36 يوما على الحرب الوحشية التي تقودها حكومة الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة، لم تحقق أهدافها السياسية والعسكرية في حين أن أهدافا مغيبة تحققت للمقاومة تكمن في حجم الخسائر الفادحة التي تتكبدها دولة الاحتلال، على المستويات والاقتصادية والتجارية والمالية، في زلزال لم تعرفه منذ سبعة عقود، تجاوز دولة الكيان إلى عواصم الداعمين الدوليين.

الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله

في كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يبدو الكيان الإسرائيلي المتفوق بآلة الدمار الشامل وجرائم الحرب ،هو الخاسر الأكبر من حربه الوحشية الدائرة اليوم على قطاع غزة، فبعد 33 ألف طن من المتفجرات التي القاها في 35 يوما على التجمعات المدنية في قطاع غزة تبدو دولة الكيان قد وصلت إلى حاله إنهاك تنذر بانهيارها، أو على أقل تقدير إغراقها في طوفان من أزمات اقتصادية قد تمتد لعقود.
قبل أيام قليلة أعلن البنك المركزي الإسرائيلي أن خسائر حكومة الاحتلال الأسبوعية تناهز الـ 600 مليون دولار بمتوسط شهري يصل إلى 2.4 مليار دولار بما يعادل 10 % من الناتج المحلي الإجمالي وهو الرقم الذي دعا وزارة المالية في حكومة الكيان إلى الإفصاح عن احتمال تفاقم الخسائر إلى ارقام فلكية في حال استمرت الحرب في قطاع غزة لعدة أشهر، في أكبر كارثة اقتصادية قد تتكبدها دولة الكيان منذ 75 عاما.
وبعد شهر واحد من العدوان الصهيوني على غزة، ارتفعت فاتورة النفقات بصورة كبيرة بدت ملامحها بوضوح في عجز الميزانية الصهيونية الذي قفز 400 % على أساس شهري بنحو 6 مليارات دولار، بعد أن كان يقدر بنحو 1.2 مليار دولار في سبتمبر الماضي في حين أعلن البنك المركزي الإسرائيلي انخفاض الاحتياطيات الأجنبية بواقع 7.3 مليار دولار دون ان تتمكن سندات وأدوات الدين التي أصدرها بقيمة 3.7 مليار دولار من وقف الانخفاض.
وهذه الأرقام لم تعكس الواقع تماما، إذ تشير التقديرات إلى أن معدل الخسائر مرشح للزيادة في حال تم احتساب تكاليف دفع رواتب جنود الاحتياط وتكاليف إيواء وإجلاء 250 ألف إسرائيلي من منازلهم، وكذلك الخسائر الهائلة المسجلة جراء توقف القطاع الزراعي وتراجع أداء القطاع الصناعي والتوقف الكامل لقطاعات اقتصادية رئيسية مثل السياحة والنقل والبناء والتشييد والتي تمثل نحو 20 % من الناتج المحلي الإجمالي.
يزيد منها تكبد الخزينة الإسرائيلية خسائر فادحة في حجم الإيرادات التي تناقصت بحوالي 15 مليار دولار تضاف إلى حوالي ملياري دولار ينتظر أن تفقدها الخزينة الإسرائيلية على شكل تعويضات للشركات، وملياري دولار لإعادة التأهيل.
هذا التداعي كان كافيا لتخفيض البنك المركزي الإسرائيلي حجم توقعاته لنمو الاقتصاد الذي يقدر حجمه بنحو 500 مليار دولار من 3 % إلى 2.3 % وسط توقعات بانخفاض اجمالي الناتج المحلي بنحو 15 % مقارنة بانخفاض بنحو 0.4 % فقط خلال الحرب على غزة في عام 2014، و0.5 % خلال الحرب مع المقاومة في لبنان عام 2006.

