توفي أمس الاثنين في الولايات المتحدة أيقونة الموسيقى والغناء السوداني محمد الأمين حمد النيل الطاهر الإزيرق عن عمر ناهز الـ80 عاما، والذي توثق مسيرته الفنية ملامح تاريخ وواقع السودان السياسي والاجتماعي والثقافي.

تميز محمد الأمين -الذي ولد في مدينة ود مدني جنوب الخرطوم عام 1943- بقدرات صوتية ولحنية توصف بالسهل الممتنع، والقليل جدا من أغاني الموسيقار الكبير لحنها له آخرون، فأي لحن يضعه محمد الأمين يحمل بصماته الفنية الخاصة.

وكتب الفنان التشكيلي السوداني المقيم في أميركا تاج السر الملك هذه الكلمات في رثاء الموسيقار الراحل:

خرجت عصر ذلك اليوم مثقلا بالأسى أعبر أبهاء مستشفى "نوفا الكساندريا"، الأبهاء المستقيمة النظيفة اللامعة، وقطع رخامها التي تنعكس عنها الأضواء، فكأنما قد رصت للتو، رصا، تمتد من أمامي ومن خلفي وكأنها صراط دهري.

خرجت إلى الطريق العام وعيناي غارقتان في الدمع، خلفت ورائي في غرفة بالطابق الثاني، هادئة يجللها السلام والسكون وتحف بها الملائك الأستاذ وقد أضنى النضال بدنه، مستلقٍ يرفل في أبهى حلل الطمأنينة وعلى وجهه ابتسامة باتجاه السماء، وموظف الاستقبال المنحدر من القرن الأفريقي تتسع عيناه من الدهشة، يسائلني: محمد الأمين.. الفنان، يا إلهي، سأزوره بعد انتهاء نوبتي.

قلت أحدّث نفسي: وهل يعلم الأطباء ذوو المعاطف والقسمات العاطفة وجيش الممرضات الحسناوات أن هذا المريض ذو الملامح الوادعة الساكن بين أياديهم الخبيرة المدربة على أحابيل دمل الجراح وكبح الآلام إنما هو فلذة كبد أمة كاملة؟

هل يعلمون أن هذا الساكن إلى مباضعهم هو سيناترا (أحد أكثر الموسيقيين الأميركيين شعبية) بلادنا، وراي تشارلس وجيمي هندريكس وديلان مجتمعين؟

عبد الوهاب وبليغ والطويل، وعبادي الجوهر، محمد عبده، فريد وبلان، ووديع الصافي، وعجرم، وشارل أزنافور وديميس روسوس، وتلاهون، ومارلي.. فريد عصره ونسيج وحده، العلم في تاريخ موسيقى الوطن الواحد، السودان، ليتهم.

ولكنهم كانوا رفقاء به كما ينبغي للعرفاء، يهزون رؤوسهم من عجب حين يعلمون وحين يشع جبينه بذلك الألق الذهبي الذي لا تراه العين، فتدركه البصيرة هالة فوق رؤوس المبدعين.

ثم الشارع يحتضنني ويأخذ بيدي من يأس فوق أرصفة المشاة المنمقة المهندسة، وسائق الأوبر على الجانب المقابل يحادث عبر الهاتف محبوبته، ظننت ذلك، فأحسنت به الظن، فيبتسم، وكأني به هامسا.. من يوم ما شفتك وكأني بالكون كله يغني، قلبي للدنيا ابتسم.

وكأني بالفنان في استغراقه الوجودي يسترق السمع إلى موسيقى السماء

وأنه يود لو أن الناس استمعوا إلى آخر ألحانه

ولكن جبروت الحرب حال بينه وبيننا، فارتد إليه فؤاده

كسيرا أسيفا.

واحتبس صوته الذي كان يهدر كالعاصفة

مبشرا بالثورة التي انطلقت، ويوصي باليقظة والحذر والاستعداد، ويرحب بشهر عشرة، حبابو عشرة، ويغرد من داخل السجن بشعر محجوب شريف:

عصافير مجرحة بسكاكينك.. مساجينك!

وأوقف حركة المجرة بلحن الملحمة، فصنع مجدا لإنسان السودان، ذلك صارم القسمات حي الشعور.

هل يعلمون كم نحن نحبه وكم سنذكره؟!

سنذكره كلما برق بارق في سماء الجزيرة، وكلما احتدم أفقها وأرعدت فضاءاتها وهطلت مدرارا.

سنذكره كلما اشتعلت الشوارع بالغضب، كالمرجل يغلي، وأشرق نبلها.

كلما أطل في فجرنا ظالم، وكلما سقط طاغية وتداعى من منسأة مهترئة نخرة.

سنعاين الشارع ونراه في عيون المغلوبين

قادما من بوابة سنار يحمل مصلاة من جلد الجاموس، والإبريق الجمجمة ومسبحة من أسنان الموتى.

سنجده في رسم البردي ونحوت الأهرامات وسيرة أبادماك (إله الحرب لدى النوبيين)

في الغابة والصحراء وسهل السافنا وشمس المدار والنرفانا.

سيؤمنا يوم الشدة حين يتجلى البأس

سيخلده الخماسي، والسباعي، والمردوم، والحومبي، والدليب، والمارشات العسكرية.

سيصدح لحنه في الأورغن وتراتيل الكمانات ومقدمة زاد الشجون الأثيرية، والتي لا تنتجها إلا روح عبقرية.

ستستشف روحه وترق في مدائح العركيين التي تسامر القلوب والقباب، في عزلة الفراغ العريض.

