بمرارة لا تُخطئها عين، يطرح «جوزيف ستيجلتز»، المفكر الليبرالى، «غير الحاقد»، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في نهاية كتابه «ثمن عدم المساواة.. مجتمعنا المنقسم يهدد مستقبلنا»، السؤال: هل يوجد أمل؟، ثم يترك الباب مفتوحًا لاحتمالين، هما ممكن، وغير ممكن، لأن قراءته العميقة، المهنية لا الأيديولوجية، للنظام السياسى الاقتصادى الاجتماعى القانونى في الولايات المتحدة، خلال الأربعة عقود الأخيرة، تقود ليس فقط إلى الأسى واليأس من إصلاح الاختلالات الرهيبة في النظام الأمريكى، ومدفعية الأفكار والميديا المساندة له، التي أدت إلى انقسامات حادة، بل إلى اليأس من علاج عدم المساواة، الذي تفشى في أرجاء العالم، سيرًا على النهج الأمريكى، ما يهدد الديمقراطية والتوافق الاجتماعى والاستقرار، وكذا الكفاءة الاقتصادية، بل ومنافع الـ١%، الذين يحتكرون الثروة.

أخبار متعلقة

مؤتمر لـ«القابضة للمياه» والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لإطلاق نظام إدارة وصيانة الأصول

هواوى تتحول لنظام MetaERP «ذاتى التصميم» لتجنب العقوبات الأمريكية

وول ستريت جورنال: شركة أسلحة أمريكية تخطط لتسليم أوكرانيا 5 أنظمة باتريوت

الكتاب الصادر عن المجلس القومى للترجمة، خلال عام ٢٠٢٢، يرهق قارئه نفسيًا، لأنه يكشف مدى المعاناة التي تعيشها ملايين الأسر في الولايات المتحدة بخصوص السكن والتعليم والعلاج والأجور والفرص والمعاشات والظلم العمدى الواقع على هؤلاء، وهم لا يستطيعون له ردًا، لكن الكاتب يؤكد في أكثر من موضع أن التاريخ أثبت أن هناك حدودًا لاحتمال المظالم.

غلاف الكتاب

يثبت الكتاب بمحتواه التقدمى المنصف، وما فيه من هوامش غنية جدًا، أن أمريكا هي الأزمة وهى الحل، وأقصد بأمريكا هنا أولئك المفكرين الأحرار الذين دخلوا المطابخ الأمريكية، وتربعوا على قمة الهرم الأكاديمى والبحث الاقتصادى في المنظمات الدولية، مثل كروجمان، وسولو، وجيفرى ساكس، وجميعهم ليبراليون، ومعهم ساسة يساريون حقيقيون، مثل «إليزابيث وارن»، وهم ليسوا من اليسار الصهيونى، وأن الأفكار الكبرى لعهد الإنسان القادم سوف تأتى من أمريكا قبل غيرها.

ويرصد الكتاب كيفية إعادة صياغة وتشكيل كل النظم باستمرار للحفاظ على مكاسب طبقة الـ١%، محتكرة الثروة والنفوذ في أمريكا، وزيادتها باطراد، حتى وقت الأزمات، مع ترحيل الأعباء إلى الطبقات الوسطى والأدنى، ومنع ظهور أي صوت يدعو إلى نهج مختلف، ودمغه بأنه اشتراكى أو حاقد، يريد العودة إلى العصور الوسطى أو يشعل حربًا طبقية.

الكتاب يغطى حتى ٢٠١٢، وقد توفيت إحدى المترجمتين، خلال ترجمته، وهى السيدة لبنى الريدى، وتولت منال قابيل المهمة، وترجمت بوعى وسلاسة وإحساس عالٍ بالمسؤولية.

يحشد الكتاب أدلة واقعية ومفجعة بشأن تركز الثروة في أمريكا، خاصة منذ قيام رونالد ريجان بخفض الضرائب على الأغنياء وتخفيف القيود التنظيمية على القطاع المالى وإضعاف نقابات العمال، فيقول مثلًا إن الـ١% لديهم ثلث ثروة البلد، وإن الأمريكى العادى أصبح دخله خلال ٢٠١١ أقل مما كان عليه في ١٩٩٦، وإن دخل المدير الأمريكى إلى العامل المميز فوق ٢٤٠ إلى ١.

