إبادة جماعية بحق أهل غزة.. لماذا لا يشعر جنود الاحتلال بالذنب جراء هذه المجازر؟
تاريخ النشر: 14th, November 2023 GMT
مقدمة الترجمة
هذه المادة التي كتبها براين كلاس، أستاذ السياسة الدولية في يونيفرستي كولدج لندن، في ديسمبر/كانون الأول 2022 لمنصة "ذا أتلانتك" تعرض نظرية جديدة تفسر تبرير قتل العزل من الأطفال والنساء، وتغوص بعمق غير معقد في شرح هذه الممارسة الوحشية المثيرة للتساؤل، لقد كُتبت هذه المادة في سياق تفسير مزاعم قتل الجنود الروس للمدنيين الأوكرانيين (وهي قضية -كما تعرف- أشعلت الإعلام الغربي وفُردت لها صفحات كبيرة في أكبر المنصات وصولا إلى برامج الصباح وأقسام الـ"لايف ستايل")، لكنها تنطبق بشكل ممتاز على ما يحدث حاليا في غزة من إبادة لا تخطئها العين بحق العزل، تلك التي لا يتحدث عنها إلا القليلون في الغرب!
من خلال النظرية الجديدة التي يشرحها كلاس، يصبح القتل الجماعي ممكنا بالنسبة لمجتمع ما حينما يؤلف هذا المجتمع سردية متماسكة تبرر العنف المتطرف أو تجعله على الأقل مرغوبا فيه لغرض إستراتيجي أكبر، بل وتدفع هذه السردية بالسياسيين والجنود وحتى عامة الناس في الشارع الذين لا يشاركون في الأمر بأن يُشيدوا بالمجازر ويشجعوا على استمرارها.
هل يمكن لأي شخص، بمجرد أن تطأ قدمه منطقة حرب، أن يقتل الأبرياء ويرتكب الفظائع بحقهم؟ لعقود من الزمن، ناقش الخبراء السبب وراء قدرة الجنود أو المقاتلين -الذين كانوا يوما أشخاصا عاديين يشغلون وظائف عادية ولديهم حياة طبيعية مع عائلات يحبونها- على ارتكاب مثل تلك الفظائع أو جرائم الحرب بحق المدنيين. وتُعد هذه القضية ذات أهمية جوهرية وعميقة، إذ يُقدِّر الباحثون سقوط ما بين 80-200 مليون شخص ضحايا لعمليات مذابح جماعية منذ بداية القرن العشرين.
وفي أوكرانيا، سجلت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان سقوط ما لا يقل عن 15,246 ضحية بين المدنيين منذ الغزو الروسي في فبراير/شباط عام 2022، رغم أن الرقم الحقيقي ربما يكون أعلى بكثير. وقد قُتل أثناء ذلك ما لا يقل عن 390 طفلا، وفي بعض المناطق، مثل مدينة بوتشا، ثمة أدلة قوية على قيام القوات الروسية بتعذيب واغتصاب وتشويه المدنيين. (ومثل هذه الإبادات الجماعية هي ما تُرتَكب حاليا في قطاع غزة، فالقصف الإسرائيلي المستمر على القطاع أسفر حتى الآن عن آلاف الشهداء والجرحى وما زالت الأعداد في تزايد)*.
في كتابه الجديد "الأيديولوجيا والقتل الجماعي: سياسات الأمن المتطرفة للإبادة الجماعية والفظائع الوحشية"، يرى جوناثان ليدر ماينارد، الخبير في جرائم القتل الجماعية من جامعة كينجز كوليدج البريطانية في لندن، أن الأشخاص العاديين في أي مجتمع قادرون على ارتكاب فظائع مروعة إذا وقعوا تحت تأثير معتقدات معينة حول الحروب التي يخوضون غمارها. ولمنع المزيد من الأعمال الوحشية والمجازر الجماعية، من الضروري أن نفهم جيدا العوامل الأيديولوجية التي تحفز الناس على ارتكاب مثل هذه الجرائم المروّعة وأعمال العنف المتطرفة.
