إعداد / د. الخضر عبدالله:

بعد ان تبينا دوافع البريطانيين المختلفة للسيطرة على عدن، فأننا سنحاول تتبع سير الحوادث التي أدت في النهاية إلى هجوم البريطانيين عليها واحتلالها بالقوة، في اليوم 19 من يناير سنة 1839م، وقد سبق هذا الهجوم تمهيد البريطانيين للسيطرة على عدن باتباع أساليب الضغط السياسي والحربي وللعذر المباشر لاحتلال المدينة قصة جديرة بأن تروى.


أساليب الضغط السياسي

اتبع البريطانيون أساليب في التمهيد لفرض سيطرتها على عدن تحقيقا لمصالحها الحيوية في منطقة البحر الأحمر، حيث بدأو باتباع أساليب الضغط السياسي، وذلك باستغلالهم لحداثة جنوح السفينة ” دوريا دولت ” سفينة الشراعية تبلغ حمولتها 225 طنا، وتملكها سيدة هندية من مدينة مدراس هي السيدة ” البيجوم أحمد أم النساء” أبنة حاكم مقاطعة ” الكارناتيك” الهندية، كما أن ناخوذا ” قائد ” السفينة هو مواطن هندي يدعى نور الدين، وقد شحنت هذه السفينة التي ترفع العلم البريطاني بمعرفة التاجر العربي ” فريد أنسوف”، و ابحرت السفينة من ميناء كلكتا الهندي في اليوم السادس والعشرين من ديسمبر سنة 1836، ولم يكن للسفينة سوى الناخوذا المذكور بالإضافة لرئيس الشحن، أما بفية طاقمها فيتكون من اثنين من الضباط واثنين وعشرين من البحارة وعلى ظهرها مسافرين قدموا لأداء فريضة الحج، نظرا لأن السفينة كانت متجهة إلى ميناء جدة، وقد مرت السفينة بميناء” البي” بناء على تعليمات رئيس الشحن، حيث أضيفت إلى حمولتها بضائع أخرى ، كما ركبها مسافرون جدد بلغ عددهم سبعة عشر فردا كان من بينهم بعض السيدات، ثم توقفت السفينة أيضا في ميناء ” قشن” بالمهرة حيث شحنت بكميات أخرى من البضائع مما جعل حمولتها تزيد كثيرا عن الحد المقرر لها، غير أنها جنحت إلى ساحل ” أبين” على بعد 6 اميال شرقي وارتطامت بصخور الساحل في الساعة الثالثة من صبيحة اليوم الرابع من يناير 1837م، (1) ولن يتمكن أفراد طاقمها من انقاذها،بل انهم هربوا في أحد زوارق الإنقاذ، ولكنهم غرقوا جميعا (2) واختلفت الروايات حول مصير الركاب، فبعضها يقول إنهم غرقوا والبعض الآخر يؤكد أنهم قتلوا خلال هجوم البدو على ما تبقى من السفينة ونهب بضائعها وبيعها بأقل من قيمتها في عدن.(3)

تضارب الأقوال حول حادث السفينة

وعلمت حكومة بومباي بهذا الحادث عن طريق وكيلها في المخا، وهو احد اليمنيين من سكان الثغر، وذلك بعد أن نما إلى علمه تفاصيل ما حدث (4) وقد تضاربت الأقوال حول ما حدث للسفينة ” دوريا دولت” بعد جنوحها، فالوثائق البريطانية تروي ان قاربين عدنيين صغيرين اقتربا من السفينة بعد ظهر يوم جنوحها، وصعد من فيهما إلى سطحها حيث نهبوا ما وجدوا مع ركابها، ثم كرروا فعلتهم في اليوم التالي، ورفضوا تقديم أية مساعدات لإنقاذ الركاب بعد أن امتلأت سفينتهم بالمياه، مما اضطرهم إلى أن يلوذوا بسطحها، على أن ركاب السفينة قد حاولوا الوصول إلى الساحل بصنع وسيلة للوصول من ألواح الخشب المتناثرة، غير أن بعض الأعراب هاجموهم واهانوهم ولم ينقذوهم من أيديهم سوى سيد يمني من آل العيدروس، ومن رجالات عدن المرموقين في ذلك الحين،فأحضرهم في قارب إلى ميناء عدن وقدم لهم طعاما وثيابا( 5)

