هل يدق العدوان الصهيوني على غزة المسمار الأخير في نعش النظام العالمي؟
تاريخ النشر: 14th, November 2023 GMT
فموقف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، زعيم "الغرب" المهيمن على النظام العالمي الحالي، من العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول يخضع للدراسة والرقابة الدقيقة من جميع الأطراف حول العالم؛ إذ يشن جيش الاحتلال، بدعم أمريكي وغربي مطلق، حملة من القصف الهمجي على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الاسرائيليين ، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات الغلاف، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
عندما بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وهو الهجوم الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه بايدن والغرب (قادة النظام العالمي الحالي) بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، كثفت واشنطن وحلفاؤها جهودهم من أجل إقناع العالم أجمع بالتكتل ضد روسيا "المعتدية" والدفاع عن أوكرانيا "المعتدى عليها".
وكان المنطق الأمريكي-الغربي بسيطاً ومباشراً: كيف يمكن أن يقف العالم متفرجاً على دولة كبيرة وهي تعتدي على جارتها الصغيرة وتحتل أراضيها دون أن يحرك ساكناً؟ الرسالة بطبيعة الحال كانت موجهة للجنوب العالمي ومصدرها الغرب قائد النظام الذي يحكم العالم ويتحكم في أدواته وآلياته الأممية.
وعلى مدى أكثر من 19 شهراً، بدا واضحاً أن "المنطق الأخلاقي والبُعد القانوني" الذي يستند إليه الغرب في دعمه المطلق لأوكرانيا وعقوباته غير المسبوقة على روسيا لا يحقق النتائج المرجوة منه، على الأقل بالسرعة المطلوبة من جانب الغرب. فروسيا لها منطقها الخاص بالصراع في أوكرانيا، وتراه صراعاً جيوسياسياً بين موسكو وواشنطن بالأساس.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرى أن سعي حلف الناتو للتمدد شرقاً وفتح الباب أمام أوكرانيا، جارته المباشرة، للانضمام إلى الحلف العسكري الغربي يمثل تهديداً وجودياً للأمن القومي الروسي يستحيل القبول به، وبالتالي طلب ضمانات أمريكية من جو بايدن بأن الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته، معتبراً أن ذلك "خط أحمر".
رفض بايدن تقديم أي ضمانات لبوتين، واشتعل الصراع، الذي لم يكن جديداً من الأساس، فقامت موسكو بهجومها الهادف إلى حماية أمنها القومي، من وجهة النظر الروسية. فاستغل الغرب هذا الهجوم/الغزو الروسي للتأكيد على أهمية "النظام العالمي القائم على القوانين الدولية واحترامها".
لكن المنطق الغربي، أخلاقياً وقانونياً، انقلب رأساً على عقب عندما اشتعلت الأمور في فلسطين. فقد بدأ جيش الاحتلال قصفاً همجياً وجنونياً على قطاع غزة بصورة غير مسبوقة، واستهدف الحجر والبشر والشجر حرفياً وليس مجازياً، ولم تسلم البيوت والبنايات والأبراج في القطاع الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون فلسطيني، وهو المنطقة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم. لم تسلم المستشفيات وعربات الإسعاف والطواقم الطبية من هذا القصف، وكان قصف المستشفى الأهلي المعمداني مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول نموذجاً صارخاً لما توصف بأنها "جريمة حرب" متكاملة الأركان ترتكبها إسرائيل دون أي قلق من مساءلة من أحد.
وبطبيعة الحال، تم التمهيد لما ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين في قطاع غزة من خلال حملة ممنهجة ومنظمة تشارك فيها العواصم الغربية، وبخاصة واشنطن ولندن وباريس وبرلين، من خلال الترويج للاكاذيب الهادفة لتشويه ليس فقط حركة المقاومة الفلسطينية حماس، ولكن أيضاً الفلسطينيين داخل القطاع وخارجه، وحتى العرب جميعاً، باعتبارهم متعاطفين مع ما يصفه الاحتلال وداعميه بأنه "إرهاب".