دوامة خسائر
كل التوقعات تُرجح أن الحرب الإسرائيلية الوحشية في غزة ستكبد العدو ثمنا باهظا لن يقوى على تحمله في ظل التقديرات التي تشير إلى فقدان الاقتصاد الاسرائيلي جميع المكاسب التي حققها خلال العام الجاري، ليفضي إلى معدل انكماش متوقع بـ 11 % على أساس سنوي، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري وبخسائر يتوقع أن تتجاوز الـ 50 مليار دولار بنهاية العام.
آثار هذه الدوامة من الخسائر بدأت في العملة الإسرائيلية التي عجزت عن الصمود لأيام بانخفاضات سجلت لأول مرة منذ سنوات، وفي مؤشرات قطاعات البورصة والعقارات والمصارف وسوق العمل التي سجلت تراجعا حادا خلال الشهر الأول من العدوان على غزة.
ورغم أن إسرائيل ضخت نحو 45 مليار دولار لمساعدة عملتها واقتصادها على الصمود، فإن البيانات الإسرائيلية تشير إلى تأثر ماليتها العامة بصورة خطيرة، إذ ترافق هبوط احتياطي النقد الأجنبي مع هبوط العملة الإسرائيلية إلى أدنى مستوياتها منذ 14 عاماً، دون أن يتمكن من وقف تهاوي الشيكل، أو الحفاظ على استقراره في سوق الصرف الأجنبي.
باعتراف المؤسسات المالية الإسرائيلية والدولية فقد تهاوت أغلب المؤشرات الاقتصادية في البورصة التي فقدت نحو 25 مليار دولار من قيمتها السوقية وفي قطاعات العقارات والمؤسسات الصناعية والتجارية والمصارف، فضلا عن التراجع الحاد في سوق العمل وفي أداء شركات التكنولوجيا.
والأمر لم ينته عند هذا الحد فهناك آثار اقتصادية فادحة ضربت الاقتصاد الإسرائيلي في مقتل، من بينها تقلص حجم القوى العاملة في القطاعين الصناعي والزراعي اللذين تضررا بشدة من جراء نقص العمالة بعدما أدت عملية “طوفان الأقصى” إلى إرغام نحو 1.3 مليون عامل إلى عدم التوجه لأعمالهم، فضلا عن آخرين فرضت عليهم الشركات اجازات اجبارية.
زادت من ذلك الآثار التي احدثها استدعاء حكومة الكيان موظفي القطاع الصناعي والزراعي إلى التعبئة العامة لقوات الاحتياط، حيث شهد القطاع الزراعي توقفاً شبه كامل نتيجة توقف نشاطاته في غلاف غزة وشمال فلسطين المحتلة عند الحدود مع لبنان، وهذه المناطق تنتج أكثر من 80 % من الخضراوات، وأكثر من 40 % من الفواكه ومنتجات الحليب والدواجن.
وكان لهذه الخطوة انعكاسات سلبية حادة على العديد من الشركات العاملة في قطاع الصناعة ومنها قطاع صناعة السيارات الذي دخل في حالة تباطؤ حاد في الإنتاج يأتي بعد سنوات من الربحية العالية التي حققها هذا القطاع.
كذلك مُني قطاع السياحة بضربة قاتلة وصلت إلى حد خلو الفنادق من السياح تقريباً خصوصا بعد امتناع شركات السياحة الدولية عن إعادة إسرائيل إلى برامجهم في التفويج السياحي خلال العطلات، وهو الإجراء الذي أصاب قطاع السياحة الذي يسهم بنحو 5.5 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي بالشلل الكامل.
الحال كذلك مع نشاطات قطاع النقل الجوي والبحري والبري والتي تراجعت بنسبة تتجاوز 70%، بعد أن علقت نحو 42 شركة طيران رحلاتها إلى إسرائيل أو قامت بتقليلها إلى الحد الأدنى، فضلا عن تقليل رحلات شركات الطيران الإسرائيلية نتيجة ارتفاع كلفة التأمين ضد مخاطر الحرب، ما أدى إلى انخفاض رحلات الطيران من مطار بن جوريون الدولي وإليه، على سبيل المثال بنسبة 80 % خلال الشهر الأول للعدوان الصهيوني على غزة.

تداعيات مفتوحة
ما سبق لم كن كل شيء، فالتقارير المحلية والدولية تؤكد أن التصدعات الاقتصادية في دولة الكيان تطاول حاليا جميع القطاعات الاقتصادية، ومنها على سبيل المثال التصدعات الناتجة عن اختلال سلاسل الإمداد بأسواق المواد الغذائية، وتراجع المعاملات النقدية بكروت الائتمان بنحو 12 % على أساس سنوي بمعظم القطاعات.
وقد أدى تلاحق الرشقات الصاروخية المتكررة من جانب المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة إلى توقف أعمال البناء والتشييد، بما أدى إلى تكبد الحكومة الإسرائيلية خسائر تصل إلى 37 مليون دولار يومياً.
وهناك أيضا الاضرار التي خلفها تفاقم العجز والتضخم في تنامي عدد العاطلين عن العمل، إذ سجل 70 ألف شخص أنفسهم عاطلين عن العمل خلال شهر أكتوبر الماضي فقط، يضافون إلى حوالي 764 ألف إسرائيلي لا يعملون حاليًا بوظائفهم، بنسبة تصل إلى 18 % من القوى العاملة.
تزيد منها الأضرار التي لحقت بالمواطنين جراء الزيادات التي فرضها البنك المركزي الإسرائيلي في أسعار الفائدة، والتي وضعت الكثير من الأسر في حالة عجز كامل عن سداد أقساط القروض في ظل تهاوي سعر العملة (الشيكل) كما حدت من زيادة نفقات التمويل على المستوردين.

