"الحقيقة لا تنمو جيداً إلا على التربة المروية بمطر دمائنا الغزيرة، بينما تذهب دماؤهم الفاسدة سدى."
(مكسيم غوركي، رواية الأم)

لم يندمل جرحنا ولم ببرأ سقم أنفسنا من الأسى الذي خلفه موت محمد طه القدال حتى فجعنا بموت كمال الجزولي ومن قبله هاشم كرار. يظل النبل الإنساني والأصالة السودانية والوطنية هما العقد الناظم بين هؤلاء النفر الكرام وإن تمايزوا في العطاء وتباينوا في مضمار الوفاء.

وأنا استعرض سيرة هؤلاء الافذاذ أحس بحُزن شخصي على فقدهم وأتأمل حجم الخسارة التي مُنى بها الوطن لرحيلهم في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، فالوطن أحوج ما يكون للمفكرين والمبدعين خاصة في لحظات الضياع المعنوي والشتات الحسي. ذلك أنهم يعطون معنى للصمود ويشحذون همة الوطنيين للمثابرة كما يدعمون حجة المرافعة في وجه الطغيان.

عزاؤنا، أنهم وإن غيّبهم الموت، فستظل أصداء موسيقاهم تشنف أسماعنا عند ترداد النشيد الوطني. فها هو الشعب الفلسطيني البطل يستدعي أشعار درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وفكر إدوارد سعيد وعزمي بشارة، وروايات وأقاصيص غسان كنفاني ورضوى عاشور، وهكذا هو حال المقاوميين الوطنيين في كل العهود وكل الأقطار: إنهم لا ينامون في قبورهم وإنّما ترفرف أرواحهم في عليائها يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم "ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون". لقد وضعت حرب غزة اليسار العالمي والأوروبي خاصة في مأزق أخلاقي رهيب؛ إمّا مجاراة اليمين في صلفه وغلوائه التي تتطلب الوقوف مع إسرائيل دون تحفظ وبالتالي خسران اليسار الاتساق مع تاريخه ومبادئه أو اتخاذ موقف مبدئي من حرب الإبادة الحالية وخسران الانتخابات الأمريكية والأوروبية التي يلعب اللوبي الصهيوني فيها دوراً أساسياً وحاسماً. وهاهم اليهود يضعون البشرية في مفاصلة حرجة للمرة الثانية: إمّا خذلانهم والانتصار للقيم الإنسانية أو نصرتهم ووضع البشرية على حافة الانهيار المؤسسي والأخلاقي.

لقد ربطتني بثلاثتهم - كمال وهاشم والقدال - علاقة صداقة تعمّقت أوشاجها وقويت أواصرها بحكم القرب الروحي وإن تفاوتت مدتها وتباينت مواقفها. لقد صحبنى القدال إلى دار الرزيقات عام 2007 وهناك تغنى الناس بأشعاره في (مهرجان الضعين الثقافي)، استمتعوا برفقته في المنتديات كافة والأسواق، فتارة يلبي دعوة للشيوخ وتارة يصحب الشباب يستمع لرؤاهم ويأنس لمناشدتهم إياه كي يرسل أشعاره التي تدعو للمحبة والسلام. أمّا هاشم، فما زلت أفاخر بأنه "ود حجتي". فقد رأيت عند النفرة من عرفة - في إحدى السنين - رجلاً أشعث أغبر، فقلت في نفسي هذا لو أقسم على الله لأبره، لحقت به فإذا به هاشم كرار! رجعت إلى الدوحة وسألت عن سيرته التي ربما منحته القربى مع كونه نبيلاً وأميناً، فقال لي أحد ندمائه المقربين أنه كان باراً بوالدته. من كان باراً بوالدته حريُّ به أن يكون باراً بوطنة وندياً في معشره. ألا رحم الله هاشماً وأسكنه فسيح الجنات.