وتنفق أمريكا على الصحة أكثر من فرنسا (الخدمة فيها مجانية)، لكن الخدمة الصحية تسوء يومًا بعد يوم، بسبب جشع وضغوط شركات الأدوية وشركات التأمين الطبى الخاصة، وهناك ٩ ملايين أسرة فقدوا منازلهم خلال أزمة ٢٠٠٨ بينما عوضت البنوك صاحبة الرهون العقارية خسارتها سريعًا ولم يُعاقب أحد من مديريها أو ملاكها بينما عُوقب ملاك العقارات، وكان من اليسير ألا يخسروا بيوتهم لو عُولجت قروضهم بطريقة أخرى لكن البنوك رفضت إعادة هيكلة الديون العقارية حتى لا تنكشف خطاياها.

يقدم الكتاب ألف عنوان وعنوان لخطايا النظام الأمريكى، لكنه يعود ليؤكد على قضايا بعينها، في مقدمتها فساد البنوك وأسواق المال والعلاقة العضوية بين المال والسلطة.

ويؤكد الكتاب أن خلق قيمة سوقية للشركات أصبح منفصلًا تمامًا عن خلق فرص العمل، وأن من في القمة لا يريدون الإسهام بنصيب عادل في السلع العامة، ويعتبر أن أهم سلعة عامة هي الديمقراطية، لكنهم يلتهمونها بالتمويل والتلاعب بالحقوق الانتخابية.

يقول المؤلف إن تساقط ثمار النمو «خرافة»، مثلها مثل قولهم إن خفض الضرائب على الأغنياء يزيد النمو وفرص العمل، ويرى أنه لابد من دور للحكومة في توفير نظام فعال للحماية الاجتماعية والتأمين على العجز والبطالة فقد فشل السوق في ذلك، كما فشل في أمور أخرى.

ويعرى المؤلف عقيدة الريع المتفشية بين النخبة الغنية بفصائلها، ويذكرهم بلندن عاصمة محصلى الريع العالميين، كيف تدهورت لهذا السبب.

وأكد أن التقشف يؤدى إلى تراجع الخدمات العامة في الوقت بالضبط الذي يحتاجها فيه الناس أكثر بسبب ارتفاع البطالة وتراجع الأجور، وبين أهمية الإنفاق الحكومى على البنية التحتية والبحوث وعلوم الفضاء والجينوم والإنترنت، وتأثيرها الاجتماعى القوى، وهذا لا يمنع من القول إن للحكومة أخطاء.

ويرى المؤلف أن على اليابان وأوروبا عدم الفرح بأن لديهم عدم مساواة أقل من أمريكا، فهم على الطريق ذاته، ولعلها ليست صدفة أن يظهر «توماس بيكيتي» في هذا الوقت لينبه الـ١%، الأوروبيين الغافلين، إلى خطايا عدم المساواة.

الكتاب المكون من عشرة فصول وخاتمة، يتضمن استعراضًا موسعًا لهبات الشعوب العربية وغير العربية ضد سوء توزيع ثمار الاقتصاد والفساد والخصخصة والاحتكار.

ويرى المؤلف أنه على أمريكا أن تسأل نفسها: متى تصل موجات الغضب/ الربيع إلى هنا؟ فقد تمت التضحية بقيم العدالة الأمريكية لصالح جشع القلة. ويبرهن كيف أن النظام، وفى القلب منه البنك المركزى الأمريكى والكونجرس ووزارة الخزانة، يدعمون فشل السوق.

ويفسر تأخر اندلاع احتجاجات «احتلوا وول ستريت» في أمريكا، لأن الجميع انتظر أن تصحح الديمقراطية خطأ السوق؛ لكنها لم تفعل، من هنا انبثق الوعى بأن الخطأ الأول في السياسة.

تعلم «استيجلتز» من أساتذته أن الاقتصاد أبعد بكثير من أن يدرس المال وحركته، ولفت إلى أن الدراسات الحديثة والنماذج الاقتصادية القياسية تتجاهل عمدًا دراسات التوزيع وعدم المساواة.

ويشير إلى أن أمريكا في الطريق إلى تفكك شبيه بالتفكك السوفيتى لأن الواحد في المائة على استعداد لتدمير النظام حفاظًا على مصالحهم وتتآكل بقوة مستمرة سيادة القانون، حيث لا يحتاج الأغنياء إليه، ولم يعد أحد يستطيع القول إن أمريكا أرض الفرص، فالمال الذي لعب في السياسة لعب في السوق وأفسد قواعده.