خسائر ما بعد الحرب
المرجح أن خسائر دولة الكيان من جراء عملية “طوفان الأقصى” لن تقتصر على فترة الحرب وحسب، فعجلة الخسائر مرشحة للتفاقم بصورة كبيرة، في ظل التقديرات التي تشير إلى احتياج إسرائيل لفترة طويلة من أجل إعادة الاستقرار لوضعها الاقتصادي في ظل الهزات الكبيرة التي تعرضت لها أكثر القطاعات الاقتصادية خلال الفترة الماضية.
والخسائر الاقتصادية الهائلة التي تتكبدها دولة الاحتلال اليوم، لن تكون الجانب الوحيد في معادلة الخسائر التي يُرجح أن تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة والأمن، في ظل الازمات التي تتقاذف حكومة نتنياهو، والانهيار الكلي لمفهوم الأمن لدى الشارع الإسرائيلي الذي لم يعد يثق أن دولة الكيان المحتل تستطيع أن توفر الأمن لمواطنيها أو حماية حدودها.
وما يزيد المشهد قتامة أن مشهد الحرب التي تشنها اليوم على قطاع غزة تتجاوز الأهداف العسكرية إلى أهداف سياسية وثقافية وتحمل أبعادا أوسع بعد أن وجدت إسرائيل نفسها وحدها في محيط ساخن أعقب فترة استرخاء وانتشاء بالنجاحات التي حققتها بدعم أميركي كبير في ملف التطبيع وكسر حاجز المقاطعة مع بعض الدول العربية منذ العام 2017، وشروع نتنياهو ببرنامج التهيئة الإعلامية الواسعة لتهيئة الرأي العام العربي لتقبل واقع العلاقات الجديدة بين الكيان المحتل والدول العربية وبناء أسس الشرق الأوسط الجديد.
والحقيقة الواضحة اليوم أن عملية “طوفان الأقصى” هدمت كل ما بنته الولايات المتحدة وإسرائيل خلال السنوات الماضية في قاطرة التطبيع وفي مفهوم الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي، وإمكانية المضي بقاطرة التطبيع لن تكون ممكنة على المدى المنظور في ظل التقاطعات التي انتجتها مشاهد الجرائم الوحشية لجيش الاحتلال ضد المدنيين في غزة، والسمعة السيئة التي تراكمت خلال 36 يوما من العدوان الوحشي الذي قدم كل أعضاء الحكومة الإسرائيلية اليمينية بوصفهم مجرمي حرب.

