شوبنهاور.. من التجاهل إلى المدح والثناء!.. انتظر 30 عامًا حتى يتم الاعتراف به.. ولم يتوقف عن مهاجمة الفلسفة التى تدرس بالجامعات
تاريخ النشر: 13th, November 2023 GMT
فى الحقيقة، رواية شوبنهاور أنقذته من مخاوفه، ولكن بشكل جزئى ولم تنقذه بشكل كامل مرة واحدة جزئيا، لأن شوبنهاور سيكون دائما قلقا، بما فى ذلك جيله فى المجال الفلسفى، وحتى فى نهاية حياته، بعد الاعتراف به والثناء عليه، سيظل يتساءل بواقعية كبيرة عما سيحدث لفلسفته من بعده خاصة بين أساتذة الفلسفة.
تعين عليه الانتظار ثلاثين عاما حتى يتم الاعتراف به أخيرا كفيلسوف؛ لأنه منذ توقف دراساته فى برلين، نشأ جدار من الصمت حوله وحول أعماله ولم يكن ذلك غريبا على الفلاسفة فى هذا العصر ومنهم هيجل.
وباستثناء الأعمال التى نشرها شوبنهار لم يتوقف طوال هذه السنوات عن شن هجمات عنيفة ضد الفلسفة التى تدرس فى الجامعات، بينما كان يراقب بعين معذبة أدنى إشارة إلى فلسفته فى الصحف الألمانية والأجنبية!
ولا بد من الاتفاق على مناقشة أطروحته فى جامعة يينا عام ١٨١٣، حول الجذر الرباعى لمبدأ السبب الكافى (علاقة بين مبدأ ونتيجة- علاقة بين علة ومعلول- علاقة بين زمان ومكان – علاقة بين داع وفعل)، ثم نشر كتابه عن البصر والألوان عام ١٨١٦، الذى تبنى فيه نظرية جوته فى الألوان، والطبعة الأولى من عمله الرئيسى، العالم كإرادة وتمثيل فى يناير ١٨١٩، كان لها تأثير ضئيل للغاية.
وهو الأمر نفسه عندما نشر عام ١٨٣٦ بعنوان «الإرادة فى الطبيعة»، والذى يقدم نفسه على أنه تأكيد علمى لـ "ميتافيزيقيته" وكان ذلك العمل فاشلا من حيث النشر والتوزيع حيث تم بيع ١٢٥ نسخة فقط من أصل ٥٠٠ نسخة مطبوعة متواضعة بالفعل.
فى عام ١٨٤٠، عندما كان عمره ٥٢ عاما ولم يعترف به بعد كفيلسوف، ودخل فى المسابقة التى أطلقتها الجمعية الملكية للعلوم فى كوبنهاجن، والتى دعت الناس للإجابة عن سؤال يتعلق بـ "مصدر وأساس الفلسفة الأخلاقية".
لقد تعامل مع الموضوع بقوة كبيرة فى مقالته التى تحمل عنوان "أساس الأخلاق"، حيث أجرى نقدا جذريا للميتافيزيقا الكانطية، مفترضا أن "إرادة الحياة" سادت على الضرورات المولودة من العقل، وأن الأخلاق بعيدة كل البعد عن الاعتماد على مجردة؛ فالضرورات مثل القانون أو الالتزام، تخضع أولا وقبل كل شيء لترتيب المشاعر.
وفى هذه الفترة تم تجاهل شوبنهاور أيضا ورفضه؛ فلقد كان المرشح الوحيد فى هذه المسابقة تم حجب الجائزة ورفض إعطائها له، ورغم كل ذلك لم يتمكن منه الإحباط ونشر فى عام ١٨٤١، كتاب "المشكلتان الأساسيتان للأخلاق"، والذى جمع بين اثنين من أعماله، عن "الإرادة الحرة" و"أساس الأخلاق".
تضمن نشر الطبعة الثانية من كتاب "العالم إرادة" عام ١٨٤٤، ملاحق مهمة بحجم أكبر، لكنها لم تكن أكثر نجاحا من الطبعة الأولى. بالإضافة إلى ذلك، أدت المراجعة العميقة لأطروحته، حول الجذر الرباعى لمبدأ السبب الكافى، إلى ظهور منشور سرى مرة أخرى فى عام ١٨٤٧.