وقد مكث ركاب السفينة في عدن خمسة عشر يوما شاهدوا اثناءها حمولة سفينتهم وقد نقلت إلى جمرك المدينة، وأخذ السلطان ثلثها، بينما استولى آخرون على الثلث الباقي، كما استأثر السلطان لنفسه أيضا ببقية محتويات السفينة، ولهذا فقد حرص السلطان على عدم وصول أية شكوى تدينه لدى حكومة الهند، وأجبر “السيد ” نور الدين ناخوذا السفينة الغارقة على التعهد كتابة بعدم رفع شكواه للحكومة البريطانية، وقد فعل نور الدين ذلك حماية لنفسه ولبقية الركاب الذين سمح لهم بالتوجه على ظهر قارب عربي صغير إلى ميناء مخا(6) حيث لجأوا لوكيل شركة الهند الشرقية البريطانية وأطلعوا على ما حدث ويقال أنه هو الآخر لم يحسن استقبالهم (7).

وبعد أن مكث ركاب السفينة ” دوريا دولت” ثلاثة وعشرين يوما في ميناء المخا، أبحروا إلى جده على أمل اللحاق بأحدى سفن الشركة لتعود بهم إلى بومباي، وعندما لم يتحقق أملهم عادوا ثانية إلى المخا على ظهر سفينة هندية حيث وجدوا سفينتين تابعتين للشركة هما ” كوت وبالينورس ” فاستقلوا السفينة الأخيرة حيث أطلعوا قبطانها ” هينز” على ما حدث لهم، وتم نقلهم بعد ذلك إلى بومباي (8).

وكان الضابط البحري ” هينز” قد تبين في شهر ابريل سنة 1837أن البضائع التي أخذت من السفينة ” دوريا دولت” تباع في أسواق عدن، بأقل من ثلث قيمتها، ولهذا فانه قام بأخطار سلطان لحج وعدن بضرورة المحافظة على تلك البضائع حتى يتم الاتفاق بشأنها مع السلطات البريطانية في الهند، خاصة وانها لابد ان تطلب منه تقريرا عما حدث للسفينة الهندية الحائجة ولركابها،(9) وقد أثيرت آراء متناقضة حول الأسباب التي أدت إلى غرق السفينة “دوريا دولت” فقد قيل ان البريطانيين عمدوا إلى تدبير جنوح السفينة بالقرب من عدن (10) في منطقة يسكنها البدو الفقراء لاغرائهم على نهبها ليكون ذلك سببا يتذرعون به لغرض سيطرتهم على هذا الميناء(11).

كما ظهر رأي آخر يقول – مستندا إلى الوثائق البريطانية- بانه كانت هناك مؤامرة بين ناخوذا السفينة ورئيس الشحن بها حتى يقوم الأخير بشحنها بحمولة تزيد على طاقتها حتى تجنح إلى الساحل وتتعرض حمولتها للغرق، وان السبب في ذلك هو ان صاحب البضائع التي كانت تحملها السفينة كان قد أمن عليها بمبلغ يفوق بكثير قيمتها الأصلية وانه كان يريد ان يحصل على قيمة التأمين ويعطي لشريكيه نصيبهما، وان كان يتعارض مع الرأي الأخير احتمال أقدام ناخوذا السفينة ورئيس الشحن على المغامرة باغراق السفينة وهي مصدر رزقهما(12).

ومن هنا فأننا نرجح الراي القائل بأن جنوح السفينة قد حدث دون تدبير او افتعال وان ما تعرضت له كان نتيجة لسوء تقدير بحارتها وثقل حمولتها من جهة، وإلى فعل العوامل الجغرافية من هبوب الرياح واحتدام الأمواج وارتطام السفينة بصخور الساحل الغريب من عدن من ناحية أخرى (13) ومثل هذه الحادثة غير مستغربة، بل كثيرا ما تحدث مثيلاتها في هذه المياه عند الساحل الجنوبي للجزيرة العربية لأفريقيا، غير ان السلطات البريطانية في الهند وجدت في هذه الحادثة فرصتها الذهبية فاستغلتها استغلالا فاحشا لكي تتمكن من تحقيق مآربها وتنفيذ مخططها للسيطرة على عدن بعد ان تبينت أهميتها الحيوية للمصالح البريطانية (14) .