خسائر الداعمين
رغم أن الحرب في قطاع غزة تجري بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا فإن آثارها وصلت إلى هذه الدول وفي المقدمة الولايات المتحدة الأمريكية التي تتكبد خسائر اقتصادية وعسكرية هائلة من اليوم الأول بسبب دعمها اللامحدود لحكومة الكيان وحربها في غزة.
أكبر دليل على ذلك التقارير الدولية التي تحدثت عن خسارة الولايات المتحدة نحو 40 % من مخزونها من صواريخ جافلن بسبب دعمها للحرب في أوكرانيا وإسرائيل، وتناقص مخزونها الاستراتيجي من قذائف المدفعية من عيار 155 ملم، وهو التناقص الذي اضطرها إلى تحويل شحنة كانت متجهة نحو أوكرانيا إلى الأراضي المحتلة لدعم سلطات الاحتلال.
اليوم تحذر أوساط اقتصادية أمريكية من أن استمرار واشنطن في تقديم الدعم لإسرائيل المتزامن مع الحرب في أوكرانيا وفي غزة ستكون له آثار اقتصادية سلبية، في ظل الخيارات الضيقة أمام الإدارة الأمريكية لتمويل حربين متزامنتين من طريق القروض ما سيقود إلى ارتفاع حاد في التضخم والعجز وتضخم الدين الوطني الذي زاد من 300 مليار دولار عام 1946 إلى نحو 33 تريليون دولار بحلول سبتمبر 2023.
والخسائر الأمريكية لن تقف عند هذا الحد، فالحروب عادة ما تتسبب بحالة من عدم اليقين في الأسواق المالية تؤدي إلى تقلبات في أسعار الأسهم والسندات والعملات، وهو ما يؤثر بدوره على قدرة الشركات والأفراد على الحصول على التمويل والتخطيط للاستثمارات، ويؤثر على ثقة المستهلك والمستثمر في نمو الاقتصاد.
وبالنسبة لدول القارة الأوروبية فقد انتجت الحرب الدائرة في أوكرانيا حالة انقسام واسعة بين دول القارة من جهة وبين الحكومات وشعوبها من جهة ثانية، وهي حالة تزايدت بصورة أكثر فداحة مع اعلان الحكومات الأوروبية دعما غير محدود لإسرائيل في حربها الهمجية ضد قطاع غزة.
وهذا التداعي بدأت نذره بصورة واضحة بين الحكومات الأوروبية التي أظهرت انحيازا ودعما كبيرا لإسرائيل عسكريا وسياسيا وإعلاميا وشعوبها التي خرجت إلى الشوارع في تظاهرات منددة بهذه السياسيات شارك فيها عشرات الآلاف في واشنطن ولندن وباريس وبرلين ومدريد والعديد من العواصم الأوروبية، منتقدين دعم حكوماتهم لإسرائيل، ما اضطر بعضها إلى خنق التظاهرات، بل وذهب بعضها إلى حظر الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين بصورة قسرية تلوح باضطرابات سياسية داخلية ستطاول الكبار والصغار دون استثناء.
وحاليا تساور واشنطن شكوك جدية بأن الهزات التي احدثتها حرب إسرائيل في غزة، قد تؤثر في المدى القريب على حالة التماسك في التحالف الدولي الذي حشدته ضد روسيا استنادا إلى الاختلافات المجتمعة بين الحكومات وشعوبها بما يجعل استمرار حرب اسرائيل في غزة تهديدا لمساعي واشنطن في الإبقاء على تماسك التحالف الغربي الهش في أوكرانيا والذي بالكاد استطاع الصمود خلال الفترة الماضية.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

طوفان الأقصى ومستقبل المنطقة ووضع الفصائل الفلسطينية: متغيرات جيو-استراتيجية

تمتلئ الصحافة بتساؤلاتٍ كثيرةٍ عقب الحدث الجيو-استراتيجي السوري حول مسار طوفان الأقصى، وعن مستقبل المنطقة ووضع فصائل المقاومة الفلسطينية في غمرة هذه التطورات، لا سيما حركة المقاومة الإسلامية حماس، وعن وضع غزة واحتمالات التوصل لاتفاقٍ لوقف إطلاق النار، وما ينتظر الضفَّة وسلطة التنسيق الأمني. وسيحاول هذا المقال الإجابة على هذه التساؤلات بالقدر والإيجاز الممكنَيْن.

الحدث السوري

استنادا لرؤية العالم كوحدةٍ تحليليةٍ واحدةٍ، حينما يرتبط الأمر بانزياح موازين القوى، تلك الرؤية التي يكون مِن الأَولى إعمالها حين يتعلق الأمر بساحاتٍ إقليميةٍ مترابطةٍ عضويا، يصير من غير الممكن فصل ما جرى في سوريا عن سياقه المباشر المتعلّق بارتدادات زلزال طوفان الأقصى.

رغم وجود شبه إقرارٍ بهذا الرأي، إلا أن هناك مقاربتين متعرضتين بالنظر إلى ذاك الحدث الإقليمي الفارق:

- يرى البعض أن سقوط دمشق كان امتدادا للطوفان، على قاعدة أن الطوفان قد أعاد الحياة لحراكٍ شعبيٍ ساعٍ لإسقاط الظلم والدكتاتورية.

- بينما يرى قسمٌ آخرٌ أن ما حصل في سوريا كان انقلابا على الطوفان ذاته، وإجهاضا لمفاعيله التي حاول ترسيخها في المنطقة، وأنه جاء كحصيلةٍ للحرب الدائرة منذ 14 شهرا على قوى التحرر العربي-الإسلامي، وتداعيات تلك الحرب على التوازنات الحاكمة في المنطقة.

