كيف أًصبح الثوب الفلسطيني رمزا للمقاومة؟
تاريخ النشر: 13th, November 2023 GMT
لا تكون الفتيات الفلسطينيات قد تجاوزن بكثير مرحلة الطفولة حينها، لكن ما إن يصبح بوسعهن الإمساك بالإبرة والخيط، حتى تأخذ الجدات في تعليمهن ذلك التطريز المميز، وتبدأ الفتاة في تزيين الثياب بأناملها الصغيرة، وتطرز على مهل أجمل أثوابها في انتظار عرسها، تتفنن في اختيار الألوان والغرز، وتسابق رفيقاتها في تطريز الغرز الأجمل، تمر الشهور وهي تطرز غطاء الرأس وأغطية الوسائد ومحارم العريس، وكأن براعتها في التطريز كنز تدخره لذلك اليوم، لتبدو مميزة أمام الفتيات الأخريات وعريسها القادم (1).
كانت الفلسطينية تنسج على ثيابها حكاية العمر، وقصة البلاد، الثوب بما يحمله من نقوش وألوان يشير إلى القرية وأحوالها ويشي بالكثير عن أحوال صاحبته وحياتها ووضعها الاجتماعي، كان التطريز جزءا مهما في حياة المرأة الفلسطينية، تزين به مقتنياتها وتعلمه لبناتها فينتقل عبر الأجيال.
وفي زمان النكبة، خرجت نساء القرى في فلسطين بتلك الثياب التي تحمل قصة أيامهن، وبقي الثوب، مع مفتاح الدار، إحدى الذكريات القليلة التي حملتها النساء، بعد ضياع الأرض. سيقف الزمن لسنوات حتى تلتفت الفلسطينيات إلى محاولات أخرى للسطو، إذ لم يسلم الثوب -مثل كل التراث الفلسطيني- من محاولات السرقة والطمس، وصار ميدانا لمعركة أخرى للسطو عليه والادعاء بأنه أحد الموروثات "الإسرائيلية"، لتجمع النساء في مواجهة ذلك قصة الثوب الفلسطيني، والتاريخ الذي طرزته كل امرأة فلسطينية عليه.
إرث قديم
لا يخلو التأريخ للتطريز الفلسطيني من بعض الصعوبة، إذ لا تقاوم الأقمشة والخيوط عوامل الطبيعة لفترات طويلة، فتهترئ مع مرور الوقت، لذا فإن أقدم الأقمشة والتطريزات التي أمكن البحث عنها والتأريخ لها تعود إلى بدايات القرن العشرين (2). ومع ذلك، تشير المصادر التاريخية إلى انتشار مشاغل النسيج في أنحاء فلسطين في العصور الإسلامية، وكانت غزة أقدم المدن التي اشتهرت بصناعة النسيج إلى جانب المجدل والناصرة (3).
كانت القرويات والبدويات يطرزن بخيوط الحرير والذهب والفضة منطقة الصدر والأكتاف والجوانب والأكمام في الثوب، يختلف الشكل بحسب المنطقة الجغرافية، وحين تتجمع النساء في الأسواق كان بالإمكان تمييز المنطقة التي تنتمي إليها كل واحدة منهن، من التطريز الذي يزين ثوبها، ويمكن حتى تحديد القرية من الرسوم والوحدات التطريزية وطريقة تنسيق الثوب (4).
رسمت نساء حيفا البرتقال، وفي الجليل بشمال فلسطين كانت الأزهار وأوراق الشجر المطرّزة بالخيوط الحمراء والزرقاء تميز الأثواب، في قرى نابلس وطولكرم يمكن أن نلاحظ كيف تقل التطريزات، وتُزين الاثواب بشرائط ملونة، وفي بيت لحم تُستخدم خيوط الذهب والفضة في تطريز زخارف نباتية وتصاميم على شكل حليّ، وفي الخليل نسجت النساء أشكال العنب والزيتون، وفي بئر السبع حيث تقل الأشجار استوحت النساء نقوش ثيابهن من السماء فزينّها بأشكال النجوم (5).
"إنه يُمثِّل فرحا بالحياة وإقبالا عليها وتجاوبا معها، حتى يكاد يبدو وكأنه وليد طقوس هي طقوس الخصب ورفض الموت".