ويهمنا في هذا المقام أن نؤكد بأن نهب الأعراب للسفينة الجائحة ” دوريا دولت” لم يكن ليبرر لبريطانيا على الاطلاق ان تفكر في احتلال عدن، خاصة وأننا سنجد أن سلطانها قد وافق على دفع الجزء الأكبر من قيمة التعويض الذي طلب منه عن البضائع المنهوبة كما انه تعهد بدفع الباقي أيضا، كما سبق ان وقعت حوادث نهب مماثلة لبعض السفن البريطانية على سواحل الصومال المواجهة لعدن في تلك الفترة، ومع ذلك لم يتخذ البريطانيون منها ذريعة لاحتلال بلاد الصومال كما فعلوا بالنسبة لعدن، وكل ما قام به البريطانيون حينذاك هو أنهم ارتبطوا بمعاهدات مع الصوماليين بأن لا تتكرر عمليات النهب، وتعهد الصومالييون بحماية أرواح البحارة وشحنات السفن الجائحة(15).

وعلى أية حال فان البريطانيين لكي يحققوا ما كانوا يهدفون إليه من وراء تلك الحادثة- رغم الاعتبارات التي أوضحناها- فقد طالبوا السلطان محسن العبدلي سلطان لحج وعدن بارجاع البضائع المنهوبة من السفينة الجائحة، وتقديم تعويض عما لحق بها وبركابها، وقد رأى البريطانيون أن ذلك لن يتم إلا بالضغط على السلطان لاستخلاص التعويض منه وحسم الأمور، وذلك على النحو الذي بدأ واضحا في مذكرة حاكم بومباي المؤرخة في 14اغسطس سنة 1837 بشأن حادثة السفينة، وجاء فيها :” ان الاعتداء الشائن الذي ارتكبته سلطات عدن ضد الأشخاص والممتلكات في سفينة تحمل العلم البريطاني وتتمتع بالحماية البريطانية، يحتاج إلى اهتمام سريع وإجراءات حاسمة.” بل ان إصرار البريطانيين على استغلال هذه الحادثة للسيطرة على عدن(16)

(للحديث بقية)

المصدر: شمسان بوست

كلمات دلالية: من السفینة ما حدث

إقرأ أيضاً:

هل نحن على عتبة حل أعظم لغز في الكهرومغناطيسية؟

«ليس من المبالغة أن نقول: إن رصد الشحنات المليمترية سوف يكون أشبه بثورة كوبرنيكوس من جديد»

«ستمنحنا الشحنات المليمترية دليلا حيويا على درجة حرارة الكون المبكر»

أكثر الناس لا ينتبهون للشحنات الكهربائية، باستثناء تلك اللحظات المزعجة عندما ينفد شحن البطارية من هواتفنا. ولكن بالنسبة لعلماء الفيزياء، فهي أمر بالغ الأهمية. ففي كل ذرة، تدور الإلكترونات المشحونة سلبا حول نواة تحتوي على بروتونات مشحونة إيجابا، وتستمر الحركة في الدوران الكامل بفضل جاذبية الشحنات المتبادلة، وبذلك فمن المنطق أن نقول: إن هذه الشحنة هي جوهر الكون كلّه.

وهذا أيضا يفسر لماذا بذل الفيزيائيون جهودا مضنية لفهم طبيعة هذه المادة؟ وقد نجحوا في أغلب الأحيان في ذلك. ولكن هناك سؤال واحد ظل معلقا دون إجابة.

