"الحقيقة لا تنمو جيداً إلا على التربة المروية بمطر دمائنا الغزيرة، بينما تذهب دماؤهم الفاسدة سدى."
(مكسيم غوركي، رواية الأم)

لم يندمل جرحنا ولم ببرأ سقم أنفسنا من الأسى الذي خلفه موت محمد طه القدال حتى فجعنا بموت كمال الجزولي ومن قبله هاشم كرار. يظل النبل الإنساني والأصالة السودانية والوطنية هما العقد الناظم بين هؤلاء النفر الكرام وإن تمايزوا في العطاء وتباينوا في مضمار الوفاء.

وأنا استعرض سيرة هؤلاء الافذاذ أحس بحُزن شخصي على فقدهم وأتأمل حجم الخسارة التي مُنى بها الوطن لرحيلهم في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، فالوطن أحوج ما يكون للمفكرين والمبدعين خاصة في لحظات الضياع المعنوي والشتات الحسي. ذلك أنهم يعطون معنى للصمود ويشحذون همة الوطنيين للمثابرة كما يدعمون حجة المرافعة في وجه الطغيان.

عزاؤنا، أنهم وإن غيّبهم الموت، فستظل أصداء موسيقاهم تشنف أسماعنا عند ترداد النشيد الوطني. فها هو الشعب الفلسطيني البطل يستدعي أشعار درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وفكر إدوارد سعيد وعزمي بشارة، وروايات وأقاصيص غسان كنفاني ورضوى عاشور، وهكذا هو حال المقاوميين الوطنيين في كل العهود وكل الأقطار: إنهم لا ينامون في قبورهم وإنّما ترفرف أرواحهم في عليائها يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم "ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون". لقد وضعت حرب غزة اليسار العالمي والأوروبي خاصة في مأزق أخلاقي رهيب؛ إمّا مجاراة اليمين في صلفه وغلوائه التي تتطلب الوقوف مع إسرائيل دون تحفظ وبالتالي خسران اليسار الاتساق مع تاريخه ومبادئه أو اتخاذ موقف مبدئي من حرب الإبادة الحالية وخسران الانتخابات الأمريكية والأوروبية التي يلعب اللوبي الصهيوني فيها دوراً أساسياً وحاسماً. وهاهم اليهود يضعون البشرية في مفاصلة حرجة للمرة الثانية: إمّا خذلانهم والانتصار للقيم الإنسانية أو نصرتهم ووضع البشرية على حافة الانهيار المؤسسي والأخلاقي.

لقد ربطتني بثلاثتهم - كمال وهاشم والقدال - علاقة صداقة تعمّقت أوشاجها وقويت أواصرها بحكم القرب الروحي وإن تفاوتت مدتها وتباينت مواقفها. لقد صحبنى القدال إلى دار الرزيقات عام 2007 وهناك تغنى الناس بأشعاره في (مهرجان الضعين الثقافي)، استمتعوا برفقته في المنتديات كافة والأسواق، فتارة يلبي دعوة للشيوخ وتارة يصحب الشباب يستمع لرؤاهم ويأنس لمناشدتهم إياه كي يرسل أشعاره التي تدعو للمحبة والسلام. أمّا هاشم، فما زلت أفاخر بأنه "ود حجتي". فقد رأيت عند النفرة من عرفة - في إحدى السنين - رجلاً أشعث أغبر، فقلت في نفسي هذا لو أقسم على الله لأبره، لحقت به فإذا به هاشم كرار! رجعت إلى الدوحة وسألت عن سيرته التي ربما منحته القربى مع كونه نبيلاً وأميناً، فقال لي أحد ندمائه المقربين أنه كان باراً بوالدته. من كان باراً بوالدته حريُّ به أن يكون باراً بوطنة وندياً في معشره. ألا رحم الله هاشماً وأسكنه فسيح الجنات.

