◄ هكذا تبدو عُمان في حضورها البهيِّ السامقِ في "مجلس عُمان" صورةً وطنيَّةً ذات مهابةٍ وجلالٍ وعلوٍّ
د. صالح الفهدي
يتفضَّلُ حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- اليوم بافتتاح دور الانعقاد السنوي الأول للدورة الثامنة لمجلس عُمان، وهو مجلسٌ يضمُّ في جناحيه الشورى والدولة.
عُمان التي حافظت على مكانتها في التاريخ، ورسَّخت تلك المكانة بالمحافظةِ على قيمها الأصيلة، وتاريخها العريق، ومبادئها الثابتة، عُمان التي لا تمالىءُ في الحق، ولا تساومُ في دفعِ الظلم، ومعاداة الجور والحيف، ولا تقفُ صامتةً إزاء القهر والطغيانِ الذي يصيبُ أيَّ شعبٍ من الشعوب.
عُمان التي رفعت شعار السلم أينما كانت وجهتها، لا تسعى إلا لوئامٍ، وتوافقٍ، وتسامحٍ، وتفاهم، ولا تطلبُ إلا المصلحة الإنسانية الخاليةِ من أيِّ مكرٍ مدسوس، أو خبثٍ محسوس، فهي عزيزةُ النفس، كريمةُ الأصلِ، ترقى بنفسها عن المشاحنات، والمشانئات، والخصومات، لأنها تحفظُ لنفسها المكانة الرفيعة التي كانت عليها دائماً كما هو عهدها، وكما عرفت بها.
عُمان التي يقصدها من يريدُ النصيحة الرشيدة إن تعقَّدت عليه الأمور، واستشكلت عليه الحلول، ولم يجد أمامه سوى عُمان الرزينة الرأي، الحصيفة الفكر، البعيدة النظر.
عُمان التي يلجأُ إليها من يطلبُ الوساطة في حلِّ معضلةٍ، وإنهاءِ أزمةٍ، لأنه يعلم أنها تتمتع بعلاقاتٍ طيبة مع سائرِ الأَطراف، التي تدركُ أن عُمان إن تكلَّمت فلا تتكلَّمُ عن نوايا مخبوءةٍ، بل عن صدرٍ سليم، ونوايا مُعلنة، وإن أفصحت فإِنها تريدُ صادقةً صفاء العلاقات، وتوطيد الصِّلات.
عُمان الثابتةُ في مواقفها فلا يكون حيادها سلبيَّاً كما يحسبه البعض، وإِنما هو حيادٌ إيجابيٌّ بمعنى أَنّه حيادُ المبدأ، والميلُ إلى الحقِّ، والوقوفُ – إن تطلَّب ذلك- إلى جانب نصرةِ الحقِّ، وإلى ما يوجبه الضمير الإنسانيُّ الوازنُ والعادل.
عُمان الراسخة في مبادئها فلا تميلُ مجامِلةً فيما يخدشُ من مبادئها، ولا تنحازُ بحسبِ الأهواءِ والأَمزجة إلى ما يضعضعُ من سمعتها التاريخية والأخلاقية، ويمسُّ بكيانها السيادي، وإنما تنتصرُ لمبادئها وهي مستعدةٌ دائماً لدفعِ الثمن إزاءِ ذلك، لكنه ثمنُ العزَّةِ والكرامةِ والإِباء، وأثمانُ هذه باهضةٌ، على أّنها هي السيادة في أصلها، والإستقلالُ في أساسه، والقرار في تفرِّده.
عُمان السيادة التي أَبتْ عبر تاريخها أن يتحكَّمَ أحدٌ ما في إدارة شؤونها، ليظلَّ الأمر بيديها، فهي العليمةُ بشأنها، الحكيمةُ بأمرها، القديرةُ على سياستها، وهي تُدركُ أَن الدولة لا تكتسبُ سيادتها إلا باستقلالِ قرارها عن كل التدخلات أيَّاً كان هدفها.
هكذا تبدو عُمان في حضورها البهيِّ السامقِ في "مجلس عُمان" صورةً وطنيَّةً ذات مهابةٍ وجلالٍ وعلوٍّ، يرى فيها أبناؤها القلعة الحصينة لعُمانيتهم، والحصن المتين لهويَّتهم، والقصر المنيف لوطنيتهم، والمدى الرحيب لآملهم وطموحاتهم، والراية العالية لاعتزازهم وافتخارهم بوطنهم.
هكذا تبدو عُمان في بهاءِ سُلطانها المعظَّم، سليلُ أُسرة البوسعيد، التي أخذت على عاتقها أمانة الحفاظ على عُمان وسيادتها وأمنها واستقلالها منذ مؤسسها الأول أحمد بن سعيد في العام 1744م، فالحضورُ السُّلطاني المهيب والأُسرة المالكة الكريمة هو حضورُ تاريخٍ جليلٍ لأُسرةٍ كريمةٍ حملت عُمان أمانةً في صدورها، ومسؤوليةً على أكتافها، وعراقةً في ضمائرها، وكرامةً وعزَّةً في عنفوانها وشموخها.
