ارتبط الشعر الفلسطيني-طوال فترة مقاومته للمحتل- بالأرض الفلسطينية، مقدّما نماذج من الصراع مع الكيان الغاصب، ومواجهته بكل أشكال التعبير الأدبي، حتى صار للكتابة أهمية كبرى في مواجهة الكيان، شأنها شأن السلاح الذي يواجه به الفلسطيني المحتل.
ولقد رسم الشعر في فلسطين على وجه الخصوص صورة للشهيد الذي يناضل في سبيل استعادة أرضه وعزته، فكان حاضرا في غير نص من النصوص الشعرية ،كلٌ حسب رؤيته، وتوظيفه له التوظيف الذي يناسب الفكرة والموضوع.
(1)
يُعبّر الشاعر عبدالرحيم محمود (1913-1948) عن الشهيد بلوحة فدائية، يظهر من خلالها الاستبسال والثبات في مواجهة العدو، والإقدام في ساحات المعارك. يفتتح الشاعر قصيدة (الشهيد) واصفا العزيمة التي يتحلى بها المقاتل في سبيل مقاومة العدو، فيقول:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لا عشتُ إن لم أكن مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلتُ أصغى لي العالمون ودوّى مقالي بين الورى.
لعلَّ عبدالرحيم محمود في هذه القصيدة كان يمنّي نفسه بالشهادة، ويطلبها، ويشجّع نفسه على ارتياد مواطنها، وهو ما ناله في عام 1948م في معركة الشجرة التي استُشهِد فيها وهو في ريعان الشباب. تنقلنا القصيدة إلى عالم الشهيد، في المعركة وبعدها، وهنا نجد الشاعر يُعزّز من مكانة الشهداء، وارتقائهم المراتب العليا، وصولا إلى الخلود الدائم، يتحدث الشاعر عن هذه الرحلة في مواجهة الذل والقيود التي يفرضها الغاصب، كما يتحدث عن عزة وكرامة الشهيد.إنّ الشهيد في هذه القصيدة مندفعٌ إلى ساحات القتال، مُقدمٌ لا يتهيّب، قد وضع الشهادة أمام ناظريه، كما أنه يطرب لسماع صوت التحام السيوف، لا يضرّه أين ستؤول جثته بعد الموت. هكذا صوّر الشاعرُ الشهيدَ في قصيدته هذه باعثا من خلاله الأمل للخلود الدائم. يقول:
لعمرك إنّي أرى مصرعي ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مصرعي دون حقّي السليب ودون بلادي هو المبتغى
يلذّ لأذني سماع الصليل ويبهجُ نفسي مسيل الدما وجسمٌ تجدّل في الصحصحان تناوشُهُ جارحاتُ الفلا
فمنه نصيبٌ لأسد السماء ومنه نصيبٌ لأسد الشّرى
كسا دمه الأرض بالأرجوان وأثقل بالعطر ريح الصّبا
وعفّر منه بهيّ الجبين ولكن عُفارا يزيد البها
وبان على شفتيه ابتسامٌ معانيه هزءٌ بهذي الدّنا
ونام ليحلم حلم الخلود ويهنأ فيه بأحلى الرؤى
لعمرك هذا مماتُ الرجال ومن رام موتا شريفا فذا
(2)
كذلك تكتب الشاعرة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي (1929-2023) قصيدتها (مرثية الشهداء) تُظهر فيها مكانة الشهيد في النصوص الشعرية فهي معادل لقيمة الحرية؛ إذ إن الحرية لا تتحقق دون تضحية واستشهاد وإراقة للدماء. إنّ الشهادة ثمنٌ للحرية، لكنّ الحزن على فراق الشهيد هو الألم الذي يظلّ يعتصر القلوب، ويفطّر الأكباد.
تعترف سلمى الخضراء بالقيمة الكبيرة لفعل الشهادة مؤكدة على وجود حياة أخرى تتمثّل في حياة الوطن الناتج عن الشهادة؛ لذا تَرِدُ دلالات القصيدة معبّرة عن الحزن، والفقد، والموت، والدم، والآهات مقابل حياة الوطن والحرية والخصب، تقول:
أنا أدري أنهم ماتوا ليحيا الوطنُ
وطن القتلى وحقل الدم هذا الوطنُ
أنا أدري أنها «الحرية الحمراء» هذا الثمن
الرائع المغموس بالآهات هذا الثمن
أنا أدري إنما الحزن بأعماق فؤادي ليس يدري
**
أنا أبكي كل عين فقدت ضوء الحياة
كل روح سال من بين الشفاه
فاذكروني يا مسيل الخير والخصب الثري
أنت يا أرض اللآلئ والزمردْ
منبع الفيروز يجري في مياه الأنهر
حيث تهوي دُرر الأقمار ليلا تتبرّدْ
(3)
أما مُريد البرغوثي (1944- 2021) فيعُدُّ الشهادة فعلا متكرّرا في فلسطين، ومشهدا يمكن رؤيته بصورة يومية، فيقدّم قصيدته (مشهد يومي) في إطار وصفي للحياة المتشكّلة في الذهن، إنها حياة مرتبطة بالطفولة، وحنان الأم، ولحظات الحب الأبدي. إنّ الأم وطفلها في القصيدة ما هما إلا إحالة على الأمومة الكبرى المتمثلة في فلسطين، والرضاع هو مشهد الولاء والعاطفة والحب الذي يشربه الطفل الفلسطيني في سبيل تحرير الوطن.