ردد بايدن وماكرون (رئيس فرنسا) وأولاف شولتز (مستشار ألمانيا) وريشي سوناك (رئيس وزراء بريطانيا)، ومن خلفهم الإعلام الغربي على إطلاقه، أكاذيب "قطع رؤوس الأطفال" من جانب المقاومة، وردد آخرون أكاذيب "اغتصاب النساء وحرق الرضع"، ونشروا صورة مزيفة بالذكاء الاصطناعي، وكان أحد السياسيين الأمريكيين الطامحين للرئاسة، وهو الجمهوري رون ديسانتيس، صريحاً ومباشراً عندما قال إن "الفلسطينيين في غزة انتخبوا حماس وعليهم أن يتحملوا النتائج"، عندما انتقده ناخب أمريكي بسبب دعمه "لجرائم إسرائيل بحق المدنيين في غزة".
تحولت تل أبيب إلى قبلة لإبداء الدعم والمساندة، فزارها بايدن وشولتز وسوناك وغيرهم من المسؤولين الغربيين، ورفع الجميع شعار الدعم والمساندة لإسرائيل حتى تنتقم لكرامتها المهدرة وإذلال جيشها أمام المقاومة، وذلك باجتثاث المقاومة تماماً من غزة، ولو على أشلاء 2.3 مليون فلسطيني.
النظام العالمي الحالي.. كيف يعمل؟
خلال 37 يوماً من العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، تعرض النظام العالمي الذي تقوده أمريكا والغرب إلى انتكاسة مدمرة على مستوى الرأي العام العالمي، بحسب تحليل غربي يتبنى وجهة النظر الغربية أصلاً، جاء في جزء منه أنه "بعيداً عن حلفاء واشنطن، أصبح من النادر أن نجد من يعتقد أن هذا النظام العالمي يمتلك شرعية أخلاقية أو مصداقية سياسية. فقواعده تخدم فقط مصالح الغرب. هي قواعد غربية وضعها الغرب لصالح الغرب. ونادراً ما كان أمريكا والغرب في تناغم مع باقي العالم".
وعبر كثير من الدبلوماسيين الغربيين أنفسهم عن المأزق الذي باتوا يتعرضون له في أي لقاءات تجمعهم بالدبلوماسيين من "الجنوب العالمي"، حيث يتم التذكير طوال الوقت بالمعايير المزدوجة بشكل فج بين الموقف من حرب أوكرانيا والموقف من حرب إسرائيل على غزة.
ولا يبدو أن حجة "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها" باتت تجدي نفعاً. فطوفان الأقصى لم يحدث من فراغ ولم يكن حدثاً هجومياً غير مبرر من الأساس؛ حيث يركز الغرب على فكرة أن الأمور كانت "هادئة ومستقرة" بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل عملية طوفان الأقصى.
وهذه الفكرة ليست تحليلاً بل حقيقة وردت نصاً على لسان جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، أي قبل 3 أسابيع فقط من طوفان الأقصى. ففي فعالية استضافتها مجلة ذي أتلانتيك الأمريكية، زعم سوليفان أن المنطقة أصبحت -في الوقت الحالي على الأقل- "أكثر هدوءاً اليوم مما كانت عليه منذ عقدين من الزمن"، وعلى الرغم من أن "التحديات لا تزال قائمة، مثل برنامج الأسلحة النووية الإيراني، والتوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فقد قل كثيراً مقدار الوقت الذي يتعين عليّ أن أقضيه في الانشغال بأزمات الشرق الأوسط وصراعاته اليوم، خلافاً لجميع أسلافي في هذا المنصب منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول".
فماذا كان يقصد سوليفان بالتوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟
كان المسؤول الأمريكي يشير إلى حكومة إسرائيل الحالية، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضويةايتماربن غفير وسموتريتش وغيرهما من غلاة المتطرفين والمستوطنين، والتي وصفت أمريكياً وغربياً وحتى إسرائيلياً بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية.
