لجريدة عمان:
2025-03-17@01:44:51 GMT

العدل والظلم في السياسات الدولية

تاريخ النشر: 14th, November 2023 GMT

قلت في مقالي السابق «عن النفاق وأشكاله» إن العدالة هي القيمة الأخلاقية العليا؛ ولكن مفهوم «العدالة» لا يمكن تصوّره إلا من خلال مفهوم «الظلم»: فالعدالة تظل دائمًا مقاومة للظلم ومحاولة للانتصار عليه، والعدل والظلم ليسا فحسب بظاهرتين تتعلقان بسلوك الناس أو الأفراد بعضهم إزاء بعض، وإنما تتعلقان أيضًا بسياسات الدول بعضها إزاء بعض.

هذه الحالة الثنائية من العدل والظلم تتجلى بوضوح في سياسات الدول الغربية بوجه خاص؛ لأنها تمارس سياسات ازدواجية تبلغ حد حالة «الفصام العقلي»، وهي حالة ناتجة عن ميراث طويل من الخلل العقلي والثقافي في التعامل مع الآخر المختلف في الدين والهوية والجغرافيا أيضًا. كيف نفسر هذه الذهنية الازدواجية، وكيف نطبقها على السياسات الدولية الراهنة للغرب. هذا أمر يحتاج إلى شيء من التفصيل.

لا شك في أن معظم الناس في الشرق، وفي عالمنا العربي بوجه خاص يودون أن يعيشوا في بلدان الغرب المتقدمة، وربما يبرهن على ذلك تلك الموجات من الهجرة من بعض البلدان العربية والإفريقية عبر البحر في رحلات مميتة غالبًا من أجل العبور إلى الشاطئ الآخر من شمال البحر المتوسط، ولعل ذلك يكون عندهم مقدمة لبلوغ الحلم البعيد، وهو الوصول في النهاية إلى الغرب الأمريكي! لماذا؟ ببساطة لأن هؤلاء يهربون من الفقر المدقع الذي يعيشونه في بلدانهم، ولأنهم يحلمون بالعدل والحياة الكريمة مما يفتقرون إليه في بلدانهم، وهو ما تنعم به شعوب الغرب بفضل السياسات الديمقراطية التي تنتهجها الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية: فمعظم الناس في هذه الدول يمكن أن يعيشوا حياة كريمة، وكل امرئ منهم يعرف أن صوته له قيمة في تشكيل السياسات، ويعرف أن هناك قانونًا عامًّا يحكمه مثلما يحكم الآخرين؛ ومن ثم فإنه سوف يحصل على حقوقه المدنية في تعامله مع الآخرين ومع الدولة نفسها. ولهذا السبب؛ فإن من ينجحون في الوصول إلى الغرب والعيش فيه، لا يودون غالبًا الرجوع إلى أوطانهم مهما كان حنينهم إليها، اللهم إلا في حالات نادرة.

