الكتاب: نقد الفكر المقاصدي عند الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور
المؤلّف: د. محمّد المدنيني
النّاشر: دار مكتبة المعارف- بيروت - لبنان
الطّبعة الأولى: 2010
عدد الصّفحات: 240


على أهميّة المبحث المقاصدي الذي اتجه فيه العالِمُ والفقيه التونسي الشيّخ محمّد الطّاهر ابن عاشور (1296 هـ /1879- 13 رجب 1393هـ /12 أغسطس 1973) إلى دراسة المنظومة الأصوليّة التّأسيسيّة، والوقوف على أسباب تأخّرها، وعجزها عن معالجة التحديات المعاصرة، والعمل على تجاوزها بعلم جديد مستقّل عن أصول الفقه، هو علم مقاصد الشّريعة، فإنّ الدّراسات والبحوث القليلة التي اهتمت بمقاصد الشّريعة عند ابن عاشور، "ركّزت كثيرا على شرح مقولاته، والتعليق عليها، وأهملت المقاربات النّقديّة التي من شأنها إبانة حدودها ومواضع الضّعف فيها".



ولأنّ المعراج بالفنّ المقاصدي إلى مستوى استنباط الحلول المناسبة لمشاغل المسلمين المعاصرة، سواءُ طرحتها الفلسفات والعلوم الإنسانية الحديثة أم فرضتها اشتراطات الأسرة المعاصرة والمجتمع الحديث ومعاملاته، يحتاج إلى حفر نقديّ عميق في الفكر المقاصدي ومدى ارتباطه بالبعدين الاجتماعي والسياسي، فإنّه يكون من الأهميّة تجاوز القراءات ذات الطّابع التّمجيدي لكتاب "مقاصد الشريعة الإسلاميّة" والارتحال بها إلى مستوى النقد والمراجعة والتقييم.

وقد تحدّث الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور، في مقدّمة كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة"، عن هذا المستوى المتقدّم من النّقد، بـ "حرّية النّقد الصحيح الذي من شأنه إيصال العقول إلى درجة الابتكار، ومعنى الابتكار أن يصير الفكر متهيّئا لأن يبتكر المسائل ويوسّع المعلومات كما ابتكرها الّذين من قبله.. لتدريب التّلاميـذ على ضروب الحكمة ونقد مقتضيات الزّمان".

في هذا الإطار يتنزّل كتاب "نقد الفكر المقاصدي عند الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور" لمؤلّفه الدّكتور محمّد المدنيني، والذي اجتهد خلاله في نقد الأطروحة التي انبنى عليها الفكر المقاصدي للشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور، مبيّنا حدود هذا الفكر في علاقته بماضيه، أي بالإنتاج المقاصدي الّذي سبقه، وفي علاقته بحاضره وعصره، وإلى أيّ حدّ كان "اجتهاد ابن عاشور في كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" جيء باهتا غير مؤثّر في واقع المجتمع، ويكون عقله الفقهي "عقلا معقولا" مقيّدا بما انتهى إليه القدامى".

هيكلة الكتاب

ارتضى الدّكتور محمّد المدنيني تخطيطا لكتابه "نقد الفكر المقاصدي عند الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور" شمل مقدّمة وثلاثة فصول، وخاتمة. فلئن خصّصت المقدّمة لطرح الإشكاليّة ومبرراتها والإضافة التي سيأتي بها بحث الكتاب، فإنّ الفصل الأوّل من الكتاب تناول مصطلحات البحث، وما تثيره من قضايا، ووزّع بدوره على ثلاثة مباحث: المبحث الأوّل بعنوان "النقّد ونقد المقاصد"، المبحث الثّاني بعنوان "الفكر والفكر المقاصدي" والمبحث الثالث بعنوان " المقاصد ومقاصد الشريعة"، في حين أظهر الفصل الثّاني، الذي هو بعنوان "الفكر المقاصدي عند الشّيخ ابن عاشور"، تفاعل الشّيخ مع التّراث المقاصدي، فهما واستيعابا واستفادة من مضامينه وقضاياه، ومراجعة وتقويما ونقدا، وهو يتدرّج في بناء فكره المقاصدي.