لكن بالنظر إلى الرأي الأول، يتضح افتقاره إلى ربطٍ منطقيٍ بين التغير في التوازنات الإقليمية التي أحدثها طوفان الأقصى وفتح جبهات الإسناد، والتحرك العسكري المنظم الذي جاء من خارج المناطق التي كانت تسيطر عليها الدولة السورية، إذ ما جرى لم يكن هبّة من قلب مناطق سيطرة الدولة؛ ذلك إلا إذا كان المقصود بالرأي الأول، أن الهجوم العسكري من المناطق التي كانت تسيطر عليها المجموعات المسلَّحة يحاكي هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهنا يصير القائلون بهذا القول يتبنون ضمنا الرأي الثاني من حيث لا يشعرون، إذ إن ما جرى صبيحة الطوفان كان ترجمة لاختلال في توازنات المنطقة السابقة بالأساس.

رغم تحقيق العدو الصهيو-أمريكي إنجازاتٍ تكتيكيةٍ ضد قوى التحرر العربي-الإسلامي خلال حرب طوفان الأقصى، إلا أنه ظل عاجزا عن تحويلها إلى مكاسب إستراتيجيةٍ حتى إسقاط دمشق، الذي جاء ليقلب توازنات المنطقة رأسا على عقبٍ ويتيح لنتنياهو التفاخر بتحقيق الخطوة الأولى نحو خلق "شرق أوسطٍ جديدٍ"، تلك العبارة التي يستخدمها كناية عن تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى"
فالدولة السورية كانت جزءا من تحالفٍ، ذلك بمعزل عن تقييم الأطراف لمدى انخراطها بذاك التحالف، ولا جدال بأن دعم حلفاء سوريا لها قد لعب دورا محوريا في عدم سقوط الدولة خلال دورة العنف الأولى. لكن، نتيجة للظروف المستجدة، بسبب انشغال محور المقاومة بحربٍ مصيريةٍ تخوضها نيابة عن الأمة الخاملة والمتواطئة، وتوجيه العدو ضرباتٍ تكتيكيةٍ للمحور في غزة ولبنان، تهيأت الأرضية لفتح جبهةٍ جديدةٍ ضد الدولة السورية من الشمال. وقد أدى هذا التحرك لتحقيق إنجازٍ نوعي للعدو بإسقاط النظام الذي كان حلقة الوصل بين قوى المقاومة.

لذلك، فإن الرأي الثاني، الذي يرى بأن التحوّل الجيو-استراتيجي السوري يُعَدّ انعكاسا لاختلالٍ في توازنات المنطقة الحاكمة، في خضمّ حربٍ طاحنةٍ تدور بين محورين، يبدو أكثر منطقية وأقرب للواقع ولحقائق الميدان.

رغم تحقيق العدو الصهيو-أمريكي إنجازاتٍ تكتيكيةٍ ضد قوى التحرر العربي-الإسلامي خلال حرب طوفان الأقصى، إلا أنه ظل عاجزا عن تحويلها إلى مكاسب إستراتيجيةٍ حتى إسقاط دمشق، الذي جاء ليقلب توازنات المنطقة رأسا على عقبٍ ويتيح لنتنياهو التفاخر بتحقيق الخطوة الأولى نحو خلق "شرق أوسطٍ جديدٍ"، تلك العبارة التي يستخدمها كناية عن تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى".

لقد عبّر نتنياهو عن مضمون تلك الفكرة بوضوحٍ من على حدود الجولان المحتل، وذلك عقب سقوط دمشق، ذاك التصريح الذي تبعه بتوغّلٍ بريٍ داخل سوريا، بلغ حتى اللحظة مئات الكيلومترات المربّعة من قرى ومدنٍ سوريةٍ ومناطق ومرتفعاتٍ حاكمةٍ، مما جعل نتنياهو يُصرِّح بأن الجولان المحتل قد بات اليوم جزءا من "إسرائيل" للأبد، وذلك في ظلّ ما بات يصدُر تباعا عن الجولاني من تصريحاتٍ قال فيها تارة بأنه لا حجّة للكيان بالتوغّل في الأراضي السورية، كون "هيئة تحرير الشام" قد أبعدت خطر حرس الثورة الإسلامية الإيرانية ومجاهدي حزب الله عن حدود الجولان المحتل، وتارة بالتأكيد على أن "سوريا الجديدة" لن تكون منطلقا لأي عمَلٍ مسلَّحٍ ضد الكيان الغاصب، هذا ناهيك عن تصرّف مقاتلي "هيئة تحرير الشام" على الأرض الذين لم يحاولوا التصدي للتوغّل الصهيوني المستمر في الأرض السورية، إضافة إلى إغلاق "هيئة تحرير الشام" لمعسكرات تدريب الفصائل الفلسطينية، وسحب سلاحها عدا الفردي منه.