هذا المشهد اليومي المتكرر للحياة يقابله مشهد آخر، مشهد الموت المناقض للحياة، إنه مشهد يفترضه البرغوثي في استشهاد الطفولة:
استمرَّ المشهد اليوميُّ:
أولادٌ يعدون المقاليعَ
وأصواتُ هتافاتٍ وراياتٌ
وعسكرْ
يطلقون النار في زهْو وفوضى
وصبيٌ آخر يهوي شهيدا
فوق إسفلت الطريق.
إنّ البرغوثي يأخذ القارئ إلى عوالم بعيدة، تحيلُ على التضحية والفدائية التي يقدّمها الصغير قبل الكبير، فالجميع قد نذر نفسه في سبيل الحرية.
ويظهر انتقال جميل أيضا عند مريد البرغوثي في قصيدته (صندوق جدتي)؛ إذ يفتتحُ القصيدة واصفا محتويات صندوق الجدة، ثم ينتقل إلى ذكر استشهاد ابنيها، وذكر جهاد والدهم، ومقتل حفيدها في بيروت.
يظهر ذلك من خلال رسم التضحيات التي قدّمتها الجدة، نافيا عنها البخل بمحتويات الصندوق كونها لم تبخل بتقديم أرواح أبنائها:
أخصصت الخواتم للهدايا يا تُرى؟
أم بُخلها المرويُّ عنها قولُ صدق؟
كيف لم تبخلْ إذن بحياة ابنيها
اللذين استشهدا في ليلتين
مناديين استنهضا كلّ القرى يوما، وناما
علبة التطريز فيها كلُّ برقيات من عزوا وواسوا
والقصاصاتُ التي ذكرتْ محاسنهم
وصورُ ذلك الجبليّ والدهمْ
يطرّزُ صدره صفان من فشكٍ عتيقٍ
في شباب جهاده
كم كان ينكرُ أنه بطل
ليذهب للبطولة دون ضجتها
ولم يرجعْ. فقط ببساطة البلهاء لم يرجعْ
وأعمتْ نصف عينيها ولم يرجع...
(4)
ويُقدّم الشاعر الفلسطيني زكريا محمد (1950-2023) في قصيدته (صُوَر) صورةً ملتقطة للشهداء على الأرض. إنه يرسم لهم صورة مغايرة للواقع، يُظهر ملامح مختلفة وكأنه أراد للشهيد أن يرحل غريبا عن هذه الأرض، دون أن يُحسّ به أحد، أو يُشار إليه، وكأنه عاش غربةً في وجوده على الأرض، وغربة أخرى بعد رحيله عنها:
الشهداءُ في الألبوم
غريبونَ غريبون:
سوالفهم طويلةٌ
قمصانهم مزمومةٌ
وبساتُهم غريرةٌ
حتى كأنهم سقطوا بضربةِ شمس
الشهداءُ في الألبوم
بعيدون بعيدون:
يقفون حيارى
وبلا حيلة
حتى كأنّ عدسة «زومٍ»
هي التي قتلتهم
ورمتهم عند الأفق.
تبرز صورة الشهيد في نصوص الشعر الفلسطيني مقدّمة ملمحا مهما عن فعل المقاومة الأبدي الذي يتحلى به الإنسان الفلسطيني في مواجهة الآخر المحتل، وهنا تظهر الأهمية الحقيقية للإنسان بإظهار قيم العزة والكرامة والدفاع عن الأرض والمقدّسات، فإنّ النصر قادم ولو بعد حين.
لقد اشتغلت النصوص الشعرية على صورة الشهيد كونه شخصية ثائرة على الباطل، ومقاتلة للعدو، ومتطلّعة للخلود الأبدي. وهناك نصوص شعرية أخرى عبّرت عن الشهيد كونه لغة جمالية حاضرة في النص الشعري، يحمل دلالات الاتساع في النص؛ فمن كونه محبا للشهادة والموت في سبيل الله، إلى الاتساع في الفكرة الدالة على الخلود والحرية والعودة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی مواجهة فی سبیل
إقرأ أيضاً:
حزب الله وأهالي بلدة المعيصرة شيعوا الشهيد عيسى عبد الله عمرو الشيخ عمرو: المقاومة هي لكل اللبنانيين
شيع "حزب الله" وجمهور المقاومة الشهيد عيسى عبد الله عمرو (أبو حيدر) والذي ارتقى في معركة "أولي البأس دفاعا عن لبنا وشعبه"، في حضور مسؤول منطقة جبل لبنان والشمال في الحزب الشيخ محمد عمرو، عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب رائد برو ، نائب مفتي جبيل كسروان الشيخ محمد حيدر، رؤساء بلديات ومخاتير، عائلة الشهيد وجمع من أهالي البلدة والجوار. وبعد الصلاة على الجثمان وعلى وقع موسيقى الشهداء ونثر الورود حمل رفاق الشهيد عمرو وأهالي المنطقة النعش على الأكف ليوارى في ثرى جبانة بلدته المعيصرة الكسروانية.
وأكد الشيخ محمد عمرو، في كلمة "أن العدو الذي توسل وقف إطلاق النار في معركة أولي البأس، يسعى لتعويض ما خسره في الميدان من خلال ما يقوم به في فترة الستين يوما من أعمال تخريب في بلدات الجنوب وعلى مرأى ومسمع العالم والمجتمع الدولي".
وأشار الشيخ عمرو إلى "أن المقاومة في لبنان هي لكل اللبنانيين الذين أثبتوا أنه بتضامنهم ووحدتهم يمكن أن يقفوا في وجه العدوان".