ثلاث فرضيات خاطئة عن الإبادة الجماعيةيشير ليدر ماينارد إلى ثلاث نظريات شائعة تُستخدم عادة لتفسير جرائم الإبادة الجماعية وفظائع الحرب، ومع ذلك يمكن دحضها جميعا. لكن دعونا في البداية نبدأ بالتفسير الأول الذي يُطلَق عليه فرضية "الأدمغة المعطوبة". تنص هذه الفرضية على أن التفسير المنطقي للتعذيب الوحشي للأبرياء أو ارتكاب إبادات جماعية بحقهم هو أن الجناة يعانون من خللٍ ما في أدمغتهم، أو أنهم في الأساس مرضى نفسيون أو يعانون من اضطرابات عقلية.
بعد أن قرر "روبرت لاي" أن يشنق نفسه، احتفظ المسؤولون بدماغه وأرسلوه إلى الولايات المتحدة حتى يتمكن أطباء الأعصاب من دراسته. وفيما بعد، تبين أنه كان يعاني تلفًا في الدماغ. (الصورة: غيتي)توصل الخبراء إلى هذه النظرية أثناء محاولتهم فهم النازيين. حينذاك، قررتْ مجموعة من الأطباء النفسيين إجراء مقابلة مع مجرمي الحرب في محكمة نورمبرغ الألمانية لفهم دوافعهم وفحص حالتهم العقلية. وبعد أن قرر "روبرت لاي"، أحد أبرز الجناة النازيين، أن يشنق نفسه أثناء انتظار محاكمته، احتفظ المسؤولون بدماغه وأرسلوه إلى الولايات المتحدة حتى يتمكن أطباء الأعصاب من دراسته. وفيما بعد، تبين أنه كان يعاني تلفا في الدماغ نشأ نتيجة عملية تدهور مستمر في الفصوص الجبهية منذ فترة طويلة.
ولكن مع استمرار الأبحاث، اتضح أن روبرت لاي كان حالة فردية، وأن المهندسين المعماريين للهولوكوست لم يعانوا على الأرجح من أمراض عقلية، وأن آلة الإبادة الجماعية اعتمدت في تشغيلها على أعداد هائلة من أفراد شغلوا أدوارا تحتِّم عليهم أن يكونوا طبيعيين من الناحية العصبية. وبالتالي، لم تكن هذه الفظائع بسبب قِلة من المرضى النفسيين أو المختلين، بل جاءت نتيجة انخراط الملايين فيما وصفته الفيلسوفة والناقدة لتاريخ الفلسفة السياسية حنة آرنت "بتفاهة الشر". (اتَّسَمت نظرة حنة آرنت لرتشارد آيخمان، وهو أحد أكبر القادة النازيين، بالاعتياديّة، فقد كان في نظرها شخصا عاديا كالآخرين، لم يكن منحرفا ولا ساديّا وإنما مجرد موظف ينفذ الأوامر التي توكل إليه دون تفكير واعٍ منه ولا أيدولوجيات حقيقية تحركه. لم يكن شريرا بقدر ما كان رجلا تافها على استعداد أن يفعل أي شيء للحفاظ على وظيفته، وهو ما قصدته آرنت بتفاهة الشر)*.
قد يكون أي مسؤول متهم بارتكاب إبادات جماعية مختلا عقليا، لكن ذلك لا يمكن أن يفسِّر الوحشية أو الهمجية المتفشية في حروب كهذه، خاصة أن الجيوش تمتلئ في العموم بالمجندين العاديين الذين أُجبروا على القتال. هذا لا ينفي احتمالية وجود مرضى نفسيين ضمن صفوف الجيش في جميع أنحاء العالم، وقد يكون هؤلاء المختلون مُمَثلين على نحوٍ زائد في مناصب السلطة. ومع ذلك، يشير ليدر ماينارد إلى اتفاق معظم الباحثين على أن أولئك الذين يرتكبون أعمال عنف مروعة لا يتمتعون في الغالب بأدمغة مختلفة عن بقيتنا كما قد يخيّل إلينا.