إذن، استنادا للرأي الثاني، الذي يأخذ بعين الاعتبار نتائج سقوط دمشق المباشرة على سوريا، يمكن القول بأن ما جرى قد وجّه ضربة كبيرة لطوفان الأقصى ومفاعيله، وتبقى النتائج التي ستظهر في غزة قريبا حكما على صحة هذه الرؤية من عدمها.

وقف إطلاق النار في غزة

تشي الحركة الدبلوماسية الحثيثة الراهنة، التي يلفها التكتّم الشديد، بقرب التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار على جبهة غزة، وقد كان هذا الأمر متوقعا عقب ما جرى في سوريا، إذ إن خيارات المقاومة الفلسطينية قد باتت اليوم محدودة بعد الإنجاز الاستراتيجي الذي حقّقه الحلف الصهيو-أمريكي على عموم محور قوى التحرر العربي-الإسلامي، مما يمكن أن يدفع المقاومة الفلسطينية، بقيادة كتائب القسام، إلى تقديم تنازلاتٍ مؤلمةٍ للعدو كاستجابةٍ للواقع الإقليمي المستجد، بعدما اصبح حزب الله محاصرا من المجموعات المسلَّحة المسيطرة على سوريا، وفي ظلّ إرباك الجمهورية الإسلامية في إيران، وفقدانها لنقطة ارتكازٍ رئيسةٍ في مواجهة الحلف الصهيو-أمريكي.

لقد باتت أولوية فصائل المقاومة الفلسطينية في هذه المرحلة الحفاظ على وجودها، وذلك في ظلّ انقلاب موازين القوى في المنطقة لمصلحة العدو، لذلك لا يمكن بحالٍ توجيه أي لومٍ للمقاومة الفلسطينية وكتائب القسام إذا ما وافقت على اتفاقٍ لوقف النار في غزة بسقوفٍ أقل مما كان متوقعا سابقا، أو بشروطٍ أكثر قسوة على الفلسطينيين مما كان مأمولا، فالضربة شبه القاتلة التي تمكّن العدو من توجيهها لطوفان الأقصى، بالتعاون مع قوى إقليميةٍ، تفرض على قوى التحرر العربي-الإسلامي محاولة التكيّف مع الواقع الجديد الذي فرضه العدو على الأمّة.

مستقبل المنطقة
إجماعٌ على أن نتيجة طوفان الأقصى النهائية سترسم شكل المنطقة لسنين قادمةٍ، إذ إن الطوفان لم يحصل في الفراغ، بل إنه قد جاء كنتيجةٍ طبيعيةٍ للتغيّر الذي اعترى موازين القوى خلال العقدين المنصرمين، ناهيك عن مرور العالم في مرحلة تحولاتٍ عميقةٍ على مستوى شكل النظام العالمي الجديد، لذلك من المستبعد أن يتوقف المسار الذي افتتحه الطوفان قبل ترصيد توازنات المنطقة الجديدة بصورةٍ شبه نهائيةٍ لصالح أي من الأحلاف المتقابلة
هناك إجماعٌ على أن نتيجة طوفان الأقصى النهائية سترسم شكل المنطقة لسنين قادمةٍ، إذ إن الطوفان لم يحصل في الفراغ، بل إنه قد جاء كنتيجةٍ طبيعيةٍ للتغيّر الذي اعترى موازين القوى خلال العقدين المنصرمين، ناهيك عن مرور العالم في مرحلة تحولاتٍ عميقةٍ على مستوى شكل النظام العالمي الجديد، لذلك من المستبعد أن يتوقف المسار الذي افتتحه الطوفان قبل ترصيد توازنات المنطقة الجديدة بصورةٍ شبه نهائيةٍ لصالح أي من الأحلاف المتقابلة.

رغم ميل موازين القوى بعد الأحداث الأخيرة لصالح العدو، إلا أنه لن يتمكّن مِن ترصيد اختلال موازين القوى الإقليمية بصورةٍ نهائيةٍ دون إحداث تغييرٍ ديموغرافيٍ جذريٍ في الضفّة، وبقدرٍ أقل في غزة، والقضاء التام على قوى المقاومة الإقليمية دولا وأحزابا، أو فرض الاستسلام عليهم، لا سيما في فلسطين ولبنان والجمهورية الإسلامية.

لذلك، من المرجّح أن يواصل العدو تطوير هجماته على قوى محور المقاومة، مستغلا الوضع الحرج الذي يعيشه المحور، بمعزلٍ عن وقفٍ إطلاق النار على بعض الجبهات.