أما ثالث الثلاثة المتبتلين في محراب الوطن فهو كمال الجزولي والذي حرصت على التعرف عليه عند رجوعي من الولايات المتحدة عام 2005. بادرت بإهدائه كتاباً عن العولمة والإرهاب (Thinking Past Terror: Islamism and Critical Theory on the Left) لإحدى الكاتبات اليساريات الأمريكيات (Susan Buck-Morss )، إذ لفتني الشبه في الأسلوب في الكتابة بينها وبين المرحوم كمال. استأذنت عليه في منزله في الهجرة أول يوم فاستقبلني ببشاشة وبساطة جعلتني آلفه منذ اللحظة الأولى، ومن حينها كنت أتفقده وأتعهده بالزيارة في البيت أو المكتب أو السؤال عبر الوسائط كلما حضرت إلى الخرطوم. كان كثيراً ما يناصحني ويحثني على المثابرة والمواظبة في الكتابة. كانت أول وصاياه لي عندما توثقت صداقتنا - وقد لاحظ كثرة الهجوم عليّ من جهات مختلفة ولأسباب متباينة - هي الثبات على المبدأ وعدم التلجلج أو التأثر بالانتقاد الذي قد يوجهه بعض السودانيين جزافاً أو تعمّداً كي يحيد الكاتب عن موقفه فيكون حينها مدعاة للسخرية أو الشماتة. وقال لي بالنص "هم يكرهون الرجل القوي لكنهم يحترمونه". اكتشفت لاحقاً أنهم يكرهون الحجة القوية لأنها تكشف ضعفهم ويحترمونها لأنها الحيلة التي تجمع شملهم.

يجب أن أبين الفرق بين كمال وأبناء جيله، أمثال عبدالله على إبراهيم وحيدر إبراهيم، كمال مربٍ حصيف وأولئك معلمين جيدين. والفرق واضح. كمال يتعهد أصدقاءه بالنقد العلمي والموضوعي ويناقش أفكارهم ويرشد توجهاتهم حتى تتلائم مع مواهبهم ومقدراتهم. كمال لا يعمل بمفرده إذ النقابة هي ساحة تبتله، كمال لا يسعى للترويج لذاته – مقارنة بالكثيرين من أبناء جيله من النابهين – إنما ينقب عن الملكات في الجيل الذي يليه، إذ هو كثير البحث عن حملة الراية ولا يحفل بأبواق الدعاية، بل يحتقرهم. صحيح أنه معتد بنفسه وفيه حدة في الطبع ربما زادت مع السجون والأمراض والكرب الذي أصاب الوطن، لكنك متى ما تجاوزت هذه الهالة تعرفت على حالة أشبه بأحوال المتصوفة في الرقة والذوق والرهافة والدعابة والصرامة مع الأدب الجم.

هنا تستوقفني ظاهرة مهمة وهي أن كثير ممن ينتمون إلى الإسلام بعمقه الفلسفي والفكري، مثل اليساريين السودانيين، قد يهملون الشعائر التعبدية، وكثيراً ممن يتشدقون بالإسلام بمعناه العبادي يهملون المعاملات التي هي محور التوحيد ومناط التكليف الرسالي المحمّدي. (المعاملات لها مردود جماعي أما العبادات فمردودها فردي، الأولى لا تسقط الأخرى أمّا الأخرى فتظل ناقصة حال اكتفائها بذاتها). لن تكتب للسودانيين النهضة حتى يعالجوا هذا الفصام تربوياً وتعليمياً وإعلامياً. لقد عَنى اليسار بدور الدولة في تحقيق الاشتراكية التي هي أخت التكافل، كما عنى اليمين – الصوفي خاصة – بدور الفرد والجماعة في تحقيق التكافل. جاء اليمين الأيديولوجي متبجحاً ومتوشحاً بالهتاف الديني لكنه أهمل دور الدولة والمجتمع في تحقيق التكافل، بل غذّى روح الفردانية إذ إتبع النظام الرأسمالي دون أن يُعنى بنقده أو يحفل بتفكيك منظوماته التآمرية التي تتبع نجهاً قديماً في استرقاق الشعوب وتُمْعِن في استتباعها لحركة رأس المال العالمي، أو ما يسمى زوراً وبهتاناً العولمة.

لقد خسر العالم بموت اليسار منظومة قيمية إنسانية كانت تسعى لتحرير الشعوب من ربقة العبودية، ومن قبضة اليمين الذي كان حليفاً لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حتى أخر لحظة، وسيظل حليفاً للصهيونية حتى يلفظ آخر جندي إسرائيلي أنفاسه في فلسطين الحرة الأبية.