من المعروف أن أصغر وحدة شحن ممكنة هي وحدة الإلكترون، وكل الجسيمات الأخرى التي تحدث في الطبيعة لا تحتوي إلا على مضاعفات هذه الوحدة. وفي الطبيعة، قد تجد شحنات تساوي -1 أو +3 أو -2، ولكنك لا تجد أبدا شحنات تساوي 0.25، لماذا؟

قد تهز كتفيك وتقول: إن هذا هو حال الكون. ولكن الحقيقة هي أن هناك دائما أسبابا وجيهة للاشتباه في وجود شحنات كَسْرِيـّة، حتى وإن لم نتمكن من اكتشاف واحدة منها بعد. وهي قضية حية بشكل خاص اليوم بفضل الرؤى الجديدة التي قدمتها نظرية الأوتار، وهي إحدى النظريات المرشحة لتكون نظرية كل شيء أو ما تسمى (معادلة الكون).

الآن بدأت التجارب في مختبر سيرن للفيزياء الجسيمية بالقرب من جنيف بسويسرا للبحث عن جسيمات قد تكون شحنتها أقل من ألف جزء من شحنة الإلكترون. وإذا تمكن الباحثون من العثور عليها فسوف يكون هذا اكتشافا مذهلا. يقول المـُنـظّـر الفيزيائي (جوناثان فينج) من جامعة كاليفورنيا في إيرفين: «ليس من المبالغة أن نقول: إن رصد الشحنات المليمترية سوف يكون أشبه بثورة كوبرنيكوس من جديد». (يعود اسمها إلى العالم الفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس الذي قدّم نظريته الشهيرة في كتابه «حول دوران الأجرام السماوية» عام 1543).

عندما يقول علماء الفيزياء: إن الجزيئات والذرات والجسيمات لا يمكن أن تحمل إلا شحنات تأتي بقيم صحيحة، فإنهم يقصدون مضاعفات كاملة للشحنة الأولية (1.6 × 10 ± 19 كولومب). هذه هي الشحنة المرتبطة باثنين من المكونات الأساسية للذرات: الإلكترونات والبروتونات (الأولى سلبية، والثانية موجبة). لذلك، بطبيعة الحال، عندما تكتسب الذرات أو الجزيئات هذه الإلكترونات أو تفقدها في التفاعلات الكيميائية، فإن الشحنة تتراكم بكميات منفصلة وفقا لذلك.

ولكن الأمر أعمق من ذلك بكثير. فالنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات يقدم لنا أفضل تفسير للجسيمات التي تشكل الواقع. وإذا ألقينا نظرة سريعة على هذا النموذج فسوف ندرك أنه على الرغم من أن الجسيمات لا تحمل كلها شحنة كهربائية، فإن الجسيمات التي تحمل شحنة كهربائية تميل إلى اتباع النمط نفسه. على سبيل المثال، تحمل شحنات (الميون) و(التاو) شحنة سالبة 1، ويمكن أن تكون شحنة (البوزون دبليو) سالبة 1 أو سالبة 1.

هناك ثلاثة أسباب تجعلنا نعتقد أن هذه ليست نهاية القصة. أولا، نحن نعلم يقينا أن النظرية التي تعتمد على النموذج القياسي لا تغطي كل شيء، خاصة أنها لا تتطرق إلى موضوع المادة المظلمة، وهي المادة التي نحن على يقين تام من وجودها، ولكننا لا نستطيع تحديد ماهيتها.

ثانيا، هناك تحذير من كل ما سبق وهو أن الكواركات، وهي جسيمات أساسية أخرى للمادة، تخالف هذا الاتجاه. فهي تحمل شحنة إما +2/3 أو -1/3، ولكنها لا توجد أبدا في عزلة، بل في أزواج أو ثلاثيات مرتبة بحيث تكون شحنتها التراكمية دائما عددا صحيحا. وهذا يوضح أن الشحنة الكسرية ليست مستحيلة تماما، وهو ما يثير التساؤل عما إذا كان من الممكن وجود أمثلة أخرى هناك.