جبرا إبراهيم جبرا، في تقديمه لكتاب التطريز الفلسطيني
كانت أيام التسوّق والأعياد فرصة النساء المثالية لتبادل الرسوم والتعرف على نماذج تطريز مختلفة، وكان الزواج بين الرجال والفتيات من قرى مختلفة فرصة أخرى لنقل الرسوم بين القرى المختلفة، ثم تطورت وسائل النقل من قطارات وحافلات وسهلت التنقل بين القرى وتزاور الأهل، وتبادل الرسوم التطريزية، وهكذا عبر الأجيال أكسبت التغييرات البسيطة الثوب رونقا متجددا، وأرضت رغبة النساء في خلق عالمهن الجمالي الخاص (6).
أما عن الألوان فقد استوحى الزي الفلسطيني ألوانه من الطبيعة؛ من الزعفران كان اللون الأصفر، ومن لحاء الشجر كان اللون البني، ومن نبات النيلة جاء اللون الأزرق، ومن حيوانات الموركس الصدفية التي تُجلب من ساحل البحر المتوسط جاء اللون الأحمر (7).
في العادة كانت ألوان التطريز تحكي عن حياة المرأة؛ فالفتاة ترتدي ثوبا مطرزا باللون الأزرق، بعد الزواج تطرز أثوابها باللون الأحمر، والأرملة تغطي الغرزة الحمراء باللون الأزرق، وتطعّمها بألوان أخرى، وحين تكبر المرأة بالعمر تميل لاختيار تطريزات أخف، وتختار ألوانا داكنة (8).
أنواع التطريز والغرز كانت مميزة أيضا، في القرى التابعة ليافا ورام الله والخليل وغزة وبئر السبع لبست النساء الزي التقليدي، وكانت غرزة التطريز الفلاحي تُستخدم بكثرة، في مناطق أخرى من فلسطين مثل القدس وبيت لحم تظهر غرز أخرى مثل التحريرة والتلحمية، فيما كانت نساء المدن يلبسن لباسا متأثرا بالزي العثماني.
سنوات النكبة
كانت الأحداث تُلقي بظلالها على النقوش والتطريزات التي يحملها الثوب الفلسطيني، وبينما حملت الثياب عناصر الطبيعة في كل قرية؛ الزهرة والسنبلة وعباد الشمس والنخيل وزهر البرتقال، أضاف كل جيل عنصرا تأثر به، ودخلت عناصر أخرى شيئا فشيئا، فمن وحي العَلَم العثماني مثلا ظهر في التطريز الهلال والنجمة (9).
لفترة طويلة، كانت الأقمشة محلية منسوجة يدويا، ولكن خلال فترة الانتداب البريطاني تأثر إنتاج الأقمشة محلية الصنع، وبدأ استيراد أنواع مختلفة من الأقمشة الأوروبية. ونتيجة لذلك، اختلفت أنواع الخيوط وأنماط التطريز. كان القماش المستورَد كان أكثر نعومة ودقة، لذا لجأت النساء إلى استخدام "الكنفا" ذات الفتحات العريضة لوضعها فوق القماش ليصبح التطريز أيسر، ودخلت خيوط القطن الدقيقة التي تصنعها الشركة الفرنسية "DMC" إلى السوق الفلسطيني (10). ظهرت حينها ألوان جديدة على التطريز الفلسطيني وأصبح بالإمكان استخدام أشكال ومجسّمات أكثر تعقيدا مثل الجِرار والحيوانات والطيور والأزهار، وشاع نقل الرسوم من مخططات ونماذج مختلفة (باترون) تنشرها المجلات والكتب.
وفي السنوات القليلة قبل النكبة، ومع تأثر كل مناحي الحياة في فلسطين، حالت الضائقة المالية دون الوصول إلى الأسواق وتوفر ثمن الخيوط والأقمشة التي اعتادت النساء الحصول عليها، وكان من النادر أن تنتج النساء أثوابا جديدة. وبعد النكبة، ومع الضائقة المالية، كان بعض نساء القرى يلجأن بسبب الحاجة إلى بيع أثوابهن إلى المتاحف، وكانت الباحثة الفلسطينية وداد قعوار إحدى مَن تسابقن للحصول على تلك الأثواب الثمينة، واليوم يبلغ عدد الأثواب التي تحتفظ بها في متحفها نحو ثلاثمئة ثوب عربي (11).