لقد ظل اليمين الإسلامي حتى زمنٍ قريب متحالفاً مع الامبريالية العالمية، ممّا ساعده على دحر اليسار سياسياً وعسكرياً – الذي لم يخلو من حماقات عجلت بوفاته – ومن ثم أعانه على وأد حركة التنوير في العالمين العربي والإفريقي. بالرغم عن ذلك فقد ظل اليسار مهيمناً على حركة الإبداع بكافة أشكاله فيما ظل اليمين مستعيناً بالغيبيات ومطمئناً لمسلماتها، وأحياناً ما يسعى لتقديم بعض النماذج الباهتة والتجارب الخجولة مثل فرقة نمارق في سودان الإنقاذ، التي سرعان ما خفض بريقها وانحسر، إذ لم تستطع أن تخاطب الوجدان الشعبي المفعم بأغاني وردي وأبو عركي البخيت ومصطفى سيد أحمد، إيقاعات عقد الجلاد، أشعار محجوب شريف وعالم عباس ومحمد حسن حميد، فكر محمد عبدالحي والنور عثمان أبّكر ومحمد أبو القاسم حاج حمد وعبدالسلام نورالدين، فنون الصلحي ومدائح البرعي (رضى)، إلى آخره من المبدعين الذين أثروا الوجدان السوداني وعمّقوا في أنفسنا حب الله، الفضيلة والوطن.

لقد تأثر اليسار السوداني بتقلبات الدهر وانحط حتى رأينا بعضاً من رموزه الذين وسِموا بأنهم "قادة المجتمع المدني السوداني" في أديس أبابا (أكتوبر 2023) متحالفين مع النيوليبرالية والصهيونية العالمية ومتخلين عن قيم الأولين في النزاهة والوطنية والعزم على مناهضة الامبرالية العالمية مهما كلف الامر، دعك عن السماح لها بالدخول والتمدد في ربوع البلاد بكل اريحية واطمئنان. جاءت (قحت) وحمدوك محمولتان إثر ثورة ديسمبر المجيدة على أكتاف الفقراء فإذا بهما يتحالفان مع الرأسمالية النهبوية ويطلان على الشعب بوصفة اقتصادية أقل ما يقال عنها أنها لم تراع الظرف السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي. لقد جاءت الحرب إذن نتيجة الاستهتار والاخفاق في إدارة الدولة ممّا حدى بالعسكريين لاستلام الحكم متعللين بعجز المدنيين - وقد كانت هذه حقيقة - إلا إنهم استخدموها ذريعة لتكريس سلطتهم والاستعانة بحلفائهم القدامى، مما ساعد في تأجيج الحرب وأدى إلى استعار أوارها. وها هي ذات المجموعة العاجزة تطل علينا من جديد دون وجل أو خجل يساعدهم في ذلك اليمين الطائفي المتهافت الذي لا يحمل فكراً أو وعياً، إنما حرصاً للحفاظ على منجزات تاريخية واهية ومكتسبات حزبية بالية.

كانت فكرة الكونفدرالية - كونفدرالية المجتمع المدني - فكرة رائدة قدمها المرحوم الأستاذ/ كمال الجزولي وأشرف على التخطيط لها المرحوم الأستاذ/ أمين مكي مدني لكنها نفذت بطريقة خاطئة جعلت الغلبة فيها للجمعيات المدينية الوسط خرطومية التي يعتمد أعضاؤها سبلاً غير ديمقراطية في إدارة شأنها الخاص كما تتبع حيلاً تعسفية في إدارة الشأن العام. فهل سيقبل الريف بعد انتفاضته الأخيرة (إنقلاب/تمرد) وصاية ذات المجموعة التي قادها حمدوك في الفترة الانتقالية ورجوعها خِلسة من النافذة بعد أن طردها "الجيل الراكب راس" عُنوة من الباب؟