ثالثا، هناك بحوث المنظّر الفيزيائي (بول ديراك) قبل نحو مائة عام، والذي يقدم تلميحا إضافيا إلى أن هناك شيئا غريبا يحدث مع الشحنات. ولكي تفهم ذلك، عليك أن تعلم أن الفيزياء تصور الشحنة الكهربائية و«الشحنة» المغناطيسية كظاهرتين مترابطتين. والواقع أن الكهرباء والمغناطيسية تنشآن من القوة نفسها، الكهرومغناطيسية. وفي الطبيعة، تظهر الشحنات الكهربائية دائما منفصلة، موجبة وسالبة، ولكن الشحنات المغناطيسية، ما نسميه الشمال والجنوب، تظهر دائما معا على ما يبدو.

ولكن هل هذا صحيح؟ في عام 1931، كان (ديراك) يفكر في جسم افتراضي، وهو ما يسمى أحادي القطب المغناطيسي، وهو يشبه الشحنة المغناطيسية الشمالية دون نظيرتها الجنوبية أو العكس. بدأ (ديراك) بافتراض وجود هذه الشحنات في هيئة جسيم، وباستخدام الإطار الذي اخترعه حديثا في ميكانيكا الكم، استكشف كيف يتصرف مثل هذا الجسيم في وجود مجال كهربائي. ووجد أنه لكي تعمل الرياضيات بشكل صحيح، يجب أن تأتي الشحنة الكهربائية بكميات ثابتة معينة. بعبارة أخرى، إذا كان من الممكن وجود أحادي القطب المغناطيسي، فإنه سيقدم مبررا رياضيا لسبب وجوب أن تأتي الشحنة الكهربائية بكميات ثابتة معينة. والأمر القطعي هو أن قوة الشحنة المغناطيسية للأحادي القطب مهمة: فكلما كانت أقوى، كانت الوحدة الأساسية للشحنة الكهربائية أصغر.

ولكي نكون واضحين، لم نعثر قط على أحادي القطب، على الرغم من عقود من البحث، الذي شمل كل شيء من الهوائيات في القارة القطبية الجنوبية إلى النيازك. وهذا يتركنا مع لغز. إما أن أحادي القطب غير موجود حقا، وفي هذه الحالة نعود إلى المربع الأول، ولا نعرف لماذا يجب أن تأتي الشحنة الكهربائية في وحدات أساسية، أو ربما تكون موجودة، لكنها نادرة جدا أو ضخمة جدا لدرجة أنها لا تنتج إلا في أقوى تصادمات الجسيمات، مما يجعل من الصعب اكتشافها. على أي حال، لا يزال هناك احتمال أن تكون الجسيمات ذات الشحنات الصغيرة للغاية موجودة هناك، تنتظر اكتشافها.

كلها مجمّعة معا

إن إحدى الأفكار التي أشارت منذ فترة طويلة إلى هذا الاتجاه هي نظرية الأوتار، وهي الإطار الافتراضي الذي يرى أن المكونات الأساسية للواقع عبارة عن «أوتار» أحادية البعد تهتز في عشرة أبعاد أو أكثر. وهذه الأبعاد الإضافية تتقلص أو «سوف تتقلص» إلى حجم صغير للغاية. وقد يحدث هذا بطرق عديدة مختلفة. في عام 1985، كرر المنظران (إدوارد ويتن) و(شياو جانج وين) تحليل ديراك في سياق نظرية الأوتار، وما وجدوه كان مفاجئا. استنادا إلى النسخة الخاصة من نظرية الأوتار، قد تكون قوة أحادي القطب المغناطيسي أكبر بخمس مرات من تلك التي تنبأ بها ديراك في الأصل، عندما افترض أن الإلكترونات هي الشحنة الكهربائية الأكثر بدائية.

هل تتذكرون العلاقة بين الشحنات الكهربائية والأقطاب الأحادية؟ كلما كان القطب الأحادي أكبر، كانت الشحنة الأساسية أصغر. وبعد مزيد من الفحص، وجد (ويتن وون) أن الشحنات الأصغر من شحنة الإلكترون بخمس مرات يمكن أن تكون مستقرة. وسوف توجد كخيوط ملفوفة حول «ثقب» في كل هذه الأبعاد الإضافية من المكان والزمان. يقول ويتن: «إذا تمكنا من العثور على الأقطاب الأحادية المغناطيسية، فسوف تكون مفيدة للغاية فيما يتعلق بالفيزياء الأساسية، وأعتقد أن معظم علماء الفيزياء النظرية الذين فكروا في الأمر بجدية يعتقدون أنها موجودة». ويرى أننا قد لا نراها اليوم بسبب الطريقة التي توسع بها الكون بسرعة بعد أن أنشئت في بداية الزمن، مما أدى إلى تخفيف تركيز الأقطاب الأحادية في الفضاء بشكل كبير.

