ا.د. محمد تحريشي من عادتي أنني لما أقرأ نصا إبداعيا فإنني لا أفترض أداة إجرائية قبلية، وإنما أجعل الأمر بيني وبين النص انسيابيا حتى تتجلى الأدوات التي يمكنني أن أباشر بها هذا النص، انطلاقا من خبرتي مع النصوص ومن خلفيتي المعرفية وتأسيسا على ذائقتي النقدية، ولعل هذا ما يجعلني أحتفل بالنص كونه عملا كاملا وتاما وليس مجموعة من الشواهد أو الأمثلة التي قد لا تكشف عن جماليته وعن أبعاده الفنية.

قرأت هذه الأيام رواية “شمس المدينة، مراقص المدينة” فوجدتني أقف على أداة إجرائية بارزة في هذه الرواية تتعلق بسردية التواصل؛ حيث وجدت هذه الرواية في تواصل تام مع القارئ من خلال الأحداث والوقائع وبناء الشخصيات وحركيتها وارتباطها بالزمان والمكان. تتجلى سردية التواصل عبر الشخصيات وعبر الأحداث وعبر بعض الأقوال المشهورة والحكم والأمثال التي تحضر في النص عفوا أو عبر استراتيجية الكتابة التي يعتمدها المبدع في نصه التي تؤطرها رؤيته الفنية وطرحه الفكري والجمالي؛ لجعل التواصل أكثر جاذبية وتأثيرا. الشخصيات: يمكن استخدام شخصيات خيالية أو حقيقية لإضفاء الحياة على الرسالة. يمكننا صياغة شخصيات معينة لتجسيد المفاهيم أو التعامل مع القضايا وإيصالها بطريقة أكثر قابلية للتعاطف معها أو النفور منها. الأحداث: يمكن استخدام الأحداث المشوقة والتطورات المشوقة لجذب انتباه الجمهور والمحافظة على تشويقهم. يمكن ترتيب الأحداث بشكل مثير ومفاجئ للحفاظ على اهتمام الآخرين وتفاعلهم. الأقوال المشهورة: يمكن استخدام الأقوال المشهورة والاقتباسات القوية لتعزيز الرسالة وإبراز الأفكار الرئيسية. تلك الأقوال قد تترك أثرًا قويًا وتعزز التواصل والتأثير على الجمهور. الحكم والأمثال: يمكن استخدام الحكم والأمثال لإيصال الأفكار بشكل ملموس وسهل التفهم. يمكن أن تكون الحكم والأمثال مصدرًا للحكمة والتوجيه، ويمكن تطبيقها في سياق التواصل لتوضيح النقاط الرئيسية وتعزيز المفهوم. توطين الأحداث مكانيا وزمانيا والاستفادة من الذاكرة في تنشيط فعالية التواصل في الخطاب السردي؛ فحسن اختيار الأمكنة والأزمنة ذات البعد الدلالي يساهم في سردية التواصل بشكل كبير لتجعل المتلقي متفاعلا إلى حد الاندماج. بالتأكيد، يمكن أن تستخدم هذه العناصر وغيرها في سردية التواصل لخلق تجربة تواصل فعّالة وجذابة. ويجب ضمان التناسق والانسجام والاتساق بين هذه العناصر لضمان تحقيق الهدف المرجو من التواصل وإيصال الرسالة بفعالية كبيرة تضمن المتعة والجمال والإحساس به وتذوقه. عبد الحفيظ بن جلولي كاتب من مدينة بشار، أديب وناقد يتذوق الشعر والرواية ويحلّق مع الكتابات النقدية والفكرية، وهو قلم استطاع عبر سنوات أن ينقش اسمه في الخريطة النقدية العربية عبر مؤلفات مميزة ومقالات نوعية. لعل هذا الكاتب يؤمن أن للكلمة رسالة راقية إنْ وجدت من يجعلها تسمو لتنشد الجمال والجلال، وإنْ وجدت من يُحسن التحبير والتشكيل والتحليل والتعبير. “شمس المدينة. مراقص العودة” نص سردي للكاتب عبد الحفيظ بن جلولي، صادر عن دار خيال بالجزائر يقع في حوالي مائة وثماني وعشرين صفحة من القطع المتوسط. رواية عن الحنين والشوق وعن المكان الذي يسكننا ونسكه بكثير من المحبة والتعلق بذكريات لا تكاد تنمحي على الرغم من الجفاف والقحط والجفاء والنكران. مدينة أقرب للرثاء منها إلى التبجيل