صرح باحثون بأنه خلال معارك الكبرى في التاريخ، كمعركة غيتيسبيرغ، ترك الجنود عددا مذهلا من الأسلحة ولم يستخدموها، لأنه من الصعب نفسيًا على القتلة غير المدربين إطلاق النار على الآخرين. (الصورة: مواقع التواصل)أما التفسير الثاني للوحشية والتعذيب في زمن الحرب هو ما يُعرف بفرضية "سيد الذباب" (the Lord of the Flies)، وتشير هذه الفرضية إلى أننا جميعا قتلة بطبيعتنا، ونتمتع بقدرة فطرية على القسوة، وقد لا نتورع عن وسيلة في ارتكاب الفظائع بمجرد أن نكون موجودين في سياق حرب يخلو من القيود والعواقب. حينذاك، ربما ننسلخ عن القيم والقيود الأخلاقية التي تحكمنا، وننخرط في الأعمال الوحشية وتعذيب الآخرين.
ومع ذلك، فإن الأبحاث التي أجراها خبراء علم النفس مثل ريبيكا ليتمان وإليزابيث ليفي بالوك تُظهر أن معظم الناس يواجهون صعوبة في قتل الآخرين، في حين صرح باحثون آخرون بأنه خلال العديد من المعارك الكبرى في التاريخ، كمعركة غيتيسبيرغ (إحدى المعارك التي وقعت خلال الحرب الأهلية الأميركية عام 1863 وواحدة من أكثرها دموية)*، ترك الجنود عددا مذهلا من الأسلحة المشحونة بالذخيرة ولم يستخدموها خلال المعركة، وذلك لأن من الصعب نفسيا على القتلة غير المدربين إطلاق النار على الآخرين، حتى عندما تكون حياتهم في خطر. ولكن إذا كان معظم الناس يجدون صعوبة في إطلاق النار على شخص آخر، فكيف بصعقه بالكهرباء في حفرة في الأرض، كما حدث في مدينة خيرسون الأوكرانية العام الماضي؟ (وماذا عما يحدث مع المدنيين حاليا في قطاع غزة من قصف إسرائيلي مستمر بلا هوادة؟)*.
أما التفسير الثالث الشائع للمجازر الجماعية وفظائع الحرب فهو ما يُعرف بفرضية "القتلة المُجبَرين"، التي تشير إلى فكرة أن الشر يظهر تحت تهديد السلاح، وأننا قادرون على ارتكاب أعمال وحشية أو فظائع عندما يداهمنا شعور بعدم وجود خيار آخر لدينا. فبعض الناس لا ينخرطون في أعمال عنف مروعة إلا في مثل هذه الظروف، أو بسبب خوفهم من انتقام الطرف الآخر منهم أو من عائلاتهم. ومع ذلك، يشير التحليل الأدق لأعمال العنف الجماعية على مر التاريخ إلى أن هذه الحالات تُشكِّل نسبة ضئيلة جدا من الصورة العامة.
لكن إذا لم تكن هذه الفرضيات الثلاث منطقية لتفسير عمليات القتل الجماعي عموما، أو لها دور في فهم ما يحدث في أوكرانيا (أو في غزة)*، فما التفسير الحقيقي وراء ذلك يا تُرى؟ وفقا لتحليلات ليدر ماينارد المستفيضة والمكثفة، فإن السبب وراء الإبادات الجماعية هي الأيديولوجيا التي تتبناها المجتمعات، وهنا لا نعني بالضرورة الأيديولوجيات الكبرى التي نشأت وتطورت في القرن العشرين (كالمذاهب الشيوعية والليبرالية والرأسمالية وما إلى ذلك)، بل ما نقصده ببساطة هي مجموعة المعتقدات السياسية التي تعتنقها دولة ما حول الطريقة التي يسير بها العالم، أو كيف ينبغي له أن يسير.