دبّ خلافُ بين أفراد المجموعة المنتقاة بحذقة وحذر حول رئاسة حمدوك إذ رأى بعضهم أنه يمثل عبئاً ثقيلاً على (قحت) فيما نسوا أن الأخيرة تمثل عبئاً أثقل على السودان. كلاهما - كما اللجنة الأمنية - يجب أن تطوله المساءلة عقب الفراغ من هذه المرحلة. فهم مثلهم مثل "الفلول" قد وفروا الوقود المعنوي لحرب راح ضحيتها الفقراء من أبناء الريف السوداني، الريف الغربي خاصة. فيما يطمح أمراء العقيدة والحرب والمال للاستيلاء على ما بقي من ثروات وقد لا يكلفوا أنفسهم تشييد مجرد صرٍح يحمل أسماء هؤلاء الجنود المستنفرين من الجيش والدعم السريع كما تفعل الحكومات في الغرب. اليس هذا هو تاريخ الحروب في العالم؟

ختاماً، وإذ برع يسار الستينيات متأثراً بالظرف الإقليمي والعالمي، فقد تقهقر يسار الألفية متأثراً بالتقلبات السياسية والاقتصادية وانزوى مؤثراً السلامة، ومقدماً المنفعة الشخصية على المنفعة الجماعية. وإذ تأخر يمين الثمانينيات بعد أن قيد العقل بالوجدان (إلا من بعض النماذج مثل الترابي والمحبوب عبدالسلام والطيب زين العابدين)، فقد انعتق جيل الألفية، مثل القاسم الظافر، هشام أحمد شمس الدين والشاعر محمد عبد الباري، إذ ايقن أن النموذج الأمثل لم يتم إنجازه بعد وأن سماته تلك تصعد إلى السماء بشوائبها ولا تُجتذب إلى الأرض بنقائها إذ ليس بمقدورها تحمل كمالات النموذج الإلهي.

وإذا كانت الثقافة هي عماد النهضة في المجتمعات الانسانية فإن الانظمة الأيديولوجية قد عولت على الأدلجة كوسيلة لتنظيم المجتمعات في الشرق المنكوب. لقد مكثت الإنقاذ ثلاثون عاماً برعت فيها في خنق الفضاء العمومي حتى مات الابداع إذ هاجرت الذوات المبدعة ولجأت تلك القاصرة إلى تبني الفكر الأحادي مضحية بفرديتها وممنية نفسها بأنشودة الخلاص الأخروي. ما السبيل لاستنهاض همّة الوسط وقد هجره المثقفون من ذات اليمين وذات اليسار؟ هل لبقائهما أثر وما هي الوسيلة لإحداث تواصل حيوي بين المجموعتين لا سيما أن التجارب قد برهنت بأنّ المعارك الصفرية لا تعود على المجتمعات الانسانية بنتائج إيجابية سواء على المستوي السياسي أو ذاك الفكري؟

لقد تجاوزت الثورة الأطر التقليدية للتفكير ولزم علينا تجاوز هذه الثنائيات (يسار ويمين) والسعي لاستيعاب روح المبادرة الوثّابة التي تبديها الأجيال الصاعدة، تلك الماهرة التي دكّت حصون الطواغيت وكادت أن تجلي جيوشهم لولا تآمر القوى الإقليمية والدولية. يجب أن نُبْقِي على جذوة الثورة متقدة رغم الخيبات والاخفاقات فهناك جيل من الشباب برهن أنه قادرٌ على الصمود، فهؤلاء كما يقول المناضل الثوري برير إسماعيل (جعيبات) لا يقبلون الهزيمة باسم "الواقعية السياسية" ويرفضون وجود اللجنة الأمنية في المعادلة الحكمية القادمة. فمن كان مؤججاً للحرب لا يمكن أن يكون نبراساً للسلام والتنمية والاستقرار.

