د. أبوبكر خليفة أبوبكر: التبعية وتبعاتها ومخلفاتها أساس أزماتنا
تاريخ النشر: 8th, July 2023 GMT
د. أبوبكر خليفة أبوبكر إن التبعية هي ظاهرة مركبة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضاريا ، بدأ ترسيخها بالاستعمار المباشر وتوطدت بتواصل الهيمنة عبرالاستعمار غير المباشر بتجلياته المتعددة، إنها استقلال ناقص على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية، وذلك على الرغم من تحقق الإستقلال الرسمي قبل حقب وعقود، حيث يشعر التابع بتفوق التابع له، وينتابه إحساس بالعجز عن مجاراة المتفوق عليه، هي نتاج وحصاد حملات غزوات عسكرية أعقبها إحتلال ثم إستعمار ، وترافق ذلك مع غزو فكري ثم إحتلال ثم إستعمار ثقافي ، وحتى بعد أن توارى الجنود والأدوات العسكرية والإستعمار الفعلي، بقيت الأفكار الغازية بأدواتها الثقافية المدججة بالإيديولوجيا ، مع محاولات الابقاء على طبقة سياسية تدين بالولاء للمستعمر المغادر لتعزيز التبعية ، حتى أنتجت الحقب الإستعمارية المتعاقبة نموذج التفوق الغربي الرأسمالي الليبرالي الامبريالي ، والذي يعتمد على ثلاثة ركائز أساسية: 1_ ترسيخ التفوق العسكري.
2_ تعزيز الهيمنة الحضارية والثقافية . 3_ تجذير التفوق الاقتصادي . حيث يتم التحكم في صناعة السلاح وتسويقه، والتحكم الصارم في أسرار هذه الصناعة ، وتسويقه عبر تهيئة بؤر التوتر لترويجه وتجريبه، وكذلك تأسيس الأحلاف العسكرية بهدف الحماية والإحتواء والردع ، ولإحكام الهيمنة على مناطق النفوذ ومحاولة التمدد كلما أمكن ذلك. أيضاً يعتبر تعزيز الهيمنة الثقافية ، عن طريق التسويق عبر كل الوسائط والوسائل الإعلامية الحديثة ركيزة إستراتيجية، لإعلاء شأن الثقافة الرأسمالية ، وتبخيس كل ثقافة الحضارات الأخرى ، والتركيز على أن الثقافة والمنظور الرأسمالي الليبرالي في السياسة والاقتصاد والثقافة، هو نهاية التاريخ وافضل ماأنتجه الفكر البشري من حلول لكل المشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية. كذلك فإن الهدف الأكبر هو تجذير التفوق الاقتصادي لانه يعزز الهيمنة الغربية الرأسمالية المطلقة ، عبر كل الأدوات الممكنة بدءا من صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ، والشركات متعددة الجنسيات، والاتفاقيات الاقتصادية غير المتكافئة مع الدولة النامية ، وتحديد معايير التنمية والتحديث وفق المنظور الغربي الرأسمالي الذي لايراعي خصوصية البلدان والدول وخلفياتها الثقافيةوالحضارية. ولتحقيق وتجسيد كل هذه الأهداف دأبت قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي الإمبريالي منذ حقب وعقود على المضي قدماً في الخطوات التالية : أولا/ محاربة كل القوى المناوئة ومحاولة إرباك وعرقلة كل الكيانات الاقتصادية الناشئة ، وبشكل أساسي محاولة إيقاف المارد الصيني بكل الوسائل الممكنة ، عن طريق خلق الأزمات ، وشيطنة هذا الكيان الصيني ، حتى أن كورونا هذا الوباء الكوني الفتاك ، هناك من يرى بأنه إحدى المحاولات القذرة من طرف قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي ، لوصم الصين بالتآمر عن طريق إتهمامها بإطلاق هذا الفيروس والذي حصد أرواح مئات الآلاف من البشر . ثانياً/ إختراق كل الحركات الثورية ، بل ومحاولة التدخل في صنع الثورات وتهيئة قادة الثورات بمواصفات معينة، ولم تخلو أغلب الحركات الاحتجاجية والثورية من تغلغل قوى الغرب الرأسمالي الليبرالي ، فتدخلاتهم تكاد تشمل كل ثورات العالم الثالث بغرض إحتواء عواصف التغيير للتحكم