في الآونة الأخيرة، بدأ علماء نظرية الأوتار الآخرون في استكشاف إمكانية وجود جسيمات ذات شحنات أصغر. قد تحمل هذه الجسيمات «المليمترية» شحنة كهربائية تعادل ربما جزءا من الألف أو حتى جزءا من المليون من شحنة الإلكترون. نشأت هذه الفكرة من طريقة جديدة للتفكير في المادة المظلمة. قبل سنوات، افترض علماء الفيزياء أن هذه المادة الغامضة قد تكون مصنوعة من نوع واحد من الجسيمات الجديدة، والتي غالبا ما يطلق عليها اسم (ويمب)، أي ضعيف، بسبب تفاعلها الضعيف مع الجسيمات الضخمة. ولكن نظرا لأن عمليات البحث عن هذه الجسيمات لم تسفر عن أية نتائج، فإن العديد من علماء الفيزياء يشتبهون الآن في أن المادة المظلمة قد تتكون من مجموعة كاملة من الجسيمات المختلفة، «القطاع المظلم»، تماما مثل المادة العادية.

ولكن ما الذي قد تتكون منه جسيمات القطاع المظلم؟ حسنا، وفقا لعدد قليل من عمليات المحاكاة الحديثة، قد تكون بعضها جسيمات مشحونة بالمليمتر. يقول فينج: «الأمر المذهل هو أنه إذا وضعت جسيمات ليست ثقيلة مثل بوزون هيجز، ولكنها أشبه بالبروتون أو شيء أخف وزنا، وفي الوقت نفسه، جعلتها مشحونة بالمليمتر، فستحصل أيضا على الكمية المناسبة من المادة المظلمة».

إإذا كانت الجسيمات المشحونة بالمليمتر موجودة بالفعل، فيجب أن يكون من الممكن استحضارها باستخدام الطريقة المجربة والمختبرة التي أسفرت عن بوزون هيجز. تتضمن هذه الطريقة تحطيم البروتونات بسرعة لا تصدق على أمل إنتاج جسيمات مشحونة بالمليمتر في الحطام. وهذا يفسر سبب بناء معظم أجهزة الكشف الجديدة في سيرن، مع مسرع الجسيمات في مصادم الهدرونات الكبير (LHC). تستخدم هذه الكواشف مجموعات مختلفة من المواد شديدة الحساسية، وهي مواد تصدر الضوء عندما تصطدم بالجسيمات المشحونة.

أول جهاز كشف تم بناؤه في سيرن ناشئا عن تجربة تسمى (MoEDAL) أو تجربة كاشف الشوارد المغناطيسية والجسيمات الغريبة في مصادم الهدرونات الكبير، التي صممت في الأصل للبحث عن أحاديات الأقطاب المغناطيسية. في عام 2023، رُكِّبَ امتداد لهذه التجربة قادر على اكتشاف الجسيمات المشحونة بالمليمتر يسمى (جهاز MoEDAL للجسيمات المخترقة) أو (كاشف الجسيمات طويلة العمر في نقطة) أو باختصار (ماب). وبدأ في جمع البيانات في وقت سابق من هذا العام. يقول جيمس بينفولد، المتحدث باسم التجربة: «إذا قبلت المنطق القائل بأنه يجب أن توجد الأحاديات القطبية، فستقتنع بطريقة ما أيضا أن المنطق المتعلق بالشحنات المليمترية مقبول».

