عائد من المستقبل لجمع بعض الذكريات من زمن تقادم بنا حتى ظننا بنا موتا سرمديا، لكن غزة أحيتنا وحملتنا في ركابها إلى المستقبل. في المستقبل يوجد الآن عرب منتصرون يتغذون من بطولات غزة ويفكرون في سبل البقاء فوق ربى النصر لا ينخذلون أبدا، ويقولون لمن يروم اللحاق بهم كيف يستثمر في نصر غزة فيكون في المستقبل.
تمجيد خاص للفلسطيني
عندما نضع تاريخ الاحتلال المباشر لكل قُطر عربي في سياق مقارن، سنجد أن كل بلدان العرب خضعت لمدد طويلة واستكانت إلا من انتفاضات محدودة لم تزعزع المحتلين. لا نستهين هنا بأرواح شهيد مثل سيدي عمر المختار، لكن الفارق الذي يتجلى لي أن المحتل الصهيوني لم يحظ بأية لحظة هدوء منذ استوطن المكان بل منذ بدأت قطعانه تحل بالمكان.
من الطبيعي في هذه المقارنة أن يحقق الفلسطيني سبقا نحو المستقبل، فيقود عبر فرض نموذج المواطن العربي الذي لا يفاوض على حقه ويقدم تنازلات
قاوم الفلسطيني بشكل مستمر وبلا هوادة واستعمل كل المتاح من وسائل، وتغيرت قياداته بالتوالي كلما مضى جيل حل جيل حتى وصلت حماس والجهاد. خمس وسبعون سنة من النضال والقتال؛ تراجع البعض ولكن الغالبية لم تهن ولم تتراجع واخترعت أساليب لم يسبق إليها أحد.
من الطبيعي في هذه المقارنة أن يحقق الفلسطيني سبقا نحو المستقبل، فيقود عبر فرض نموذج المواطن العربي الذي لا يفاوض على حقه ويقدم تنازلات لعدو؛ لأننا في المقارنة التي نعقدها نجد أن قيادات عربية كثيرة قفزت إلى مقدمة حركة التحرر العربي وفاوضت وأحيانا باسم الشفقة على شعوبها من القتل، ثم قبضت ثمن الدم من المحتل وحكمت بأمره كأن لم يثر الناس من أجل الحرية. ولنا في تونس نموذج صارخ بالالتفاف على ثورة وشعب وتحويله إلى قطيع من العبيد. ولا نستثني الثورة الجزائرية من ذلك، وإن ردمنا قادتها بسيل من الثورية التي تكشفت عن بلد فقير وعاجز يحسن فقط بيع الغاز.
هذا الفلسطيني مختلف، ولذلك نراه يحقق نصرا مختلفا إذ يحارب العالم كله فيربكه فينتصر. هذا الفلسطيني يستحق أن يقود العرب الذاهبين إلى المستقبل.
العرب يحتاجون إلى قيادة
كل من رفع صوته في قُطره زعم أنه نموذج قائد للعرب وجعل من شخصه قائدا ضرورة لا يكتفي بقطره أو بجماعته الصغيرة، وكل الانقلابات العسكرية قادها أشخاص رأوا أنفسهم أكبر من أوطانهم الصغيرة ورغبوا في توحيد أمة ليكون جمهور القائد أكبر، لكن لا أحد من هؤلاء قبِل ورضيت عنه الشعوب وسارت وراءه، بل إن أول الرافضين لقيادته كان الشعب الذي انقلب عليه. والأمثلة كثيرة، فحتى عيال زايد رغبوا في قيادة الأمة وهذا من مساخر التاريخ.
رغم أنه كان هناك وعي بهذه الأكاذيب عند كثيرين ومنذ عقود، إلا أن فضيحتهم في حرب غزة يجب أن تتحول إلى قاعدة لموقف جدي من ترهات الغرب الإنسانوي، ويتحول هذا الإيمان إلى مقررات دراسية في الجامعة وفي كل مستوى تعليمي
لقد أُنفق وقت طويل ومال بلا حساب في محاولة فرض أشخاص بلا موهبة أنفسَهم كقيادات لأمة بلا قيادة، وقد مات خلق كثير على حدود الأقطار(في حروب بينية) من أجل ترضية غرور زعماء فقراء إلى الزعامة وحكمة القيادة، بما جعل الشعوب وخاصة في العقود الأربعة الأخيرة تعيش شعورا بالضياع وفقدان القيمة، بالنظر إلى فقدانها لنموذج قيادي تهتدي بعقله ونصيحته وحسن تدبيره. وحتى جيل القيادات الفلسطينية التي كانت صورها تعلق على جدران الجامعات انتهت في حظيرة أوسلو ففقدت رمزيتها، حتى حل جيل يقود معركة شرسة من أجل تحرير وطنه أولا ومن أجل خلق نموذج قيادي عربي لا يتهاون في الحق ويبذل في سبيله الدم، فينتهي بتحرير أرضه وتحرير عقول العرب الفاقدين للنموذج والمثال. وهذا نصر أكبر من نصر غزة، بل هو فاتحة طريق المستقبل، حيث سيظل الفلسطيني المقاوم نموذجا يحتذى دون أن يشن حربا بينية على قُطر عربي بجواره لفرض زعامة مغشوشة.