في مقدمة كتاب "التطريز الفلسطيني: غرزة الفلاحي التقليدية"، تقدم المؤلفات، وعلى رأسهن وداد قعوار، الشكر إلى الأخوات "أم صالح" و"أم إبراهيم" وغيرهن ممن قمن بالنسخ المتقن للنماذج التطريزية القديمة، ليمكن التعرف على الشكل القديم لها، تحكي قعوار عن متعة جمع الثياب وتأملها، تلك التي لا يضاهيها سوى الاستماع إلى الفلاحات، صاحبات تلك الثياب والحكايا التي يخبّئنها، تعلق أيضا على أن كثيرات منهن كن يرفضن بيع الثوب (12).
بحلول نهاية الستينيات، كانت الأزمة المالية تنفرج نوعا ما بفضل سفر عدد من الفلسطينيين إلى دول الخليج، وتدفق الحوالات المالية إلى أسرهم، فعادت النساء لشراء الأقمشة والخيوط، وظهر كل ما اختزنته المرأة من معرفة بالتطريز تبادلتها مع رفيقاتها في المخيمات.
ظهر في المخيمات، بفعل الاختلاط بين النساء من عدة قرى ومناطق، شكل جديد للثوب، مزج بين تطريزات الغرز والتنسيقات المختلفة، وتوفَّر للنساء ألوان أكثر تنوعا، فظهر ما عُرف بـ"الثوب الجديد" الذي لم يخلُ من الطابع الفلسطيني، لكنه لم يعد بالإمكان تمييز المنطقة التي تنتمي إليها صاحبته (13).
السطو الإسرائيلي
في الستينيات ظهرت زوجة موشيه دیان، وزير الدفاع الإسرائيلي، بالثوب الفلسطيني في زيارة رسمية إلى البيت الأبيض، كما نشرت صورة لها في الموسوعة الإنجلیزیة وهي ترتدي ثوب الشلتة باعتباره ثوبا "إسرائيليا"، وجمعت عددا من الأثواب والمشغولات الفلسطينية وأقامت معرضا لها أرشفت محتوياته على أنها تراث "إسرائيلي".
بشكل مماثل، كان عدد كبير من المسؤولين في الحركة الصهيونية يصطحبون زوجاتهم في الزيارات الرسمية وهن يرتدين الزي الشعبي الفلسطيني. كما اعتمدت شركة طيران العال الزي الشعبي الفلسطيني زيًّا لمضيفاتها، ووزعت كتيبات تحمل معلومات عن التراث الفلسطيني وتقدمه للقراء على أنه تراث "إسرائيلي" (14)، وظهرت ملكات جمال العالم في الأرض المحتلة بالثوب التقليدي الفلسطيني باعتباره تراثا إسرائيليا (15).
تؤكد نادية الأغا، مسؤولة لجنة التراث في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في مصر، لـ"ميدان" أن المعركة الثقافية والحضارية لا تقل أهمية عن المعركة حول الأرض، وتقول: "إننا نثبت الهوية، ونؤكد أننا أصحاب الأرض والحق" أمام محاولات الاحتلال لطمس الهوية وسرقة كل ما تصل إليه يداه، تحكي عن تسجيل الثوب الفلسطيني باسم إسرائيل في المجلد الرابع في الموسوعة العالمية عام 1993، وكيف احتاج الأمر إلى سنوات من المقاومة والإصرار لإعادة تصحيح وتسجيل الحقيقة وهو ما حدث عام 2007.
وتضيف أن المرأة الفلسطينية كانت أمينة في حرصها على نقل التراث الموروث الذي ارتبط بالأرض والشجر، إلى الأجيال الأخرى، وتؤكد أن الثوب الفلسطيني وثيقة وهوية وسلاح نحافظ به على التراث. وفي مواجهة التطريز الصناعي وحتى لا تندثر المهنة، يجمع الاتحاد عددا من الفلسطينيات اللاتي يُجِدْن التطريز، لعمل منتجات مختلفة وإقامة معرض سنوي ومعرض دائم داخل الاتحاد، وهو الشيء ذاته الذي تقوم به مؤسسات مختلفة حول العالم.
