مختار غميض دارت الأيام وانكشف المستور، وعلى قول المثل “إذا تخاصم اللصوص ظهر المسروق”، بعد محاولة غزو زعيم فاغنر لموسكو كشفت العداوة بينه وبوتين النقاب عن محاولات الخداع الروسية المعتمدة في الحروب، وما توظيف الصراع الديني إلا إحدى أوجه تلك الحرب القذرة التي تُوظف المقدس. لقد قاتل يفغيني بريغوجين في صفوف قوات حفتر غداة محاولات غزو طرابلس في شهر رمضان المعظم عام 2019، كشفت الأسرار أخيرا عن ارتداء زعيم المرتزقة لحية مُركبة بمظهر سَلفي، وزيا عسكريا للقوات التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر.
تداعيات الغزو الفاضحة شاءت الأقدار أن تدور الأيام وتكشف عن بعض تفاصيلها، صديق الأمس بات عدوا اليوم، كان لزاما على روسيا أن تفضح زعيم ميليشيا فاغنر، كما أصبح يحلو لبوتين أن يسمي حليفه الذي انقلب عليه قبل أسابيع، وهدُده في منصب ومقتل. ورغم التحالف بين موسكو وزعيم فاغنر منذ غزوهم لأوكرانيا لإسقاط رئيسها الموالي للغرب، فإن العداوة ظهرت أخيرا بين المليشيا والقوات النظامية الروسية، في دليل واضح على الطبيعة البنيوية والهيكلية بين القوتين على الرغم من محاولات تقسيم الأدوار بين الجيش والمليشيا. لقد كشفت معركة باخموت حجم الفوارق الكبيرة بين القوات الرسمية والمرتزقة أو ما يسمى بالقوات الرديفة أو المساندة، التي دائما تبقى في منزلة أقل من جيش الكرملين الذي يحصد غالبا الانتصارات وتُسند له المآثر والبطولات، وتمنح له الترقيات والمنح المالية والنياشين، بل يزود بأفضل الأسلحة والعتاد التي لا تسند للمرتزقة. من هنا، كانت غضبة بريغوجين شديدة، فانقلب على بوتين فخامرته فكرة الغزو المضاد، للانقلاب على القيادة العسكرية العليا ممثلة في شخص وزير الدفاع، والسياسية، أو على الأقل للتزود بالسلاح، كما عبر عن ذلك جنود بريغوجين في تصريحاتهم، لكن سرعان ما أُعملت الوساطات لعدم الوقوع في المحظور، بعد أن ظهرت مدينة موسكو وهي تقيم الخنادق والمتاريس الترابية في مشهد أشبه بالعاصمة الليبية عندما اكتوت بنار فاغنر وقياداتها. هذا يؤكد أن من تعامل مع فاغنر فحتما يتعامل مع بقية المليشيات من الدول المجاورة، مثل جنجويد السودانية، ومتمردي تشاد والنيجر، وسبق تدريبهم ودعهم من الإمارات وروسيا، ما يعكس حجم الاستفادة من أعمالها، سواء في القتال أو في الأرباح التي تدرها من خلال شبكات تهريب السلاح والاتجار بالبشر. عصابات متشابهة تقدك جميع تلك الاختلافات والخلافات مع المرتزقة الدليل على أن قوة فاغنر في النهاية ليست سوى مجموعة من العناصر القائمة على الارتزاق ومرتبطة بمصالح محددة قد تُغير أهدافها في أي لحظة، إذا اختلفوا على الغنيمة أو المسروق، لذلك توظف الجانب القبلي في إفريقيا، وسبق أن دعمت الحراك الاجتماعي للتغلغل جنوب ليبيا حيث وجدت موطىء قدم، ثم قواعد عسكرية وطائرات مزودة بمنظومات دفاع جوي. كما تكشف طبيعة المطامع عن طبيعة عقد التحالفات، ففاغنر بنت غاياتها مع روسيا على أهداف بعيدة وراء البحار، خاصة في دول إفريقية، واتخذت من ليبيا بوابة رئيسية للتوغل في الأدغال الإفريقية ونهب مقدراتها، فهل أخطأت روسيا في إدخال الفاغنر في الساحة الداخلية؟ يعتبر الانسجام في الرؤى والطموحات إحدى القواسم المشتركة التي تلعب عليها السياسة الروسية خارج الديار، وغالبا ما تقوم بذلك سرا، وفي لقاءات لا يطلع عليها الإعلام. ويذكر الجميع زيارة خليفة حفتر في 2017 لحاملة الطائرات الروسية “أدميرال كوزني ستوف” قبالة سواحل بنغازي، والتي ظهر خلالها وهو يوقع وثائق مع الجانب الروسي، وقد رجح خبراء أن قد تكون تتعلق بجلب المرتزقة الروس حينها، هذا قبل أن يؤدي بريغوجين نفسه زيارة إلى بنغازي وطرابلس في أوج الحرب عليها. لكن عامل الزمن وحده كان كفيلا بظهور الحقائق وكشف المستور، فخلال محاولة غزو العاصمة الليبية طرابلس في 2019، انكشف وجود مقاتلين روس إلى جانب قوات حفتر، وقد ظلت موسكو تنفي هذه الأخبار المؤكدة التي سرّبها مقاتلون في بركان الغضب المدافعين عن طرابلس، قبل أن يسقط منهم جرحى وأسرى بين قوات حكومة الوفاق الوطني. بينما في المقابل زعم مقاتلوا حفتر والمتحدث باسم قواته، أحمد المسماري أن الجنود الروس كانوا للدعم الفني أو اللوجيستي دون المشاركة المباشرة في الحرب. بأن الأنظمة المليشياوية لا يمكن أن تدعم إلا مليشيات أو متمردين، طالما أن الغاية تبرر الوسيلة، فهي لا تقاتل لأجل الارتزاق فقط، بل للتمكين لذلك على نطاق واسع، ضمن بروباغندا جيوسياسية، وسياسة توسعية إحلالية لنهب الثروات من ذهب وسبائك وعملات مختلفة، على غرار ما ظهر في عملية مداهمة قصر زعيم فاغنر بمدينة سانت بطربرغ. يفغيني يقود الجهاد! تطوَّر أداء مرتزقة فاغنر في ليبيا ليشمل الترويج الإعلامي للقيادة العامة للقوات المسلحة بقيادة حفتر، على جميع المنصات الإعلامية والتسويق له في أي انتخابات، ضمن جهود تقودها شركة فاغنر التي تقاد خيوطها من موسكو، لولا الخلاف الأخير الذي كشف كثيرا مما ظل مخفيا..! قناة روسيا اليوم الذراع الإعلامي الروسي كشف أخيرا عن سماح جهاز الأمن الفدرالي بنشر صور ووثائق عُثر عليها أثناء تفتيش قصر يفغيني بريغوجين قائد فاغنر، من بينها صورة له بمظهر سَلفي يرتدي لحية مُركّبة، وهو في ليبيا وخلفه صورة لشعار القيادة العامة، وصورة أخرى وهو بالزي العسكري للقيادة العامة التابعة لحفتر، وبذات اللحية، فضلا عن صور أخرى وهو ملتحٍ أيضا، يبدو كشيخ مجاهد. صحيح أن الحملة تأتي ضد بريغوجين في إطار التخوف منه كجانب غير مأمون العواقب بعد فعلته الأخيرة لولا الوساطة البلاروسية، أو هكذا تم تخريجها لكون الحقائق المرتبطة بالعملية لا يزال يلفها الغموض في أكثر من جانب نظرا لسياسة التعتيم الروسية المتبعة. لكن لا بد هنا من التساؤل حول السياسة اللحى المركبة وادعاء السلفية، وصورة هذا التيار في السياسة والمجتمع، ولماذا تم توظيفه دون التيارات الأخرى، كتيار قابل لامتصاص الاستعمار، بل وإيجاد تفسيرات دينية وفتاوٍ تبيح القبول به! ولماذا كان حفتر نفسه يمجد التيار السلفي ويسمي أنصاره ب”جنود الله” معترفا في نفس الوقت بوجود عناصر سلفية التوجه في صفوف قواته، وهنا يكفي الإشارة إلى كتيبة “أولياء الدم” سلفية التوجه، أو ما يعرف بسلفية ولي الأمر التي تحرم الخروج عليه مهما أتى من أمر. بريغوزين لم يظهر في صورة السَّلفي فقط، بل كان أقرب للمجاهد في شهر رمضان عندما أعلن حفتر ساعة الصفر الأولى، للزحف على طرابلس لفتحها “فتحا مبينا”، وهو اسم العملية