سيولد منا وفينا حتى الأزل

باهرا في اخضرار العَسِين وشموس الأصائل وسحر البكور

سيذكره أهل التُقَّابة والمسيد

وأهل الكلم والقصيد

سيظل في وجداننا

موسيقار الأجيال ومفجر النضال، الفريد في سمو وجدانه، المتوشح بهموم شعبه، خصيب الإلهام، عميق الشجو، مبلغ ومنتهى فنون أهل السودان والإنسانية جمعاء

فخرنا بين العالمين

محمد الأمين حمد النيل الطاهر الإزيرق

ها نحن نحييك بتحية مدني، حسناء الجزيرة وغادتها نحييك، مدني السُّني الراقدة على شاطئ النيل الأزرق مستحمة من مائه، مستجمة على رماله، مستدفئة بحبابه، مستكنة في رحابه، متوسدة تربه وترابه، حرفه وجرفه، منها، هي الجزيرة، مبتدؤك وخبرك ومنتهاك.

فلترقد في سلامك الأبدي

وليسبغ عليك الله رحمة تخصك من فضله

وإنا لفراقك لمحزونون.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبعد،

فلولا أن الكلام يعاد لنفد.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: محمد الأمین

إقرأ أيضاً:

اعلان تطهير عاصمة السودان بالكامل من فلول المليشيات التي هربت بشكل مخزي

أعلنت قوات الجيش السوداني، الجمعة 28 مارس/آذار 2025، سيطرتها الكاملة على العاصمة الخرطوم، وذلك بعد أسبوع من استعادتها القصر الرئاسي من قوات الدعم السريع في هجوم واسع نفذته. 

وذكر المتحدث باسم الجيش السوداني، نبيل عبد الله، في بيان: "تمكنت قواتنا اليوم من تطهير آخر جيوب مليشيا آل دقلو الإرهابية بمحلية الخرطوم". 

وأشار البيان إلى أن قوات الدعم السريع تروج إشاعة انسحابها من الخرطوم نتيجة لاتفاق مع الحكومة السودانية. 

وأضاف الجيش: "هذه الإشاعة يفضحها هروبهم المخزي أمام قواتنا الظافرة، وتركهم قتلاهم ومعداتهم في ميادين القتال بمختلف المواقع". 

ونوّه البيان إلى أن الجيش السوداني شن قصفًا جويًا على تجمعات قوات الدعم السريع في الفاشر، ما أسفر عن سقوط عناصر من الدعم السريع بين قتيل وجريح، إضافة إلى تدمير مركبات وشاحنات تابعة لها. 

وفي 26 مارس/آذار 2025، أعلن مجلس السيادة الانتقالي في السودان عن وصول قائد الجيش، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، إلى مطار العاصمة الخرطوم، وذلك عقب سيطرة الجيش عليه ومغادرة قوات الدعم السريع للمدينة. 

وبحسب البيان الصادر عن الجيش، فقد سيطر على مطار الخرطوم الدولي، الواقع في محيط القيادة العامة للجيش، وقيادة قوات الدعم السريع في حي الرياض، إضافة إلى الجانب الغربي من جسري المنشية وسوبا على نهر النيل الأزرق، اللذين يربطان مدينة الخرطوم بمنطقة شرق النيل. 

وأضاف الجيش أنه سيطر أيضًا على قاعدة الدفاع الجوي، ورئاسة شرطة الاحتياطي المركزي، ومنطقة اليرموك للتصنيع الحربي، ومعظم أحياء شرق وجنوب الخرطوم. 

ونقلت وكالة "رويترز" عن سكان في العاصمة الخرطوم قولهم: "إن قوات الدعم السريع تنسحب من معظم مناطق الخرطوم، في حين ينتشر الجيش في العديد من الأحياء". 

وفي 21 مارس/آذار 2025، أعلن الجيش السوداني سيطرته على القصر الرئاسي في العاصمة الخرطوم بعد طرد قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، والتي كانت قد أحكمت قبضتها على القصر إلى جانب مقرات الوزارات والمكاتب الرسمية. 

ومنذ أبريل/نيسان 2023، تسببت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في مقتل عشرات الآلاف وتشريد أكثر من 12 مليون شخص، مما يمثل أكبر أزمة إنسانية في العالم. 

كما أسفرت الحرب المستمرة منذ نحو عامين عن سقوط عشرات الآلاف من القتلى، ونزوح أكثر من 12 مليون شخص، مما تسبب في أكبر أزمتي جوع ونزوح في العالم.

مقالات مشابهة

  • والي النيل الأبيض ولجنة الأمن يقدمون التهاني للقوات التي شاركت في تطهير منطقة جبل اولياء من المليشيا المتمردة
  • شاهد بالصورة والفيديو.. لحن في فيلم الممثل المصري إسماعيل يس تحول إلى أشهر نشيد وطني في السودان.. تعرف على القصة كاملة
  • الجيش السوداني ومفترق الطرق
  • محمد حامد جمعة يكتب: هزيمة كاملة
  • تكبيرات العيد كاملة mp3 بالصيغة الصحيحة في عيد الفطر 2025
  • تتذكروا البت الطلعت لايف في الشهور الاولى للحرب من مستشفى شرق النيل
  • الأمين العام للأمم المتحدة: نريد تهيئة الظروف المواتية لاستمرار السلام بجنوب السودان
  • اعلان تطهير عاصمة السودان بالكامل من فلول المليشيات التي هربت بشكل مخزي
  • بعد سحقه قوات الدعم السريع وسيطرته على الخرطوم.. ولي العهد السعودي يستقبل رئيس مجلس السيادة السوداني بقصر الصفا
  • ولي العهد يستقبل رئيس مجلس السيادة السوداني ويستعرضان مستجدات الأوضاع في السودان والجهود المبذولة تجاهها بما يحقق الأمن والاستقرار في السودان الشقيق