في ذكر مآثر محمد الأمين حمد النيل الطاهر ود الإزيرق
تاريخ النشر: 13th, November 2023 GMT
تاج السر الملك
خرجت عصر ذلك اليوم، مثقلاً بالأسى، أعبر أبهاء مستشفى (نوفا الكساندريا) ، الابهاء المستقيمة، النظيفة اللامعة، وقطع رخامها التي تنعكس عنها الأضواء، فكأنما قد رصت للتو، رصا، تمتد من أمامي ومن خلفي، وكأنها صراط دهري.
خرجت إلي الطريق العام، وعيناي غارقتان في الدمع، خلفت ورائي في غرفة بالطابق الثاني، هادئة، يجللها السلام والسكون ، وتحف بها الملائك، الأستاذ، وقد أضنى النضال بدنه، مستلقٍ، يرفل في أبهى حلل الطمأنينة، وعلى وجهه ابتسامة باتجاه السماء، وموظف الإستقبال، المنحدر من القرن الأفريقي، تتسع عيناه من الدهشة، يسائلني:محمد الأمين .
قلت أحدث نفسي..وهل يعلم الأطباء، ذوي المعاطف، والقسمات العاطفة، وجيش الممرضات الحسناوات، أن هذا المريض، ذو الملامح الوادعة، الساكن بين أياديهم الخبيرة، المدربة على أحابيل دمل الجراح، وكبح الآلام، إنما هو، فلذة كبد أمة كاملة ؟
هل يعلمون أن هذا الساكن إلي مباضعهم،هو سيناترا بلادنا، وراي تشارلس وجيمي هندريكس وديلان مجتمعين؟
عبد الوهاب وبليغ والطويل، وعبادي الجوهر، محمد عبده، فريد وبلان، ووديع الصافي، وعجرم، وشارل ازنافور وديميس روسوس، وتلاهون، ومارلي… فريد عصره، ونسيج وحده، العلم في تاريخ موسيقى الوطن الواحد، السودان! ليتهم..
ولكن هيهات، فذا الامر، بركة، ورشفة من الكأس المقدسة، لمن جاوز عبير الأضرحة المشاوير إليه، والمدى ما بينهم منطرح.
وبلا أجنحة!
ولكنهم كانوا ، رفقاء به، كما ينبغي للعرفاء، والنطاسيين، يهزون رؤوسهم من عجب حين يعلمون، وحين يشع جبينه، بذلك الألق الذهبي، الذي لا تراه العين، فتدركه البصيرة، هالة فوق رؤوس المبدعين.
ثم الشارع يحتضنني، ويأخذ بيدي من يأس، فوق أرصفة المشاة، المنمقة، المهندسة، وسائق الاوبر، علي الجانب المقابل، يحادث عبر الهاتف محبوبته، ظننت ذلك، فأحسنت به الظن، فيبتسم، وكأني به، هامساً.. من يوم ما شفتك… وكأني بالكون كله يغني، قلبي للدنيا ابتسم.
وكأني بالفنان في استغراقه الوجودي، يسترق السمع، إلى موسيقى السماء
وأنه يود لو أن الناس استمعوا لآخر ألحانه
ولكن جبروت الحرب، حال بينه وبيننا، فارتد إليه فؤاده
كسيراً أسيفا.
واحتبس صوته، الذي كان يهدر كالعاصفة
مبشراً بالثورة التي انطلقت، ويوصي باليقظة والحذر والإستعداد، ويرحب بشهر عشرة، حبابو عشرة، ويغرد من داخل السجن، بشعر محجوب شريف
عصافيراً مجرحة بسكاكينك… مساجينك!
وأوقف حركة المجرة بلحن الملحمة، فصنع مجداً لإنسان السودان، ذلك صارم القسمات، حي الشعور.
هل يعلمون كم نحن نحبه، وكم سنذكره!
سنذكره
كلما برق بارق في سماء الجزيرة، وكلما احتدم أفقها، وخوخت الشم، وارعدت فضاءاتها، وهطلت مدرارا!
سنذكره كلما اشتعلت الشوارع بالغضب، كالمرجل اليغلي, وأشرق نبلها.
كلما أطل في فجرنا ظالم، وكلما سقط طاغية, وتداعى، من منسأة مهترئة نخرة.
سنعاين الشارع ونراه في عيون المغلوبين
قادماً، من بوابة سنار ، يحمل مصلاة من جلد الجاموس، والإبريق الجمجمة ومسبحة من أسنان الموتى.
سنجده، في رسم البردي، ونحوت الاهرامات وسيرة ابادماك
في الغابة والصحراء وسهل السافنا و شمس المدار، والنرفانا.
سيؤمنا يوم الشدة حين يتجلى البأس
سيخلده الخماسي، والسباعي، والمردوم، والحومبي، والدليب، والمارشات العسكرية.
سيصدح لحنه، في الأورغن وتراتيل الكمانات، ومقدمة زاد الشجون الأثيرية، والتي لا تنتجها إلا روح عبقرية.
ستستشف روحه، وترق، في مدائح العركيين، التي تسامر القلوب، والقباب ، في عزلة الفراغ العريض.