لكن، في ظل كثرة المتغيرات الإقليمية والدولية، يصعب التنبؤ بمسار الأحداث بدقّةٍ، ويبقى أن أمام الكيان الغاصب عقباتٍ كبرى وألغاما قد تنفجر في أي لحظة، مما يعيق تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى". ففي نهاية المطاف، لم ينجح العدو في إنهاء ظاهرة المقاومة في المنطقة، وإن مِن مزايا حركات المقاومة، في حال عدم القضاء عليها تماما، أنها تزداد تجذّرا وتمسّكا بالثوابت حينما تضيق أمامها الخيارات، ذلك طالما كان الممسكين بزمام أمرها مِن المخلصين والأوفياء لعقيدتهم ولدماء شهدائهم وللثوابت الوطنية، إذ لا تندثر حركات المقاومة إلا إذا عبثت بالثوابت لحساب المصالح الآنية، وآن ذاك ينتهي بها الأمر بتضييع الاثنين كما حصل مع تجارب ثوريةٍ أخرى، ولدينا مثالٌ شاخصٌ في تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، والدرك الأسفل الذي انتهت إليه سلطة التنسيق الأمني.

الضفَّة وسلطة التنسيق الأمني

لقد باشر الاحتلال فعليا بخطواتٍ لضم أراضي الضفَّة من خلال بعض التشريعات، ناهيك عن تصريحات مسؤولي العدو التي باتت تُجاهر بنيّة تنفيذ مخطط الضم، ولعل هذه الخطوات ستزداد وتيرتها خلال المرحلة القريبة القادمة، إذ يشعر الاحتلال بنشوة التغيير الجيو-استراتيجي الذي رعته قوى غربيةٍ وإقليميةٍ، مما يجعل تصعيد المقاومة في الضفّة ضرورة وجودية. ورغم الصعوبات، يبقى الردع الوحيد للاحتلال هو المقاومة، كما أثبتت غزة، حيث حال صمود المقاومة والحاضنة الشعبية دون تهجير سكان القطاع وسط صمت المجتمع الدولي!

إن خطر تهجير سكان الضفَّة لا يطال الفلسطينيين وحسب، بل إن آثاره ستمتد بالضرورة لباقي الوطن العربي، لا سيما الأردن، وفي ذلك تهديدٌ حقيقيٌ للأمن القومي الأردني، فهل ستتخذ الحكومة الأردنية موقفا جادا يتناسب مع حجم التهديد الداهم؟ أم أن النظام الرسمي العربي سيستمر في سياسة دفن الرؤوس في الرمال حتى تقع الواقعة؟

أما سلطة التنسيق الأمني، فإن الخطر الوجودي الذي يهدّدها ليس أقل من غيرها، إذ إن الاحتلال يريد أرضا بدون شعبٍ فلسطيني، يكون عليه عبئا ديموغرافيا إضافيا، وتماهي سلطة رام الله الكامل مع خطوات العدو، وطلباته بإجهاض أي حراكٍ مقاومٍ في ساحة الضفَّة، لن يحميها من السياسة العميقة للكيان الرامية للقضاء على كل وجودٍ فلسطينيٍ على أرضه.

حركة حماس
ليس ثمّة خيارٌ جديٌ أمام الفلسطينيين ومقاومته سوى استمرار مسار طوفان الأقصى، الذي رغم تعرضه لضربةٍ شبه قاتلةٍ بسبب عاملٍ غير متوقعٍ، وخارجٍ عن سيطرتهم، إلا أن المعركة لم يتم حسمها بعد، ولا يبدو أن العدو سيوقف مِن هجمته المرتدة عقب الضربة القاسية التي تلقاها صبيحة الطوفان، مما يفتح الباب على احتمالاتٍ كثيرةٍ، ليس آخرها عودة المنطقة للاشتعال مجدّدا في وقتٍ قريبٍ
تمر حركة حماس بمرحلةٍ فارقةٍ من عمرها، فهي تتعرض لضغوطٍ هائلةٍ في هذه المرحلة، لكن لعل أخطر ما يهدّدها الخيارات التي عليها اتخاذها في هذه اللحظة، فالآراء القائلة بأن السبيل الأمثل لمتابعة مسير الحركة، يكون بالرهانات غير الواقعية على قوى ثبت عدم جديتها بتبني خيار المقاومة المسلَّحة، يُعَدّ بداية الانزلاق لمساراتٍ تشبه مسار "أوسلو" بالضرورة، مع الفارق بأن تداعي هكذا مسار سيكون في وقتٍ أسرع بكثيرٍ من مسار منظمة التحرير الفلسطينية، ناهيك عن أن أضراره ستكون أكثر كارثية على الفلسطينيين ومستقبل قضيتهم، إذ أننا اليوم أمام خطةٍ صهيونيةٍ لاستكمال نكبة 1948، ولسنا في صدد مرحلة التخدير السياسي التي مارستها قوى الاستعمار على المنطقة إبان مرحلة "أوسلو".