لكن نشر كتاب Parerga and Paralipomena (الإضافات والحذف باللغة اليونانية) فى عام ١٨٥١ فى مجلدين حيث تناول العمل بأسلوب سهل الوصول موضوعات مألوفة مثل موضوعات الفلسفة وتاريخها وتشويهها الأكاديمى وطبيعة العالم والحياة والدين وأشكال وشروط الحكمة والأخلاق والمنطق، القانون، والسياسة، وعلم الجمال، واللغة، وعلم الفراسة، وحتى النساء، كل هذا بطريقة قاطعة، واستفزازية أحيانا.
وجاء الفلاسفة المحترفون بعد فترته وتعرف عدد كبير من المشاهير من هؤلاء الفلاسفة على أنفسهم بعد قراءة كتاباته، بدءا من نيتشه: "أنا أعلن، أننى أحد قراء شوبنهاور الذين، بعد قراءة الصفحة الأولى منه، يعرفون على وجه اليقين أنهم سيذهبون إلى نهاية العمل، وأنهم سوف يستمعون إلى كل كلمة تخرج من فمه".
كان تولستوى متحمسا لكتاباته: "يتولد لدى شغف لا يتوقف عند قراءة شوبنهاور ويتولد لدى عدد من المتع الفكرية التى لم أختبرها من قبل". كما لاحظ فرويد أن شوبنهاور كان أحد المفكرين القلائل الذين "رأوا بوضوح العواقب الكبيرة للخطوة التى ستشكلها فرضية العمليات النفسية اللاواعية للعلم والحياة".
ثم، فى خضم هذه الفوضى، كان أوجست سترندبرج هو الذى رأى فيه "روحا عميقة، وربما الأعمق على الإطلاق". ثم جوستاف فلوبير، يليه تين وبروست الذين أشادوا به خلال فترتهم. وفى وقت لاحق، كان تكريم توماس مان، أو سورين كيركجارد، أو خورخى لويس بورخيس هو الذى أعلن "إذا درست اللغة الألمانية بجدية، فهذا فقط لكى أتمكن من قراءة شوبنهاور وطريقته فى كتابة النص".. وكان الأمر نفسه بالنسبة لجى دى موباسان أو لريتشارد فاجنر الذى يقول: "أنا فى هذه اللحظة مشغول للغاية برجل ظهر لى فى عزلتى: إنه آرثر شوبنهاور، أعظم فيلسوف لدينا منذ كانط".
ومؤخرا، كتب تشارلز شابلن: "لقد اشتريت ثلاثة مجلدات من كتاب "العالم إرادة وتمثيلا" ولم أتوقف منذ أكثر من أربعين عاما عن إعادة قراءة الصفحات" وفى الختام أشاد به ميشيل ويلبيك.
وبعد هذه الفترة، لم يعد يعانى شوبنهاور من التجاهل وعدم الاهتمام الذى عانى منه طوال معظم حياته فلقد عاش لسنوات طويلة فى حياة منعزلة عن البشر.. وفى آخر فتراته جاء زواره للاستمتاع بفلسفته والاستماع إلى المحادثة الساخرة فى فندق ديتالى بفرانكفورت.
لم تكن طبعة Parerga وParalipomena أفضل من النسخ الأخرى وتم طباعة ٧٥٠ نسخة فقط؛ لكنها جذبت انتباه جون أوكسينفورد، المترجم الإنجليزى للأدب الألمانى الذى كتب مراجعة رائعة لها لمجلة وستمنستر ريفيو الفصلية الإنجليزية فى عام ١٨٥٢ وفى العام التالى، كتب أوكسينفورد مقالا لهذه المراجعة عن فلسفة شوبنهاور بعنوان "تحطيم المعتقدات التقليدية فى "الفلسفة الألمانية" والذى ترجم إلى الألمانية وطبع فى جريدة Vossische Zeitung تم إطلاق شوبنهاور.
ويجب التأكيد على أنه بالطبع لم يكن زملاؤه الفلاسفة هم أول من عرفوه، بل عامة الناس، وكان القضاة والمحامون والتجار والفنانون والصحفيون والشباب بشكل عام هم الذين التزموا بفلسفته!
