(التاريخ.. لم يبدأ في 7 أكتوبر).. عبارة رددها خالد مشعل، في لقاء أجرته معه المذيعة رشا نبيل على قناة «العربية» بتاريخ: 20/ 10/ 2023م، العبارة مكثفة تلخص نفسية المقاومة، وهنا أحدد بأنها «نفسية المقاومة»، وليست «نفسية المقاوم»؛ وهذه كذلك تحتاج إلى دراسة وتأمل. ورغم أن مشعل مقاوم فذ تشكّل شخصيته مادة مثالية لدراسة نفسية المقاوم، إلا أنه هنا يمثل حركة مقاومة فلسطينية، فهو رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج، أقوى حركات المقاومة الفلسطينية، وقد كان رئيس مكتبها السياسي بعد الجيل المؤسس: أحمد ياسين(ت:2004م) وعبدالعزيز الرنتيسي(ت:2004م)، بل هو من المؤسسين.
درج فلاسفة الاجتماع والنفس على التمييز بين «عقل الفرد» و«عقل الجماعة»، وممن نظّر لذلك الفرنسي جوستاف لوبون(ت:1931م). وقد تطرقتُ للتفريق بين هذين العقلين في مقالي «في سبيل تفريق القطيع» [جريدة عمان، 5/ 9/ 2023م]. بالإضافة إلى هذين العقلين يوجد: «عقل المقاومة» و«عقل المقاوم»، وكلٌ منهما له آليات عمله، وأستطيع القول إن عقل المقاومة الذي يوجه نفسية المقاومة وتعاملها مع المحتل، ونظرتها لقضيتها وما يحيط بها من علاقات وأحداث ومخاطر ومؤامرات، وما تعايشه من معاناة ومحن، ومن سياسات دولية، وتأييد وخذلان، بل ومن مقاومة مضادة في البيئة الحاضنة، هذا العقل يقع بين العقل الفردي والعقل الجماعي، فهو تحضر لديه الموازنات العقلية بقوة، ربما أكثر من العقل الفردي، ويمتلك إرادة صلبة لعدم الوقوع تحت ضغط العقل الجمعي، إلا أن لديه كذلك قدرة على الحشد وسوق الجماهير معه، وخطابه شعبي غير نخبوي.
الحديث عن نفسية المقاومة.. لا يخص مقاومة دون أخرى، فجميعها يحكمها قانون واحد في كل زمان ومكان، بغض النظر عن اختلاف المرجعيات الفكرية التي تنتمي إليها. فعندما ننظر اليوم إلى خطابات وعمليات المقاومة الفلسطينية، والتي انطلقت منذ بداية الهجرة اليهودية الاستعمارية الممنهجة إلى فلسطين بداية القرن العشرين الميلادي، نجد حركات المقاومة تسلك مسلكًا واحدًا، إذ الهدف واحد، فهي جميعها تشن عملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي لا يثنيها حجم التضحيات التي تقدمها، ولا يخنقها النظام الدولي الملتف حول رقبتها، ولم تدخل في تفاوض مع الإسرائيليين، إلا الحركات التي سيطرت عليها قيادات آمنت بالحلول السياسية، وخرجت قاطرتها عن سكة المقاومة.
وهو الحال ذاته بالنسبة للمقاومة على المستوى العالمي؛ فقد ضحت المقاومات التي واجهت القوات الأمريكية كثيرًا في: اليابان وفيتنام ولبنان وأفغانستان والصومال والعراق، ولم تقبل بأي حل سلمي أو تفاوضي إلا بعد أن تحررت بلدانها، على الرغم من اختلاف مرجعياتها الفكرية؛ ما بين شيوعية ووطنية وقومية وعرقية ودينية، فعقيدة التحرر هي العنصر المشترك بينها.