في مساراتها ومآلاتها ؛والعالم العربي ليس إستثناءا باعتباره ينضوي تحت مظلة العالم الثالث والنامي ،هذه الثورات التي ترتب عليها الإستقلال الهش لأغلب دول العالم الثالث، وصولا إلى شبهة تورطه وتدخله في مايسمى بثورات “الربيع العربي” بموجتيه الاولى والثانية، لأن الغرب الرأسمالي الليبرالي والإمبريالي ليست له مصلحة في وصول حكومات ديمقراطية حرة ومستقلة ومنتخبة في دول العالم الثالث، ولابد من الابقاء على التبعية عبر الشركات متعددة الجنسيات ، والدور المطلوب كذلك من سفراء الدول الكبرى لإدارة أمور الحكم والقوة في الدول التابعة، والتحكم في السياقات السياسية فيها ، وما نلاحظه في دولة مثل ليبيا لهو خير شاهد ودليل. ثالثاً/ السعي الدؤوب للسيطرة على اقتصاديات الدول التابعة ، ومنعها من إحداث نقلة نوعية تتيح لها الاستقلال الاقتصادي الحقيقي ، عن طريق محاولة الهيمنة بطرق مختلفة على المقدرات الاقتصادية للدول التابعة، خصوصاً عبر محاولات تطويق المؤسسات السيادية والمصارف المركزية والمؤسسات الوطنية المشرفة على إدارة الموارد الاستراتيجية كالنفط ، والسعي نحو جرها إلى خطط صندوق النقد الدولي والذي هو أحد أدوات الهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي. رابعاً/ محاولة فرض رؤية التفوق الحضاري والثقافي على دول العالم بحضاراته المختلفة وحضارات الدول التابعة خصوصاً ، وإظهارها بمظهر الحضارات المتخلفة والعاجزة عن ملاحقة تطور وتقدم الحضارة الرأسمالية الغربية ، والترويج بأن علة تخلفها وعجزها عن إدراك التقدم والتنمية إنما تكمن فيها ، كل ذلك يتم عبر كل الوسائط والوسائل المتعددة منذ عقود وحتى اليوم ، عبر مراكز البحث والفلاسفة والمفكرين التابعين لدول الغرب الرأسمالي، مثل أطروحة صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي لصامويل هنتنغتون والتي تشيطن الحضارات الأخرى، وتصف الإسلام مثلا بأن حدوده دموية، ونهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما والتي ينظر فيها للانتصار النهائي لقيم الديمقراطية الليبرالية.. وكذلك العمل على تدمير العقائد المتماسكة كالدين الإسلامي ،والتي يرى كثير من مفكري الغرب أنها تهدد عرش هيمنة الحضارة الغربية على المدى البعيد ، لذلك هم مستمرون منذ أمد بعيد في طريق السعي إلى إختراقها ومحاولة تمزيقها فرقا وأحزابا. فأين نحن من كل مايحاك لنا؟ لاشك أنه لا حل لنا إلا المقاومة ، فكرياً: عن طريق تشبثنا بحضارتنا وثقافتنا وابراز مكامن قوتها، وليس بمسخها عبر محاولة التمثل والمجاراة للحضارة الغربية الرأسمالية المسيطرة ، واقتصادياً: عبر محاول تأسيس كيانات إقتصادية على أسس علمية نجمع فيها نقط قوة دولنا الاقتصادية ، ونضع إستراتيجيات عميقة للتنمية الحقيقية والقضاء على التخلف . ودينيا: عبر محاولة تنقية ديننا من عوامل التفرقة والتشرذم ،وفضح وتعرية الخطط المشبوهة القديمة والحديثة لشيطنة عقيدتنا ، واستخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك. كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
إعادة تعريف الابتكار: تأثير تقدم الذكاء الاصطناعي الصيني على الهيمنة الأمريكية
يشهد المشهد التكنولوجي العالمي تحولا عميقا، مع ظهور قطاع الذكاء الاصطناعي في الصين كمنافس هائل للهيمنة التكنولوجية الأمريكية طويلة الأمد. يرمز الاختراق الأخير لـ"ديبسيك" (DeepSeek)، وهو نموذج الذكاء الاصطناعي المتطور، إلى لحظة محورية في المنافسة التكنولوجية المستمرة بين القوتين العظميين.