فقبل أن تكمل تلك الحكومة شهرها الأول في السلطة، اقتربت الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف. وهذا ليس من قبيل المبالغة؛ إذ كانت صحيفةنيويورك تايمز الأمريكية قد نشرت تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد بالأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين بالضفة الغربية، ووضع الاستيطان في طليعة ملفات الحكومة.
زار وزير الخارجيةانتوني بلينكن المنطقة؛ لتوجيه رسالة إلى حكومة إسرائيل، مفادها معارضة أمريكا لأي "إجراءات استفزازية" بحق الفلسطينيين، حيث التقى نتنياهو وأعلن عن "ضرورة عدم اتخاذ تل أبيب أي إجراءات من شأنها التأثير على حل الدولتين"، وتحدث تحديداً عن ضرورة وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
غادر بلينكن، وبعد أقل من أسبوعين، أعلنت حكومة نتنياهو منح تصريحات بأثر رجعي لبؤر استيطانية يهودية في الضفة الغربية المحتلة والتصريح ببناء 10 وحدات استيطانية جديدة، فكيف ردت واشنطن؟ ضغطت على السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس لسحب مشروع قرار مقدم إلى الأمم المتحدة لإدانة الاستيطان الإسرائيلي، واعدةً السلطة بأن نتنياهو وافق على "تجميد" خطط الاستيطان، وهو ما نفاه نتنياهو نفسه لاحقاً.
واصلت حكومة إسرائيل تنكيلها بالفلسطينيين في القدس والضفة الواقعتين تحت الاحتلال، واستشهد نحو 300 فلسطيني، بينهم 38 طفلاً، هذا العام فقط واغتالت إسرائيل قادة "الجهاد الإسلامي" بغزة، في انتهاك صارخ لاتفاق وقف إطلاق النار.
كل هذه التطورات والأحداث رسخت شعور نتنياهو وحكومته وجيشه وشرطته ومستوطنيه بالتفوق المطلق والسيطرة التامة على الموقف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما اطمأن حلفاء إسرائيل في الغرب وفي المنطقة إلى أن الأمور تسير بشكل جيد، وأن القضية الفلسطينية لم تعد تمثل صداعاً لأحد.
ما شكل النظام العالمي الذي يتشكل الآن؟
المؤكد الآن هو أن نظاماً عالمياً جديداً يبدو وكأنه في طور التشكل، لكن ماهيته أو تركيبته لا تزال في علم الغيب. فالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لا تزال مستمرة، ولا أحد يعرف متى أو كيف يمكن أن تنتهي، لكن كل ساعة يستمر فيها "الجنون" الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين، تمثل نزيفاً مستمراً لما تبقى من أي رصيد لهذا النظام الغربي الذي تقوده أمريكا.
الصين وروسيا بطبيعة الحال هما المستفيد الأكبر من هذا الانهيار الأخلاقي والقانوني الغربي في مواجهة العربدة الإسرائيلية غير المسبوقة، والتي تأتي في أعقاب الهزيمة العسكرية المدوية التي حاقت بجيش الاحتلال يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهي أيضاً هزيمة غير مسبوقة مزقت تماماً أسطورة "الجيش الذي لا يقهر".
فبكين وموسكو تنددان منذ سنوات بالنظام العالمي الغربي بقيادة أمريكا وتطالبان باستبداله بنظام جديد متعدد الأقطاب يكون "أكثر عدلاً"، والآن بات هذا المعسكر يحظى بداعمين جدد بطبيعة الحال، في ظل سقوط ورقة التوت عن الغرب وقواعده المصممة فقط لخدمة مصالحه.