والتعظيم، مدينة قد يكون ماضيها أحن من حاضرها؛ مدينة لما تفقد هويتها وتحضرها وتمدنها تصبح أثارا بعد حين. مدينة تدفن أبناءها بالنسيان والتهميش، وتدمر أثارها بعدم الرعاية والحفظ والاهتمام، وتفقد هويتها وما يميزها ليسكنها البوم والغراب والذئب والثعلب من البشر. مدينتي لم تعد مدينة وإنما مجموعة من السكنات الفوضوية والشوارع غير المنتظمة والأسواق العشوائية. تأتي الكتابة لترمم ما ضاع من المدينة وما فسد بالوقوف عند معالم بعينها، حتى يلتمس القارئ المتعة والجمال والحنين والشوق وهو يجري المقارنة بين زمن مضى وحاضر يتجلى ومستقبل يُترقب.” عند باب السينما ريكس وقف مادّا قامته في الظلّ، تعلو رأسه مطرية سوداء، يحاول أن يلزم يده من طول الوقوف، زخّات المطر على غير عادتها بدأت تغسل صبيحة المدينة من كسل النّوم. وقف يستعيد كلمات جيريمي باتريك التي كتبها في بداية روايته “مراقص العودة”. لم ير لأبواب سينما ريكس أقفالا ولا مفاتيحا، فقط لوحة مكتوب عليها “سينماتيك”، وزجاج شفّاف يقوم مقام الباب، يُفتح آليا وخلفه رجل مسنّ يجلس على كرسي خشبي لامع قديم، تبدو عليه علامات الحيرة.”(شمس المدينة..:7) هكذا تحدث الرواية تواصلا لدى القارئ بين زمنين؛ زمن سينما ريكس لما كانت السينما في المدينة نشاطا ثقافيا واجتماعيا وتجاريا يساهم في بناء الذات وفي تشكيلها الفني والجمالي، وبين زمن أصبحت السينما متحفا بنشط في مناسبات محدودة، وقد تتحول قاعته إلى نشاطات لا علاقة لها بالسينما. هل للمدينة ذاكرة؟ وهل يحي المكان بقدرتنا على التذكر ويموت أيضا بالنسيان أو التناسي. أسئلة تطرحها هذه الرواية بعمق فنّي وتوجه فكري وجمالي، ومن ثم تُحدث تواصلا مع المتلقي عن الوفاء للمكان وللذكريات حلوها ومرّها.” – كم هي هشّة هذه الذاكرة، لا تسترجع إلا ما تحب، لكنّها لا تبني جدرانا داخلية، هي فقط تمنحنا إمكانية للحفاظ على الجدران كما هي في خزاناتها. ولذلك نحن لا نحب الجدران كجدران، هي تذكرنا بيوتنا التي فقدناها، ولدنا بها وكانت قائمة بجدرانها تحمينا، كنّا أجساما غضة وكانت بيوتا صلبة، كبرنا وظلّت تحتفظ لنا بصور طفولة ماتعة، كبرنا ولم نحفظ ودّها، هدمناها، جدار واحد فقط استعصى على الهدم، الذاكرة.. الجدار يا فطومة ويا مهدي هو الذّاكرة.” (شمس المدينة..:24). بمثل هذا الخطاب يتم التواصل بيننا وبين هذا النص الذي يتغلغل إلى دواخلنا ليحرك ذلك المسكوت عنه وذلك المخبوء فينا. نرأف لحالنا ونحن نشعر بالدمار من الداخل، فقد تهدم الأساس وهوى القاع، ونحن السبب ونحن من يعاني من النتائج. حالنا حال مجنون ليلى وهو يقول: أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى          أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي     وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا تنتج هذه الحال جسور تواصل أثناء عملية التلقي لهذا المشهد، ومن ثم تتوالد الدلالات التي تتعالق مع علاقتنا مع الذاكرة التي تشكّل جزءا من وجداننا. تتغذى سردية التواصل بذلك الحوار الفكري في هذه الرواية والمتعلق بقضايا فكرية تهم الإنسان، والتي أبدى فيها بعض المفكرين رأيا.” تكلمت فطومة وكأنها تندفع من عمق بئر عميقة: – جاك دريدا يرى بأن نهاية العالم دوما فريدة، حينما نموت تختفي حكاية ما للعالم مجهولة ربّما لم يكن يعرفها سوى