أما ثالث الثلاثة المتبتلين في محراب الوطن فهو كمال الجزولي والذي حرصت على التعرف عليه عند رجوعي من الولايات المتحدة عام 2005. بادرت بإهدائه كتاباً عن العولمة والإرهاب (Thinking Past Terror: Islamism and Critical Theory on the Left) لإحدى الكاتبات اليساريات الأمريكيات (Susan Buck-Morss )، إذ لفتني الشبه في الأسلوب في الكتابة بينها وبين المرحوم كمال. استأذنت عليه في منزله في الهجرة أول يوم فاستقبلني ببشاشة وبساطة جعلتني آلفه منذ اللحظة الأولى، ومن حينها كنت أتفقده وأتعهده بالزيارة في البيت أو المكتب أو السؤال عبر الوسائط كلما حضرت إلى الخرطوم. كان كثيراً ما يناصحني ويحثني على المثابرة والمواظبة في الكتابة. كانت أول وصاياه لي عندما توثقت صداقتنا - وقد لاحظ كثرة الهجوم عليّ من جهات مختلفة ولأسباب متباينة - هي الثبات على المبدأ وعدم التلجلج أو التأثر بالانتقاد الذي قد يوجهه بعض السودانيين جزافاً أو تعمّداً كي يحيد الكاتب عن موقفه فيكون حينها مدعاة للسخرية أو الشماتة. وقال لي بالنص "هم يكرهون الرجل القوي لكنهم يحترمونه". اكتشفت لاحقاً أنهم يكرهون الحجة القوية لأنها تكشف ضعفهم ويحترمونها لأنها الحيلة التي تجمع شملهم.

يجب أن أبين الفرق بين كمال وأبناء جيله، أمثال عبدالله على إبراهيم وحيدر إبراهيم، كمال مربٍ حصيف وأولئك معلمين جيدين. والفرق واضح. كمال يتعهد أصدقاءه بالنقد العلمي والموضوعي ويناقش أفكارهم ويرشد توجهاتهم حتى تتلائم مع مواهبهم ومقدراتهم. كمال لا يعمل بمفرده إذ النقابة هي ساحة تبتله، كمال لا يسعى للترويج لذاته – مقارنة بالكثيرين من أبناء جيله من النابهين – إنما ينقب عن الملكات في الجيل الذي يليه، إذ هو كثير البحث عن حملة الراية ولا يحفل بأبواق الدعاية، بل يحتقرهم. صحيح أنه معتد بنفسه وفيه حدة في الطبع ربما زادت مع السجون والأمراض والكرب الذي أصاب الوطن، لكنك متى ما تجاوزت هذه الهالة تعرفت على حالة أشبه بأحوال المتصوفة في الرقة والذوق والرهافة والدعابة والصرامة مع الأدب الجم.

هنا تستوقفني ظاهرة مهمة وهي أن كثير ممن ينتمون إلى الإسلام بعمقه الفلسفي والفكري، مثل اليساريين السودانيين، قد يهملون الشعائر التعبدية، وكثيراً ممن يتشدقون بالإسلام بمعناه العبادي يهملون المعاملات التي هي محور التوحيد ومناط التكليف الرسالي المحمّدي. (المعاملات لها مردود جماعي أما العبادات فمردودها فردي، الأولى لا تسقط الأخرى أمّا الأخرى فتظل ناقصة حال اكتفائها بذاتها). لن تكتب للسودانيين النهضة حتى يعالجوا هذا الفصام تربوياً وتعليمياً وإعلامياً. لقد عَنى اليسار بدور الدولة في تحقيق الاشتراكية التي هي أخت التكافل، كما عنى اليمين – الصوفي خاصة – بدور الفرد والجماعة في تحقيق التكافل. جاء اليمين الأيديولوجي متبجحاً ومتوشحاً بالهتاف الديني لكنه أهمل دور الدولة والمجتمع في تحقيق التكافل، بل غذّى روح الفردانية إذ إتبع النظام الرأسمالي دون أن يُعنى بنقده أو يحفل بتفكيك منظوماته التآمرية التي تتبع نجهاً قديماً في استرقاق الشعوب وتُمْعِن في استتباعها لحركة رأس المال العالمي، أو ما يسمى زوراً وبهتاناً العولمة.

لقد خسر العالم بموت اليسار منظومة قيمية إنسانية كانت تسعى لتحرير الشعوب من ربقة العبودية، ومن قبضة اليمين الذي كان حليفاً لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حتى أخر لحظة، وسيظل حليفاً للصهيونية حتى يلفظ آخر جندي إسرائيلي أنفاسه في فلسطين الحرة الأبية.