الثوب رمزا للمقاومة
ما عُرف بـ"الثوب الجديد" بدا وكأنه يوحد فلسطين، ولعب دورا مهما في الانتفاضة الأولى، فقد كان ارتداؤه بما يحمله من رمز للهوية الفلسطينية بديلا عن رفع العلم أحيانا، وراحت النساء يطرزن عليه خارطة فلسطين، والحروف الأولى من اسم منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف) بألوان العلم الفلسطيني الأربعة: الأحمر والأخضر والأبيض والأسود، وحمل ثوب الانتفاضة نقوشا جديدة أبرزها أغصان الزيتون وحمامة السلام (16).
في عام 2021 أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) "فن التطريز في فلسطين" على لائحتها للتراث الثقافي غير المادي، لتحقق المقاومة الثقافية انتصارا آخر يحمي أحد أهم عناصر الهوية من محاولات السرقة الإسرائيلية (17).
اليوم، ربما حال ثقل الثوب وطوله وطریقة لبسه دون ارتدائه كما كان في السابق، لكن لدى كل امرأة أو فتاة ثوب مطرز أو شال مميز تحتفظ به للمناسبات المهمة، كما أن التطريز الفلسطيني حاضر في قطع أخرى كما تشير نادية الأغا، فمنذ تأسيسها عام 1963 حرصت رابطة المرأة الفلسطينية في مصر على عمل أكبر تجمع نسائي للحفاظ على التراث، كما تحرص الرابطة على تعليم الفتيات الصغيرات أنواع القطب وألوان الخيوط، وهي طريق الكثيرات لزيادة الدخل.
تكلفة التطريز اليدوي مرتفعة بالمقارنة بالأثواب المطرزة الصناعية، وهو ما يهدد التطريز الفلسطيني، لكن الجهود لا تتوقف لكي ليحمل كل منزل فلسطيني شيئا ما يعبر عن الهوية الفلسطينية، من حقائب أو ثياب أو صناديق ومرايا وغيرها من القطع التي تحكي عن فلسطين كما عرفها الأجداد والآباء والأحفاد.
"هذا التطريز فن أبدعه حب عارم لكل ما هو حي".
جبرا إبراهيم جبرا
—————————————————————————————————-
المصادر: مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين من خلال المحافظة على الثقافة والتراث الشعبي "التطريز الفلسطيني:"غرزة الفلاحية" التقليدية" مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين من خلال المحافظة على الثقافة والتراث الشعبي التطريز الفلسطيني -إرث وطني غني ومتنوّع مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين من خلال المحافظة على الثقافة والتراث الشعبي التطريز الفلسطيني -إرث وطني غني ومتنوّع مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين من خلال المحافظة على الثقافة والتراث الشعبي التطريز الفلسطيني -إرث وطني غني ومتنوّع "التطريز الفلسطيني:"غرزة الفلاحية" التقليدية" التطريز الفلسطيني -إرث وطني غني ومتنوّع المصدر السابق "التطريز الفلسطيني:"غرزة الفلاحية" التقليدية" التطريز الفلسطيني -إرث وطني غني ومتنوّع ثوب الشتلة التعمري بين التهويد والاندثار دحض مزاعم الاحتلال.. التطريز فن فلسطيني يدخل العالمية من أوسع أبوابها التطريز الفلسطيني -إرث وطني غني ومتنوّع فن التطريز الفلسطيني على لائحة التراث الثقافي لليونسكوالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
اغتصاب الشعب الفلسطيني
نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تقريرا هذا الأسبوع يفيد بأن جنودا إسرائيليين اعتدوا جنسيا على شقيقين فلسطينيين بعد خطفهما وتعذيبهما في شوارع الضفة الغربية خلال شهر كانون الثاني/ يناير الماضي. وهذه ليست حادثة استثنائية، إذ أصدرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وإسرائيل، تقريرا يوثق العنف الجنسي الممنهج الذي تمارسه إسرائيل ضد فلسطينيي غزة والضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وأكد رئيس اللجنة أن التقرير المعنون "أكثر مما يحتمله أي إنسان" يقدم أدلة دامغة على تورط إسرائيل في هذه الجرائم، مشددا على أنه "لا مفر من الاستنتاج بأن إسرائيل استخدمت العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي ضد الفلسطينيين لإرهابهم وترسيخ نظام قمعي يقوض حقهم في تقرير المصير".