مقاصد الشّريعة عند الشّيخ ابن عاشور ليست ملقاة على الطّريق، وليس بإمكان أيّ كان أن يدركها لأنّها "نوع دقيق من أنواع العلم"، ولذلك على الباحث فيها أن يجيد النّظر ويطيله، ويبذل ما في وسعه لإثبات مقصد شرعيّ لأنّ التّساهل في تعيينه والخطأ فيه يترتّب عنه وضع أدلّة وأحكام في غاية الخطورة.واشتمل الفصل الثاني ثلاثة مباحث، هي: "الاجتهاد طريق الإصلاح"، " من أصول الفقه إلى مقاصد الشريعة" و "الفكر المقاصدي عند الشّيخ ابن عاشور". المبحث الأوّل خصّص للإطار الّذي يتنزّل فيه الفكر المقاصديّ للّشيخ، وعقد المؤلّف فيه "الصّلة بين دعوة ابن عاشور للاجتهاد عبر مسلك المقاصد، وبين مشروعه الإصلاحي الّذي أرسى معالمه في كتابه "أليس الصّبح بقريب" من ناحية، وبين الاجتهاد الّذي ارتبط تاريخيّا بالفقه وأصوله وبين التّعليم، من ناحيـة أخرى". أمّا المبحث الثّاني من هذا الفصل فقد اجتهد خلاله المؤلّف في الإجابة على الأسئلة التالية: هل يكفي لينهض علم أصول الفقه بوظيفته المنهجيّة في مجال التّشريع، إصلاحُ مواضع التّصدّع من بنيانه أم لا بدّ من إحداث القطيعة المعرفيّة معه، وتجاوزه بإنشاء علم جديد هو علم مقاصد الشّريعة؟ وما مستقبل العلاقة بين العلم الجديد وعلم أصول الفقه؟ أمّا المبحث الثالث فقد بيّن المؤلّف فيه كيف أثمر نظر ابن عاشور المقاصدي تصوّرا للإنسان، وصلة مقاصد الشريعة بمصالح الإنسان، ومقاصد الشريعة العامة الّتي ضبطها، وطريقة تعيينه لها، وكيفية ترتيبها، وتمييزه بين المقاصد والوسائل.

وخصّص المؤلّف الفصل الثّالث لنقد الفكر المقاصدي عند الشّيخ ابن عاشور، وقد رسم فيه حدود علاقة الفكر المقاصدي للشّيخ، بالتّراث الأصولي السّالف بالإجابة عن الأسئلة التالية: هل اكتفى ابن عاشور باقتفاء أثر السّابقين فجاء تأليفه في المقاصد مجرّد تفصيل وبيان، أم أنّ الرّجل قدّم نظرا جديدا دفع بالبحث المقاصدي في اتّجاه الإبداع والتّطوير؟ وكيف يكون تقويم الفكر المقاصدي عند الشيخ ابن عاشور في علاقته بحاضره وعصره؟ هل بالنّظر في مدى تحقّق الأهداف الّتي رسمها لمشروعه، وصرّح بها في كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة"؟ أم بالبحث في مدى نجاعة المعالجة المقاصديّة لمشاكل الحياة العمليّة، وقدرتها على الوفاء بحاجات أهل الزمان؟

أغراض المقاصد ودلالاتها

بسط الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور في فاتحة كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" دلالات علم المقاصد وأغراضه بقوله: "هذا كتاب قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلاميّة والتّمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراسا للمتفقهين في الدين، ومرجعا بينهم عند اختلاف الأنظار، وتبدّل الأعصار، وتوسّلا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لأتباعهم على الإنصاف...حتّى يستتبّ بذلك ما أردناه غير مرّة من نبذ التعصّب، والفيئة إلى الحقّ، إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطّارئة متى نزلت الحوادث، واشتبكت النّوازل".