ويمثل ظهور ديبسيك لحظة فاصلة في تطوير الذكاء الاصطناعي. تم تطويره من قبل شركة ناشئة مقرها هانغتشو، وحقق النموذج مقاييس أداء رائعة أرسلت موجات صدمة عبر وادي السيليكون والمؤسسة السياسية. وما يجعل ديبسيك جديرا بالملاحظة بشكل خاص هو قدرته على مطابقة نماذج الذكاء الاصطناعي الأمريكية الرائدة مثل تشات جي بي تي (ChatGPT)، وفي بعض الحالات تجاوزها، بينما تتطلب استثمارات وموارد أقل بكثير.
إن طموحات الصين في مجال الذكاء الاصطناعي ليست مجرد مصادفة. وقد سعت البلاد بشكل منهجي إلى تحقيق التفوق التكنولوجي من خلال استراتيجيات وطنية شاملة، وأبرزها مبادرة "صنع في الصين 2025" و"خطة تطوير الذكاء الاصطناعي للجيل القادم". وتحدد خرائط الطريق الاستراتيجية هذه تقدما واضحا: اللحاق بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأمريكية بحلول عام 2020، وتحقيق اختراقات كبيرة بحلول عام 2025، وإنشاء قيادة عالمية للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
يسلط هذا الضوء على التقاطع المعقد بين الابتكار التكنولوجي والسيطرة السياسية الذي يميز نهج الصين تجاه تطوير الذكاء الاصطناعي
إن التأثيرات الاقتصادية لهذه الطفرة التكنولوجية مذهلة. وبلغت قيمة صناعة الذكاء الاصطناعي الأساسية الصينية 578.4 مليار يوان (حوالي 80.98 مليار دولار أمريكي) بحلول نهاية العام السابق، بمعدل نمو قوي بلغ 13.9 في المئة. ولم يمر هذا النمو دون أن يلاحظه أحد من قبل الأسواق المالية العالمية. وشهدت شركة إنفيديا، وهي شركة رئيسية في مجال أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، تقلبات كبيرة في القيمة السوقية، حيث خسرت ما يقرب من 600 مليار دولار، وهو ما يؤكد الاضطراب الاقتصادي المحتمل الناجم عن تقدم الذكاء الاصطناعي في الصين.
ويمتد المشهد التكنولوجي إلى ما هو أبعد من ديبسيك. وقد طورت شركات نموذجا مثل بايدو إرني 4.0، وهو نموذج الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يتنافس مباشرة مع غت-4 من أوبيناي، مما يدل على اتساع وعمق قدرات الذكاء الاصطناعي في الصين. ولا يتعلق الأمر فقط بإنشاء نموذج مبتكر واحد، بل يتعلق ببناء نظام بيئي شامل للذكاء الاصطناعي قادر على تحدي قادة التكنولوجيا العالميين.
وبالنسبة للولايات المتحدة، تمثل هذه التطورات تحديا معقدا. وحاولت إدارة بايدن إعاقة قدرات الصين في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال القيود التصديرية والحواجز التكنولوجية، ومع ذلك، يواصل المبتكرون الصينيون إيجاد طرق إبداعية لتطوير قدراتهم التكنولوجية، وفي كثير من الأحيان يعملون على هذه القيود ببراعة ملحوظة.