ومع ذلك، ورغم وفرة التقارير التي توثق حوادث الاغتصاب والاعتداءات الجنسية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين منذ عام 1948، لا تزال وسائل الإعلام الغربية تكرر، دون أدنى مستويات التحقق الصحفية فضلا عن الاستقصاء، مزاعم إسرائيلية عن وقوع عمليات اغتصاب ارتكبها فلسطينيون بحق إسرائيليين. في الواقع، وثقت تقارير حقوقيّة عديدة استخدام الجيش الإسرائيلي للتعذيب الجسدي والجنسي ضد الفلسطينيين بشكل ممنهج منذ عام 1967 على الأقل، فكيف يمكن لهذه الحقائق أن تتوافق مع السرديّة التي تروجها إسرائيل والغرب؟
يمكن العثور على الإجابة في حقيقة أن العنصرية ضد الفلسطينيين متجذرة في إسرائيل وفي الغرب، وهي التي تغذي هذه الروايات استنادا إلى تصوّر راسخ في الوعي الغربي بأن الفلسطينيين، بخلاف الأوروبيين البيض، بمن فيهم اليهود الإسرائيليون، هم همجيون وبرابرة. ويبرز هذا الخطاب بوضوح عندما يتعلق الأمر بمزاعم "الفجور الجنسي" للرجال العرب المفترسين، وخاصة الفلسطينيين، وضرورة حماية النساء اليهوديات الإسرائيليات من "شهواتهم وعنفهم" المزعوم.
تسرّع وسائل الإعلام الغربية في تبني المزاعم الإسرائيلية غير المؤكدة وتقديمها على أنها حقائق يجب أن يُقارن بإهمالها التقارير الإسرائيلية والأممية المؤكدة والموثقة عن الاعتداءات الجنسية الإسرائيلية واغتصاب الفلسطينيين، والتي غالبا ما تُهمَّش أو يُقلَّل من شأنها، إن لم يتم تجاهلها تماما
لقد سارع المسؤولون الإسرائيليون، في أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى الترويج لعمليات اغتصاب جماعي ارتكبها فلسطينيون بحق نساء يهوديات، إلى جانب تلفيقات أخرى مفبركة عن قطع رؤوس أطفال يهود وشويهم في الأفران، وهي صور ادعى الرئيس جو بايدن أنه شاهدها، على الرغم من أن البيت الأبيض نفى ذلك لاحقا. ورغم عدم تقدم أي امرأة إسرائيلية حتى الآن بادعاء تعرضها للاغتصاب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وعدم ظهور أي دليل مصوّر من مئات الساعات من لقطات الفيديو لعملية حماس يوثق أي حالة من حالات الاغتصاب المزعومة، أصدرت الأمم المتحدة تقريرا العام الماضي يزعم وقوع جرائم جنسية في ذلك اليوم، رغم إقرارها بعدم توفر أدلة مرئيّة أو طبية أو شهادات مباشرة تؤيد هذه المزاعم. وبينما نفت حركة حماس ارتكاب أي عمليات اغتصاب من هذا القبيل على يد مقاتليها، لم تقدم الحكومة الإسرائيلية، حتى اليوم، أي دليل ملموس يدعم مزاعمها.
لا يعني ذلك، بطبيعة الحال، نفي وقوع حالات اغتصاب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بل يشير إلى أن إسرائيل لم تقدم حتى اللحظة أدلة دامغة لإثبات مزاعمها، ومع ذلك، لم يتردد الخطاب الإعلامي والرسميّ في إسرائيل والعواصم الغربية في تبني هذه المزاعم كحقيقة لا تقبل الجدل، لدرجة أن أي محاولة لمساءلة الإسرائيليين بشأن هذه الادعاءات تجعل المرء متواطئا في إنكار وقوع هذه الفظائع المزعومة و/أو في تحيز جنسوي ضد النساء، وهذا بالرغم من عدم تقدم أي امرأة إسرائيلية حتى الآن بادعاء تعرضها للاغتصاب في ذلك اليوم.