وينبه إلى أن معدل وفيات الأطفال في أمريكا أسوأ من كوبا، وأن نظام التأمين على البطالة بأمريكا الأقل كرمًا في العالم الصناعى، وفى ضفة أخرى بلغت تكلفة إنقاذ عملاق التأمين AIG أكبر من كل ما أنفق على رفاه الفقراء منذ ١٩٩٠ حتى ٢٠٠٦، ولم يكن هناك سبب موضوعى للإنقاذ سوى أن الغرض كان إنقاذ مصالح «جولدمان ساكس»، مع الشركة.

ويصرخ: عدم المساواة ليس قدرًا بدليل ما حصل في البرازيل في عهد كاردوسو، ودى سيلفيا، وقد تحسن توزيع الدخل هناك وزاد النمو في نفس الوقت.

ويشير المؤلف إلى تدهور أوضاع أصحاب المهارات وحسنى التعليم بسبب قسوة أهل الـ١%، وما يسمى مرونة سوق العمل، ويؤكد أن الأجر الجيد يرفع الكفاءة ويزيد الانتماء، ويكفى أنه عند تخفيض أجور عمال شركة إطارات كبرى ظهرت العيوب وكبدت الشركة سمعتها.

ويأسف المؤلف لأن الذين يملكون الثروة أغلبهم ليس له إنجاز يُذكر، بينما العباقرة الذين غيروا عالمنا لم يكونوا من المليارديرات.

وفى أمريكا، ذات الموارد الهائلة، هناك واحد من كل ١٠٠ راشد في السجن، وهناك ولايات تصرف على السجون أكثر مما تنفق على الجامعات التابعة لها، وهناك ولايات عدة خفضت الإنفاق على التخصصات مرتفعة التكلفة، كالهندسة والطب، بغض النظر عن أهميتها، ما زاد من صعوبة التحاق الفقراء بكلياتها.

كما أن المدارس والجامعات الخاصة تورط الطلبة في دراسة بالقروض، وهى تعلم أنها لا تدعم حصولهم على وظائف، وثبت أن هناك مدارس تعود في النهاية إلى أهل «وول ستريت» الذين يقدمون القروض للطلبة.

ويتحدث الكتاب عن العضلات السياسية للقطاع المالى، وكيف يفرض ما يريد، حتى في اختيار محافظ البنك الفيدرالى.

ويضرب الكتاب أمثلة مذهلة عن الريوع التي يجنيها الأغنياء من الهبات الحكومية والعقود المغالى فيها لبيع دواء للحكومة أو مقاولات للدفاع، والثمن البخس لتراخيص استغلال المناجم والمعادن وحقول النفط، وثغرات قوانين الضرائب التي جعلت نسبة الضرائب إلى الناتج تنحدر، وكيف أن الفقراء يدفعون معدل ضرائب أعلى من الأغنياء وحملة الأسهم، وشيوع تكرار ارتكاب بنوك كبرى مخالفات جسيمة، عمدًا، وهى تعرف أنها سوف تسوى أفعالها بغرامات بسيطة.

ويشرح دور الاحتكارات في إزاحة المنافسين وزيادة الأسعار وتكاليف المعيشة، والاستيلاء المنظم على الهيئات الرقابية، وإنفاق مليارات الدولارات على اللوبيات للدفاع عن شركات النفط والدخان والمعادن والدواء والتأمين الصحى ضد منطق الكفاءة والمنافسة السليمة، موضحًا أن شركات الأدوية تُنفق على التسويق أكثر مما تُنفق على الأبحاث.

وتقديم دعم حكومى سخى لصناعات ومصانع بلا منطق (مثل دعم الإيثانول لمدة ٤٠ سنة).

واستسهال فصل العمالة وخفض الأجور بحجة مكافحة التضخم أو تقوية الإنتاجية، والإصرار على أن مكافحة التضخم هي الأولوية الأولى بينما الهدف غير المعلن هو دعم حملة السندات وليس تصحيح مسار الاقتصاد.

وهنا يشير المؤلف في أكثر من موضع إلى أن ضعف الطلب هو مشكلة أمريكا ودول أوروبية عديدة، وعلاجه هو التوسع لا التقشف، والاستثمار المدروس وليس رفع الفائدة.