صاحبها، هي هذه الأشياء الغريبة التي تحدث وتجعل العالم لذيذا لأنه محاط بالغموض والدهشة، تخيلوا أنّ ما نتركه خلفنا هو هذا الجدار الذي يحمل توقيع الزمن والأحلام، نحن لا نموت ولكنّنا فقط نخفي أجسادنا في علبة التاريخ.” (شمس المدينة:26) إن فكرة الموت والنهاية والمصير شغلت بال الإنسان منذ الأزل ومازالت، وما طرحه جاك دريدا يجعل الخطاب ينفتح على بلبال من النقاش بحسب كل وجهات النظر الممكنة، وتكشف في الوقت ذاته عن شعورنا بالحيرة وبالدهشة وبالغموض ونحن نواجه مصيرنا المحتوم. تتجلى سردية التواصل في هذه الرواية في هاجس النسيان والتذكر، ثنائية تتحكم في فكر الإنسان؛ الذي ضاع منه كل شيء وفقد بوصلة الحياة والاتجاه. وانطلاقا من هذ التوجه يشكل الموسيقار العالمي “علا”(عازف عود عالمي من مدينة بشار جنوب الجزائر) حضورا قويا في هذا الخطاب السردي بين النسيان والتذكر، وتكاد فصول هذه الرواية تدين بوجودها للقدرة التواصلية لـ”علا” و موسيقى الفندو؛ الذي يجعل المتلقي يتحاور مع هذا الحضور بكثير من المتعة و الفرح من جهة وبكثير من الألم و الحسرة والأسف من جهة أخرى.”… وعدت حاملا معي خيطا من حلم “علا” لشوارعه القديمة في المدينة العتيقة، نحن لا نعود سوى لنفتح بدايات قديمة، دفاترنا لا تكاد تطوى إلا لتفتح على صفحات منسية، و”علا” نسي عودا في بيته القديم، حمّلني أمانة البحث عنه.” (شمس المدينة:18) وبذلك يصبح “علا” في هذه الرواية بمثابة ذلك النبراس الذي يحافظ على ثنائية الحضور والغياب والتجلي والاختفاء. “علا” ذلك الجرح بقدر يزرع الفرح والشفاء بقدر ما يجعلنا نحصد الأسف عن كنز كشف عن بريقه وقيمته لما هاجر إلى بلاد الفن والفكر والجمال.  أصبح “علا” وموسيقاه -بعد ذلك- عنوانا وهوية ومفخرة وهو الذي عانى من الحرمان والفقد والتهميش.” استراح “علا” فوق الفرش الممدود على أرضية مسرح معهد العالم العربي، حضن عوده، أنام رأسه فوق ظهر العود، الأذن فوق نبض الخشب، يبعث الوتر النغم بحرارة، يزهو الفراغ بين خيال اللحظة وقلب العازف، يحرّك “علا” “الصدعة” فوق مادة الوتر، يهتز، يتواقت نبض الروح مع رجفة الوتر فينبعث الأنين حنينا وأمكنة.. يستمر العزف، يرحل العازف بين أنغامه المرتجلة، ينجذب المستمعون، ليس هناك رسم لنوتات، لا لحن هناك مبرمج، الآلة وحدها نحرّكها ببرنامج، “الفوندو” برنامج إنساني.” (شمس المدينة..:123) هكذا يتجلى الفن والجمال وتتم عملية التلقي بكل إشباع، ومنه حوله يدور النقاش ويكون التواصل.”- “علا” لقد منحت فرنسا نوستالجيا الأرابيسك.. عبت فرنسا يا رجل.” (شمس المدينة:124) هكذا أصبح “علا” رمزا وهوية وعنوانا بعد التهميش والنكران. هكذا يكون “علا” ذاكرة جماعية بعد أن عبثت أيدي الدمار والفساد بكل شيء جميل في المدينة، فهل ستشرق شمس المدينة من جديد. “علا” بروح الفنّان يتأمل ساحة الجمهورية وتصدر من أعماقه زفرة: “آه… لو تعود الساحة كما كانت !”…..ينظر “علا” إلى الشمس و هي تنتصف جدران المكان قبل أن تنبسط على الأرض المشبعة بتراب قديم مطلقا حركة الوتر بين شفتيه، معلنا “فندو” يجري بين شوارع عتيقة و عمارات حديثة، يغيب في دندنته وصوت كأنه الوتر يغنّي المدينة الصامتة.”(شمس المدينة:126، 127) ما أجمل المدينة لما تتحول إلى مرثية عن الزمن الجميل، مدينة تريد التطهر من دنس أفقدها خصوصيتها. الجزائر