ويوجد خلفه مباشرة جهاز كشف آخر يُعرف باسم (ميلي-كان)، والذي أجريت له قريبا مجموعة من التحديثات في عام 2024، بعد أن بدأ لأول مرة في أخذ البيانات في عام 2018. إنه فوق سطح الأرض، على عكس (ماب)، الذي يُحمى من الأشعة الكونية المتداخلة من خلال وجوده على عمق 100 متر تحت الأرض. ولهذا السبب، يعتمد جهاز (ميلي-كان) على درع اصطناعي مصنوع من الخرسانة والرصاص. ضبطت التجربتان للبحث عن جزيئات مشحونة بالمليمتر في نطاقات كتلة مختلفة وبعمر افتراضي مختلف، مع قدرة (ميلي-كان) على اكتشاف الجسيمات ذات الشحنات الصغيرة مثل بضعة في المائة من شحنة الإلكترون. أجرى (ميلي-كان) عددا قليلا من عمليات التشغيل التجريبية التي تثبت أن أجزاءه تعمل، وتستمر عمليات تشغيل البيانات المحسنة في الوقت الحالي.

وهناك أيضا تجربة البحث الأمامي (فورموسا)، التي بدأت للتو في إنشاء نموذج أولي لكاشف سيرن الخاص بها هذا العام. ويقول الفيزيائي (يو داي تساي) من جامعة كاليفورنيا في إيرفين، الذي اقترح تجربة (فورموسا)، إنها تكمل أيضا تجربة (ماب) و(ميلي-كان) حيث تبحث عن جسيمات ذات كتل مختلفة وفي نطاقات شحنة كهربائية مختلفة. وتستخدم جميعها تقنيات لغربلة الضوضاء التي تحدثها الجسيمات المشحونة الأخرى التي نعرفها، مثل الميونات.

ستمنحنا الشحنات المليمترية دليلا حيويا على درجة حرارة الكون المبكر.

لم نعثر بعد على أي شحنات مليلترية أو جسيمات مشحونة جزئيًا، ولكن القيام بذلك قد يكون له عواقب تتجاوز فيزياء الجسيمات، بل ويعود إلى مرحلة غامضة من الكون المبكر. نعتقد أنه بعد وقت قصير جدًا من الانفجار الكبير، انفجر الكون في الحجم بسرعة مذهلة، من خلال عملية تسمى التضخم. ومع ذلك، فإن هذا من شأنه أن يجعله أكثر فراغًا مما هو عليه الآن، لذلك يعتقد المنظرون أن بعض الطاقة التي تسببت في التضخم لابد وأن تحولت إلى طوفان من الجسيمات. تُعرف فترة تحول الطاقة إلى الجسيمات هذه باسم «عصر إعادة التسخين».

وتماشيا مع هذا الاسم، لابد وأن تكون لها درجة حرارة مميزة. ووفقًا لبعض نماذج القطاع المظلم ونظرية الأوتار، فإن الجسيمات التي نشأت عن هذا الحدث كانت ستشمل جميع الجسيمات المألوفة من النموذج القياسي، بالإضافة إلى الشحنات المليمترية والأقطاب الأحادية.

دليل حيوي

على الرغم من كون تلك الفترة مرحلة مهمة في تاريخ الكون، فلا يوجد معيار تجريبي لما يجب أن تكون عليه درجة حرارة فترة إعادة التسخين هذه، وهي مشكلة كبيرة. تحدد درجة الحرارة التي أعيد تسخين الكون عندها مدى سخونة وكثافة الظروف بعد التضخم مباشرة وكمية الطاقة المتاحة لإنشاء الجسيمات من حولنا. وبالتالي، تؤثر درجة حرارة إعادة التسخين على وفرة المادة والإشعاع التي تطورت في النهاية إلى مجرات ونجوم وكواكب. ووفقًا لتساي وزميله شوتشنج، فقد توفر هذه الشحنات المليمترية للعلماء ملمحا مهما، حيث تعتمد كتلتها على درجة حرارة إعادة التسخين، وبالتالي فإن العثور عليها سيعطينا طريقة للنظر إلى تلك الدرجة من الحرارة.