هل يكون لتجمع "بريكس" دور فعال في النظام الجديد؟ هل تعاد هيكلة مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة ليضم أعضاء دائمين جدداً يتمتعون أيضا بحق الفيتو وتعاد كتابة قواعد الفيتو نفسها؟ حالياً يضم مجلس الأمن الدولي 5 دول فقط هي أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا، ولا يمكن تمرير أي مشروع قرار إذا استخدمت أي منها حق الفيتو (الرفض). فهل يمكن أن تتسع العضوية لتضم دولاً أخرى أو حتى تكتلات؟ الهند والبرازيل وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي وتكتل "بريكس" قد تكون مرشحة. وعندها يمكن تعديل اتخاذ القرار ليصبح بالأغلبية مثلاً ويتم إلغاء الفيتو.
هناك أشكال كثيرة وأمور أكثر يمكن أن ينضج من خلالها نظام عالمي جديد لا يكون للغرب فيه السيطرة المطلقة ولا تلعب فيه أمريكا دور "شرطي العالم"، لكن بالتأكيد لن يكون التوصل إلى هذا النظام العالمي الجديد أمراً سلساً ولا ميسوراً، أما الشيء الوحيد الذي يبدو مؤكداً الآن فهو أن نزيف الدماء البريئة التي يسفكها الاحتلال الإسرائيلي على مرأى ومسمع من العالم سيكون المسمار الأخير في نعش النظام العالمي الحالي.
المصدر: مأرب برس
كلمات دلالية: أکتوبر تشرین الأول حکومة إسرائیل جیش الاحتلال طوفان الأقصى على قطاع غزة جو بایدن یمکن أن
إقرأ أيضاً:
إدارة ترامب الجديدة وإعادة تشكيل النظام العالمي
ترجمة: قاسم مكي -
الجرأة التي يُعيد بها الرئيس دونالد ترامب تشكيل قواعد الدبلوماسية الأمريكية تصيب المرء بالدوار. وتهديده بفرض رسوم جمركية ضد أصدقاء أمريكا يأتي في وقت سيء. فالنمو توقف في العديد من بلدان مجموعة السبع والدول تصارع لمعالجة التضخم وستكون الرسوم مؤذية للقطاعات التي تعتمد على التجارة.
مناورات ترامب الجيوسياسية أسوأ دون شك (من رسومه الجمركية)؛ فالبلدان التي تعتمد على العون الأمني الأمريكي كأوكرانيا وتايوان تخشى من التخلي عنها. والآن تم إبلاغ كل من كندا وجرينلاند بأنهما في قائمة الأراضي التي تسعى الولايات المتحدة إلى الاستحواذ عليها، ويسارع القادة الوطنيون في المكسيك وكندا وأوروبا لإيجاد رد مناسب.
التودّد إلى الرئيس ترامب أحد الخيارات وهو يُجرَّب الآن، لقد نصح جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق لترامب قادة العالم «بإجراء مكالمات هاتفية معه ولقائه ومحادثته حول كل شيء، وإذا فشل كل ذلك عليهم تعلُّم كيفية لعب الجولف».
لكن هذا ليس رهانا مضمونا لكسب ودِّ ترامب، والقادة الديمقراطيون الضعفاء في بلدانهم قد يدفعون ثمنا غاليا. لقد طار جاستن ترودو رئيس وزراء كندا إلى منتجع «مارا لا جو» في أواخر نوفمبر لاستمالة ترامب بشكل مباشر بشأن تهديده بفرض الرسوم الجمركية. فعل ذلك على الرغم من اعتراض نائبته كريستيا فريلاند التي نادت بِردٍّ أشدّ واستقالت لاحقا احتجاجا على ذلك، كانت تلك هي الضربة الأخيرة لحكومة ترودو الضعيفة وقادت مباشرة إلى استقالته هذا الشهر.
اتخذت زعيمة المكسيك كلوديا شينباوم موقفا أكثر تشددا وهددت بفرض رسوم انتقامية. أما خلف الكواليس فتعزز شينباوم جهودها على صعيد آخر وأعلنت عن عمليات مصادرة عديدة لحبوب الفنتانيل؛ فإظهار القوة العلنية والامتثال الهادئ قد يتضح أنهما الاستراتيجية الصحيحة. لكن لا أحد يعلم حتى الآن.