الفكر المقاصدي عند ابن عاشور

 يرى الدكتور محمّد المدنيني أنّ نجاح الشّيخ ابن عاشور يتمثّل في استثمار وصف الفطرة ليطرح فكرة واقعيّة الّرّسالة وعالميّتها وسماحتها، ويثبت انسجام تعاليمها مع حاجات الإنسان، ويعيّن عددا من المقاصد العامّة مثل المساواة والحرّية وانتظام أمر الأمّة...ويثبت الشيّخ ما استقرّ في عرف أعلام المقاصد من أنّ المقاصد الضّرورية متمثّلة في أنواع خمسة هي حفظ الدّين، وحفظ النّفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ الأنساب المعبّر عنه بحفظ النّسل. ويعرّف الشّيخ ابن عاشور المقاصد على النحو التّالي: "هي الأعمال والتّصرّفات المقصودة لذاتها، والّتي تسعى النّفوس إلى تحصيلها بمساع شتّى أو تحمل على السّعي إليها امتثالا".

ولمّا كان القصد في كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" خصوص البحث عن مقاصـد الإسلام من التّشريع في قوانين المعاملات والآداب، فإنّه يقدّم للمقاصد تعريفا آخر ألصق بمجال تصرّفات النّاس في معاملاتهم، وهو أنّ "مقاصد النّاس في تصرّفاتهم، هي المعاني الّتي لأجلها تعاقدوا أو تعاطوا أو تغارموا أو تصالحوا". ويرى ابن عاشور أنّ المراد بالمقاصد الكليّة ما كان عائدا على عموم الأمّة أو على الأغلبيّة العظمى منها، وعمومها يقتضي أن تشمل المصلحة الجميع، وذلك مثل حماية البيضة، وحفـظ الجماعة من التفرّق، وحفظ الدّين من الزوال، وحفظ القرآن من التّلاشي العام أو التّغيير العام بانقضاء حفّاظه وتلف مصاحفه معا، فهذه الأمثلة وغيرها كثير تتناول جميع الأمّة وكلّ فرد منها صلاحا وفسادا.

وأمّا المصلحة والمفسدة الراجعتان إلى الأغلبية العظمى من الأمّة فهي الضروريّات والحاجيات والتحسينات مثل التّشريعات القضائيّة لفصل النوازل، والعهود المنعقدة بين حكّام المسلمين وبين حكّام الأمم المخالفة في تأمين تجّار المسلمين بأقطار غيرهـم إذا دخلوها للتجارة، والعقود المنعقدة مع تجّار غير المسلمين إذا دخلوا إلى مراســي.

إذن فمقاصد الشّريعة عند الشّيخ ابن عاشور ليست ملقاة على الطّريق، وليس بإمكان أيّ كان أن يدركها لأنّها "نوع دقيق من أنواع العلم"، ولذلك على الباحث فيها أن يجيد النّظر ويطيله، ويبذل ما في وسعه لإثبات مقصد شرعيّ لأنّ التّساهل في تعيينه والخطأ فيه يترتّب عنه وضع أدلّة وأحكام في غاية الخطورة.

انعدام الوصل بين مقاصد الشريعة والبعد الاجتماعي

لئن ثمّن الدكتور محمّد المدنيني الجهود التّنظيريّة الّتي بذلها الشيخ ابن عاشور، والتي أثمرت إنجازا علميّا تمثّل في علم جديد هو "علم مقاصد الشّريعة"، فإنّه يؤكّد الحاجة إلى تجديد النّظر في هذا العلم وإخضاعه للنقد والمراجعة والتّقويم. فقد أشار إلى أنّ تتبّعه لكتاب "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" بأقسامه الثّلاثة وقضاياه المتنوّعة ومسائله المتفرّعة، واستقصاءه للمَواطِن الّتي صرّح فيها الشّيخ ابن عاشور بأخــذه عن الإمام الشاطبي ونقله عن "الموافقات"، أفضي به إلى استنتاجات عدّة، أهمّها ما هو متعلّق بالمفاصلة بين "مقاصد الشريعة الإسلاميّة" والواقع الاجتماعي الذي عايشه مؤلّفه.