ومع ذلك، فإن تطورات الذكاء الاصطناعي في الصين لا تخلو من الجدل، فقد أثيرت مخاوف كبيرة بشأن الرقابة المدمجة المحتملة في نماذج مثل ديبسيك، التي يقال إنها ترفض الإجابة على أسئلة سياسية حساسة حول الصين وقيادتها. ويسلط هذا الضوء على التقاطع المعقد بين الابتكار التكنولوجي والسيطرة السياسية الذي يميز نهج الصين تجاه تطوير الذكاء الاصطناعي.
إن التوترات الجيوسياسية المحيطة بالذكاء الاصطناعي تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد المنافسة التكنولوجية. وهذا صراع أساسي من أجل النفوذ العالمي، مع إمكانية إعادة تشكيل ديناميكيات القوة الدولية. وإن القدرة على تطوير ونشر نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة قد تحدد القيادة التكنولوجية لعقود قادمة.
سباق الذكاء الاصطناعي لم ينته بعد، لكن مجال اللعب يتطور بسرعة، وما كان في يوم من الأيام ميزة تكنولوجية واضحة للولايات المتحدة أصبح الآن نظاما إيكولوجيا معقدا ومتعدد الأقطاب للابتكار. ويشير التقدم الملحوظ الذي أحرزته الصين إلى حقبة جديدة من المنافسة التكنولوجية، حيث لا يعرف الابتكار حدودا جغرافية.
وما يجعل نهج الصين جديرا بالملاحظة بشكل خاص هو استراتيجيتها المنهجية والشاملة. وعلى عكس النهج الأكثر تجزئة في الولايات المتحدة، فإن تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين مدفوع بجهود منسقة بين الحكومة والمؤسسات الأكاديمية والشركات الخاصة. ويسمح هذا النهج الموحد بتقدم تكنولوجي أكثر تركيزا وسرعة.
إن رأس المال البشري الذي يقف وراء هذا التقدم التكنولوجي مثير للإعجاب بنفس القدر، ولدى الصين عدد أكبر من علماء ومهندسي الكمبيوتر مقارنة بالولايات المتحدة، مما يوفر مجموعة قوية من المواهب للابتكار المستمر. ويوفر عدد السكان الهائل في البلاد أيضا موردا لا مثيل له للبيانات، مما يمنح مطوري الذكاء الاصطناعي الصينيين ميزة تنافسية كبيرة في تدريب نماذجهم وتحسينها.
وبينما يراقب العالم هذه الرقصة التكنولوجية المعقدة، يصبح هناك شيء واحد يتضح بشكل متزايد: الافتراضات التقليدية حول قيادة الابتكار تواجه تحديا أساسيا. ويمثل نجاح ديبسيك ونماذج الذكاء الاصطناعي الصينية الأخرى أكثر من مجرد إنجاز تكنولوجي، إنه تحول أساسي في مشهد الابتكار العالمي.
إن سباق الذكاء الاصطناعي لم ينته بعد، لكن مجال اللعب يتطور بسرعة، وما كان في يوم من الأيام ميزة تكنولوجية واضحة للولايات المتحدة أصبح الآن نظاما إيكولوجيا معقدا ومتعدد الأقطاب للابتكار. ويشير التقدم الملحوظ الذي أحرزته الصين إلى حقبة جديدة من المنافسة التكنولوجية، حيث لا يعرف الابتكار حدودا جغرافية.
في الختام، يمثل ظهور ديبسيك والنظام البيئي الأوسع للذكاء الاصطناعي في الصين لحظة حرجة في التاريخ التكنولوجي. إنه يتحدى الافتراضات الراسخة حول الريادة التكنولوجية، ويشير إلى تحول محتمل في ديناميكيات الابتكار العالمية. والعالم يراقب، والرهانات لم تكن أعلى من أي وقت مضى.