لقد ظل اليمين الإسلامي حتى زمنٍ قريب متحالفاً مع الامبريالية العالمية، ممّا ساعده على دحر اليسار سياسياً وعسكرياً – الذي لم يخلو من حماقات عجلت بوفاته – ومن ثم أعانه على وأد حركة التنوير في العالمين العربي والإفريقي. بالرغم عن ذلك فقد ظل اليسار مهيمناً على حركة الإبداع بكافة أشكاله فيما ظل اليمين مستعيناً بالغيبيات ومطمئناً لمسلماتها، وأحياناً ما يسعى لتقديم بعض النماذج الباهتة والتجارب الخجولة مثل فرقة نمارق في سودان الإنقاذ، التي سرعان ما خفض بريقها وانحسر، إذ لم تستطع أن تخاطب الوجدان الشعبي المفعم بأغاني وردي وأبو عركي البخيت ومصطفى سيد أحمد، إيقاعات عقد الجلاد، أشعار محجوب شريف وعالم عباس ومحمد حسن حميد، فكر محمد عبدالحي والنور عثمان أبّكر ومحمد أبو القاسم حاج حمد وعبدالسلام نورالدين، فنون الصلحي ومدائح البرعي (رضى)، إلى آخره من المبدعين الذين أثروا الوجدان السوداني وعمّقوا في أنفسنا حب الله، الفضيلة والوطن.

لقد تأثر اليسار السوداني بتقلبات الدهر وانحط حتى رأينا بعضاً من رموزه الذين وسِموا بأنهم "قادة المجتمع المدني السوداني" في أديس أبابا (أكتوبر 2023) متحالفين مع النيوليبرالية والصهيونية العالمية ومتخلين عن قيم الأولين في النزاهة والوطنية والعزم على مناهضة الامبرالية العالمية مهما كلف الامر، دعك عن السماح لها بالدخول والتمدد في ربوع البلاد بكل اريحية واطمئنان. جاءت (قحت) وحمدوك محمولتان إثر ثورة ديسمبر المجيدة على أكتاف الفقراء فإذا بهما يتحالفان مع الرأسمالية النهبوية ويطلان على الشعب بوصفة اقتصادية أقل ما يقال عنها أنها لم تراع الظرف السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي. لقد جاءت الحرب إذن نتيجة الاستهتار والاخفاق في إدارة الدولة ممّا حدى بالعسكريين لاستلام الحكم متعللين بعجز المدنيين - وقد كانت هذه حقيقة - إلا إنهم استخدموها ذريعة لتكريس سلطتهم والاستعانة بحلفائهم القدامى، مما ساعد في تأجيج الحرب وأدى إلى استعار أوارها. وها هي ذات المجموعة العاجزة تطل علينا من جديد دون وجل أو خجل يساعدهم في ذلك اليمين الطائفي المتهافت الذي لا يحمل فكراً أو وعياً، إنما حرصاً للحفاظ على منجزات تاريخية واهية ومكتسبات حزبية بالية.

كانت فكرة الكونفدرالية - كونفدرالية المجتمع المدني - فكرة رائدة قدمها المرحوم الأستاذ/ كمال الجزولي وأشرف على التخطيط لها المرحوم الأستاذ/ أمين مكي مدني لكنها نفذت بطريقة خاطئة جعلت الغلبة فيها للجمعيات المدينية الوسط خرطومية التي يعتمد أعضاؤها سبلاً غير ديمقراطية في إدارة شأنها الخاص كما تتبع حيلاً تعسفية في إدارة الشأن العام. فهل سيقبل الريف بعد انتفاضته الأخيرة (إنقلاب/تمرد) وصاية ذات المجموعة التي قادها حمدوك في الفترة الانتقالية ورجوعها خِلسة من النافذة بعد أن طردها "الجيل الراكب راس" عُنوة من الباب؟