في هذا السّياق، يقول الدكتور المدنيني إنّه كان يفترض أنّ المسائل الطّارئة على المجتمع زمن الشيخ، كانت تقتضي أن يكون علم مقاصد الشريعـة الّذي بشّر به ، وسيلة ناجعة للإنقاذ الحضاري، وحلاّ عمليّا قريبا إلى الناس، وتفترض ألا يحمل كتاب" مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" دلالته الحقيقيّة في قسمه التّطبيقـي إلاّ بِوَصلِه بالمشكل الاجتماعي في عصره، خاصّة وأنّ الشّيخ كان مدركا لحاجات زمانـه، ومواكبا للتحوّلات الّتي شهدها عصره، ومتفاعلا مع المفكرين والعلماء والمصلحين من جيله الّذين كانوا يجلّون علمه ويكبرون فيه إخلاصه في سعيه للنهوض بمجتمعه.

لهذا السبب، يخلص الدكتور المدنيني إلى أنّ "اجتهاد ابن عاشور في كتاب "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" جاء باهتا غير مؤثّر في واقع المجتمع، ويكون عقله الفقهي "عقلا معقولا" مقيّدا بما انتهى إليه القدامى، إذ "لم يتناول في تطبيقاته مسائل جديدة على الفقه الكلاسيكي، وأقرّ أحكام الفقهـاء المسائل الّتي عالجها، إلاّ أنّه، في تعليلها، استبدل المقاصد بالأصول".

كما يرى المؤلّف أنّ زهد الشيخ ابن عاشور في النّظر في الجزئيّات والقضايا الفرعيّة سهّل على ناقديه تصويب سهام نقودهم نحوه، ورميه بتجاهل قضايا مجتمعه وتغييبها، وانغماسه بعقله ووجدانه في عصور إسلاميّة خلت، وانصهاره التامّ في اهتماماتها وصراعاتها، بحسب ما أوضحه كلّ من عبد المجيد الشرفي في مؤلّفه "الإسلام والحداثة" ومحمّد علي القارصي في مؤلّفه "المنهج الإصلاحي لدى الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، خصائصه وأبعاده". 

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الفكر لبنان لبنان كتاب فكر نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مقاصد الشریعة فی کتابه فی کتاب المؤل ف الأم ة ة التی

إقرأ أيضاً:

نظام نقدي واقتصادي يليق بالقرن الحادي والعشرين

أولريش فولز -

جاناك راج -

مونيكا هيرز -

قبل ثمانين عامًا، اجتمع مندوبون من 44 دولة في بريتون وودز، بولاية نيو هامبشاير، لتنسيق إعادة البناء في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتشجيع التعاون الاقتصادي الدولي. وتظل المؤسستان اللتان أرسوا لهما الأساس -صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- قائمتين في قلب النظام النقدي والمالي العالمي.

ولكن في السنوات الأخيرة، كشف تغير المناخ وجائحة «كوفيد 19» عن مدى ابتعاد هاتين المؤسستين عن الواقع الاقتصادي العالمي المتغير وأولويات التنمية. وإذا كان للمجتمع الدولي أن يحظى بأي فرصة للتعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين بفعالية وإنصاف، فلابد من إصلاح البنية الاقتصادية والمالية العالمية. وهنا تبرز ثماني أولويات.