تبدو الصين أكثر يقينا بشأن ردها وتبنت استراتيجية الرد الاستباقي. لقد مددت رسوما جمركية على واردات أمريكية معينة وعقوباتٍ على شركات أمريكية. فالرئيس شي جينبينج خلافا لنظرائه في أوروبا وكندا ليست لديه خشية تذكر من رد فعل محلي. يقول ايفان ميديروس مسؤول الأمن القومي السابق في إدارة أوباما «استراتيجية الصين تشمل الرد الانتقامي والتكيف والتنويع».
أوروبا في الأثناء منقسمة. في اجتماع للمنتدى الثلاثي في مدريد شجع انتوني جاردنر السفير الأمريكي السابق للاتحاد الأوروبي في إدارة أوباما الأوروبيين على التخطيط لفرض رسوم انتقامية على الواردات الأمريكية. وينادي آخرون بعقد صفقات جذابة للإدارة الأمريكية من خلال الوعد بشراء أسلحة وغاز طبيعي مُسال من الولايات المتحدة.
قد يكون لتهديدات ترامب أيضا أثر تلطيفي على الإجراءات المتخذة ضد الشركات الأمريكية. فالأخبار تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي قد يتراجع عن تحقيقاته حول شركات التقنية الأمريكية العملاقة. على أوروبا الإحاطة علما بالمقاربة المتكاملة التي تعتمدها المكسيك فيما هي تخطط لخطوتها التالية. وعليها أن تعمل بجد لكي تتحد.
لكن بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا قد تترتب عن الرد المتشدد تكلفة جيوسياسية باهظة. لقد دعا ستيفن ميران الذي اختاره ترامب لرئاسة مجلس مستشاريه الاقتصاديين إلى التهديد بسحب المساعدات الدفاعية والأمنية الأمريكية إذا رد حلفاء الولايات المتحدة برسوم جمركية خاصة بهم. وفي وقت يشهد حربا كبرى في القارة تبدو رهانات ضبط أوروبا ردها بطريقة صحيحة أعلى من أية منطقة أخرى في العالم.
مناورات ترامب الجيوسياسية توجد مخاوف من حجم مختلف. فوعده بعقد صفقة حول أوكرانيا يثير ثلاثة أسئلة على الأقل لأوروبا.
أولها، ماهي خطوط ترامب الحمراء (إن وجدت) بالنسبة لبوتين وأوكرانيا؟ وثانيها، إذا تخلى ترامب عن أوكرانيا هل تنتهي المسألة هنا أم سيتخلى أيضا عن تعهدات الولايات المتحدة الأمنية لأوروبا؟ وأخيرا، إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة للمساومة أو حتى التخلي عن سيادة أوكرانيا على أراضيها هل هذا يعني أنها ستفعل نفس الشيء للدول (الصغيرة) الأخرى حول العالم؟
حديث ترامب الأخير عن الاستحواذ على جرينلاند وضم كندا يهدد بجعل انتهاك السيادة قضية مفتوحة ويفاقم المخاوف من أن يؤدي استخفافه العلني بسيادة الدول إلى إعادة ترتيب جذري للنظام العالمي. وهذا سينطوي على مخاطر كبيرة للولايات المتحدة. فإذا ضعفت القيود المعيارية والقانونية على السيادة ستزداد الضغوط على صدقية الردع الذي يحول دون استخدام القوى الكبرى الأخرى الإكراه أو القوة العسكرية المحضة لتعديل الحدود. وهذه مسألة خطيرة في أي صراع مع الصين خصوصا حول تايوان.