دبّ خلافُ بين أفراد المجموعة المنتقاة بحذقة وحذر حول رئاسة حمدوك إذ رأى بعضهم أنه يمثل عبئاً ثقيلاً على (قحت) فيما نسوا أن الأخيرة تمثل عبئاً أثقل على السودان. كلاهما - كما اللجنة الأمنية - يجب أن تطوله المساءلة عقب الفراغ من هذه المرحلة. فهم مثلهم مثل "الفلول" قد وفروا الوقود المعنوي لحرب راح ضحيتها الفقراء من أبناء الريف السوداني، الريف الغربي خاصة. فيما يطمح أمراء العقيدة والحرب والمال للاستيلاء على ما بقي من ثروات وقد لا يكلفوا أنفسهم تشييد مجرد صرٍح يحمل أسماء هؤلاء الجنود المستنفرين من الجيش والدعم السريع كما تفعل الحكومات في الغرب. اليس هذا هو تاريخ الحروب في العالم؟

ختاماً، وإذ برع يسار الستينيات متأثراً بالظرف الإقليمي والعالمي، فقد تقهقر يسار الألفية متأثراً بالتقلبات السياسية والاقتصادية وانزوى مؤثراً السلامة، ومقدماً المنفعة الشخصية على المنفعة الجماعية. وإذ تأخر يمين الثمانينيات بعد أن قيد العقل بالوجدان (إلا من بعض النماذج مثل الترابي والمحبوب عبدالسلام والطيب زين العابدين)، فقد انعتق جيل الألفية، مثل القاسم الظافر، هشام أحمد شمس الدين والشاعر محمد عبد الباري، إذ ايقن أن النموذج الأمثل لم يتم إنجازه بعد وأن سماته تلك تصعد إلى السماء بشوائبها ولا تُجتذب إلى الأرض بنقائها إذ ليس بمقدورها تحمل كمالات النموذج الإلهي.

وإذا كانت الثقافة هي عماد النهضة في المجتمعات الانسانية فإن الانظمة الأيديولوجية قد عولت على الأدلجة كوسيلة لتنظيم المجتمعات في الشرق المنكوب. لقد مكثت الإنقاذ ثلاثون عاماً برعت فيها في خنق الفضاء العمومي حتى مات الابداع إذ هاجرت الذوات المبدعة ولجأت تلك القاصرة إلى تبني الفكر الأحادي مضحية بفرديتها وممنية نفسها بأنشودة الخلاص الأخروي. ما السبيل لاستنهاض همّة الوسط وقد هجره المثقفون من ذات اليمين وذات اليسار؟ هل لبقائهما أثر وما هي الوسيلة لإحداث تواصل حيوي بين المجموعتين لا سيما أن التجارب قد برهنت بأنّ المعارك الصفرية لا تعود على المجتمعات الانسانية بنتائج إيجابية سواء على المستوي السياسي أو ذاك الفكري؟

لقد تجاوزت الثورة الأطر التقليدية للتفكير ولزم علينا تجاوز هذه الثنائيات (يسار ويمين) والسعي لاستيعاب روح المبادرة الوثّابة التي تبديها الأجيال الصاعدة، تلك الماهرة التي دكّت حصون الطواغيت وكادت أن تجلي جيوشهم لولا تآمر القوى الإقليمية والدولية. يجب أن نُبْقِي على جذوة الثورة متقدة رغم الخيبات والاخفاقات فهناك جيل من الشباب برهن أنه قادرٌ على الصمود، فهؤلاء كما يقول المناضل الثوري برير إسماعيل (جعيبات) لا يقبلون الهزيمة باسم "الواقعية السياسية" ويرفضون وجود اللجنة الأمنية في المعادلة الحكمية القادمة. فمن كان مؤججاً للحرب لا يمكن أن يكون نبراساً للسلام والتنمية والاستقرار.

auwaab@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

هل من تأثير لطوفان الأقصى في تفسير صعود اليمين المتطرف بالانتخابات الأوروبية؟

نتائج الانتخابات الأوروبية التي تم الإعلان عنها مؤخرا خلفت وراءها عددا من الأسئلة، ودفعت صناع القرار السياسي الأوروبي إلى المسارعة إلى إنتاج خيارات الضرورة لمواجهة السيناريوهات الأكثر سوءا مما يرتبط بالانتخابات التشريعية والرئاسية في عدد من البلدان الأوروبية.

