذا ، اجلس على شرفة مقهى وسط عمان الفديمة، قهوتي وسط، لاني لا احتاج الى مرار إضافي، فيكفينا مرار تجرعناه على مدى 40 سنة شمسية.
. أنظر الى الشرق تماما ، فيلوح امام ناظري العراق العظيم ، في رحلة ثلاثية الابعاد تسكن في مخيلتنا، يوم كان العراق العظيم مصدر قوتنا وخبزنا، وعزنا وكرامتنا.. اتصفح الاوراق التي سقطت وعرت وفضحت ما تبقى من ستر لأمة عربية “رسمية” وكشفت عورتها بصورة تبعث على القيء من الحنجرة ..اغوص في قلب المشهد، واروح الى الأعظمية، والقي التحية على بيت “بلقيس”، ثم الوذ الى جذع نخلة تحميني لو قليلا من شمس حزيران.. أتراخى قليلا وانا حيران، واطرح اسئلة على “عيون المها بين الرصافة والجسر ..” وقبل ان يجيء الجواب ترميني عابرة طريق، بحبات من “الرطب ” في وقت كنت فيه اسأل: ما الذي جرى لبغداد يا “مريم”؟!. (2) في عام 1984 ،لم نكن نميز بين السنة والشيعة ، ولا احد يتجرأ ان يتحدث في هذا الأمر ، فالعراق يتسع للجميع ، وحبيبا للجميع ، والجميع يحب العراق العظيم ..،كنا شلة نتوق الى العلم والمعرفة (المرحوم د.ربيع من اربد ، وفرحان من ريف الرمثا ، وقيس من الدار البيضاء ، وصفوان من سوريا ، ورشيدة من تونس ، ولينا من بيروت..” كنا نعكس الوحدة العربية بشكل عفوي وفردي ، ونتحدث بلغة الحالمين عن قادم جميل ،يكفينا ويعفينا من حرج السؤال ..كانت بغداد على سعتها الأفقية وحافلاتها الطابقية الحمراء تعزز فينا روح التفكير الجماعي الباحث عن مستقبل مشرق ..وقتها ،لم نتردد في التطوع للدفاع عن العراق في حربها مع إيران ، لكن تم اعفاءنا وتكليفنا بمهمة “بعثية” الى الفلوجة..استرسل في توجيه البصر والذاكرة الى الشرق من وسط عمان القديمة ..،فيرفع الشيخ الجليل آذان العصر من المسجد الحسيني الكبير ..، يلكزني صابر المصري العامل في المقهى العتيق ويقول بلهجته المصرية المحكية:” ايه يا استاز ، رحت لحد فين ” ؟ ابتسمت واجبته بلهجة مصرية جميلة :”انا هنا ..بس رحت شويه لحي السيدة” وقتها كان الراحل المطرب الشعبي محمد عبد المطلب يغني :” انا ساكن بالسيدة وحبيبي بالحسين..وعشان انول الرضا اروحله مرتين” ..ثمة شبه بين وسط عمان القديمة وشارع “طلعت حرب” بالقاهرة وشارع ابو النواس في بغداد ..أي لغة أصف صبرك يا بغداد.؟! (3) صابر المصري ، يتسم بالكرم وطيبة ابن البلد ..وبناء عليه ، أحضر لي الشاي المعتق ، ووضعه على طاولة خشبية مستديرة.. بغداد نحو الشرق، اقابلها تماما في جلستي، أكاد ان أراها لولا جبال عمان الشرقية امامي..، أتحدث مع طيف بغداد وشوارعها ومطاعمها وفنادقها.. وسكن الاعظمية والبط العوام في الصبح الباكر على ضفاف الماء..، استحضر الشاعر الراحل نزار قباني حينما القى قصيدة “بلقيس” على مسرح جامعة بغداد سنة 1981 حين تم اغتيالها في بيروت ..”بلقيس يا وجع القصيدة”، واتحدث مع طيف بغداد من على شرفة مقهى وسط عمان.. يلوح في الأفق نادي الفروسية في بغداد، واستحضر الشهيد طارق عزيز وسعدون حمودي حين كانا يرتبا لنا أكلة “المسقوف”..، استحضر د. حسن طوالبة من المكتب الاعلامي في قصر الرئاسة “بالمناسبة د. الطوالبة معتكف سياسيا في منزله الريفي في بلدة سحم الكفارات شمال الاردن.. ويعيش بسلام وهدوء” بعيدا عن ضوضاء الدجل والنفاق . العراق حاضر، في ذاكرتنا وخبزنا وكرامتنا ومجد هويتنا العربية ..