إن تسرّع وسائل الإعلام الغربية في تبني المزاعم الإسرائيلية غير المؤكدة وتقديمها على أنها حقائق يجب أن يُقارن بإهمالها التقارير الإسرائيلية والأممية المؤكدة والموثقة عن الاعتداءات الجنسية الإسرائيلية واغتصاب الفلسطينيين، والتي غالبا ما تُهمَّش أو يُقلَّل من شأنها، إن لم يتم تجاهلها تماما.
تستمد مزاعم إسرائيل بوقوع عمليات اغتصاب جماعية للنساء الإسرائيليات في 7 تشرين الأول/ أكتوبر مصداقيتها من عقود من القلق بشأن التهديد المُفترض للذكورة الفلسطينية على النساء اليهوديات، وهو ما أثار في الواقع قلق العديد من الصهاينة منذ بداية الاستعمار الاستيطاني اليهودي. وفي سياق تحليلها لهذا القلق الصهيوني، وصفت الفيلسوفة اليهودية الألمانية حنة أرندت مظاهره بعد تأسيس إسرائيل عام 1948 على النحو التالي: "يبدو أن المواطنين الإسرائيليين، المتدينين وغير المتدينين، مُتفقون على استصواب وجود قانون يحظر الزواج المختلط [بين اليهود والفلسطينيين]، ولهذا السبب الرئيس.. فهم مُتفقون أيضا على عدم استصواب وجود دستور مكتوب يُلزم فيه بتوضيح مثل هذا القانون بشكل مُحرج"، مُعتمدين بدلا من ذلك على الشريعة اليهودية للحماية منه. وقد أشارت أرندت إلى المفارقة التي وجدتها في سياق محاكمة المجرم النازي أدولف أيخمان عام 1961 في إسرائيل، حيث "أدان الادعاء قوانين نورمبرغ [النازية] المشينة لعام 1935، التي حظرت الزواج المختلط والعلاقات الجنسية بين اليهود والألمان. كان المراسلون [الصحفيون] الأكثر اطلاعا على دراية بهذه المفارقة، لكنهم لم يذكروها في تقاريرهم".
تصاعدت حدّة المعارضة الصهيونية للاختلاط الجنسي العرقي بشكل ملحوظ بعد عام 1948، وبلغت مستويات متطرفة منذ سبعينيات القرن الماضي، مع صعود الحاخام المستوطن اليهودي الأمريكي مائير كاهانا، مؤسس رابطة الدفاع اليهودية، إلى الواجهة السياسية. كان كاهانا الأمريكي، الذي عمل مستشارا لمكتب التحقيقات الفيدرالي وأدين بالإرهاب، قد انتقل للاستقرار في إسرائيل عام 1971، وكان يشعر بهلع شديد من الاختلاط الجنسي والعرقي بين اليهود والفلسطينيين، مرددا صدى قوانين المجتمع الأمريكي العنصري الأبيض ضد الاختلاط العرقي الجنسي، خاصة بين النساء البيض والرجال السود، الأمر الذي أثار إعجابه بوضوح أثناء نشأته في الولايات المتحدة الأمريكية العنصرية. ومع ذلك، لا تقتصر هذه النزعة العنصرية في إسرائيل على محاكاة قوانين نورمبرغ النازية، التي قارنتها بها أرندت، بل تتماشى مع التوجه العام لمجتمعات المستعمرات-الاستيطانية الأوروبية التي حرصت على فرض الفصل العرقي وعدا الاختلاط الجنسي في معظم أنحاء العالم المستَعمر. وتجدر الإشارة إلى أن ولاية ألاباما الأميركية لم تلغ قانونها المناهض للاختلاط الجنسي بين الأعراق إلا في عام 2000، ليكون بذلك آخر قانون من نوعه في الولايات المتحدة.