ينبغي أن نلاحظ أن انشغال السياسيين بترتيب أجوبة لمنع هذه السيناريوهات المقلقة حال دون فتح نقاش حقيقي حول أسباب صعود اليمين المتطرف ودلالاته واستشرافاته، بل جعل عملية الربط بين هذا الصعود وبين تغيرات السياق الدولي والإقليمي أمرا هامشيا بالقياس إلى أولوية إعداد خيارات مواجهة اليمين ومنعه من الوصول إلى السلطة.

بالنسبة للانتخابات الأوروبية والزخم الذي حققه اليمين المتطرف فيها، فيشكل حدثا كبيرا، يتطلب أن يوضع في مشرحة التحليل، وألا يتم التغطية عليه بأي حدث آخر، حتى ولو كان يندرج ضمن تقديم الجواب عن التهديد الذي يشكله صعود اليمين المتطرف في أوروبا.لنتأمل على سبيل المثال، كيف وقع الانزياح في اهتمامات الرأي العام الفرنسي بشكل كلي، من أولوية تحليل دلالات صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية إلى تسليط الضوء الكثيف على قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (حل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات تشريعية سابقة أوانها)، فوسائل الإعلام الفرنسية، بدون استثناء، حولت بوصلتها إلى تحليل خلفيات هذا  القرار الجريء، وما إذا كان الرئيس الفرنسي قد ركب مغامرة غير محسوبة، فأعطى بذلك هدية ثمينة ليمين مارين لوبين كي تستعجل الوصول إلى قصر الإليزيه بعد أن تهيمن على مقاعد الجمعية الوطنية، أم أن  قراره جاء في سياق حسابات دقيقة لتحديد المسؤوليات التاريخية للفرنسيين ولحزب ماكرون تحديدا أمام كارثة الصعود المرتقب لليمين المتطرف في الانتخابات المقبلة؟ في حين ظل سؤال تحليل الانتخابات الأوروبية والعوامل التي زكت هذا التوجه العام في أوربا مجرد هامش على متن تفسير خلفيات قرار الرئيس.

في الواقع، قد يكون مبررا لصناع القرار السياسي الاهتمام بمواجهة خطر يقدرون أنه يمس مصالحهم أو يمس مصالح الأمة، لكن بالنسبة للانتخابات الأوروبية والزخم الذي حققه اليمين المتطرف فيها، فيشكل حدثا كبيرا، يتطلب أن يوضع في مشرحة التحليل، وألا يتم التغطية عليه بأي حدث آخر، حتى ولو كان يندرج ضمن تقديم الجواب عن التهديد الذي يشكله صعود اليمين المتطرف في أوروبا.

صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. مسار مضطرد

من المهم أن نشير إلى أن سجل نتائج الانتخابات الأوروبية، ونتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في عدد من البلدان الأوروبية، تكرس واقع الاضطراد والتنامي بالنسبة إلى اليمين المتطرف، فلا مجال للحديث عن أي طفرة، أو تقدم عفوي غير مفهوم، بل اتجاه التصاعد والتنامي يسير بشكل مضطرد منذ عقدين من الزمن، والأمر لا يتعلق فقط ببلد دون آخر، بل يكاد يكون عاما، ويشمل إيطاليا وألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية.

فعلى سبيل المثال، نسوق بعض أرقام اليمين المتطرف الفرنسي الذي أحدث صعوده زلزالا سياسيا في فرنسا، فالتجمع الوطني الفرنسي (حزب مارين لوبين)، قد راكم على مستوى الانتخابات الأوروبية تقدما مضطردا، فبعد أن حصل سنة 2009 على أقل من 6.5 في المائة من الأصوات، تمكن من الحصول على 25 في المائة سنة 2014، ليحقق حسب النتائج الأولية للاستحقاقات الأوروبية لسنة 2024 على حوالي 32 في المائة. وحقق على مستوى الرئاسيات تقدما مماثلا، فباستثناء التراجع المتتالي في استحقاقات 2007 و2012، بواقع ناقص نقطتين في كل استحقاق قياسا إلى نتائج استحقاق 2002 التي حقق فيها 16.9 في المائة، فإنه استطاع أن يقلب المسار، ويحقق تقدما مضطردا، في الاستحقاقات التالية، فحقق سنة 2022 في الدور الأول من استحقاقات 2017 نسبة أصوات بلغت 21.3 في المائة، وأضاف حوالي نقطتين في استحقاقات 2022 بواقع 23.15 في المائة.