هكذا سيكون المشهد اليوم في "مجلس عُمان" وهكذا ستظلُّ عُمان دائمًا: مصدرَ اعتزازٍ لشعبها، ومبعث افتخارٍ لهم، وموطنِ حريةٍ، وحقِّ، وعدلٍ، ومساواة، وكرامة للعالم أجمع.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إبادة دارفور التي لم تنته مطلقا
ها هو فصل جديد من الأهوال تتكشف صفحاته في منطقة دارفور بالسودان، منطقتي.
ففي الثالث عشر من أبريل، استولت قوات الدعم السريع ـ وهي جماعة مسلحة مدعوة من دولة عربية ـ على مخيم زمزم وهو أكبر ملاذ للنازحين في السودان. وبوصفي نازحة وناجية من الإبادة الجماعية، فقد تشبثت بهاتفي أشاهد الفظائع عبر مقاطع فيديو مشوهة، محاولة أن أساعد من بعيد في إجلاء الناجين وتدبير الطعام لهم والماء والدواء، وتعقب الموتى منهم أو الأحياء.
على مدى سنتين، ظلت قوات الدعم السريع في حرب مع القوات المسلحة السودانية، أي الجيش السوداني الرسمي المدعوم من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وإيران وروسيا.
عادت العاصمة السودانية الخرطوم ـ بعد خضوعها طوال شهور للنهب والعنف الجنسي في ظل احتلال من قوات الدعم السريع ـ إلى سيطرة القوات المسلحة السودانية، لكن في موطني، أي شمالي دارفور، توشك الفاشر على الوقوع في أيدي الميلشيات شبه العسكرية.
وفي حين تواصل الجماعتان القتال، والفوز بالأرض وخسارتها، يبدو أن الثابت الوحيد هو أن المدنيين السودانيين يتحملون عناء الانتهاكات.
والناس من أبناء دارفور يتذكرون جيدًا هجمات مطلع القرن الحالي المعترف في عام 2003 بكونها إبادة جماعية والتي تحقق فيها المحكمة الجنائية الدولية. ولقد حذر خبير منع الإبادة الجماعية الأممي والولايات المتحدة من أن الإبادة الجماعية جارية تارة أخرى.
وفي رأيي أن إبادة دارفور الجماعية لم تنته قط. ولو أن التطهير العرقي الذي جرى في الجنينة سنة 2023 وحصار الفاشر وإحراق عشرات القرى خلال الأشهر القليلة المنصرمة ليس بالدليل الكافي على ذلك، فمن المؤكد أن أهوال مخيم زمزم دليل كافٍ. لقد باتت حياتنا نحن السودانيين ووجودنا نفسه مهددين.
فقد أدى أسبوع من القصف وإطلاق النيران في زمزم إلى مصرع أكثر من أربعمائة شخص، من الأطفال وعمال الإغاثة، وقادة المجتمع، ومن أقاربي. فاضطر مئات آلاف المقيمين في المخيم إلى الهرب بأنفسهم. وترددت أخبار تفيد أن أطفالًا صغارًا ماتوا من الظمأ وهم يحاولون الفرار. تهدمت العيادات، وترددت أخبار عن وفاة متطوعين في المطابخ الجماعية، وأطباء، وتفيد بأن الجرحى ينزفون دون أن يمد أحد لهم يد العون. وتظهر في الصور المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما يبدو أنه عمليات إعدام لمدنيين. ومن عداد المفقودين في مخيم زمزم ثمان وخمسون امرأة وفتاة من أقاربي وعائلتي الكبيرة يقول شهود عيان إن قوات الدعم السريع اختطفتهن. كما اختفى بعض من لم يتمكنوا من الهرب، ومن هؤلاء اثنان من أعمامي.
في زمزم عملت، ودرّست، وبكيت، وفرحت. فعلى مدى سنين، كان المخيم مأوى وأملا للناجين من إبادة دارفور الجماعية. وقد نشأ المخيم من عدم، حتى أصبح مجتمعًا مزدهرًا أعادت فيه العائلات النازحة تأسيس حياتها وعملت من أجل أن توفر لأبنائها مستقبلا أفضل. وشأن كثير من الشباب، تقدمت لمد يد العون، بالتدريس في مخيم زمزم في عامي 2013 و2017. أقمنا المخيم والاقتصاد وسددنا الفجوات الناجمة عن إجلاء جماعات المساعدة الدولية من المنطقة بعد عقود من الحرمان والتشريد والعزلة الاقتصادية والسياسية.