لذلك، ليس ثمّة خيارٌ جديٌ أمام الفلسطينيين ومقاومته سوى استمرار مسار طوفان الأقصى، الذي رغم تعرضه لضربةٍ شبه قاتلةٍ بسبب عاملٍ غير متوقعٍ، وخارجٍ عن سيطرتهم، إلا أن المعركة لم يتم حسمها بعد، ولا يبدو أن العدو سيوقف مِن هجمته المرتدة عقب الضربة القاسية التي تلقاها صبيحة الطوفان، مما يفتح الباب على احتمالاتٍ كثيرةٍ، ليس آخرها عودة المنطقة للاشتعال مجدّدا في وقتٍ قريبٍ. فكما ذَكَر المقال سابقا، معركة الطوفان لن تضع أوزارها فعليا إلا بعد ترصيد موازين القوى من خلال تغييرٍ ديموغرافيٍ على أرض الواقع، وهذه العملية لا يمكن للعدو إتمامها إلا إذا رفعت قوى المقاومة في الإقليم، لا سيما المقاومة الفلسطينية، الراية البيضاء فعليا، أما ما دون ذلك، فإن العدو سيدخل في دوامةٍ طويلةٍ لن يكون له قبلٌ بها على المدى القصير.

خاتمة

لا تُهزَم أمةٌ إلا إذا فقدت الثقة بالنصر، ولا تندثر حركات المقاومة إلا إذا بدأت بالعبث بالثوابت، والهرولة وراء مشاريع لا تعلن العداء الواضح والصريح والعملي للعدو تحت مسمياتٍ عدةٍ، بمعزلٍ عن الراية التي ترفعها تلك المشاريع، لا سيما إذا كانت الأفعال تتعارض مع الشعارات بصورةٍ فجّةٍ.

إن الحفاظ على استقامة المسار يتطلب من القواعد الشعبية، قبل القيادات، الصمود في وجه المتغيرات، والتمسك بالثوابت التي لا تقبل التبديل، وأن تكون رقيبا نزيها على قياداتها.

ما كان مسار الطوفان ليكون معبّدا بالورود، فالهدف عظيمٌ، ولم يكن يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلا شرارة انطلاق ثورةٍ فلسطينيةٍ متجدّدةٍ، ورغم العثرات، ومحاولات الانقلاب عليها تحت مسمياتٍ خادعةٍ، ومِن أطرافٍ عدةٍ، إلا أن المسيرة لم تنته بعد، ولا زالت أمّتنا في قلب الحدث، والعالم في مرحلة سيولةٍ لم تحسم حتى اللحظة، والعدو مستمرٌ في عدوانه، وما حصل ويحصل سيكشف الغث من السمين، وسيجعل الخيارات أكثر وضوحا، ولن يكمل المسير إلا مَن يستحق نيل شرف دخول القدس فاتحا.

مقالات مشابهة

  • طوفان الأقصى ومستقبل المنطقة ووضع الفصائل الفلسطينية: متغيرات جيو-استراتيجية
  • شاهد | ما الذي يخطط له العدو في الضفة، وكيف يستفيد من التناقضات الفلسطينية؟
  • المقاومة تواصل عملياتها النوعية بغزة وتُكبد العدو الصهيوني خسائر فادحة
  • المقاومة الفلسطينية تواصل استهداف العدو الصهيوني في كافة محاور التوغل في غزة
  • المقاومة الفلسطينية تقنص جنديًا صهيونيا شمال غزة وتقصف عسقلان
  • قائد الثورة الاسلامية: سيتم القضاء على الكيان الصهيوني
  • العدو الصهيوني يعترف بمقتل جنديين في رفح
  • صاروخ فرط صوتي يمني يشل حركة الملاحة في مطار بن غوريون ويثير الذعر في الكيان الصهيوني
  • لجان المقاومة الفلسطينية تثني على الضربات اليمنية ضد الكيان الصهيوني
  • تصفية القضية الفلسطينية الهدف الاستراتيجي لبلطجة الكيان