الواقع أنه ليست الأرقام وحدها ما يفسر وجود هذا الاتجاه المتنامي والمضطرد في نتائج اليمين المتطرف، بل قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه، يعتبر مؤشرا شاهدا عليه، فالرسالة الملتقطة منه وجود إرادة لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة في المركزين القويين في أوربا، أي فرنسا وألمانيا، وأن هناك وعيا مشتركا خاصة بين برلين وباريس أن تعميم حالة إيطاليا على أوروبا سيقود إلى الكارثة، خاصة بعد أن أظهرت النتائج التشريعية في السنة الماضية (2023) في هولندا تصدر حزب "الحرية" اليميني المتطرف النتائج بواقع 35 مقعدا من أصل 150.

سجل نتائج الانتخابات الأوروبية، ونتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في عدد من البلدان الأوروبية، تكرس واقع الاضطراد والتنامي بالنسبة إلى اليمين المتطرف، فلا مجال للحديث عن أي طفرة، أو تقدم عفوي غير مفهوم، بل اتجاه التصاعد والتنامي يسير بشكل مضطرد منذ عقدين من الزمن، والأمر لا يتعلق فقط ببلد دون آخر، بل يكاد يكون عاما، ويشمل إيطاليا وألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية.هذه الرسالة المهمة تعني وجود قلق أوربي من واقع تصاعد اليمين المتطرف، ومخاوف من أن يهدد المصالح الأوروبية الاستراتيجية، فهذا التصاعد المضطرد أصبح يمثل تهديدا لأن الأمر لم يعد يتعلق بمجرد أصوات مؤثرة في البرلمان الأوروبي، بل صار الأمر يتعلق بالمفوضية الأوروبية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ذات الصلاحية التقريرية، بل أكثر من ذلك، صار يتعلق بالاستحقاقات القادمة سواء التشريعية أو الرئاسية في كل بلدان أوروبا، والتي يمكن أن تزكي اكتساح اليمين المتطرف لهياكل السلطة.

في المحصلة، سواء تعلق الأمر بالنتائج التي حصلها اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية على مدى عقدين، أو تعلق الأمر بنوع الأجوبة التي ينتجها الساسة الأوروبيون لمنع سيناريو وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، فإن الواقع الذي لا يرتفع أن هذا الصعود هو اتجاه تاريخي مضطرد، وليس مجرد استجابة ظرفية لمشكلات مخصوصة أو سياق سياسي أو دولي مخصوص.

صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. هل له علاقة بطوفان الأقصى؟

المفارقة، أن هناك من يحاول أن يقرأ هذه النتائج باستحضار طوفان الأقصى، ونوع القراءة التي يقدمها اليمين المتطرف لحقيقة الحرب على غزة، وكونها تمثل استجابة لتحد وجودي تعانيه الدولة العبرية، وأن الأمر يتطلب تعبئة يمينية شاملة لمواجهة حالة الحصار الدولي الذي تعانيه الدولة العبرية.

نظريا، هذا التفسير ممكن، فأغلب تيارات اليمين المتطرف تدعم إسرائيل، وتعتبر أن مشكلة أمنها لن تحل أبدا إلا باستئصال فصائل المقاومة المسلحة، وبشكل خاص حماس، التي تعتبر في الأدبيات اليمينية المتطرفة "تطرفا" أو "إرهابا إسلاميا"، ويمكن أن يكون لهذا لتفسير متعلق من الواقع، إن تم استحضار مواقف بعض الدول الأوربية، التي ساهمت في عزل الكيان الصهيوني دوليا عبر إدانته حقوقيا وأخلاقيا، فاليمين المتطرف في هذه الدول يرى في هذه المواقف تخليا واضحا عن الدولة العبرية، ومساهمة في تعظيم مشكلتها الأمنية، بل يرى أن هذه المواقف أضحت تشكل خطرا وجوديا إلى إسرائيل.