الموت.. لدى المقاومة مقدس؛ يختلف تبريره من مرجعية عقدية إلى أخرى، إلا أن هدفه واحد؛ هو تحرير الوطن، يهون الموت.. عند المؤمنين بطلب الشهادة، وعند الوطنيين بقدسية تراب الوطن، وعند العنصريين بنقاء العرق، وعند الاشتراكيين بحقوق العمال. وكل الثوار المقاومين أبدوا شجاعة منقطعة النظير لمقاومة المحتل، ورأت في الموت «برزخ الخلود». وأمام هذا العامل النفسي الذي يهيمن على ذهنية المقاومة، ويشكّل نفسيتها، تهزم كل محاولات الاحتلال، بل الموت لا يهزم الاحتلال فحسب، وإنما كذلك يعطّل أثر الزمن على المقاومة، حيث تظل حية ولو طال أمد الاحتلال إلى مئات السنين، فمائة واثنان وثلاثون عامًا لم تفتّ من عضد المقاومة الجزائرية حتى خرج الاستعمار الفرنسي يجر ذيول الهزيمة. ويعطّل كذلك علم الحساب؛ فلا تكسر أعداد القتلى إرادة المقاومة في الشعب؛ من مدنيين وأطفال ونساء وشيوخ.
فإن قلتَ: إن الأوروبيين سيطروا على أمريكا وأستراليا، ولم تستطع شعوب هاتين القارتين التحرر منهم؟ قلتُ: صحيح أنهم لم يستطيعوا تحرير بلادهم، إلا أن الاستعمار لم يستطع كسر عزيمتهم في التحرر، فاستمروا يقاومون المحتلين، رغم الاختلال الكبير في موازين القوة من حيث العدد والعدة، بين الشعب والمحتل. والمؤرخون الغربيون منحازون، فهم يسترون أمجاد المقاومة الباسلة لهذه الشعوب، كما يتسترون الآن على جرائم المحتلين المروعة؛ التي ذكرها يندى منه جبين البشرية. لم تُكسَر نفسية السكان الأصليين وإنما أبيدوا ولم يبقَ منهم إلا جيوب ضئيلة العدد مجردة السلاح. لكن يبقى الموت هو السلاح الأقوى في المقاومة؛ فإما النصر وطرد المحتل، وإما إرواء الأرض بدماء أصحابها.
نفسية المقاومة.. محصنة من التأثر بالعقل الجمعي، رغم أنها تتابع الواقع من حولها باستمرار، وتقرأه بتأنٍ، وتستفيد من معطياته، إلا أن استفادتها ليست تأثرًا بهذا العقل، وإنما محاولة منها لاستغلال تحول الأحداث وتغيّر السياسات، ثم تنفِّذ المقاومة ما يمليه عليها خطها المقاوم. ولذلك؛ فأي تحليل للمقاومة من خارجها لا يعدو أن يكون وجهة نظر، والمقاومة.. لا تقوم على وجهات النظر، وعلينا ألا نستغرب أية عملية تقوم بها؛ من حيث زمانها ومكانها والثمن الذي تدفعه، فكل هذه المسارات التحليلية في وادٍ، والمقاومة تَعبُر وادياً آخر؛ وحدها تبصر مجراه. وهي تؤثر على العقل الجمعي، والتأثير تبدأ قوته من الدوائر المحيطة بها، ثم الشعب الحاضن لها الذي تعمل على تحريره، والذي يصبح مشحونًا بروح المقاومة، ثم وفقًا للمشترَكات: المذهب ثم الدين ثم القومية ثم الإنسانية.
وبنظرنا للمقاومة الفلسطينية في الأحداث التي أعقبت طوفان الأقصى؛ نجدها أحرزت تقدمًا كبيرًا في التأثير على شعوب العالم؛ حتى بالنسبة للشعوب الغربية، بل ولقطاع من اليهود. وهذا التأثير توليه المقاومة أهمية كبيرة؛ ربما أحيانًا بما يفوق خسارتها وتضحيات شعبها، لأنه يبقي قضيتها حية، ويؤدي إلى إعادة بناء العلاقات الدولية بما تأمل منه المقاومة أن يخسره الاحتلال وداعموه في خارطة الهيمنة العالمية.