ومع ذلك، فإننا عندما نتأمل الأمر من خلال منظور أوسع، نجد أن هذه الدول الديمقراطية نفسها لا تمارس هذه الديمقراطية، ومن ثم العدالة، إلا فيما يتعلق بسياساتها الداخلية التي تسري على شعوبها؛ أما فيما يتعلق بسياساتها الخارجية، فإنها تمارس أبشع أشكال الظلم والعدوان إزاء الشعوب الأخرى المغايرة التي هي بالنسبة لها هي «الآخر» الذي تمارس عليه الاستعلاء، بل العدوان الذي يبلغ أحيانًا حد الإبادة لهذا الآخر من أجل تحقيق مصالح نفعية تهدف إلى السيطرة والهيمنة والاستغلال. ذلك أن العقلية الغربية مستمدة من تراث طويل من استعمار الشرق باعتباره الشرق الأدنى بالمعنى الجغرافي والحرفي أيضًا: فهو أدنى ليس فقط باعتباره أقرب من الأقصى، وإنما أيضًا باعتباره الآخر الأقل قيمة؛ وهذا الآخر تم تصنيفه في مقولات متوارثة لدى المستشرقين، كما أفصح عن ذلك المفكر الكبير إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق». ولكن الشرق أدناه وأقصاه لم ينجُ من ظلم الغرب له واستعماره له. ويكفي أن نذكر هنا بريطانيا التي استعمرت معظم دول العالم حتى سميت بأنها الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عنها؛ وذلك بهدف واحد هو استغلال ونهب الدول التي استعمرتها. وحتى الدول الضئيلة في الغرب الآن مثل البرتغال قد مارست السياسات الاستعمارية فيما مضى، ولم تنجُ من عدوانها عُمان التي انتصرت عليها وقهرتها في النهاية. ولكن عدوان الولايات المتحدة على دول العالم لا مثيل له في التاريخ، فهو تاريخ متأصل من الدموية والظلم والعدوان يرجع إلى نشأة هذه الدولة نفسها الذي لا يزيد على مائتين وخمسين سنة، وهو تاريخ ضئيل بالنسبة إلى تاريخ أية مدينة عربية عتيقة.

تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية الضئيل قام منذ البداية على عقلية استعمارية دموية استهدفت إبادة السكان الأصليين من الهنود الحُمر، وهي الدولة الوحيدة التي استخدمت القنبلة النووية حتى الآن، والتي استهدفت معظم دول وشعوب العالم في فيتنام وفي حرب الكوريتين وفي أمريكا الجنوبية وفي أفغانستان والعراق، ومؤخرًا في غزة التي يُباد شعبها بأسلحة أمريكية فتاكة. وفي كل هذه الحالات وغيرها ارتُكبت مذابح وجرائم حرب قُتِل فيها الملايين من البشر باعتبارهم العدو الذي ينبغي قتاله: فهناك حاجة دائمًا لخلق عدو لتبرير الظلم والعدوان، وقد كان هذا العدو في أحيان كثيرة هو روسيا، والآن هو روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران معًا، وكان في أحيان كثيرة هو الإسلام، أقول في أحيان كثيرة؛ لأنه في أحيان أخرى كان يتم استخدام الجماعات الإسلامية الراديكالية، ومنها القاعدة وطالبان؛ من أجل تحقيق المصالح الأمريكية والغربية في مواجهة عدو آخر كالسوفييت في مرحلة سابقة؛ ثم أصبحت هذه الجماعات نفسها هي العدو الجديد بحجّة تطهير منطقة الشام منها. ولكن مصالح الشعوب لم تكن يومًا هدفًا حقيقيًّا للمبادئ الإنسانية التي تدّعيها الولايات المتحدة والغرب، من قبيل: الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، وما إلى ذلك؛ فهذه المبادئ والنظم جديرة بشعوب العالم الغربي، ولكنها ليست جديرة بالآخر، خاصة الآخر المتمثل في شعوب الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل.

هذه الازدواجية تتبدى حتى في المنظمات الدولية الكبرى التي تقف عاجزة في مواجهة الظلم والعدوان على المستضعفين؛ لأنها منظمات تبقى خاضعة للهيمنة الأمريكية. ولذلك فإنه لا سبيل إلى تقليل حجم الظلم في العالم إلا عندما يسعى النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب -الذي يتشكل الآن- إلى تغيير بنية وآلية عمل المنظمات الدولية الكبرى التي تحكم العالم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

روبيو: أمريكا سترد على الدول التي فرضت عليها رسوما جمركية

أكد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، الأحد، أن الولايات المتحدة ستتخذ إجراءات ضد الدول التي فرضت عليها رسومًا جمركية، مشيرًا إلى أن بلاده قد تبدأ محادثات ثنائية جديدة مع دول حول العالم بشأن ترتيبات تجارية مختلفة بمجرد فرض الرسوم على شركائها التجاريين الرئيسيين.