لكن مهما يكن الأمر، فهذه التفسيرات تبقى نسبية، إذا ما استحضرنا بعض الأرقام الدالة المتعلقة بتحليل بروفايلات المرشحين للبرلمان الأوربي الذين حصلوا على مقاعد، فحسب إحدى الاستشرافات التحليلية الفلسطينية، فمنذ السابع من أكتوبر، لم يتجاوز أعضاء البرلمان الأوروبي الذين قاوموا البروباغندا الأوربية الداعمة لإسرائيل 21 من أصل 703 برلمانيا، في حين تظهر النتائج الأولية للاستحقاقات الأوربية صعود عدد مهم من الذين يفترض فيهم مناصرة القضية الفلسطينية، إذ يمكن أن نعدد -اعتمادا على معيار الذين نجحوا ضمن الأحزاب التي دعمت القضية الفلسطينية ضد العدوان الصهيوني -أكثر من 70 برلمانيا، أكثرهم ينتمون إلى تكتل رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز.

ثمة مؤشر آخر، مهم، يقدم الحجة المعاكسة لهذا التفسير، فاليمين المتطرف الإسباني، أقصد حزب فوكس، حصل على ست مقاعد فقط، ولم يتراجع الحزب الاشتراكي إلا بمقعد واحد (من 21 إلى 20)، وذلك ليس بسبب قوة اليمين المتطرف، ولكن بسبب الحملة الممنهجة التي قادها الحزب الشعبي باتهام زوجة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز  بالفساد فضلا عن إقرار بيدرو سانشيز بقانون العفو عن الزعماء المؤيدين لاستقلال كاطلونيا، ولم يكن لمساندة تكتل رئيس الوزراء لقيام الدولة الفلسطينية أي أثر في تفسير الفارق بينه وبين الحزب الشعبي (حصل على 22 مقعدا بواقع مقعد إضافي عن الانتخابات السابقة).

الأرقام المرتبطة بالأحزاب اليمينية في إيطاليا أو النمسا أو هولاندا، يصعب تفسيرها بالارتباط بطوفان الأقصى، بل تعود كلها إلى الزخم المضطرد الذي عرفه اليمين المتطرف في هذه الدول وذلك منذ أكثر من عقد من الزمن.

سياقات إقليمية ودولية مغذية لاتجاه الصعود اليميني المتطرف

كل المؤشرات السابقة والحجج المعكوسة لا تعني أكثر من صعوبة ربط هذا الصعود بطوفان الأقصى، لكنها في الجوهر لا تعني عدم وجود تأثيرات مغذية، مثلها في ذلك مثل بقية التأثيرات الأخرى المرتبطة بالسياق الإقليمي والدولي، وأيضا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي ترتب في عدد من الدول الأوربية، منذ جائحة كورونا مرورا بالحرب الروسية إلى أوكرانيا ثم طوفان الأقصى وتداعياته الاقتصادية.

العامل الأكثر تفسيرا لحالة الصعود المضطرد لليمين المتطرف يعود إلى تنامي اللايقين في القارة العجوز، وذلك منذ جائحة كورونا، وما أعقبها من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتوالي الأزمات الطاقية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن ذلك. فاليمين المتطرف، دائما ما يستثمر في الأزمة، وهو اليوم بجانب استثماره في النقمة الاجتماعية من ارتفاع نسب التضخم، وارتفاع تكاليف المعيشة، وصعود أسعار الطاقة، وارتفاع أرقام البطالة، فضلا عن بداية تنصل الدولة من بعض الخدمات الاجتماعية أو تقليص وعائها، يقود بعض مكوناته حملة ممنهجة ضد السياسة الخارجية الأوروبية اتجاه الحرب الروسية الأوكرانية ويتهمها بتقديم أوربا قربانا لتحقيق المصالح الأمريكية.

العامل الأكثر تفسيرا لحالة الصعود المضطرد لليمين المتطرف يعود إلى تنامي اللايقين في القارة العجوز، وذلك منذ جائحة كورونا، وما أعقبها من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتوالي الأزمات الطاقية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن ذلك.صحيح أن داخل اليمين المتطرف في أوروبا اليوم فريقان، الأول منحاز لروسيا يرفض أن تكون أوروبا ملحقة أمريكية، والآخر ينبذها ويعتبر أن أوكرانيا مجرد خطوة أولى في انتظار التهاب الدب الروسي لكل أوربا. لكن مهما يكن هذا الاختلاف، فقد لعبت الحرب الروسية دورا مزدوجا في خدمة مواقع اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، فالذين يرفعون شعار الأمن الأوروبي في وجه التغول الروسي، هم أنفسهم الذين ينتقدون السياسة الاقتصادية الأوروبية التي ساهمت في ارتفاع منسوب النقمة الاجتماعية من الأوضاع.