وهناك حديث متكرر عن القروض المسمومة، التي يتم فيها استغلال الفقراء أسوأ استغلال، ومن شدة الحنق على الانفلات المالى، فإن أكثر من نصف ما يقترح من إصلاحات بنهاية الكتاب ينصب على إصلاح المصارف، وتقويم أعمالها ورجالها، وأن تتحمل البنوك تبعات الخسارة أكبر من المدين لأن لديها معلومات أوسع وقدرة تفاوضية لا تُقارن.

يقول المؤلف إن قوة أمريكا في العلم والأفكار، فقد ثبت أن قوتها العسكرية فشلت، لكن جماعة الـ١% تعمل على إضعاف القوة الناعمة بكل السبل عبر تسييد معتقدات بعينها وتأطير الوعى وتلوين السوق بتزوير المعلومات والسيطرة على الرأى العام بالإعلام وإضعاف فرص التعلم وتوظيف الكلمات الخطأ والأسئلة الخطأ والصور الكاذبة والمؤثرات الدينية والمغالطات العلمية والمنطقية لجعل المجتمع يتخبط.

ويحلل المؤلف قانونى الإفلاس والضرائب، ويكشف بأمثلة مفجعة تحيزاتهما ويستخلص: «حيث يوجد نظام تقاضٍ مكلف جدًا فلا يمكن أن توجد عدالة»، ويذهب نقلًا عن آخر، إلى أنه كلما قل عدد المحامين في بلد نسبة إلى عدد السكان نما البلد بشكل أسرع.

وينقب في الميزانية وكيف تؤثر سياسات الإنفاق والضرائب على المساواة أو عدم المساواة، وقد كان لدى أمريكا فائض في الموازنة حتى ١٩٨٠ وبدلًا من الإنفاق على البنية التحتية والأغراض الاجتماعية تم خفض الضرائب فتحول الفائض إلى عجز مزمن يستفيد منه الأغنياء، الذين باتوا يقدسونه لأنهم يكسبون بقوة من السندات الحكومية.

وينشر المؤلف أمثلة صادمة على الإنفاق السفيه، منها تخصيص ٣٨٢ مليار دولار لبرنامج إنتاج الطائرة «إف- ٣٥»، وهو مبلغ يساوى نصف قيمة التحفيز الذي قدمه أوباما للبنوك والشركات والمجتمع معًا، ويكشف عن ٦٠٠ مليار دولار زيادة مخفية في الإنفاق على الدفاع في الفترة من ٢٠٠٣ إلى ٢٠٠٨، ويبين كيف أن خفض الضرائب يؤدى إلى فقاعات.

ويقترح المؤلف أن يعمل البنك الفيدرالى الأمريكى مع المالية على خفض البطالة إلى نسبة معينة كهدف للسياسة النقدية بدلًا من استهداف معدل تضخم ٢% الجارى حتى الآن.

وكشف أن خفض الفائدة جعل الشركات تركز على الرأسمال الرخيص وشجعها على أن تنفق على تكنولوجيا توفر العمالة بلا معنى (ماكينات الصيدليات والبقالة التي تسلم الزبون)، بينما الأفضل للنفع العام الإنفاق على تكنولوجيا تحسن نوعية الحياة وتحافظ على الطبيعة.

ويذهلنا بالقول إن البنوك المركزية غير المستقلة في الهند والصين والبرازيل، كان أداؤها أفضل من الأمريكى المستقل شكلًا.

وأوضح أن وصفات صندوق النقد الدولى ثبت خطؤها من ربع قرن، وذكر أن مُؤلفه ليس كتابًا عن الحقد والحسد، لكنه أراد أن يقول إن عالمًا فيه ناتج أعلى ودخول أحسن وفرص أكثر وديمقراطية ومستويات معيشة مرتفعة ممكن، وإن كان الطريق إليه صعبًا ويحتاج إلى شفافية وتنافس حقيقى ومعالجة الاحتكار وكبح التلاعبات المالية ورفع قدرة النقابات على التفاوض ودمقرطة النظام القانونى والحد من التسلح وتحسين الوصول إلى التعليم وتجويده، وسد العجز التجارى بالعمل وليس بطبع النقود وخفض العملة، وفى المحصلة إقرار ميثاق اجتماعى جديد.