يغدو القتل الجماعي أكثر احتمالا بالنسبة لمجتمع ما عندما يؤلف هذا المجتمع المنخرط في الحرب سردية متماسكة تبرر العنف المتطرف، أو تجعله على الأقل مرغوبا فيه لغرض إستراتيجي أكبر. تعمل الأيديولوجيا كغراء اجتماعي يضمن أن مخططي هذا العنف، وأن الجنود العاديين الذين ينفذونه، وحتى عامة الناس لا يتسامحون فحسب مع هذه الفظائع، بل يُشيدون بها أيضا ويشجعون على استمرارها. والأهم من ذلك هو ما توصل إليه ليدر ماينارد من أدلة تشير إلى أن الجناة ليسوا بالضرورة أشخاصا متعصبين بهذه الأساطير الأيديولوجية التي اختلقتها أنظمتهم، لكن وجودها بحد ذاته وقبولها على نطاق واسع في المجتمع يمكن أن يكون مبررا كافيا للعنف الذي يرتكبونه بحق الآخرين.
الأيديولوجيات المسؤولة عن المجازريشير بحث "ماينارد" إلى ستة عوامل أيديولوجية محددة مسؤولة عما حاق بالمدنيين من مجازر جماعية على مر التاريخ. تنص الأيديولوجية الأولى التي يتشبع بها الناس على ضرورة أن ينظر الجناة إلى المدنيين على أنهم يشكِّلون تهديدا حقيقيا عليهم لا مجرد مشاهدين أبرياء. فمثلا صوَّرَ بوتين أوكرانيا على أنها تهديد وجودي لروسيا، وكان لديه دائما مبررات لجميع العمليات التي تستهدف المدنيين، بما في ذلك محاولة تدمير شبكات الطاقة (وهو السيناريو ذاته الذي يتبعه الاحتلال حاليا بتصوير قطاع غزة على أنه يمثل تهديدا وجوديا له، وبالتالي يبرر عمليات استهداف المدنيين بالأيديولوجية ذاتها)*.
فيما تنص الأيديولوجية الثانية على أن المعتدين لا بد أن يحولوا الضحايا إلى جناة مع اتهامهم بارتكاب أفظع الجرائم. في حين تعتمد الأيديولوجية الثالثة على محاولة تجريد السكان الأصليين من أي هوية قد تجمعهم، وتصوير دولتهم على أنها منطقة وهمية أو خيالية، وأن مقاتليها مجرد دُمى خاضعة لمنظمات أخرى. أما الأيديولوجية الرابعة فتُشير إلى وجوب احتفال المعتدين بأعمال العنف الشديد ضد الطرف الآخر باعتبار أن ما يفعلونه يثبت وطنيتهم.
تعتمد الأيديولوجية الخامسة على الدعاية الحكومية التي يجب ألا تقدِّم العنف بوصفه هدفا في حد ذاته، وإنما جزء من إستراتيجية لتحقيق أهداف أعظم يرغب فيها القطاع الأكبر من السكان، كترويج الحكومة إلى ضرورة تنفيذ مثل هذه العمليات العسكرية الخاصة لحماية الشعب في المستقبل من هجمات الطرف الآخر.
أما الأيديولوجية الأخيرة فتعتمد على فكرة أن العنف يصبح أكثر احتمالا عندما تزيِّف الدعاية الحكومية الحقائق وتجعل الأمر يبدو وكأنه لا بديل لهذه المجازر الجماعية أو جرائم الحرب، باعتبارها الطريقة الوحيدة التي ستمحو الطرف الآخر من الخريطة. ومع استيفاء العديد من الأطراف لهذه المعايير، فقد نشهد في المستقبل مزيدا من الأعمال الوحشية وعنفا أكثر حِدَّة. لذا، فإن النصر في معارك كهذه، ومحاولة تقليل الأعمال الوحشية أو المجازر المرتكبة بحق المدنيين، يتطلب الفوز في حرب أيديولوجية واختراق فقاعة أكاذيبهم.