auwaab@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

الشيخ كمال الخطيب … لا لن يستمر التيه فبالإسلام قد وضح المسار

لا لن يستمر التيه فبالإسلام قد وضح المسار

#الشيخ_كمال_الخطيب


✍️إن ما هو أخطر من المرض نفسه هي تلك المكابرة والمعاندة ورفض المريض الإقرار بمرضه، لأن هذا سيكون سببًا في انتشار المرض وتفشّيه وبالتالي صعوبة علاجه، والعكس هو الصحيح، فإن من أهم أسباب شفاء المريض بإذن الله تعالى، هو إقراره واعترافه بمرضه وعدم المكابرة، لأن هذا الاعتراف سيجعله يذهب إلى الطبيب وسيسهّل على الطبيب وصف الجرعات الدوائية المناسبة له حيث سيلتزم بأخذها في وقتها.
✍️ أما إذا لم يقرّ المريض بمرضه فإنه لن يذهب إلى الطبيب، وإذا ذهب تحت ضغط وإلحاح الأهل، فإنه سيتهرب من أخذ العلاجات ولو كانت من أثمن أنواعها ومن أشهر وأجود الماركات والمختبرات العالمية، وهذا معناه تفشّي المرض وزيادة ومضاعفة آلامه وخطورته ولعلّه يقود إلى الموت.
✍️ومثل الأفراد فإنها الأمم والشعوب المكلومة والمنكوبة فإنه لن يغيّر من حالها، ولن يشفي جراحها، ويخلّصها من نكباتها، ويحررها من ذلها وهوانها، إلا أن تعترف بالواقع المرّ والمؤلم الذي هي عليه، وأن الحال الذي تعيشه ليس هو ما كانت عليه سابقًا، حيث وضعها الطبيعي هو القوة والعزّة والمنعة والرفعة، وأن الاعتراف والإقرار بتغيير الحال سيجعلها تبحث عن الأسباب وتبحث عن العلاج المناسب الذي يشفيها ويداوي جرحها ويخلّصها مما هي فيه.
✍️وإن أمتنا العربية والإسلامية ليست بدعًا من الأمم، ولا أن هذه السنّة الكونية لن تصيبها، ولا أن الأمراض لن تتفشى فيها. لقد أصابها كل هذا وأكثر منه وقد أثخنتها الجراح بفعل سهام طعنها بها بعض أبنائها قبل أن يطعنها أعداؤها. إنهم الأبناء الذين ارتموا في حضن الأعداء، ورضعوا من الحليب الفاسد والمغشوش الذي أفسد عليهم دينهم وأخلاقهم. هؤلاء بعد أن أُوصِلوا إلى مواقع القيادة، فقد أصبحت وظيفتهم المزيد من الإثخان والمزيد من الطعن في جسد الأمة عبر سعيهم من خلال المقدّرات المالية والإعلامية والعسكرية التي بين أيديهم، وترسيخ أن ما عليه الأمة الآن هو خير بل هو الخير كله، وأن هذا هو الشفاء والدواء لما كانت عليه في تاريخها وماضيها الذي يعتبرونه تاريخًا غير مشرف ويجب أن يتخلّصوا وينسلخوا منه. إن هؤلاء قد أصبحوا أداة لجعل شعوبهم مختبرًا يجري عليه وفيه الأعداء نظرياتهم السياسية والأخلاقية الفاسدة.
✍️ تقول الأخت الفاضلة بنت الشام يمان السباعي في كتابها الرائع -الراقصون على جراحنا-: “إن الأمم تداوي جراحها بينما نحن نمسك المُدى -أي السكاكين- لنوسع الجرح ونجعله ينزف وينزف حتى يغرقنا بدماء العار. إن جراحنا تنوّعت وتعدّدت ومنها ما تعفّن، إنها جراح سياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية وأدبية، ورغم هذه الجراح، فما يزال من شبابنا من هم صور منسوخة عن أحد المائعين المنفلتين العابرين إلينا عبر الأثير، لا يعرفون إلا الرقص والغناء ولا يجيدون إلا لغة الحبّ والغرام، وكلهم يحملون سلاحًا واحدًا إنه المرآة والمشط”، ولعلّ في أمثال هؤلاء يصدق قول الشاعر:
بكى الخنفوس لما جنّدوه وساقوه إلى ساح الجهاد
وأضحى يلطم الخدّين حزنًا كأرملة أقامت في الحداد
أيذهب للوغى من كان خنثى وساحته المقاهي والنوادي