أندريه بوير: أستاذ جامعى مهتم بقضايا التنمية البشرية والصحة العامة، يكتب عن الفيلسوف الألمانى آرثر شوبنهاور
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: العالم إرادة أندريه بوير علاقة بین فى عام
إقرأ أيضاً:
العميد عاطف الإسلامبولى.. شهيد الواجب ورمز الشجاعة الذى لا يغيب
فى الثانى من فبراير 2015، كانت مدينة الصف تشهد مشهدًا من الأمل والتضحية، حين استجاب العميد عاطف الإسلامبولي، مفتش مباحث شرق الجيزة، لاستغاثة كانت أشبه بصرخة فزع من سيارة نقل أموال تعرضت لسطو مسلح على طريق الكريمات. انطلق العميد إلى المكان، ساعيًا وراء العدالة، فى درب مليء بالتحديات والمخاطر، لم يكن يعلم أن تلك اللحظة ستكون آخر لحظات حياته.
وهو الذى خدم الوطن 25 عامًا فى صفوف الشرطة، حيث تنقل بين العديد من المناصب حتى أصبح مفتشًا لمباحث شرق الجيزة، لم يكن مجرد ضابط بل كان مدرسة فى الشجاعة والالتزام، وأحد أبرز القامات التى قدمت مثالًا حيًا للوفاء بالواجب. كان يعلم تلامذته أن الدفاع عن الوطن لا يتوقف عند الخوف من الموت، بل هو درب من التضحية لا يعترف بالعودة.
فى تلك اللحظة الحاسمة، وعلى الرغم من مخاطرة حياته، اندفع لملاقاة الخطر بشجاعة لا تخشى الموت، ليصبح أول من يدفع الثمن، ويستشهد برصاص المجرمين الذين كانوا فى طريقهم للهروب.
تظل ذكراه خالدة فى قلوب من عرفوه، وحتى اليوم، يعبر من حوله عن فخرهم به. تقول ابنته دينا بحزن مفعم بالفخر: "أنا بنت الشهيد، أنا بنت البطل، وبقول لكل بنت شهيد خليكى دايمًا فخورة مش مكسورة"، كلماتها هى إشراقة الأمل فى عيون الأجيال الجديدة، تأكيدًا على أن البطل لا يموت، بل يبقى حيًا فى قلوب من يعشقون وطنهم.
رحل العميد عاطف الإسلامبولى عن دنيانا، لكنه ترك إرثًا من الفخر والشجاعة لا يزول. خلف وراءه أبناء يحملون رايته، ويواصلون المسير لحماية هذا الوطن العزيز. ستظل ذكرى عاطف الإسلامبولى راسخة فى ذاكرة مصر، رمزًا للإقدام والتضحية فى سبيل الأمن والعدالة.
فى قلب هذا الوطن الذى لا ينسى أبنائه، يظل شهداء الشرطة رمزًا للتضحية والفداء، ويختصرون فى أرواحهم أسمى معانى البذل والإيثار، رغم غيابهم عن أحضان أسرهم فى شهر رمضان، يبقى عطاؤهم حاضرًا فى قلوب المصريين، فالوطن لا ينسى من بذل روحه فى سبيل أمنه واستقراره.
هم الذين أفنوا حياتهم فى حماية الشعب، وسطروا بدمائهم صفحات من الشجاعة والإصرار على مواجهة الإرهاب، هم الذين لم يترددوا لحظة فى الوقوف أمام كل من يهدد وطنهم، وواجهوا الموت بابتسامة، مع العلم أن حياتهم ليست سوى جزء صغير من معركة أكبر ضد الظلام.
فى رمضان، حين يلتف الجميع حول موائد الإفطار فى دفء الأسرة، كان شهداء الشرطة يجلسون فى مكان أسمى، مكان لا تدركه أعيننا، ولكنه مكان لا يعادل فى قيمته كل الدنيا؛ فإفطارهم اليوم سيكون مع النبين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
مع غيابهم عن المائدة الرمضانية فى بيوتهم، يظل الشعب المصرى يذكرهم فى صلواته ودعواته، تظل أسماؤهم محفورة فى ذاكرة الوطن، وتظل أرواحهم تسكن بيننا، تعطينا الأمل والقوة لنستمر فى مواجهة التحديات.
إن الشهداء هم الذين حفظوا لنا الأمان فى عز الشدائد، وهم الذين سيظلون نجومًا مضيئة فى سماء وطننا، فلهم منا الدعاء فى كل لحظة، وأن يظل الوطن فى حفظ الله وأمانه.
مشاركة