في نهاية المطاف، من السهل تجاهل الجانب الأيديولوجي لجرائم الحرب إذا استطعنا أن نعزو الإبادات الجماعية إلى عدد قليل من المختلين أو المرضى النفسيين، أو إلى الطبيعة البشرية، أو إلى إجبار الجناة على ارتكاب أبشع الجرائم. لكننا في النهاية مضطرون لمواجهة الحقيقة المزعجة التي نحاول تجاهلها؛ وهي أن جرائم الحرب، والتعذيب، والاغتصاب، والقتل الوحشي، غالبا ما يرتكبها أشخاص يشبهوننا إلى حدٍّ مرعب. فقد لا يتوانى البشر العاديون في إظهار أشد جوانبهم شراسة ووحشية بمجرد أن تغويهم أيديولوجيات العنف في مجتمعهم.
_____________________________________________
*: ملاحظات المترجم
ترجمة: سمية زاهر
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الأعمال الوحشیة القتل الجماعی جرائم الحرب الطرف الآخر على ارتکاب ومع ذلک مثل هذه على أن
إقرأ أيضاً:
لماذا تصريحات ترامب عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة؟
بعد عملية "طوفان الأقصى" وفي مطالع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة والتي اتخذت نمط الإبادة الجماعية منذ لحظاتها الأولى؛ تصاعدت التصريحات العلنية الرافضة لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة.
عكست تلك التصريحات نقاشات حقيقية تدور في الخفاء حول أهداف الحرب الإسرائيلية على غزة، وسريعًا تكشّف الموقف عن وثيقة لوزارة الاستخبارات الإسرائيلية برئاسة الوزيرة جيلا غامليل تحمل تاريخ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي بعد أقلّ من أسبوع من الحرب، أوصت باحتلال قطاع غزّة وتهجير الفلسطينيين منه إلى سيناء.
فضّلت الوثيقة خيار التهجير على بدائل أخرى، وهي إعادة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزّة، أو تأسيس حكم محلي عربي، ورأت في تلك البدائل عيوبًا جوهرية من شأنها أن تؤول إلى تهديدات إستراتيجية، ليكون خيار التهجير، بالرغم مما فيه من مخاطر، هو الأكثر مثالية بالنسبة لـ "إسرائيل" من الناحية الإستراتيجية، بيد أنّ هذا الخيار، بحسب معدّي الوثيقة، بحاجة إلى موقف حازم من المستوى السياسيّ، وموافقة من الولايات المتحدة الأميركية، ومن دول أخرى مناصرة لـ "إسرائيل".
وضعت الوثيقة خطّة عامّة لإعادة احتلال قطاع غزّة، تبدأ بتهجير سكانه من شماليّه إلى جنوبيّه، وفي الأثناء تبدأ حملة تطهير متدرجة لحركة حماس وأنفاقها؛ لأجل نقل السكان في نهاية المطاف من قطاع غزّة إلى شماليّ سيناء.
إعلانويمكن بالنظر إلى الأنماط التي اتخذتها الحرب الإسرائيلية على غزّة، استكشاف أنّها بالفعل، كانت تهتدي بهذه الخطّة، والتي وإن عارضتها تصريحات علنية لوزير الخارجية الأميركي في حينه، أنتوني بلينكن، فإنّ مجرد الخروج بهذه التصريحات، هو كشفٌ عن مداولات كانت تدور بنحوٍ جدّي في كواليس إدارة الحرب على غزّة.