سيولد منا وفينا حتى الأزل
باهراً في اخضرار العَسِين، وشموس الأصائل وسحر البكور
سيذكره أهل التـُّـقـَّـابـة والمسيد
وأهل الكلم والقصيد
سيظل في وجداننا
موسيقار الأجيال، ومفجر النضال، الفريد في
سمو وجدانه، المتوشح
بهموم شعبه، خصيب الإلهام، عميق الشجو،
مبلغ ومنتهى فنون أهل السودان والإنسانية جمعاء
فخرنا بين العالمين
محمد الأمين حمد النيل الطاهر الإزيرق
(هانحن نحييك بتحية مدني، حسناء الجزيرة وغادتها نحييك ، مدنى الـسُّـنـِّى الراقـدة على شاطىء النيل الأزرق مستحمة من مائه ، مستجمة على رماله ، مستدفـئة بحبابه، مستـكـنة فى رحابه، متوسـدة تربه وترابه، حرفه وجرفه، منها،هى الجزيرة، مبتدأك وخبرك ومنتهاك).
فلترقد في سلامك الأبدي
وليسبغ عليك الله رحمة تخصك من فضله
وإنا لفراقك لمحزونون.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبعد
فلولا أن الكلام يعاد، لنفد.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
محمد عبدالقادر يكتب: “ابن عمي” العميد أبوبكر عباس.. “أسد الهجانة”
..
فارس “الهجانة، ام ريش اساس الديش ” و اسد القوات المسلحة الكاسر العميد الركن ابوبكر عباس محمد بابكر، قائد ثاني الهجانة ورجل العمليات الذى باع نفسه رخيصة فداء الدين والوطن وظل “وفيا للكاكي”، لم اره ب”الدبابير المذهبة اللامعة” منذ ان تخرج من عرين الرجال ومصنع الأبطال فى العام 1995، اختار “حياة الكوماج” منذ ان انضم للقوات المسلحة الدفعة 42، وتوجه فور تخرجه بنجمته الوحيدة الى جنوب السودان ليعود جريحا من الهجوم اليوغندي فى عملية الامطار الغزيرة، ويبدو انه ومن وقتها عشق الخنادق وحياة الخطوط الامامية وسام نفسه رخيصة وتشرب بامنيات الشهادة وظل يطلبها اينما كانت.
لم نجده الافى مكان واوان المعارك، جاب كل سوحها متقدما الصفوف وغرس فى كل ركن من السودان بذرة سيرته الصالحة وبطولاته المستمدة من ازمنة الصحابة ، عاش زاهدا فى الاضواء ومتاع الدنيا الزائل، فهو طينة من والده المجاهد الشيخ، الراحل المعلم الذى تعرف تقواه وورعه الولايات الشرقية وعموم السودان، والقضارف الحبيبة على وجه التحديد داعية لايقارع حافظا للقران وحدود الله، مازلت اتذكر لحظة ان دخل والده “شيخ عباس” الى ابى بكر وهو جريح فى السلاح الطبي وتحسس ظهره وصدره المثقوب قبل ان يلقي عليه التحية، فعل ذلك ليتاكد هل “قد” جسده من “قبل او دبر”، وحينما تيقن ان ابنه الفارس جرح مقبلا غير مدبر عانقه وتمنى له الشفاء وبرء الجرح حتى يلحق برفاقه مرة اخرى وينال الشهادة…
وحينما اندلعت حرب الكرامة كان ابوبكر يتقدم قواته مع ابطال “الهجانة ام ريش” ويخوض معارك تامين الابيض، واحدة تلو الاخرى، لم يعد الى داره رغم ظروف اسرته وعائلته، وهو والد لخمس زهرات، ورغم وفاة والدته امنا ” خديجة عمر” لكنه كفكف حزنه عليها دون ان يطلب اذنا لحضور مرضها او “عصر فراش موتها” رغم رجاءات زملائه، كنا نراه فى المعارك على ايام وفاتها قوى الشكيمة، تجمله رباطة الجاش، ينتقل بجنوده من معركة الى اخرى، اذ لم تكن الدنيا اكثر همه ولامبلغ علمه، عاش وفيا لدينه ووطنه واحتسب امه مع قوائم الراحلين رغم انها كانت الاعز فقد خصته بمحبة تتابعه بالدعوات الصالحات فى سعيه للقاء الله فارسا فى المعارك يتقدم الصفوف ولايفرغ من معركة الا ويعقد العزم على خوض اخرى..
اليوم يعود الاسد الهزبر الى عرينه فى القضارف بعد عامين من الغياب فى اوبة مباركة ، تستقبله المدينة التى احبها بفرح وفخار وهو “فارس الحوبة وبطل المحاصة واسد الميدان الهصور”، يعانق فيها اهله ومعارفه، ويتلقي العزاء فى والدته التى رحلت قبل اكثر من عام، ويمكث فى استراحة محارب قبل ان يعود الى سوح الوغي وميدان المعركة مرة اخرى..
حمدا لله على السلامة “ابن عمي اسد الجيش” البطل العميد ابوبكر عباس.. نسأل الله ان يتقبل صبرك وجهادك، وان يجزيك خير الجزاء نظير بذلك وعطائك فى معركة الكرامة، انت واخوتك من فرسان القوات المسلحة والمساندة الاخرى…
مشتاقين يابكرونا.. او ” مدرعة” كما يسميك الجنود…
وقد تاخرت كتابتي فيك.. خوفا عليك من استهداف الأوباش المجرمين.. وانت الاحق بان نكتب عن صنيعك الوطني وفراسة مواقفك.. وجسارتك.. التى تعلمها سوح الحرب وميادين الكرامة..
محمد عبدالقادر