كيف نستثمر في غزة
هذا ليس سؤال مقاول يضع عينه على إعادة إعمار المهدّم، بل سؤال في الاستثمار المعرفي والنضالي نصرة للذات قبل نصرة غزة التي انتصرت بعد.
نرى في نصر غزة دعوة إلى فهم عميق لعلاقة العرب بالمحتلين الغاصبين الذين كشفوا وجوههم بلا حياء في حرب غزة، وقد أسقطوا بأنفسهم كل سلسلة الأكاذيب التي روجوها منذ قرون عن حقوق الإنسان والعدالة. ورغم أنه كان هناك وعي بهذه الأكاذيب عند كثيرين ومنذ عقود، إلا أن فضيحتهم في حرب غزة يجب أن تتحول إلى قاعدة لموقف جدي من ترهات الغرب الإنسانوي، ويتحول هذا الإيمان إلى مقررات دراسية في الجامعة وفي كل مستوى تعليمي.
لقد حطم النموذج نفسه ومن الغباء إعادة ترميمه في أذهان الأجيال، فإذا تحرر الشباب من النموذج المزيف وجب أن يجد في نموذج المقاوم الغزاوي بديلا. وليس الأمر بحمل السلاح الناري بل بحمل السلاح الفكري الذي يبني الاستقلال المعرفي ومنه تتوالد كل وجوه الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والنفسي.
حرب غزة مكثف/ مسرّع نفسي لصناعة هذا الإنسان الجديد الذي يسكن الآن فيما بعد صمود غزة. هل تأخر هذا الوعي بعد معارك الاستقلال الأولى؟ نعم لقد كان هناك وعي كبير بهذه المسائل وحصل تنويم ضيّع العقول والإرادات حتى ضربت غزة ضربة الاستفاقة على باب التاريخ
لقد مررنا بنصوص كثيرة كُتبت ومنذ زمن في هذا الاتجاه، لكن النموذج التطبيقي لم يظهر إلا في غزة بحيث صار الدرس النظري مرفقا بدرس عملي تطبيقي يكفي كل من يرغب في التعلم والاستثمار في المستقبل.
هذا ما أعنيه بالاستثمار في غزة خلق/ بناء مواطن عربي واثق من نفسه ويملك ما يكفي من الشجاعة، لكي لا ينبهر بالغرب المنافق الذي باعه حقوق الإنسان مند قرنين وباعه كل أسلحة القتل أيضا وحرضه على الانتحار بها وهو يضحك من غبائه، مواطن يؤمن بأن العربي ليس حثالة في تاريخ الإنسانية وليس كائنا متفوقا بعنصره، إنما هو مواطن واع بمكانته وقدرته وحقه دون انتقاص من أحد.
حرب غزة مكثف/ مسرّع نفسي لصناعة هذا الإنسان الجديد الذي يسكن الآن فيما بعد صمود غزة. هل تأخر هذا الوعي بعد معارك الاستقلال الأولى؟ نعم لقد كان هناك وعي كبير بهذه المسائل وحصل تنويم ضيّع العقول والإرادات حتى ضربت غزة ضربة الاستفاقة على باب التاريخ. وها نحن نجد النموذج القيادي الذي لا يفرض علينا نفسه بسلاحه، وإنما يكتفي بفتح الطريق للراغبين في السير إلى المستقبل.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الفلسطيني فلسطين غزة المقاومة العالم العربي مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی المستقبل حرب غزة فی غزة من أجل
إقرأ أيضاً:
“ميسان.. نموذج ريادي في مواجهة التطرف وتعزيز التماسك المجتمعي”
بقلم : سمير السعد ..