تصريحات بلينكن العلنية الرافضة للتهجير، كانت تأتي في غمرة التسريبات التي تتحدث عن ضغطه هو شخصيًّا على عدد من الدول العربية لاستقبال سكان قطاع غزّة بعد تهجيرهم، وهو ما انعكس بدوره في تصريحات عربية تبدي قلقًا حقيقيًّا من ضغوط جدّية على دول عربية لقبول استقبال سكّان قطاع غزّة، كان أبرزها تصريح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مؤتمر صحفي جمعه مع المستشار الألماني أولاف شولتس في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال فيه: "إذا كان هناك فكرة للتهجير، توجد صحراء النقب في إسرائيل، يمكن تهجير الفلسطينيين إليها إلى حين انتهاء إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة، أو الجماعات المسلحة: حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما، ثم تعيدهم إذا شاءت، ولكن لا يمكن أن تتحمل مصر تبعات نقل سكان قطاع غزّة إليها في عملية عسكرية فضفاضة قد تستمر سنوات، ممّا من شأنه أن يحوّل سيناء إلى قاعدة للمقاومة، وأن يُنهي السلام بين مصر وإسرائيل".
لا يمكن أن تخرج تصريحات كهذه لولا وجود ضغوط حقيقية كانت تسعى إلى ترجمة حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة إلى إعادة احتلال القطاع وتهجير سكانه إلى مصر، ثمّ ضمّ أراضيه.
بعض هذه الضغوط في تعبيراتها العلنية تقنّعت بأغطية إنسانية تدعو إلى حماية المدنيين الفلسطينيين من القصف الإسرائيلي في مناطق آمنة على الحدود مع مصر.
بعد خمسة عشر شهرًا من الحرب الإسرائيلية على غزّة، وبعد إنجاز التوقيع على المرحلة الأولى من "اتفاق تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل، والعودة إلى الهدوء المستدام بما يحقق وقف إطلاق نار دائم بين الطرفين"، تأتي تصريحات الرئيس الأميركي الداخل للتوّ إلى البيت الأبيض، دونالد ترامب، عن مساعيه لإقناع مصر والأردن ودول عربية أخرى لاستقبال سكان قطاع غزّة، وذلك بعد تقارير إعلامية تحدثت عن بحث إدارة ترامب في إمكانية نقل سكان قطاع غزّة إلى إندونيسيا مؤقتًا إلى حين إعادة إعمار القطاع.
إعلانتصريحات ترامب، التي تتذرع بالوضع الإنساني في غزّة، واضحة المفهوم من حيث إرادة تهجير سكان قطاع غزّة بما يتفق مع الخطّة الإسرائيلية التأسيسية لحرب الإبادة الجماعية، كما كانت بداية الحرب، وبما قد يعزّز الآراء التي تتجاوز تفسير الحرب الإسرائيلية على غزّة بكونها حربًا إسرائيلية/ أميركية، إلى القول بأنّ أهدافها محلّ اتفاق بين الإسرائيليين والأميركيين، بما في ذلك تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، وبنحو عابر للإدارات، أي هو موقف المؤسسة الأميركية، بأجهزتها الثابتة والراسخة.
لا تكشف تصريحات ترامب الموقف الأميركي الحقيقي إزاء الحرب الإسرائيلية وأهدافها النهائية فحسب، ولكنها أيضًا تكشف فشل الحرب الإسرائيلية في إنجاز هذا الهدف في الوقت المحدّد لها أميركيًّا، فقد ظهر الإحباط الأميركي من طول هذه الحرب سريعًا، كما في تصريحات لأنتوني بلينكن في ديسمبر/ كانون الأول 2023، قال فيها: "لو سلمت حماس سلاحها فإنّ الحرب ستنتهي فورًا".