والآن أبيد كل ذلك. وتشير صور الأقمار الصناعية إلى أن زمزم يحترق، في صدى مؤلم للماضي حينما حركت صور مماثلة العالم إلى العمل في دارفور. في غضون أيام من فبراير، أوقفت منظمتا أطباء بلا حدود وبرنامج الغذاء العالمي عملياتهما في المخيم بسبب الخطر.
وفي ظل إعاقة قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية وصول المساعدات في جميع أنحاء دارفور وعرقلتهم أو نهبهم لها، ضربت مجاعة من صنع الإنسان مخيم زمزم بشدة. وكانت منظمة أطباء بلا حدود في العام الماضي قد حذرت من وفاة طفل كل ساعتين بسبب سوء التغذية هناك. وذكرت منظمة «أنقذوا الأطفال» في ديسمبر أن العائلات تتغذى على علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من انتشار العنف في الأشهر الأخيرة، استمر الناس في اللجوء إلى زمزم، لكونه أكثر أمنا من أي مكان آخر.
وقد أفادت المنظمة الدولية للهجرة أن ما يصل إلى أربعمائة ألف شخص اضطروا إلى الفرار من زمزم في ثنايا هجوم قوات الدعم السريع. وقد تم تسكينهم في أرض قاحلة تقع شمالي الفاشر وليس في متناولهم فيها غير قدر محدود للغاية من الطعام والماء. وانهار الناجون المنهكون المتجهون سائرين على الأقدام إلى «طويلة»، وهي بلدة على بعد نحو ستة وثلاثين ميلًا غرب زمزم. وفي مكان قريب، تعرض أبو شوك، وهو مخيم آخر للنازحين، لهجمات متكررة من قوات الدعم السريع. وتعرض العشرات للقتل. فهذا ليس محض تهجير، ولكن إبادة.
وتعد أفعال قوات الدعم السريع جزءًا من حملة إرهاب أشمل. فالجماعة متهمة باستخدام القتل خارج نطاق القضاء والعنف الجنسي والتجويع المتعمد بوصفها أسلحةً حربيةً ضد المدنيين. ولقد مارست قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية الوحشية بلا هوادة ضد المدنيين في صراعهما على السلطة. وقد ترقى فظائعهما إلى مستوى جرائم الحرب، وفقًا لما قالته بعثة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة. ومع ذلك، فإن الجهود الإنسانية وجهود السلام والدبلوماسية الدولية التي تركز على إنهاء الصراع لم تقم فقط بإقصاء المدنيين، وإنما ركزت أيضا وباستمرار على الأطراف المتحاربة. وقد عجز الجنرالات الذين تركزت عليهم تلك الجهود المرة تلو الأخرى عن إنهاء الحرب. فلا بد من محاسبتهم قبل أن تحل علينا مذبحة أخرى.
قبل سنوات، عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، قدت مسيرة سلام عبر السودان لترويج مسؤولية جماعية عن السلام. كانت آمال الناس بسيطة ولكنها عميقة: فقد كانوا يريدون الطعام على موائدهم، والمدارس، والصحة الجيدة، والفرصة لرؤية أطفالهم يكبرون. واليوم، تبدو تلك الأحلام أبعد منالا من أي وقت مضى.
وأكبر أمل للسودان الآن إنما يكمن في الأفراد المهتمين، وفي الناجين الشجعان الباقين على الأرض، وفي الجماعات السودانية من قبيل (الشبكة الإنسانية لنازحي الداخل) التي حافظت على حياة مخيمات من قبيل زمزم. وبرغم أن جمع التبرعات ضروري لإنقاذ الأرواح، فكل تمويل العالم لن يكفي لإنهاء هذه الحرب إذا استمرت دول غنية في دعم الأطراف المتحاربة.
ولا بديل عن أن يفرض قادة العالم ضغطا على القادة العسكريين وداعميهم من أجل السماح بإيصال المساعدات والموافقة على وقف فوري لإطلاق النار في المناطق الأكثر تضررًا، فدونما عمل فوري، يشمل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، من أجل حماية المدنيين وخلق عملية مفتوحة تعطي الأولوية لإسهام المدنيين في جهود السلام وموافقتهم عليها، سوف يستمر محونا سياسيًا وعمليًا. ولو أننا حاضرون على الطاولة، فلا ينبغي أن نكون محض رموز أو أفكار ثانوية. وإنما يجب أن نقود الجهود التي ستحدد كيف نعيش بقية حياتنا.
وإلى أعمامي وأبناء عمومتي الذين ما زالوا محبوسين في زمزم، أقول: ألمكم ليس خفيًا. وشجاعتكم غير منسية. ولقد خذلكم العالم اليوم، ولكننا سنناضل لكيلا يخذلكم في الغد. وفي مواجهة عنف الإبادة الجماعية، يكون أملنا في حد ذاته فعلًا وتحديًا.