العسكرية. يعد توظيف هذا الجانب الديني والقدسي لشرعنة غير الشرعي، وهي ليست بالسابقة في النظم التي تحتكر الدين والسياسة، وهي أنظمة عسكرية توتاليتارية تنحو منحى استبداديا شموليا. وفي هذا السياق تجند الاستخبارات المنظمات والأحزاب الديكورية لتمرير أجندتها، وشهدت تجارب سابقة توظيف أحزاب دينية في الدعوة للانقلاب العسكري في مصر، بل استمرت نفس السياسة في ذات المنهج لتدجين المجتمع وفرض الوصاية عليه تحت مسميات “حراس الفضيلة”، برنامج هيىة الأوقاف الليبية الذي لا يزال يثير جدلا واسعا مع بقية هيئات المجتمع المدني الرافض للتسلط باسم الدين وحراسة القيم. ماسكيروفكا.. تمويه متعمد لسنا في حاجة للتأكيد بأن السلفية الحقة بريئة من جلب المستعمِر وقادته وعملائه وأعوانه، والسلف الصالح بريء من دنس الاستعمار والاستحمار، ويقدم قادة السلف الصالح دروسا في السيادة والتحرر الذاتي قبل الوطني، وأن الصالح لا يرضى بالعمالة والخيانة لوطنه ولشعبه وأرضه، أو أن يكون مركوبا أو مطية لغازٍ أجنبي، اللهم إلا إذا كان اختراقا للبعض ضمن حرب إعلامية نفسية وسياسة تمويه عادة ما يعتمدها المحتل، والاحتلال هنا ليس شرطا أن يكون خارجيا، بل إن ظلم ذوي القربى أنكى وأشد، فالاحتلال الداخلي هو الذي يسمح باستعباد رقاب العباد وسلب حرياتهم، وهو السبب الرئيس في اندلاع ثورات الربيع العربي المغدورة. الغزو السريع والانسحاب الدراماتيكي من موسكو قد يذكرنا بنفس السيناريو الذي شهده الانسحاب من جنوب طرابلس في اتجاه سرت، وهنا تتقارب السياسة الروسية وتتشابه، لكن ما من شك أن الخفايا الأعظم لا تزال طي الكتمان، وأن ما رجح ليس إلا نزرا قليلا، وهو لا شك ضمن حملة التشفي من زعيم العصابة الذي ارتد ضد سيده في الكرملين. ولا ريب أن ما خفي كثير في ظل اعتماد روسيا على التمويه والنكران، كما سبق وبينا نكران وجودها بطرابلس، وهي سياسة متوارثة اعتمدها الاتحاد السوفياتي في حرب ستالينغراد، قوامها تقنية عسكرية تسمى “ماسكيروفكا” أو التسويق للمؤامرة. نفس السياسة انتهجها بوتين للإخفاء والتعمية، حتى آخر لحظة عندما أعلن استقلال الأقاليم الأوكرانية المجاورة له، وأنكر غزوها بعدما اقتحمت دباباته الحدود الغربية. وبالتالي فإن الحقيقة ليست في ليبيا فحسب، بل لا شك أن كثيرين من بريغوجين تنكروا حيث ما وُجدوا، في سوريا كمستشارين لوزارة دفاع النظام، وفي السودان كقادة لقوات العمليات الخاصة والدعم السريع التابعة لميلشيا حميدتي، وفي الكونغو كضباط بالقوات المسلحة، وفي بوركينا فاسو كملازمين، وفي جميعهما تتقاطع مطامع روسيا مع ربيبتها فاغنر، وربما ذلك أحد أسباب نزع فتيل “الفتنة” بينهما. كاتب تونسي
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
بریغوجین فی
فی لیبیا
إقرأ أيضاً:
إعادة هندسة السياسة السودانية- نحو ليبرالية رشيدة وتجاوز إرث الفوضى
من المعلوم أن التحزب والانقسام غير الموضوعي هما من الأسباب الأساسية التي ساهمت في تخلف السودان السياسي. فمنذ الاستقلال، لم تشهد البلاد بيئة سياسية مستقرة تؤسس لحكم ديمقراطي رشيد، بل ظلت تتأرجح بين النظم العسكرية والانقلابات، وبين الأحزاب المتصارعة التي لم تستطع تقديم رؤية متماسكة لخدمة الوطن والمواطنين.