المقاومة.. تعمل بكل جَهدها ألا تحارب في خندق خصمها، ولا تعطيه الفرصة أن يجرها إلى الفخاخ التي ينصبها لها، بل العكس هو الصحيح، فالمقاومة.. هي التي تفرض أجندة المعركة؛ سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا. وتتمتع بنفسية صابرة وهادئة، فلا يكاد يستطيع أحد أن يثيرها، حتى مشاهد الموت التي يمارسها عدوها على شعبها، والتصفيات التي يقوم بها تجاه قياداتها وعائلاتهم، لا تخذلها عن المضي في تنفيذ خططها، فضلًا أن يتبدل خطها المقاوم. وكل ما تجده من آلام وفقد في الأنفس تنظر إليه بأنه ضريبة النصر، والمؤمنون يحتسبونه شهادة في سبيل الله.
والمقاومة.. لديها جاذبية في استقطاب الكوادر الذكية من مجتمعها الحاضن، وتستغل أبسط الوسائل لتحويلها إلى سلاح ينكي العدو، وكل ما يقع في يديها هو سلاح ناجز تصيب به العدو، من الحجارة والسكاكين، والخطط والكمائن، إلى أحدث برامج التقنية التي تتمكن من الحصول عليها. ولديها القدرة على التواصل السياسي الخارجي، ومنفتحة على كل داعم دولي تراه مفيدًا لها؛ بغض النظر عن توجهه ودينه وعنصره، وهي تدرك أنه لا يدعمها لسواد عينيها، وأنه يستفيد من دعمه لقضيتها، ولذلك؛ فهي تحصّن نفسها من وضع نضالها بيد أي داعم، فهي نفسية لا تقاوم الخصم فقط، وإنما تقاوم الإغراء والاستغلال كذلك.
ختامًا.. إن نفسية المقاومة تبصر النصر وحده منذ أول يوم تقوم فيه، وإن من ينشئها -وإن كان فردًا- لا يخالجه الشك أنه بالغ مقصده من التحرير، وكلما زاد العدد والإمكانات والخبرة زاد اليقين بالنصر، وفي المقابل.. النقص في العدد والعتاد لا يثنيها عن هدفها. فلو بقي فرد فهو موقن بأنه سيأتي من يواصل دربه، ويخرج المحتل من أرضه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلا أن
إقرأ أيضاً:
مغردون عن عملية القسام ببيت لاهيا: هكذا يكون تحرير الأسرى يا نتنياهو
فاجأت كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، قوة إسرائيلية تحصنت داخل مبنى في مشروع بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وتمكنت من طعن وقتل 3 جنود إسرائيليين، بعد اقتحامه والإجهاز على أفراد القوة من مسافة الصفر وغنم أسلحتهم.
ولم تكن هذه العملية مثل سابقاتها، بعد 445 يوما من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، فبين تفاصيل إعلان القسام -في بيانها العسكري- أمس الاثنين، برزت إشارة الكتائب إلى أن مقاتليها أخرجوا عددا من المواطنين الذين احتجزهم الاحتلال داخل المنزل المستهدف.
لأول مره في تاريخ النضال الفلسطيني و بعد عام من الحرب والحصار والتجويع والإبادة ، نجح مجاهدي كتائب القسام في تحرير عدد من الأسرى الفلسطينيين المدنيين ، بعد قتل القوة التي اعتقلتهم في بيت لاهيا شمالي غزة . https://t.co/Yp9P63qEbv
— نجلاء فقط ! (@Gredtoo) December 23, 2024
ولاقى هذا النبأ تفاعلا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما وأن إعلان القسام يسجل أول عملية تحرير أسرى فلسطينيين بالقوة في تاريخ الصراع مع الاحتلال.
ورغم ادعاءات الجيش الإسرائيلي بتدمير قدرات المقاومة الفلسطينية شمال غزة، فإن عملية طعن وقتل أفراد القوة الصهيونية وتحرير المواطنين من المبنى، تؤكد أن مشاريع الاحتلال لن تمر بصمود وعزيمة المقاومة التي تسجل أول عملية تحرير أسرى بالقوة في تاريخها، كما قال الناشط أحمد المغربي.