إذا دقّت طبول المجد يومًا ولبينا نداء للمنادي
فأعط الخنفس المخبول مشطًا ومرآة فذاك من العتاد
✍️مع الأسف لم يعد أمثال هؤلاء يصلون إلى مجتمعاتنا عبر الأثير على الشاشات فقط، وإنما يُستقبلون في دولنا العربية والإسلامية استقبال الأبطال والفاتحين. إن أمثال هؤلاء من المغنين والراقصين المخنّثين والمصارعين وعارضي الأزياء والممثلين، أصبحوا ترسل إليهم الطائرات الخاصة ويعطون بل تُغدق عليهم الأموال الطائلة ليقيموا الحفلات قريبًا من مكة المكرمة والمدينة المنورة حيث يراد لهم أن يكونوا هم القدوات والنماذج بدل أعظم القدوات والرجال محمد ﷺ ثم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وسعد والمثنى وطارق وصلاح الدين، بل بدل سيد السادات وقدوة القدوات محمد ﷺ.
????جرعات من بلسم الإسلام
✍️إن الواقع وإن العقل وإن المنطق وإن التاريخ، ليؤكد على أن أمتنا ومنذ عقود كثيرة فإنها تعاني من ظاهرة مرضية خطيرة، وإن ما هي عليه الآن من ذلّ وهوان وفرقة وتسلّط أعداء هو من آثار ومظاهر المرض، وأنها أحوج ما تكون لجرعات دوائية قد تداوي مرضها وتداوي جرحها. إنها أحوج ما تكون إلى جرعات كالتي أخذتها يومًا، إنها جرعات من بلسم الإسلام والقرآن ليهديها من ضلالة، ويعلّمها من جهالة، ويرفعها من سفالة، ويعزّها من نذالة، ويحرّرها من عمالة، ويخلّصها من حثالة، ولتعود تتقدم قافلة الإنسانية كما كانت وترعى الأمم والبشر وليس الشاة والبقر.
وما أصدق ما قاله الشاعر في بيان المرض الذي أصاب أمتنا والدواء الذي يُذهب عنها مرضها:
الله للدين كم ظلمًا أهين وكم ظنّوه نقصًا وفي التفكير نقصان
سل صفحة الأمس عمّن أيدوه أما كانت لهم في نواحي الأرض تيجان
دين الحضارة والأخلاق أسعدهم فمذ أهانوه قد ذلّوا وقد هانوا
عدل من الله تأييدًا لسنته حظّ المقصّر إقصاء وحرمان
يا قوم لوذوا بحبل الله واعتصموا إن الدواء لداء العُرب قرآن
✍️وحتى لا يستمر الهوان، وحتى لا يتفشى المرض، وحتى يتوقف النزيف، فلا بد من الاعتراف والإقرار بوجود المرض. وبعد الإقرار بوجود المرض، وبعد أن جُرّبت كل الأدوية والعلاجات وكلها فشلت، فلا بد من الإقرار أن العلاج والبلسم والدواء لما عليه أمتنا فإنه ليس إلا بالرجوع إلى الدين والتمسك بأهداب الشريعة، قال ﷺ: “تركت فيكم لن تضلوا ما إن تمسّكتم به، كتاب الله وسنتي”. وقال عمر رضي الله عنه: “كنا معشر العرب أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله”.
يقول الشاعر والصدق فيما يقول:
شريعة الله للإصلاح عنوان وكل شيء سوى الإسلام خسران
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما سواه فلا عزّ ولا شان
✍️نعم إنها الشريعة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هي الدواء وهي الشفاء والبلسم، فليس أن بتركها يكون الذلّ والهوان والضياع، بل إنه الأصعب من ذلك، إنه سؤال الله جل جلاله لنا عن ذلك وإنه عتاب رسول الله ﷺ يوم القيامة:
ماذا نقول لربي حين يسألنا عن الشريعة لم تحيِ معانيها
ومن يجيب إذا قال الحبيب لنا أذهبتموا سنتي والله محييها
???? حتى لا نظلّ أصفارًا