إن الممارسة الديمقراطية الحقيقية تستند إلى تمثيل بعض المواطنين للكل عبر تنظيمات سياسية قوية تتبنى رؤى واضحة حول قضايا الحكم، بحيث يتمتع الجميع بالحرية والسلام والعدالة. غير أن المشهد السياسي السوداني ظل يعاني من تعددية حزبية مفرطة تفتقد للبرامج الواقعية، مما أدى إلى ضعف الأداء السياسي وعدم القدرة على تحقيق الاستقرار.
نحو هيكلة جديدة للحياة السياسية
تجارب الدول الكبرى أثبتت أن وجود حزبين رئيسيين يمثلان الاتجاهات الفكرية العامة في البلاد يحقق استقرارًا سياسيًا أفضل، في حين أن نظام الحزب الواحد قد يؤدي إلى تسلط السلطة وغياب المحاسبة، كما حدث في الاتحاد السوفيتي سابقًا. ورغم أن النموذج الصيني يقدم مثالًا على نجاح الحزب الواحد، إلا أن هذا النجاح مرتبط بعوامل ثقافية وسياسية خاصة بالصين، ولا يمكن استنساخه في السودان.
إن السودان اليوم في مفترق طرق خطير، وإذا استمر على نهجه الحالي فإنه قد يسير نحو مزيد من الفوضى والانهيار. لذا، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة المشهد السياسي عبر تأسيس نظام حزبي جديد يعتمد على:
تحديد عدد محدود من الأحزاب التي تستند إلى برامج سياسية واقتصادية واضحة، وليس على الولاءات القبلية أو العقائدية.
إعادة تعريف النخب السياسية بحيث يتم استبعاد الأجيال التي كانت جزءًا من الخراب السياسي، وإتاحة الفرصة للشباب القادرين على طرح رؤى جديدة ومتطورة.
وضع دستور واضح المعالم يحدد الإطار العام للممارسة السياسية ويمنع تعدد الأحزاب غير المنتج.
مقترح لنظام حزبي جديد
يمكن اقتراح نظام حزبي يتكون من حزبين رئيسيين:
حزب الاتحاد الفيدرالي (FUP): يقوم على مبدأ سيادة الدستور والقانون كأساس للحكم الرشيد.
حزب الاتحاد والتنمية (UDP): يركز على التخطيط الحديث، والتنمية المستدامة، والعدالة في توزيع السلطة والثروة.
قد توجد أحزاب صغيرة أخرى لإثراء الساحة السياسية، ولكن بشرط أن تقدم أفكارًا مبتكرة، لا أن تكون مجرد أدوات لانقلابات أو صراعات على السلطة.
إزالة الولاءات التقليدية
ينبغي أن يقوم هذا النظام الجديد على إنهاء هيمنة الطائفية والقبلية والوراثة السياسية، واستبدالها بمنظومة حديثة تعتمد على الكفاءة والقدرة على تحقيق تطلعات المواطنين. كما ينبغي استيعاب المجددين من مختلف الخلفيات الفكرية في هذه الأحزاب، شرط أن يكون تأثيرهم قائمًا على الإقناع الفكري لا على الإقصاء والهيمنة.
مستقبل السودان السياسي
من المتوقع أن تكون المنافسة بين الحزبين الرئيسيين قائمة على اختلاف الرؤى حول آليات التنمية وسياسات الحكم المحلي، ولكن ليس حول المبادئ الأساسية للحكم الرشيد. فبهذه الطريقة، يمكن أن تتحقق الديمقراطية الفاعلة التي تستند إلى اختيار القيادات على أساس الإنجاز والكفاءة وليس على أساس الولاءات الضيقة.
الخطوة التالية في هذا المشروع الطموح هي صياغة هذه المبادئ في دستور جديد وقوانين واضحة تنظم العمل الحزبي، بحيث يتم تجاوز أزمات الماضي والانطلاق نحو مستقبل سياسي مستقر ومزدهر.
zuhair.osman@aol.com