في خطوة تعكس الوعي المتزايد بخطورة الأفكار المتطرفة وتأثيرها على استقرار المجتمعات، أطلقت اللجنة الوطنية لمكافحة التطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب خططاً فرعية شملت محافظات العراق، مع التركيز على مناطق الجنوب. وتأتي محافظة ميسان في طليعة هذه الجهود، حيث أظهرت خصوصية لافتة في التحضير والتنفيذ، متفردة بتعاون حكومي ومجتمعي مشهود لإنجاح عمل اللجنة الفرعية.
تستهدف هذه الخطط الشباب بشكل أساسي، كونهم الأكثر عرضة للتأثير بالأفكار الدخيلة. وتسعى عبر توظيف موارد الدولة وتكاتف الشخصيات المجتمعية المؤثرة إلى تعزيز الوقاية المجتمعية وبناء حصانة فكرية وثقافية.
ميسان، بتنوعها الثقافي والاجتماعي، تشكل نموذجاً للتعايش السلمي، حيث يظهر التفاعل الإيجابي بين مختلف الأطراف الرسمية والشعبية، ما يعكس التزاماً واضحاً بتحقيق الاستقرار وترسيخ قيم الوحدة والتماسك.
هذه الجهود ليست مجرد خطوات وقتية، بل تمثل استراتيجية بعيدة المدى لتجفيف منابع التطرف، عبر بناء شراكات مستدامة تهدف إلى تمكين الشباب فكرياً واجتماعياً، وجعلهم قوة دافعة نحو السلام والتنمية.
التجربة الميسانية، بما تحمل من خصوصية ودروس، تمثل دعوة لمختلف المحافظات لاتباع نهج متكامل يسهم في حماية العراق من خطر الأفكار المنحرفة، ويعزز من مكانته كدولة موحدة وقادرة على مواجهة التحديات.
لا يمكن إغفال أهمية الدور الذي تلعبه المؤسسات الحكومية في ميسان في دعم هذه الجهود، حيث أبدت الجهات المعنية استعداداً لوجستياً ومادياً لإنجاح المبادرات الفرعية لمكافحة التطرف. ولم يكن هذا التعاون ليؤتي ثماره لولا الشراكة الفاعلة مع الشخصيات المجتمعية المؤثرة، من شيوخ عشائر وأكاديميين ورجال دين، الذين عملوا جنباً إلى جنب لتعزيز الخطاب المعتدل ونشر ثقافة التسامح.
كما أن محافظة ميسان، بخصوصيتها الاجتماعية، تمثل بيئة مهيأة لنجاح هذه الخطط، نظراً لما تتميز به من تقاليد عريقة في حل النزاعات بطرق سلمية، وهو ما يمنح المبادرات زخماً أكبر ويعزز فرص نجاحها. التمازج بين الدعم الحكومي والتفاعل الشعبي في ميسان أسهم في خلق نموذج فريد يمكن أن يُستنسخ في محافظات أخرى تعاني من التحديات ذاتها.
“الاستثمار في الشباب ” التركيز على فئة الشباب في خطط اللجنة الوطنية ليس اختياراً اعتباطياً، بل هو استثمار استراتيجي طويل الأمد. فالشباب هم العمود الفقري للمجتمع، وهم الأكثر تأثراً بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية التي قد تُغذي التطرف. لذلك، جاءت هذه الخطط لتوفير منصات ثقافية ورياضية واجتماعية تسهم في إشغال وقت الشباب بما هو نافع وإيجابي، فضلاً عن إكسابهم مهارات تمكنهم من مواجهة الأفكار المنحرفة بالحوار والمنطق.
وتعزيز التمويل “لضمان استدامة هذه الخطط، لا بد من تخصيص ميزانيات كافية لدعم الأنشطة والبرامج الموجهة للشباب. مع ” بناء شراكات أوسع ” و إدخال المنظمات الدولية والمحلية غير الحكومية كشركاء في تصميم وتنفيذ البرامج. كذلك ” قياس الأثر ” و إنشاء آليات واضحة لقياس تأثير هذه المبادرات على أرض الواقع لتطويرها وتحسينها مستقبلاً. ومن الضروري جدا “التركيز على الإعلام ” وتعزيز دوره في نشر رسائل السلام ومواجهة الخطاب المتطرف.
ختاماً، ما حققته ميسان يُثبت أن التكاتف بين الحكومة والمجتمع هو المفتاح لنجاح أي مبادرة تسعى لتحقيق التماسك المجتمعي ومكافحة الفكر المتطرف. هذه التجربة تحمل في طياتها رسالة أمل بأن العراق، بمختلف أطيافه، قادر على الوقوف صفاً واحداً في وجه أي تهديد يهدد نسيجه الاجتماعي ومستقبله.