✍️قال المرحوم الشيخ محمد الغزالي: “والذين يرجعون هزيمة العرب أمام الإسرائيليين وأن ذلك يعود إلى عبقرية الإسرائيليين وشجاعتهم الفريدة، إن هؤلاء فإنما يريدون الاستمرار بقصة الإستغفال لشعبنا واستمرار عدم اعترافنا بمرضنا وحاجتنا للدواء. وإن ما حصل من نكبتنا عام 1948 ونكستنا عام 1967، فإن سببه ليس عبقريتهم ولا شجاعتهم، وإنما عبقريتنا نحن وجرأتنا في الحرب على الله تعالى وعلى دينه”. وإلا فماذا يعني أن يقول قائل من أبواق حزب البعث: “بحثنا عن الله وعن القيم فلم نجدها إلا في مزابل التاريخ”. وأن يقول القائل من جلاوزة سجون جمال عبد الناصر لما سمع أحد السجناء لما كان يُجلد ويُعذب فإنه كان يستنجد بالله قائلًا: “يا الله”، فما كان من سجّانه الظالم إلا أن يقول: “إن الله هذا الذي تستنجد به فإنني سأعتقله وأضعه في الزنزانة رقم 14” وقد قيل إنها كانت أقسى وأسوء وأقذر زنزانة في السجن.
✍️ ويقول كذلك الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “ولقد حصل في التاريخ أن الصليبيين وخلال حملتهم على المشرق الإسلامي، فإنهم لما وصلوا إلى بلاد المسلمين، فإنهم كانوا يجرّون أقدامهم جرًا من الجوع والمرض والتعب، ومع ذلك فإنهم انتصروا على المسلمين الموفورين بالصحة والشبع ودخلوا القدس وذبحوا في ساحات المسجد الأقصى سبعين ألفًا من المسلمين، والسبب أن العرب والمسلمين كانوا على حالة من الفرقة والفسق والبطر والغفلة حرمتهم من رعاية الله ونصره”. وكان رحمه الله قد قال بعد مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها الميليشيات المسيحية الكتائبية في لبنان بمساندة وحماية الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين اللاجئين في مخيمي صبرا وشاتيلا، وكان ذلك في أيام 16-18/9/1982 وقد قتلوا قريبًا من “5000” فلسطيني، فقال الشيخ الغزالي: “إذا لم يعتنق العرب الإسلام وينضموا إليه ظاهرًا وباطنًا فلينتظروا خسفًا ومسخًا ومذابح أخرى”. ولقد كان مع الأسف ما قاله الشيخ وكل ذلك بسبب بعدهم عن دين الله عز وجل.
ولله در الشاعر حين قال:
إن يُسلخ العُرب من إسلامهم رجعوا على شمال المعالي بعض أصفار
✍️وحتى لا نظلّ أصفارًا، وحتى نشفى من مرضنا، وحتى لا يستمر الهوان ولا يطول، فإنها المسؤولية الفردية والجماعية علينا جميعًا بالعمل على نصرة الإسلام والتمكين له حتى يكون التغيير المنشود وفق سنن الله تعالى ونواميسه {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..} آية 53 سورة الأنفال. فلا يزهدنّ أحدنا بأي جهد يبذله يمكن أن يصبّ في مشروع التغيير ليتحول من نقطة ماء هنا أو هناك إلى تيار جارف ونهر هادر، قال رسول الله ﷺ: “ما فيكم من أحد إلا وسيكلّمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقّ تمرة”. وإن أعظم ما يمكن أن يقدّمه المسلم من عمل به يتق الله، فإنه العمل للإسلام ونصرة الدين والسعي للشفاء من مرض الهوان الذي نحن فيه، ولسان حال كل واحد منا يقول:
أبدًا أظل مع التقاة مع الدعاة العاملين
الرافعين لواء أحمد عاليًا في العالمين
✍️نعم، لا بد أن يغمر قلوبنا حب وعاطفة جيّاشة لنصرة الإسلام ليكون هو الطريق الأقصر للتغيير، وليتوقف ولا يستمر نزيف التيه والهوان كما قال المرحوم الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: “إن الواجب أن تكون فينا عاطفة مثل عاطفة النار متّقدة في قلب كل أب يرجع إلى بيته فيجد ابنه مريضًا يتلوّى من الألم فلا يسعه عندها إلا سرعة حمله إلى الطبيب متحاملًا على جوعه وتعبه”.