ثقافة خبايا النظام الأمريكى كتاب ثمن عدم المساواة جائزة نوبل عرب وعالم

المصدر: المصري اليوم

كلمات دلالية: ثقافة فی أمریکا أکثر من إلى أن

إقرأ أيضاً:

الإنفاق الحكومي على النازحين يفجّر جدلًا.. ما حقيقة استخدام أموال المودعين؟

من تصريف الأعمال على مدى أكثر من عامين، إلى تصريف تبعات الحرب المدمّرة، انتقلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي تكافح منذ ما قبل الثامن من تشرين 2023، لتبقى صامدة بوجه عواصف الداخل والخارج، وقادرة على إدارة شؤون وشجون البلاد، وهي آخر المعاقل الدستوريّة العاملة في البلاد، بفعل استمرار الفراغ في موقع رئاسة البلاد الذي دخل عامه الثالث، وتعطّل السلطة التشريعيّة المكبّلة بالفيتوات الانتخابيّة وهواة التعطيل.   بين الممانعة والمعارضة دعوات للصرف والمنع
رغم أنّ الحكومة لم تكن شريكة في قرار الحرب، تواجه اليوم ضغوطات سياسيّة من فريقين متقابلين، فريق يدفع باتجاه زيادة الإنفاق لتمويل حاجات النزوح المليوني، من خلال استعمال الأموال المتوافرة في حساب الدولة لدى المصرف المركزي أي الحساب 36، أو حتّى استعمال الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان. وفريق آخر، قوامُه عدد من الكتل النيابيّة يعارض بشدّة، متسلّحًا بالمادة 27 من قانون المحاسبة العامة التي تنظّم نفقات الدولة، ولا تجيز صرف نفقات من دون إدراجها مسبقًا في الموازنة. تضيف الكتل النيابية المعارضة إلى "مقاربتها القانونيّة" أبعادًا سياسيّة، فتصوّب سهامها على الفريق الذي تفرّد بقرار الحرب، وتُحمّله ومن خلفه إيران مسؤوليّة وتبعات جرّ البلاد إلى حربمدمّرة.   القانون لا يتيح الإنفاق
من الناحية القانونية، تتركّز إشكاليّة الإنفاق من خلال ثلاثة أبعاد، يقول المحامي فؤاد الأسمر في اتصال مع "لبنان 24" الأول عدم إمكانيّة الإنفاق من خارج إقرار قانون في البرلمان يجيز ذلك، وهو متعذّر اليوم بظل مجلس نيابي معطّل. البعد الثاني متعلّق بالحكومة، كونها حكومة تصريف أعمال ولا تملك الوضعيّة القانونيّة التي تخولّها أن تنفق من خارج الدائرة الضيقة، وإنفاقها هو بالحد الأدنى لتغطية رواتب الموظفين والحاجات الصحيّة والخدماتيّة الأساسيّة، والمجلس النيابي لم يمنحها حق إصدار مراسيم اشتراعيّة. أمّا البعد الثالث، فظاهره السياسي لا يلغي مرتكزه القانوني يقول الأسمر "هنا نتحدّث عن المسؤوليّة عن فعل الغير، بحيث يتمّ تحميل الدولة والمواطن مسؤوليّة إجراء لم يتخذه أيّ منهما، علمًا أنّ الدولة ممثّلة بالحكومة والمجلس النيابي لم تُستشر ولم تمنح موافقتها على جبهة الإسناد، ولم تكن ماليّة الدولة جاهزة لتحمّل النتائج. أمّا الشعب فلم يُسأل رأيه عن طريق استفتاء. بالتوازي الأموال في خزينة الدولة هي أموال عامة وملك الشعب اللبناني، متأتيّة من الضرائب والرسوم التي يدفعها المواطن اللبناني، ولا يمكن التصرّف بها. لذلك كله لا يجوز تحميل الدولة والشعب نتائج قرارات وأفعال الغير. من ناحية أخرى هناك واقع مالي، مفاده أنّ الدولة عجزت عن القيام بتأمين الخدمات وتصحيح الرواتب قبل الحرب، فكيف الحال بنفقات باهضة جرّاء موجات النزوح الكبيرة والتي تفوق قدرة الدولة؟".   ماذا عن أموال الاحتياطي هل يمكن استخدامها لتمويل نتائج الحرب؟