في الواقع، الخيط الذي يمكن نسجه بين صعود اليمين المتطرف، وبين تحولات السياق الدولي وأجواء التوتر والحروب التي تميزه، أن اليمين المتطرف توفرت له كل الظروف للفوز بالانتخابات: منها أولا، واقع النقمة الاجتماعية من تردي الأوضاع الاقتصادية وتداعياتها على معاش الناس، وهو الواقع الذي أضفى قدرا من "المشروعية" على خطابات اليمين المتطرف، وبرر عودة مفهوم "المواطن الأصلي" و"المهاجر المقيم"، ومفهوم "الجنسية"، ومفهوم "الأمن"، ومفهوم "الأفضلية الوطنية"، فواقع الندرة الاقتصادية، يثير مشكلة الفرص الاقتصادية، ويعمق التباينات بين مكونات المجتمع، ويعطي فرصة لليمين المتطرف لإحياء مفاهيمه وإضفاء الشرعية عليها. ومنها ثانيا، تأثيرات الحروب والتوترات الدولية والإقليمية على الاقتصادات الأوروبية، وكيف تدفع اليمين المتطرف إلى إضفاء المشروعية على مفاهيم "الحدود" وتطبيق "النظم الحمائية" في العلاقات التجارية الخارجية. ومنها ثالثا، أن اليمين المتطرف أمام واقع فشل الحكومات الأوروبية في إنتاج أجوبة في وجه التحديات الداخلية والخارجية، أصبح يقدم نفسه بديلا عن الأحزاب الأخرى التي كانت دائما ما تتهمه بضعف الخبرة وعدم امتلاك أي برنامج اقتصادي واجتماعي. ومنها أيضا، أن عددا من أحزاب اليمين المتطرف، أضحت تنظر إلى السياسات الأوربية باعتبارها ملحقة من ملحقات الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه آن الأوان لإعادة النظر في الحرب الروسية الأوكرانية والمساهمة في التوسط للتوصل لحل سلمي، بدل أن تكون أوربا قربانا يقدم من أجل خدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية.

وفي الأخير، لا ينبغي أن نغفل دور اللوبيات المالية والاقتصادية المقربة من اللوبي الصهيوني التي أضحت ترى أن أحزاب اليمين المتطرف هو ملاذها الأخير، بعد أن قامت عدد من الأحزاب الأوروبية بدور مركزي في عزل الدولة العبرية وإدانتها أخلاقيا، بل قامت بالضغط من أجل التسريع بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.

في المحصلة، الأقرب إلى التقدير، أن نميز بين العوامل المفسرة التي ترتبط بإحياء إشكالات الهوية والجنسية والوطن والفرص الاقتصادية وبين العوامل المغذية، التي تشكل فيها التوترات الإقليمية والدولية محطات مناسبة لإضفاء الشرعية على جملة من الخطابات التي كانت تعد في الأمس القريب خطابات عنصرية أو خطابات كراهية، وصارت اليوم، تحظى بقدر من الاحترام من مكونات عريضة داخل المجتمع الأوروبي.

مقالات مشابهة

  • فرنسا.. الاستطلاعات تظهر تقلص الفارق بين «اليمين» و«اليسار»
  • هل من تأثير لطوفان الأقصى في تفسير صعود اليمين المتطرف بالانتخابات الأوروبية؟
  • في اليسار المتطرف.. رؤية من الداخل
  • بعد فوز العمال.. لماذا توجهت بريطانيا نحو اليسار على العكس من أوروبا؟
  • بمباركة القصر الملكي..بريطانيا تخالف أوروبا وتنعطف إلى اليسار
  • اليمين المتطرف وبالون النجاة
  • غموض وتوتر قبل 3 ايام من الدورة الثانية للانتخابات التشريعية الحاسمة في فرنسا
  • اعتداء على المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية خلال حملة انتخابية
  • نقابة في التكوين المهني تقرر تعليق الحوار مع الإدارة
  • زيدان والذيول والكونغرس الأمريكي