، العراق وان اصيب بسهام جارحة في خاصرته سيعود معافى وبسلام .. لم يدر في خلدي، ان الجلسة على شرفة المقهى في عمان القديمة، سيفتح جروح بغداد.. ولم اتقصد للحظة ان اخرج عن دائرة الواقع الرديء، لادخل في مربع الماضي.. ابدا، كل ما في الأمر أن صابر المصري يسألني دائما: “ازي بغداد ” فهو الذي يصر على إسماعي مقطع من اغنية الراحل ناظم الغزالي: ” .. من ورى التنور تناوشني الرغيف يا رغيف الحلوه يكفيني سنه لون خمري لا سمار ولا بياض مثل بدر تام واشرف ع الرياض” ..فصابر هو من يتحمل مسؤولية نكأ جراحنا .!! كاتب وصحفي اردني
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
جامعة بغداد، منارة العلم والمعرفة في قلب العراق
مارس 10, 2025آخر تحديث: مارس 10, 2025
محمد الربيعي
* بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن
جامعة بغداد صرح علمي شامخ، واحد ابرز منارات المعرفة في العراق والعالم العربي. تاسست عام 1957، لكن جذورها تمتد الى بدايات القرن العشرين مع تاسيس كليات الحقوق والطب والهندسة. لعبت الجامعة دورا اساسيا ومحوريا في تخريج الكفاءات العراقية التي ساهمت في بناء وتقدم العراق الحديث.
ارتباطي بجامعة بغداد
كانت لحظة دخولي كلية العلوم في الجامعة بداية رحلة استثنائية في عالم المعرفة. اتذكر تلك الايام الاولى في قسم النبات، حيث اكتشفت شغفي الحقيقي للعلوم الاحيائية. بعد تخرجي، تم تعيني كمعيد في الجامعة، حيث انطلقت مسيرتي العلمية الحافلة بالانجازات. لقد كان لدي اصرار وعزيمة لا يلينان، فبادرت الى اجراء بحثين علميين وانا لازلت معيدا في الجامعة، نشر احدهما في مجلة Annals of Human Biology المرموقة. كانت تلك اول دراسة انثروبولوجية حول المجاميع الدموية بين اكراد العراق، مما جعلني فخورا باسهامي في هذا المجال.
قدمت الكثير لجامعة بغداد بعد عام 2003، من ندوات وورش عمل ومحاضرات واستشارات، ولكني اتذكر بالخصوص تلك الورشة الرائعة التي نظمها قسم ضمان الجودة والاداء الجامعي في الجامعة بالتعاون مع منظمة اليونسكو بتاريخ 24-25 شباط 2014، وحضرها عدد من القيادات الجامعية من العمداء ومدراء المراكز ورؤساء الاقسام في تشكيلات الجامعة، وحملت عنوان “كيفية استدامة نظام الجودة في جامعة بغداد”. عرضت فيها نظام الجودة الذي سعينا لبنائه ضمن مشروع اليونسكو لتحسين جودة التعليم في الجامعات العراقية الذي ضم اربعة علماء من خريجي الجامعة هم صباح جاسم ورمزي محمود ورياض المهيدي ومثنى الدهان.
تاريخ جامعة بغداد
تعود البدايات الاولى لجامعة بغداد الى عام 1908، عندما تاسست مدرسة الحقوق، وهي اقدم المؤسسات الحديثة التي شكلت فيما بعد جامعة بغداد. في عام 1921، تاسست كلية الهندسة، وفي عام 1923، تاسست دار المعلمين العالية (التي اصبحت فيما بعد كلية التربية). وفي عام 1927، تاسست كلية الطب. في عام 1942، تم تاسيس اول مؤسسة تعليمية عليا للبنات، وهي كلية الملكة علياء. وتاسست كلية الاداب والعلوم 1949 وانقسمت الى كليتي الاداب والعلوم عام 1953 وكانت اول كلية اكاديمية (غير مهنية). وفي عام 1956، تم سن اول قانون لتاسيس جامعة في العراق باسم “جامعة بغداد”.
في عام 1957، تم تاسيس جامعة بغداد رسميا، وكانت تضم في البداية كليات الحقوق والاداب والعلوم والطب والهندسة. وقد شهدت الجامعة نموا وتوسعا كبيرا في العقود اللاحقة، حيث تم اضافة العديد من الكليات والمعاهد الاخرى، مثل كليات الزراعة والصيدلة والطب البيطري والتربية والفنون الجميلة. وفي عام 1959 تقرر البدء بفتح الدراسات العليا، وانجزت دراسات مفصلة حول هذا المشروع المهم، في كلية العلوم مثلا تقرر اولا ان تبنى بناية مستقلة لمكتبة كبيرة ورصدت الاموال لهذا المشروع، لكن مع الاسف في 1963 تقلصت مساحة المكتبة وتحول نصف البناية لاشغال عمادة الكلية.
وضع عبد الكريم قاسم الحجر الاساس لبناية جامعة بغداد في 17 تموز 1959 وصمم الجامعة المهندس الامريكي والالماني الاصل وولتر گروبيوس. من الرموز المهمة التي ادخلها في التصميم: القوس في مدخل الجامعة حيث صٌمم على قطعتين قوس المدخل يرمز الى فصي الدماغ الايمن والايسر وفي اعلاه فتحة لا يمكن ان تنغلق وبجمع القوس رمز بالعقل المنفتح الذي يتلقى العلم بدون حدود. وما هو بارز في تاريخ الجامعة هو تعيين العالم العراقي الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا للجامعة عام 1959 وكان من افضل علماء الانواء الجوية الذين برزوا في العالم.
دور جامعة بغداد في تخريج الكفاءات العراقية
لعبت جامعة بغداد دورا حاسما في تخريج اجيال من الكفاءات العراقية في مختلف المجالات. فقد ساهمت الجامعة في تزويد العراق بالمهندسين والاطباء والمحامين والمدرسين الذين ساهموا في بناء وتطوير العراق الحديث.
تخرج من جامعة بغداد العديد من الشخصيات البارزة في العراق، الذين اسهموا بشكل كبير في مختلف المجالات، مثل العلوم والسياسة والادب والفنون. وقد تبوا العديد منهم ارفع المناصب في العراق وخارجه من رؤساء الوزراء والوزراء والبرلمانيين والاكاديميين والفنانين والادباء. كثيرون من الاعلام تخرجوا من جامعة بغداد منهم من سار على خطى اساتذته الاجلاء، امثال عبد الجبار عبد الله في فيزياء الانواء الجوية، وفخري البزاز في البيئة النباتية والتطور البيولوجي، وصالح جواد الوكيل في الكيمياء الحياتية والانزيمات، وطه باقر وبهنام ابو الصوف في مجال الاثار والتاريخ القديم، وعلي الوردي في علم الاجتماع، ومحمد سلمان حسن في الاقتصاد السياسي، وابراهيم كبه وفاضل عباس الحسب في الفكر الاقتصادي، وحسين امين في التاريخ العراقي والعربي الحديث، ومصطفى جواد في الدراسات اللغوية والتاريخية، وعبد العزيز الدوري في التاريخ العربي الاسلامي، وفرحان باقر وكمال السامرائي وعبد اللطيف البدري وزهير البحراني وخالد القصاب في العلوم الطبية، ومحمد مكية ومهدي حنتوش في العلوم الهندسية، وعلي حسين البهادلي وعلي عبد الحسين في العلوم الزراعية، وعدد كبير من العلماء الذين تركوا بصمات لا تمحى في التاريخ العلمي للعراق، واعتذر عن اغفالي ذكر اسماء هؤلاء العلماء الاجلاء. واليوم، يواصل عدد كبير من العلماء من خريجي جامعة بغداد، مسيرتهم في داخل العراق وخارجه، وهم منتشرون في انحاء العالم، من امريكا الى استراليا، لكن قلوبهم وعقولهم متجهة نحو خدمة العراق.
خريجو جامعة بغداد، هم قصة عطاء مستمرة، فكما تخرجوا من هذا الصرح العظيم، فهم اليوم يحملون اسم جامعتهم عاليا في كل مكان، ويساهمون في بناء مستقبل مشرق لوطنهم العراق.