إعلانبدوره، قال الناشط يوسف الدموكي إن المقاومة أجهزت على 3 جنود في مبنى محصن من المسافة صفر، بالسكاكين، ثم غنموا أسلحتهم وأجهزوا على أفراد القوة كافة، وبعدها حرروا مواطنين غزيين كانوا أسرى لدى العدو، مضيفا "هكذا تكون عمليات تحرير الأسرى يا نتنياهو".
ورأى الناشط أسيد ربابة أنه رغم مرور 444 يوما على الحرب وتدمير غزة بالكامل، فإن المقاومة ما تزال صامدة وتدافع عن أرضها وعن كرامة الأمة، مشيرا إلى عملية تحرير الأسرى من المبنى الذي تحصنت به القوة، وباستخدام السكاكين.
بينما أثنى الناشط معتز عواد على تحرير الأسرى الفلسطينيين "بعملية عسكرية لا بصفقة"، مضيفا أنها "عملية استثنائية لم يستخدم فيها الطيران ولا البنادق الآلية ولا القنابل اليدوية ولا المناظير الليلية، وإنما نُفذت بقلوب حديدية وسكاكين حادة فقط".
وجرت عملية تحرير الأسرى الفلسطينيين شمال غزة، في محيط محاصر من جيش الاحتلال المتوغل في مشروع بيت لاهيا، والأحياء الجنوبية من مخيم جباليا، تحت كثافة نيران "تشبه أهوال قيامة صغرى"، ومن "مسافة تعد الصفر إلى مسافات تحت الصفر" فحملت معها بطولة قلّ نظيرها في العالمين، كما قال الناشط حسن.
المقاومة تعلن عن تحرير أسرى فلسطينيين باستخدام السكين لأول مرة، والإعلام العبري يتحدث عن مقتل ثلاثة جنود من لواء كفير في نشر أولي في حدث أمني شمال قطاع غزة
وفي بيان المقاومة
تمكن المقاومون من طعن وقتل الجنود الثلاثة أثناء وجودهم في مهمة حماية مبنى تحصنت به قوة إسرائيلية خاصة.… pic.twitter.com/3Ll3VvAejw
— Tamer | تامر (@tamerqdh) December 23, 2024
ورفعت العملية المعقدة التي أعلنت عنها كتائب القسام، معنويات الفلسطينيين وغيرهم من المتضامنين حول العالم، بعد نحو 15 شهرا من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل بكامل قواها وعتادها العسكري لتدمير قطاع غزة.
إعلانومنذ 6 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يشن جيش الاحتلال عملية عسكرية في شمال غزة، بذريعة "منع حركة حماس من استعادة قوتها في المنطقة".
وفي حين تقول هيئة البث الإسرائيلية إن 38 جنديا قتلوا في شمال القطاع منذ بداية العملية العسكرية الثالثة على مخيم جباليا، خلال هذه الحرب، تؤكد المقاومة الفلسطينية أن خسائر قوات الاحتلال أكبر بكثير.
لاول مرة منذ ١٤ شهر، شبابنا في بيت لاهيا-غزة يُحررون أسرى فلسطينيون من قبضة جنود الإحتلال كان العدو يحتجزهم في منزل و يُكَتِّفون ٣ من تشلابهم. بترفعوا معنوياتي و معنويات الشعب الفلسطيني كله و أنصارهم pic.twitter.com/oprl7f94rm
— Khaled Salaymeh (@kalsal) December 23, 2024
وأكد الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة، أن "بطولات مجاهدينا وأداءهم الميداني في شمال القطاع هو نموذج ملهم لكل أحرار العالم"، مشيرا إلى أن "العدو يخفي خسائره الحقيقية وحالة جنوده المزرية في شمال القطاع حفاظا على صورة جيشه".