لكن الرغبة الجنسية الجشعة التي يُقال إن الرجال الفلسطينيين يكنّونها للنساء اليهوديات كانت شديدة لدرجة أنه حتى عندما لم يغتصبوهن، يبدو أنهم اغتصبوهن بالفعل، كما حصل حين قضت محكمة إسرائيلية عام 2010 بإدانة رجل فلسطيني بتهمة "الاغتصاب عن طريق الخداع"، بزعم أنه تظاهر بأنه يهودي لممارسة الجنس بالتراضي مع امرأة يهودية. وعندما اكتشفت المرأة أن الرجل الذي جامعته ليس يهوديا، رفعت دعوى قضائية ضده، وأدانته محكمة إسرائيلية بالاغتصاب. وقد تزايدت عمليات ضرب وقتل الرجال الفلسطينيين على يد يهود في القدس ومناطق أخرى من إسرائيل خلال العقدين الماضيين بافتراض أنهم يواعدون أو يسعون لمواعدة نساء يهوديات، كما ازداد عدد المنظمات اليهودية الملتزمة بمنع الاختلاط الجنسي بين الأعراق وحماية النساء اليهوديات من إفساد الرجال الفلسطينيين.
هذا النمط من العنصرية ليس فريدا في السياق الإسرائيلي، بل يتطابق مع أنماط القمع الاستعماري الأخرى. وقد أشارت الناشطة الأمريكية السوداء الشهيرة أنجيلا ديفيس منذ عقود إلى أن أسطورة الرجل الأسود المغتصِب في السياق الأمريكي "تُستحضر بشكل منهجي كلما تطلبت موجات متكررة من العنف والإرهاب ضد المجتمع الأسود مبررات مقنعة". إن قيام إسرائيل بتقديم هذه المزاعم بالاغتصاب في خضم إبادة الشعب الفلسطيني في غزة يتناسب تماما مع النمط الذي وصفته ديفيس.
لكن ما يغفل ذكره عادة في الولايات المتحدة هو الاغتصاب المنهجي للنساء السود على يد رجال الشرطة البيض، الذي كان ممارسة شائعة رافقت أسطورة "المغتصِب الأسود" في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين وما بعدها. وقد استمرت هذه الجرائم بحق السود بوصفها امتدادا للإرث الوحشيّ لاغتصاب الأسياد البيض للنساء السود المستعبدات؛ الأسياد البيض الذين لم تهتز مكانتهم الاجتماعية بعد انتهاء العبودية، رغم تاريخهم الحافل بجرائم الاغتصاب للنساء السود التي تواصلت بعد الحرب الأهلية على يد جماعة "كو كلوكس كلان" العنصرية.
في السياق الإسرائيلي، يُفصّل المؤرخ الإسرائيلي المناهض للفلسطينيين، بيني موريس، العديد من عمليات الاغتصاب التي ارتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين خلال حرب عام 1948 ومن الأمثلة على ذلك "اغتصاب أربعة جنود من الكتيبة الثانية والعشرين (كارميلي) لفتاة عربية وقتلهم والدها". وفي قرية صفصاف، "تم تقييد 52 رجلا بحبل وإلقاؤهم في بئر وإطلاق النار عليهم. فقُتل 10. وتوسلت النساء طلبا للرحمة. [وكانت هناك] 3 حالات اغتصاب.. فتاة تبلغ من العمر 14 عاما تعرضت للاغتصاب. وقُتل 4 آخرون". أما في بلدة الجش، "فقد قُتلت امرأة وطفلها". وفي دير ياسين، حيث قُتل "ما مجموعه حوالي 250" فلسطينيا، "معظمهم من غير المقاتلين؛ وكانت هناك أيضا حالات قطع الأعضاء واغتصاب".