منذ بدء ولاية حاكم مصرف لبنان بالإنابة، اتخذ المركزي قرارًا بعدم تمويل الدولة، وتمكّن بفضل ذلك من زيادة موجوداته من العملات الأجنبيّة بما يقارب 2 مليار دولار. وقد سمح ذلك، معطوفًا على تقليص حجم الكتلة النقديّة بالليرة،بثبات سعر صرف الدولار الذي حافظ على مستواه ما دون التسعين ألف ليرة رغم الحرب. هذه الأموال التي كوّنها المركزي ليست ملكه، بل هي ما تبقّى من أموال المودعين، والمركزي ملزم بإعادتها لهم. وبالفعل بدأ مصرف لبنان باستخدامها في زيادة السحوبات ومضاعفة الدفعات الشهريّة وتوسعة التعاميم. كما أنّ احتياطي المركزي يشكّل ركيزة جوهرّية في استعادة أموال المودعين في أيّ خطّة للنهوض تتخذها الحكومة.   ماليّة الدولة منهكة ولا استدانة
قبل أن تستعر الحرب بدءًا من الثامن عشر من أيلول الماضي، وتنقلب إلى تصعيد عدواني، يطال بالدمار والقتل والتشريد ثلث مساحة لبنان، كانت الحكومة بوضع مالي لا تُحسد عليه، تحاصرها مطالب موظفي القطاع العام،لا سيّما العسكريين المتقاعدين، الذين لجأوا إلى الشارع مرارًا وقادوا تحرّكات احتجاجيّة. لم يكن أمام الحكومة الكثير من الخيارات لإعادة الاعتبار إلى رواتب العاملين في القطاع العام، بظل لاءات عديدة رُفعت في وجهها، من قبل مصرف لبنان وإصرار حاكمه بالإنابة الدكتور وسيم منصوري على عدم تمويل الدولة، تفاديًا لتكرار خطيئة سلفه، ومن قبل الجهات الدائنة التي لا زالت تنتظر جدولة ديونها منذ توقّف حكومة دياب عن الدفع في آذار 2020. أمام استحالة الاستدانة من الداخل والخارج، لم يعد أمام الحكومة من مصدر سوى إيراداتها الذاتيّة، ونظرا للايرادات المتواضعة عجزت الحكومة عن تلبية كل المطالب، رغم إقرارها بأحقّيتها، وأعطت ضمن امكاناتها. هذا الواقع المعقّد قبل عدوان أيلول، زاد حراجة مع اتساع موجات النزوح، وتخطّيها عتبة المليون و200 ألف نازح. وقد عملت الحكومة منذ اللحظة الأولى على مواجهة التحدّيات الكبيرة، وتمويل الإنفاق خصوصًا بشقّه الصحي لمعالجة جرحى العدوان، وتأمين مراكز لإيواء مئات الآف النازحين، كما عمل رئيسها ولا زال على قيادة جهود دبلوماسية جبّارة مع عواصم القرار لوقف العدوان من جهة، وتغطية نفقات العدوان من جهة ثانية، وقد أثمرت الجهود في تخصيص 800 مليون دولار في مؤتمر باريس، ينتظر لبنان ترجمتها العملانيّة.
 

مقالات مشابهة

  • "الكويت الدولي" يستعرض أهمية الكتاب في تعزيز ثقافة المجتمع
  • الإنفاق الحكومي على النازحين يفجّر جدلًا.. ما حقيقة استخدام أموال المودعين؟
  • خطة ترامب ضد المتحولين جنسيا ومجتمع «الميم».. صراع فرضه المجتمع الأمريكى على العالم
  • انطلاق معرض الكتاب القبطي بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية غدا
  • فيدان يكشف موقف روسيا من تطبيع بلاده مع الأسد ويحذر من التوسع الإسرائيلي
  • عن الدولة والنظم السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.. قراءة في كتاب
  • «الشارقة الرقمية» تهدي «قاموس المصطلحات التكنولوجية» لمعرض الكتاب
  • الدولة الغنمائية وكرٌ للفساد في العالم العربي.. قراءة في كتاب
  • اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين ينعيان الأديب رافع الساعدي
  • صحيفة عبرية: أمريكا تعد خططا بالشراكة مع إسرائيل لإسقاط النظام بإيران