هناك، إذا كنا محظوظين للغاية، اختصار خادع في البحث عن الجسيمات المشحونة جزئياً. وبفضل الارتباط الدقيق بين الشحنات المليمترية والأقطاب الأحادية، فإذا تمكنا من العثور على الأخيرة، فقد يمكننا ذلك من استنتاج شيء ما عن وجود الأولى. صحيح أننا كنا نبحث بالفعل عن الأقطاب الأحادية دون جدوى لعقود من الزمان، ولكن هناك الآن طريقة جديدة ومدهشة للبحث عنها.

لقد توصل نيك مافروماتوس من كلية كينجز لندن والعديد من الزملاء العاملين في تجربة MoEDAL مؤخرًا إلى هذا التكتيك الجديد. فبدلًا من استخدام MoEDAL للبحث عن أحاديات القطب الناتجة عن تصادم الجسيمات، سيقوم الفريق باستحضار أحد هذه الأقطاب المنعزلة من الهواء الرقيق. والفكرة ليست بتلك الأهمية كما قد تبدو. تعلمنا الفيزياء الكمومية أن الفضاء الفارغ مليء بأزواج من الجسيمات والجسيمات المضادة الافتراضية، والتي تظهر إلى الوجود بشكل عابر قبل أن تتلاشى مع بعضها البعض. ولكن إذا ضخخنا طاقة كافية في الفراغ، فيمكن إجبار هذه الجسيمات على الانفصال عن بعضها البعض وجعلها حقيقية من خلال ما يُعرف بـ(آلية شفينجر.)

ولإنتاج أحادي القطب بهذه الطريقة، فإن «ضخ قدر كاف من الطاقة» يعني تطبيق مجال مغناطيسي قوي للغاية. وأدرك الفريق أنهم يمتلكون بالفعل هذا الأمر بالضبط في متناول أيديهم، حيث تنتج تصادمات معينة في مسرعات سيرن التي تتضمن أيونات الرصاص مجالات كبيرة للغاية. ويقول مافروماتوس: «هذه هي أقوى المجالات المغناطيسية في الكون المعروف». وقد استنتج هو وفريقه أنها قد تكون قوية بما يكفي لإخراج أحادي القطب الافتراضي من الفراغ.

في وقت سابق من هذا العام، نشر مافروماتوس وزملاؤه تقريرًا عن مثل هذه التجربة. وبحلول هذه المرحلة، لن تفاجأ كثيرًا عندما تسمع أنهم لم يقتنصوا أحادي القطب. لكن الفريق يخطط لمحاولة أخرى عندما يحصل مصادم الهدرونات الكبير على تحديث مخطط له، ونأمل أن تكون بحلول عام 2030، مما سيجعل النهج حساسًا حتى للشحنات الأصغر. قد يبدو الأمر مخيبًا للآمال، ولكن مرة أخرى، ما هي قيمة بضع سنوات أخرى عندما كنا بالفعل نطارد هذه الشحنات الغريبة لمدة قرن من الزمن؟

جاكلين كوان

خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»

مقالات مشابهة

  • السفينة الأمريكية “ترو كونفيدنس” تباع كخردة بعد تعرضها لهجوم يمني
  • هل نحن على عتبة حل أعظم لغز في الكهرومغناطيسية؟
  • القوات المسلحة اليمنية تُحيل سفينة أمريكية إلى “خردة” بعد عملية نوعية ناجحة
  • 13 سنة سجنا لبحّار استورد أزيد من قنطار “كوكايين “من ميناء “فالنسيا” على متن سفينة ” سريتا”
  • بحّار استورد أكثر من قنطار “كوكايين” عبر سفينة “سريتا” .. القصة الكاملة
  • جد روح الروح يلحق بها.. حكاية شيخ فلسطيني خطف قلوب العالم حيا وميتا
  • دولت بهتشلي يطالب بإنشاء خط مقاومة ضد تدخلات الاحتلال في سوريا
  • ماكانوش مستحملينه.. إيه حكاية عم أحمد و طرد ولاده له من البيت
  • حكاية خباز كعك القدس على مشارف الأقصى
  • دولت بهتشلي: سوريا خط أحمر بالنسبة لتركيا