وإذا كانت الحرب بنمطها الإباديّ قد صارت طويلة في شهرها الثالث، فهذا يعني أنّها لم تصل إلى شهرها الخامس عشر إلا بغطاء أميركي، لإنجاز ما يمكن إنجازه من أهدافها، وأنّ صمود المقاومة، وتكبيد الإسرائيليين خسائر مستمرّة في جنودهم وعتادهم، علاوة على استنزاف جيشهم ومجتمعهم، هو الذي أفشل هدف التهجير، والذي كان من معالمه المتسارعة في الشهور الأخيرة من الحرب تدمير كامل مدن شماليّ قطاع غزّة؛ جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون.
وقد تجلّت قراءة الموقف الحربي بعد الحرب التي بلغت هذا الطول المديد، في تصريحات أخرى لبينكن في 14 يناير/ كانون الثاني 2025 قال فيها: "هزيمة حماس بالحلول العسكرية فقط غير ممكنة، وما يجري في شماليّ غزة دليل على ذلك" مشيرًا إلى أن حماس جندت عناصر جديدة بقدر ما خسرت.
الخلاصة المكثفة من ذلك، هي أنّ طول الحرب ارتبط بأهداف إسرائيلية خطيرة على مستقبل القضية الفلسطينية، أهمّها تهجير الفلسطينيين من غزّة، وأنّ صمود المقاومة حال دون تحقيق هذا الهدف بمحض القوّة العسكرية، لينتقل الأمر إلى محاولة إنجاز تلك الأهداف باستثمار نتيجة الحرب المادية، أي الدمار الفادح الواقع بالقطاع، أو كما عبّر ترامب بقوله: "المدينة تحتاج حقًا إلى إعادة البناء.. لا بد أن يحدث شيء ما، لكنّه موقع مُدمّر. لقد جرى تدمير كل شيء تقريبًا، والناس يموتون هناك. لذا أفضّل التعاون مع بعض الدول العربية وبناء مساكن في مكان آخر، ربما هناك يستطيعون العيش بسلام".
إعلانتفسّر هذه التصريحات أهداف التدمير الإسرائيلي الممنهج لقطاع غزّة. فالأهداف المباشرة، هي:
أولًا: الانتقام لرفع الروح المعنوية الإسرائيلية واستعادة الردع وتيئيس الفلسطينيين من جدوى مقاومتهم.
وثانيًا: تغطية تقدّم القوات البرّية بالقصف السجادي لتصفية المقاومة وحركة حماس.
بيد أنّ الهدف الإستراتيجي هو تهجير السكان مباشرة بفعل القوّة الإسرائيلية، فهو تطهير عرقيّ مدفوع هذه المرّة بالإبادة الجماعية الصريحة، فإن لم تدفع الإبادة السكان للهجرة، وكان التساوق مع الأمر عربيًّا بالغ الصعوبة، يمكن تاليًا دفع الفلسطينيين إلى الهجرة بالدمار والبؤس.
وهو ما يُذكّر بتصريحات سابقة لوزير المالية الإسرائيلي، زعيم حزب الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش قال فيها: "إن تشجيع الهجرة الطوعية هو احتمال آخذ في الانفتاح، ومن الممكن خلق وضع يجعل غزّة على النصف من عدد سكانها الحاليين خلال عامين، مع السيطرة الكاملة من دولة إسرائيل".
ما قاله ترامب أخيرًا مطابق لما قاله سموتريتش، فترامب يتحدث عن تهجير نصف سكان قطاع غزّة، ويتذرع بالوضع الذي خلقته الحرب الإسرائيلية لتسويغ ذلك.
الذي ينبغي التأكيد عليه هو أنّ خطط التهجير لسكان قطاع غزّة مطروحة باستمرار داخل المؤسسة الإسرائيلية منذ العام 1967 على لسان موشيه ديان، وفي خطة إيغال ألون.