دور جامعة بغداد في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي
بالاضافة الى تخريج الكفاءات، لعبت جامعة بغداد دورا هاما في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي. فقد ساهمت الجامعة في تطوير البحث العلمي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في حل المشكلات التي تواجه المجتمع العراقي ومن خلال مراكز بحوث متميزة. وقدم باحثو الجامعة دراسات حول معالجة المياه وتلوث الهواء، وقدموا حلولا مبتكرة للمشاكل البيئية التي تواجه العراق. كما ساهمت الجامعة في تطوير القطاع الصحي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تحسين الرعاية الصحية في العراق، منها دراسات حول انتشار الامراض السرطانية. وعملت على توفير الاستشارات من خلال مكاتبها الاستشارية المتخصصة لتساهم في عمليات التطوير والتدريب ووضع الخبرات العلمية والفنية في خدمة الخطط التنموية وتقديم الاستشارات لحل المعضلات الهندسية والطبية والزراعية والادارية والاقتصادية وغيرها.
كما لعبت جامعة بغداد دورا هاما في نشر الثقافة والمعرفة في المجتمع العراقي، وقدمت العديد من المؤتمرات والندوات التي ساهمت في رفع مستوى الوعي الثقافي لدى المواطنين العراقيين. واستضافت جامعة بغداد العديد من المؤتمرات الدولية حول القضايا الاجتماعية والسياسية التي تواجه العراق، وساهمت في نشر الوعي لدى المواطنين العراقيين.
بالاضافة الى ذلك، لعبت جامعة بغداد دورا هاما في تطوير الاقتصاد العراقي. فقد قدمت الجامعة العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تطوير القطاعات الاقتصادية المختلفة في العراق. مثل ما قدم باحثوها حلولا مبتكرة لزيادة الانتاج الزراعي والقضاء على الامراض الزراعية. كما ساهمت الجامعة في تطوير القطاع الصناعي في العراق، وقدمت العديد من الدراسات والابحاث التي ساهمت في تحسين جودة المنتجات الصناعية العراقية.
بشكل عام، يمكن القول ان جامعة بغداد لعبت دورا هاما في التنمية والتاثير في المجتمع العراقي. فقد ساهمت الجامعة في تطوير البحث العلمي، وتحسين الرعاية الصحية، ونشر الثقافة والمعرفة، وتطوير الاقتصاد العراقي.
التحديات التي تواجه جامعة بغداد
تواجه جامعة بغداد تحديات كبيرة تعيق تقدمها، بما في ذلك المركزية المفرطة حيث تخضع لادارة ورقابة صارمة من وزارة التعليم العالي، مما يحد من استقلاليتها. كما تواجه نقصا حادا في التمويل يؤثر على قدرتها على توفير بيئة تعليمية مناسبة، وتدهورا في البنية التحتية لمبانيها ومرافقها. تشهد نوعية البحث العلمي في الجامعة تراجعا ملحوظا، وتوسعت بشكل كبير في عدد الطلاب والبرامج دون زيادة ملحوظة في الموارد. على الرغم من هذه التحديات، تبذل الجامعة جهودا كبيرة للتغلب عليها، من خلال وضع خطط استراتيجية للتطوير، والبحث عن مصادر تمويل اضافية، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع البحث العلمي، وتطوير المناهج الدراسية، والتعاون مع الجامعات العالمية. تسعى جامعة بغداد جاهدة لاستعادة مكانتها المرموقة، ومواصلة دورها في خدمة المجتمع العراقي.
مستقبل جامعة بغداد
تطمح جامعة بغداد الى ان تصبح واحدة من افضل الجامعات في المنطقة والعالم. وتسعى الجامعة الى تحقيق هذا الهدف من خلال تطوير برامجها الاكاديمية والبحثية، وجذب افضل الكفاءات التدريسية، وتوفير بيئة تعليمية محفزة للطلاب. ولربما بالحصول على استقلاليتها الادارية والاكاديمية ستتمكن من استعادة دورها السابق في قيادة التعليم العالي على الصعيد العربي والشرق اوسطي. هذا يتطلب اعادة تقييم وضعها مثلما كانت عليه في السابق عندما كان لرئيس الجامعة صلاحيات واسعة مشابهة لصلاحيات وزير.