✍️وكذلك قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “قد يستطيع العرب لمحاولة رفع الهوان عن أنفسهم وإيقاف نزف جرحهم أن يستوردوا السلاح من كل جهة، ولكنهم لو أداروا ظهورهم لله تعالى ثم جمعوا السلاح من المشرق والمغرب فلن يدركوا به إلا ذلّ الدهر وخذلان الأبد، ولن يغني عنهم أن يعطف عليهم هذا الفريق أو ذاك، هذا المعسكر أو ذاك، قال الله سبحانه: {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} آية 20 سورة تبارك. وما أصدق ما قاله الشاعر في هذا المقام:
وغاية السيف أن يزهو بحامله ولا ينفع السيف إلا في يد البطل
????شباب الجيل وبكل فخر
✍️إن من فضل الله علينا أن نكون ممن يعيشون هذه المرحلة وأن نكون من جيل الصحوة الإسلامية المباركة، وجيل الشباب المسلم والمؤمن الذي أخذ على عاتقه أن لا يستمر الهوان. إنها الصحوة المباركة التي يتكالب على حربها الأعداء وأبناء الجلدة على أنها هي التي ستنهي مشوار استعبادهم للأمة الإسلامية وتسلّطهم على مقدّراتها، هذه الصحوة التي حتى لو تعثّرت فإنها ستعود إلى مسارها، حتى وإن كبت فإنها ستنهض، حتى وإن حاولوا إجهاض أحلامها فإنها لن تيأس وستظلّ تسعى لتحقيق أحلامها وآمالها بل ووعد ربها سبحانه.
✍️هذا الجيل المبارك الذي إذا التفت إلى الماضي فإنه ليس للبكاء على الأطلال، وإنما ليستمد من الماضي معاني العزة والشموخ حتى لا يستمر الهوان.
✍️ هذا الجيل الذي عرف أن للمجد طريقًا واحدًا لا ثاني له، فاختاره ومضى فيه دون أن يلتفت إلى أصوات الناعقين والمثبطين والمحبطين والزاحفين على بطونهم من أصحاب الشعارات البرّاقة والعبارات الرنّانة، سواء كانت الوطنية المزعومة أو القومية الموهومة أو أدعياء الواقعية والبراغماتية والاستسلام للأمر الواقع، وهم في حقيقتهم يسعون لاستمرار الهوان والضياع لأمتنا.
شباب الجيل للإسلام عودوا فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سرّ نهضته قديمًا وأنتم فجره الزاهي الجديد
نعم يا شباب الجيل وحملة رايته ومن على أيديكم سيحقق الله للأمة آمالها وينهي مشوار تيهها وضياعها.
شباب الجيل قولوها تدوي فلن يجدي يمين أو يسار
كفرنا بالدعاوي زائفات فبالإسلام قد وضح المسار
أنتم وليس غيركم شباب الجيل الذي سينهي مشوار الهوان وإلى الأبد، وسيطوي صفحة الذلّ فلن تعود. الجيل الذي يصرخ في الدنيا يفاخر بهويته التي لن يرضى عنها بديلا.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة “سيفعلان ذلك”.. ترامب يرد على سؤال عن رفض مصر والأردن لخطة التهجير 2025/01/31

مقالات مشابهة

  • دفتر أحوال وطن"٣٠٨"
  • مصانع العقول: الجامعات التي تغير العالم – الحلقة 2
  • تعرّف على المنظمة التي تلاحق مجرمي الحرب الإسرائيليين بجميع أنحاء العالم
  • هذا الكاتب أكل في أفخم مطاعم العالم وهذه أفضل الوجبات التي تذوقها
  • الشيخ كمال الخطيب … لا لن يستمر التيه فبالإسلام قد وضح المسار
  • ماذا تعرف عن أقدم خريطة في العالم؟.. يرجع تاريخها إلى 3 آلاف عام
  • ماذا تعرف عن قاعدة غوانتانامو التي ستستضيف المهاجرين؟
  • بعد سجنه في معسكر بوكا.. ماذا نعلم عن أحمد الشرع الذي أصبح رئيس سوريا الانتقالي؟
  • إعلامي أمريكي بالرياض: المملكة ليست التي كنا نقرأ عنها بالأخبار إنها مختلفة تمامًا .. فيديو
  • عمر كمال يتذكر الراحل أحمد رفعت بهذه الكلمات| ماذا قال؟