بالنسبة لتايوان هنالك حالة من البلبلة تتعلق بوجودها. هل يسعى ترامب إلى مساومة كبرى مع بكين؟ أم أنه ببساطة سيعيد السياسة الأمريكية إلى موقفها السابق. وهو موقف غموض استراتيجي (حقيقي) حول ما ستفعله الولايات المتحدة إذا اندلع صدام بين الصين وتايوان؟
التحدي للقادة هو كيفية فهم نوايا ترامب. ربما يخطط أساسا للحفاظ على وضع الولايات المتحدة الحالي في العلاقات الدولية وهو ببساطة يستخدم تكتيكات غير تقليدية للوصول على نحو أفضل إلى الأسواق والحصول على تحالفات أقوى وأكثر توازنا. في تلك الحال قد تكون الترضية والدبلوماسية والزيارات والهدايا واتخاذ خطوات للامتثال لمطالبه ردا ذكيا (على تهديداته).
لكن إذا كانت لدى ترامب مخططات حقيقية حول كندا وجرينلاند ويرتب للتخلي عن تايوان وأوكرانيا كجزء من مخطط كبير لنظام عالمي جديد سيلزم في هذه الحال على شركاء وحلفاء الولايات المتحدة تبني رد استراتيجي بقدر أكبر ولكن أكثر تشددا وأطول أمدا.
هذا يعني استثمار المزيد من الموارد في الدفاع. كما يستوجب أيضا إيجاد بدائل لقوة الولايات المتحدة وشراكتها. بالنسبة لأوروبا هذا التدبير يصبح مهما باطراد خصوصا حول مسألة الصين. فتعزيز العلاقات مع الصين يمكن أن يكون ردا براجماتيا على الولايات المتحدة إذا كانت جادة بشأن التخلي عن التزاماتها وتعديل سياساتها الراسخة. فمن الخطورة أن يرغب ترامب من أوروبا «فقط» الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة.
رئاسة ترامب تثير اهتماما جديدا بمسألة تعهدات الولايات المتحدة. لكن هذه المسألة كانت موجودة رغم عدم بروزها على مدى عقود.
ففي عام 1984 نشر جوزيف جوفِه الباحث بمؤسسة كارنيجي مقالا أصبح الآن شهيرا تحت عنوان «المُهدِّئ الأمريكي لأوروبا. « ينبِّه جوفِه إلى حقيقة «تعهيد» البلدان الأوروبية أمنَها إلى الولايات المتحدة. وبعد ما يزيد عن عقد لاحقا كتب جون ماشينماير مقالا بعنوان «مستقبل المُهدِّئ الأمريكي» يجادل فيه بأن هياكل القوة في أوروبا غير قابلة للاستدامة والسيناريو المرجح في أوروبا هو «خروج أمريكي في نهاية المطاف». (يقصد الباحثان بالمُهَدِّئ الأمريكي دور الولايات المتحدة من خلال وجودها العسكري في أوروبا وحلف الناتو في تهدئة التوترات ومنع الصراعات بين الدول الأوروبية وإتاحة بعد الحرب العالمية الثانية - المترجم.)
إذا كانت إدارة ترامب تؤذِن بحلول نظام عالمي جديد ستتطلب مواجهة التحدي ما هو أكثر من الزيارات المتسرعة لمنتجع مار لا جو أو البيت الأبيض. ستحتاج إلى تفكير هادئ والاستعداد للأسوأ والى إدراك واضح لما يحرك الرئيس الأمريكي؟ كما سيحتاج القادة أيضا إلى موازنة الضغوط المتباينة في الداخل.
لكن فهم نوايا الآخرين حتى في أفضل الأوقات محفوف بالتحديات. لقد أظهر ترامب قبل دخوله البيت الأبيض أن من الصعب التنبؤ بما سيفعله وأبدى استعداده لاختبار حدود تحالفات الولايات المتحدة بطرائق غير متوقعة تماما. هذا يجعل إدراك نواياه أمرا مُلِحَّا وبالغ الصعوبة في الوقت نفسه.
ليزلي فينجاموري مديرة برنامج الولايات المتحدة والأمريكتين بالمعهد الملكي للشؤون الدولية (شاتام هاوس)
الترجمة خاصة لـ عمان