تحول العنف الجنسي إلى أداة قمع تُستخدم ضد الفلسطينيين من كلا الجنسين. وآخر فضيحة تناولتها وسائل الإعلام نتيجة تسريب فيديوهات لها؛ كانت حالات الاغتصاب الجماعي للرهائن الفلسطينيين الذكور في الزنازين الإسرائيلية العام الماضي. ويوضح تقرير الأمم المتحدة الأخير أن الجرائم الجنسية التي ترتكبها إسرائيل ليست مجرد تجاوزات فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة
على الرغم من هذا السجلّ المروع، الذي تفاقم بشكل كبير في العقود اللاحقة، فقد أدت العنصرية المتفشية في المجتمع والشعور بالتفوق الغربي على الفلسطينيين في إسرائيل إلى التأثير على الذاكرة الإسرائيلية لأحداث الحرب على النحو التالي، وفقا لموريس: "إن الذاكرة الجماعية للإسرائيليين عن المقاتلين [اليهود] الذين يتميزون بـ"نقاء السلاح".. تقوضها أدلة عمليات الاغتصاب التي ارتكبت في المدن والقرى المحتلة. وردت في الوثائق المعاصرة المتاحة حوالي اثنتي عشرة حالة -في يافا وعكا وغيرهما- ونظرا لتردد العرب في الإبلاغ عن مثل هذه الحوادث وصمت الجناة (المتوقع)، ورقابة جيش الدفاع الإسرائيلي على العديد من الوثائق، فمن المرجح أن العدد الحقيقي أعلى، وربما أعلى بكثير، من هذه الحالات. ويبدو أن العرب لم يرتكبوا سوى القليل من أعمال الاغتصاب. وفي المجمل، فإن حالات الاغتصاب في حرب عام 1948، نسبيا، تعد منخفضة جدا".
ويضيف اليميني موريس أنه "بعد الحرب، مال الإسرائيليون إلى الإشادة بـ"نقاء سلاح" رجال مليشياتهم وجنودهم، ومقارنتهم بالهمجية العربية، التي عبّرت أحيانا عن نفسها بتشويه جثث القتلى اليهود. وقد عزز ذلك الصورة الإيجابية للإسرائيليين عن أنفسهم وساعدهم على "ترويج" دولتهم الجديدة في الخارج؛ كما قاموا بشيطنة العدو. لكن في الحقيقة، ارتكب اليهود فظائع أكثر بكثير من العرب، وقتلوا عددا أكبر بكثير من المدنيين وأسرى الحرب في أعمال وحشية متعمدة خلال عام 1948".
ليست روايات موريس عن الاغتصاب خلال حرب عام 1948 استثنائية، بل استمرت لتصبح ممارسة شائعة لدى الجنود الإسرائيليين عند مواجهتهم للاجئين الفلسطينيين الذين حاولوا العودة إلى ديارهم داخل إسرائيل بين عامي 1948 و1955. على سبيل المثال، في آب/ أغسطس 1949، اعتقل الجنود الإسرائيليون لاجئا فلسطينيا وزوجته وقتلوه، ثم تناوب 22 جنديا على اغتصاب زوجته قبل قتلها. وفي آذار/ مارس 1950، اختطف الجنود الإسرائيليون فتاتين فلسطينيتين وصبيا من غزة، قتلوا الصبي ثم اغتصبوا الفتاتين قبل إعدامهما. وفي آب/ أغسطس 1950، اغتصب أربعة من رجال الشرطة الإسرائيليين امرأة فلسطينية بينما كانت تقطف الفاكهة من بستان عائلتها عبر حدود الضفة الغربية.
أصبحت هذه الممارسات أكثر منهجية بعد احتلال عام 1967، حيث تحول العنف الجنسي إلى أداة قمع تُستخدم ضد الفلسطينيين من كلا الجنسين. وآخر فضيحة تناولتها وسائل الإعلام نتيجة تسريب فيديوهات لها؛ كانت حالات الاغتصاب الجماعي للرهائن الفلسطينيين الذكور في الزنازين الإسرائيلية العام الماضي. ويوضح تقرير الأمم المتحدة الأخير أن الجرائم الجنسية التي ترتكبها إسرائيل ليست مجرد تجاوزات فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة تهدف ليس فقط إلى إذلال الفلسطينيين وإلحاق الأذى بهم، وإنما إلى "الهيمنة عليهم، وقمعهم، وتدميرهم جزئيا أو كليا". ومع ذلك، فإن عنصرية المجتمع الإسرائيلي وإيمانه العميق بتفوقه، إلى جانب الدعم الغربي غير المشروط، لا يزال يحصّن إسرائيل من المساءلة، ويعزلها عن مواجهة هذه الحقائق الموثقة.