وهو ما تكرر في العديد من الخطط تاليًا، وذلك بالرغم من الأهمية الإستراتيجية والأيديولوجية للضفة الغربية، فقد ظلّت الرؤية الإسرائيلية قاضية باستمرار بضرورة تهجير سكان قطاع غزّة وضمّه في نهاية الأمر، وذلك بغرض التهويد الشامل لـ "أرض إسرائيل الكاملة" من جهة، ومن جهة أخرى لمعالجة معضلة الفقر في العمق الإستراتيجي الإسرائيلي، وهي معضلة تتكشف اليوم في حلول من قبيل احتلال أراضٍ جديدة في سوريا، والسعي للبقاء في نقاط إستراتيجية داخل لبنان بعد الحرب الأخيرة على لبنان.
إعلانصمود الفلسطينيين في غزّة، وتَجدُّد المقاومة فيها، منذ احتلال القطاع، هو الذي أفشل تلك الخطط الإسرائيلية. ولم يكن لهذه الحرب، التي حاولت أن تحوّل المحنة الإسرائيلية إلى فرصة، أن تتوقف لو انكسرت المقاومة أو استسلمت، إذ ستصير الطريق سالكة لدفع الفلسطينيين نحو الهجرة.
إذن، وبينما حمل ترامب، نتنياهو على توقيع الاتفاق مع حماس، بعدما تهرّب منه الأخير كثيرًا وطويلًا، فإنّ ذلك لم يكن إلا لأنّ الحرب طالت أكثر مما ينبغي بعد صمود حركة حماس غير المتوقع من جميع الفاعلين الإقليميين والدوليين.
بيد أنّ ذلك لا يعني نهاية الأمر بخصوص محاولة إنجاز أهداف هذه الحرب، وبما لا يقتصر على قطاع غزّة، فالضفّة الغربية أكثر أهمّية بالنسبة للإسرائيليين، وخطط ضمّها معلنة، وخطة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية المعروفة إعلاميًّا بـ "صفقة القرن" والتي طرحها في ولايته الماضية، تقضي بتثبيت المستوطنات في الضفّة الغربية وضمّها لـ "إسرائيل" مع إخضاع المجال الفلسطيني بالكامل للهيمنة الأمنية الإسرائيلية المطلقة.
وإذا كان صمود المقاومة الفلسطينية حال دون إنفاذ هدف التهجير بالدفع العسكري المباشر، فإنّ الاستثمار في الدمار هو الخطة التالية لدفع الفلسطينيين نحو الهجرة، وبالضغط المباشر على عدد من الدول العربية لاستقبالهم، ممّا يحتّم على هذه الدول المواجهة المباشرة لهذه الخطّة بالدعم الصريح لصمود الفلسطينيين في قطاع غزّة، وبما يتطلب تجاوز الإرادة الإسرائيلية، ابتداء من الدخول المباشر في عمليات الإغاثة وتشييد المساكن المؤقتة، وفي الوقت نفسه البدء بإعادة الإعمار.
يبقى على هذه الدول، إن امتلكت الرؤية الصحيحة والإرادة المستقلة، دعم المقاومة الفلسطينية بوصفها الشرط الأساس لكبح التغوّل الإسرائيلي، لا سيما أنّ النوايا الإسرائيلية لتعويض الفقر في العمق الإستراتيجي متجسدة عمليًّا وتتجاوز الحيّز الجغرافي الفلسطيني، وما لا يمكن تحصيله جغرافيًّا تعمل "إسرائيل" على تحصيله بتكريس هيمنتها على دول المنطقة.
إعلانما تَأكّد من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وصمود المقاومة الفلسطينية فيها بالرغم من الظروف المستحيلة، هو أنّ "إسرائيل" تحمي نفسها بالإبادة أولًا، وبالولايات المتحدة ثانيًا، وهو أمر وبقدر ما ينبغي أن يثير مخاوف دول الإقليم كلّها، فإنّه يؤكّد إمكان تشييد توازن إقليميّ في التصدي لـ "إسرائيل" التي تعجز عن إنجاز أهدافها دون الولايات المتحدة الأميركية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية