يجري النيل كجري الشريان التاجي بين شطري مدينة نصفها على شرق ضفافه فكانت بحري سر الهوى، والنصف الآخر غربه فكانت أم درمان العاصمة الوطنية.
في منتصف ستينات القرن الماضي أُنْشِئَ كبري شمبات ليكفي الناس عنت المعديات ويهبهم الراحة في رواحهم والسكينة في غدوهم، الآلاف يعبرونه كل يوم راكبين وراجلين، تحملهم المحبة كما تحمل الشرايين ذرات الأكسجين لسائر أعضاء الجسد.
على جانبي كبري شمبات، يستمتع عشاق المشي بذرع جسده المُلقى على عرض النيل شاهداً على نزق الجُزَيْرات الصغيرة في الطرف الشمالي لجزيرة توتي. ففي أوقات سكون النيل، كمن يأخذ قيلولة من كدِّ يومٍ شاق، تغادر تلك الجُزَيْرات حضن توتي كطفلاتٍ يعبثن مع أمّهن، يتفلتن من بين يديها في يوم عُرسٍ بهيج، تناديهن فيرمقنها بعيون ضاحكة عابثة ثم يهربن بعيداً عنها، لكن عيونهن لا تفارقن عيونها، ففيهما الأمان والطمأنينة. وفي موسم الدميرة تغمر مياه النيل الجُزُر العابثة كدثارٍ ألقته عليهن "توتي" وضحكاتهن تعلو به وتهبط وكبري شمبات يشهد أنهن في مأمن.
على سطحه المُطل على برزخ التقاء النيلين الأبيض بوقاره وسيره الوئيد والأزرق بنزقه وسيره العجول، نسجت حركة العابرين عليه لوحات خالدة مثل حافلة نادي التحرير بقمصانه الصفراء الفاقع لونها وهي تذرع الطريق جيئة وذهاباً إلى دار الرياضة في أمدرمان، ذلك المحفل الأنيق الجامع لصفوة المجتمع من كافة أطيافه. فدار الرياضة لوحةٌ فريدة مزجت ألوانها أصابع طرفي المدينة كما رسمها ملعب البلدية في حلة حمد من قبل. كيف لا وقد احتضن مباريات الدوري كما احتضن حفلات سيد الكفر والوتر الحاج محمد أحمد سرور.
وهناك في بيت المال، رسمت امتدادات الطريقة الختمية، وأهازيج أذكارهم في مسجد السيد المحجوب يتردد صداها في شارع الزعيم الأزهري، قطعة من فسيفساء العاصمة الوطنية، ثم تعبر أرتالهم كبري شمبات لحضور الحضرة وشهود صلاة الجمعة في مسجد "السيد علي" في بحري.
من قال إن جموع المريدين تقف عند حدود الطرق الصوفية فقط! فقد عبر مريدو الشيخ الراحل محمد سيد كبري شمبات من مختلف أحياء أمدرمان للصلاة معه في الصافية، وآخرون يعبرونه من بحري لحضور خطب الشيخ أبوزيد محمد حمزة الممزوجة بحس الفكاهة في حي الثورة ،، وليت الثورة تكتمل أركانها!
لقد جمع كبري شمبات بين شطري المدينة التي سقاها النيل من مائه الزلال وأطعمها من جوفه سمكاً تجمَّع في الموردة ومن ضفافه خضاراً باهي اللون وحفيُّ الطعم. كما نسج عُرى أواصرها، وأوثق روابط أصهارها بالعديل والزين.
لكن ثمة روحٌ عَطِنَة، لم تعرف يوماً سر الهوى ولا أصالة أمدرمان، روحٌ آثمة، قررت اغتيال المدينة بقطع أحد أوداجها فنحرت كبري شمبات. لكن هيهات، كيف تموت مدينة في جوفها قلبين، قلب ينبض عند دار زعيم الأمة الشهيد إسماعيل الأزهري، وآخر يجيبه بنبضٍ أمثل وسامة في شارع الشهيد مطر.
شهيد قتله منفى العساكر حين ألقوا به في نصف البلاد المنزوع عمداً بعد قرابة الأربعة عقود، وشهيد صاد قلبه التواق للحرية رصاص عساكر آخرين أعجفوا الأرض وأيبسوا الضرع، وفتحوا مصاريع البلاد لمليشيا تعيث في الأرض الفساد. حديثهم غول وقد أنزفتهم سكرة السلطة وتوه الخُطى حتى نحر الهمج كبري شمبات.
لكن الأيام ستصفو، وحينما ينزاح كدرها سيعود شريان المدينة كما كان طوال العقود الستة الماضية واصلاً بين ضفتي النيل وسيعود أهلها أكثر إلفه ومحبة، وسيعود كبري شمبات مداعباً جُزُر النيل العابثة وممازحاً راجليه.
kairi.2win@gmail.com
////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: کبری شمبات
إقرأ أيضاً:
أعمال بصرية مبتكرة تجذب زوار معرض “في محبة خالد الفيصل”
جذبت الأعمال البصرية المبتكرة زوار معرض “في محبة خالد الفيصل” المقام ضمن فعاليات موسم جدة 2025، إذ تجمع بين القصيدة والرسم، وتُبرز محطات صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن فيصل بن عبدالعزيز مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة الوطنية والفكرية والإبداعية.
وشهد المعرض توافد أعداد كبيرة من الزوار الذين أبدوا إعجابهم بالتجربة الثرية للمعرض التي قدّمت سيرة الأمير خالد بن فيصل الإنسان والمسؤول والشاعر، من خلال أعمال بصرية مبتكرة سلطت الضوء على إنجازاته في مختلف المناصب التي تولاها، ومساهماته في التنمية الوطنية في ظل دعم وتوجيهات ولاة الأمر، إلى جانب قيمه الإنسانية ورسائله الملهمة، في تصميم حديث يمزج بين الفنون التقليدية والتقنيات الرقمية التفاعلية؛ مما يجعل منه تجربة غامرة تُثري الذاكرة وتلامس الوجدان.
ويأتي المعرض ليشكّل محطة رئيسة ضمن فعاليات موسم جدة، وتنظيم من إمارة منطقة مكة المكرمة، في تكريم خاص لمسيرة الأمير خالد بن فيصل الذي جمع صفات الإدارة والحكمة، والإبداع، فكان رمزًا حيًا للثقافة السعودية المعاصرة.