وجاءت هذه التصريحات بعد تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الخميس، بفرض رسوم جمركية تصل إلى 200% على واردات النبيذ والمشروبات الكحولية الأوروبية، في خطوة قد تؤدي إلى تصعيد النزاع التجاري العالمي الذي تسبب في اضطرابات الأسواق المالية وأثار مخاوف من ركود اقتصادي.

واشنطن تسعى لإعادة التوازن 

خلال مقابلة مع برنامج "واجه الأمة" الذي تبثه شبكة (CBS)، أوضح روبيو أن القرار الأمريكي لا يستهدف دولة بعينها، بل يهدف إلى إعادة ضبط قواعد التجارة الدولية. وقال: "الأمر ليس موجهًا ضد كندا، ولا المكسيك، ولا الاتحاد الأوروبي فقط، بل هو موقف عالمي ضد الجميع"، وفقًا لما نقلته وكالة رويترز.

وأضاف أن واشنطن تسعى إلى تحقيق "الإنصاف والمعاملة بالمثل"، وستبدأ على هذا الأساس مفاوضات تجارية جديدة مع الدول الراغبة في التعاون، مؤكدًا أن السياسات الحالية لا يمكن أن تستمر على هذا النحو.

منذ تولي ترامب السلطة، شنت إدارته حروبًا تجارية ضد شركاء ومنافسين تجاريين، مستخدمة الرسوم الجمركية كأداة ضغط رئيسية لتحقيق مكاسب في ملفات التجارة والاقتصاد، وفقًا لتقرير نشرته وكالة "فرانس برس".

البيت الأبيض يدافع عن موقف ترامب في المفاوضات الخاصة بأوكرانياأسامة السعيد: ترامب يتبنى نهجًا استباقيًا ضد الحوثيين بعكس بايدنالمبعوث الأمريكي: ترامب قد يهاتف بوتين هذا الأسبوعقاضٍ فيدرالي يوقف ترحيلات ترامب بموجب قانون العدو الأجنبيأخبار العالم | أمريكا تقصف اليمن .. ترامب يتعهد باستخدام «قوة مميتة» ضد الحوثيين.. والجماعة تتوعد: الهجمات الأمريكية لن تردعنا وسنواصل دعم غزة

وردًا على هذه السياسات، أعلن الاتحاد الأوروبي، الأربعاء، عن فرض إجراءات انتقامية على المنتجات الأمريكية، تشمل رسومًا على سلع أمريكية بقيمة 28 مليار دولار، تدخل حيز التنفيذ اعتبارًا من أبريل المقبل، وذلك في إطار مواجهة الرسوم الأمريكية على الصلب والألمنيوم.

تصاعدت المخاوف من أن تؤدي الخطوات الأمريكية إلى اضطرابات واسعة في التجارة العالمية، لا سيما مع تصاعد التوترات بين واشنطن وشركائها التقليديين. ومن المتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة جولات من المفاوضات والتهديدات المتبادلة، في وقت يحاول فيه البيت الأبيض فرض شروط جديدة على الاقتصاد العالمي.

مقالات مشابهة

  • روبيو: أمريكا سترد على الدول التي فرضت عليها رسوما جمركية
  • مقارنة بين وقوف الغرب مع أوكرانيا وموقف العرب من فلسطين
  • محكمة العدل الإلهية
  • تركيا الأولى عالميا ضمن الدول التي يصعب فيها امتلاك منزل!
  • السؤال الذي يعرف الغرب الإجابة عنه مسبقا
  • كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!
  • سخرية عالمية من إحتفال وزراء “العالم الآخر” بأول عملية دفع إلكترونية في تاريخ القوة الضاربة
  • الدول التي تدرس إدارة ترامب فرض حظر سفر عليها
  • خلافات أمريكا وأوروبا.. هل هي بداية انقسام حضارة الغرب وماذا سيفعل عندها العرب؟
  • “العدل الدولية” تعقد جلسات استماع الشهر المقبل بشأن التزامات الاحتلال تجاه الفلسطينيين