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

واشنطن تدعو “الدعم السريع” لوقف هجومها على مدينة الفاشر السودانية

السودان – دعا شون سافيت المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي قوات الدعم السريع للوقف الفوري لهجماتها على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور غربي السودان.

وقال شافيت في حسابه عبر منصة “إكس”: “ندعو قوات الدعم السريع إلى وقف الهجمات على مدينة الفاشر في السودان على الفور في الأيام الأخيرة، تصاعد الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على المدينة، منذ أشهر، ما يهدد حياة مئات الآلاف من السودانيين الذين يواجهون بالفعل المجاعة والنزوح”.

وأشار المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، إلى أن هجمات قوات الدعم السريع على مخيمات النازحين والمستشفيات بشكل خاص “أمر مروع”.

وتابع “ندعو المجتمع الدولي إلى الانضمام إلينا في حث قوات الدعم السريع على حماية المدنيين من خلال وقف هجومها على الفاشر الآن.”.

وتصاعدت مؤخرا وتيرة المواجهات في مدينة الفاشر، إذ تمكن الجيش السوداني الأسبوع الماضي من صد واحدة من أكبر هجمات قوات الدعم السريع، التي استهدفت العاصمة التاريخية لإقليم دارفور.

 

المصدر: RT

مقالات مشابهة

  • السيول تسببت بقطع الطريق الرابط بين مدينة بورتسودان ومعبر “أوسيف” الحدودي مع مصر
  • السعودية.. لقطات “مخيفة” تصور “قصر الرعب” تشعل مواقع التواصل الاجتماعي (فيديوهات)
  • انطلاق هاكاثون التمور في المدينة المنورة بمشاركة “233” فريقاً
  • طبيب سوداني يروي قصة مبادرة “إيواء وغذاء” التي تدعم الآلاف
  • واشنطن تدعو “الدعم السريع” لوقف هجومها على مدينة الفاشر السودانية
  • “حماد” يوجه تعليماته بشأن التعامل مع أزمة السيول في مدينة سبها
  • البيضاء.. تنفيذ حكم الإعدام في مدينة رداع بحق المدان “العمراني” بعد محاكمة مستعجلة
  • “الأم والأقارب قـتـلـوهـا” مفاجأة صادمة في القضية التي شغلت تركيا .. صورة
  • أفريكا انتليجنس: “بن قدارة” ينأى بنفسه عن الأزمة التي تشهدها ليبيا حاليًا
  • نقل جثمان “عائشة” التركية التي استشهدت برصاص الإحتلال الإسرائيلي