أولا، يجب أن تُـعـطى الاقتصادات النامية صوتا أكبر في المؤسسات المتعددة الأطراف. وكما هو معترف به على نطاق واسع، فقد تحولت القوة الاقتصادية العالمية بدرجة كبيرة منذ عام 1944، حيث أصبحت الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية تحمل وزنا أكبر كثيرا. لكن نظام الحصص والتصويت في مؤسستي بريتون وودز لا يزال منحازًا بشكل كبير لصالح الاقتصادات المتقدمة. فضلا عن ذلك، نجد أن «الاتفاق الودي» غير المكتوب الذي يقضي بتولي أوروبي رئاسة صندوق النقد الدولي وأمريكي رئاسة البنك الدولي لا يزال قائمًا. هذا الوضع لا يقوض شرعية مؤسستي بريتون وودز فحسب؛ بل يعوق أيضًا قدرتهما على مواجهة التحديات العاجلة والمعقدة في عصرنا. لهذا السبب، لابد من إعادة تخصيص الأنصبة وحصص التصويت -وهو التغيير الذي قاومته الاقتصادات المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة، حتى الآن- ولابد من تبني إجراء اختيار القيادة «بالأغلبية المزدوجة». بموجب مثل هذا النظام، يجب أن يحصل المرشحون الناجحون على أغلبية الأصوات المرجحة (التي تعكس حصص البلدان في المؤسسة) ودعم أغلبية البلدان الأعضاء.

ثانيا، لابد من تعزيز شبكة الأمان المالي العالمية -شبكة المؤسسات التي توفر التمويل الـحَـرِج في أوقات الأزمات- وجعلها أكثر استجابة لاحتياجات الاقتصادات النامية التي تواجه مخاطر مناخية واقتصادية كلية متطورة. الواقع أن شبكة الأمان المالي العالمية في وضعها الحالي لا تقصر بدرجة كبيرة عندما يتعلق الأمر بحجم الدعم الذي توفره فحسب، بل إنها تعاني أيضًا من أوجه تفاوت بنيوية ذاتية تجعل البلدان النامية أكثر عُرضة للخطر. ومن الواضح أن إنشاء شبكة أمان مالي عالمية أكبر وأكثر عدالة من شأنه أن يحمي البلدان بشكل أفضل من الصدمات المناخية وغير ذلك من الأزمات، وأن يساعد في تحرير الموارد لتعزيز التنمية محليًا.

ثالثًا، يجب إنشاء آلية دولية لتقديم حلول عادلة وسريعة لأزمات الديون السيادية. وينبغي أن يبدأ العمل على مثل هذه الآلية لحل الديون السيادية -بما في ذلك مؤسسة مستقلة عن الدائنين والمدينين (وهو أمر بالغ الأهمية لضمان المعاملة العادلة)- الآن. لكن الحلول القريبة الأمد ستكون مطلوبة أيضًا لمعالجة أزمة الديون السيادية التي تعرقل التنمية حاليًا في الجنوب العالمي؛ لأنها تعوق الاستثمارات الحَرِجة في العمل المناخي وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.

رابعًا، يجب توسيع نطاق تمويل المناخ بشكل كبير، ويجب أن تكون كل التدفقات المالية العامة والخاصة -بما في ذلك الإقراض من قِـبَـل المؤسسات المالية الدولية- متوافقة مع الأهداف التي نَصّ عليها اتفاق باريس للمناخ. ويتعين على الهيئات الدولية المعنية بوضع المعايير أن تلتزم بمعالجة المخاطر المالية المرتبطة بالمناخ ودعم هذا «التوافق مع باريس».

خامسًا، يجب تعزيز قوة بنوك التنمية الدولية والوطنية ودون الوطنية. يتطلب التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره مبالغ ضخمة من الاستثمار، وما تستطيع المؤسسات المالية التجارية القيام به ليس بلا حدود. لذلك، يجب أن تضطلع بنوك التنمية والصناديق العامة بدور أكبر كثيرًا في تمويل التحول البنيوي والتنمية المستدامة. وينبغي لبنوك التنمية المتعددة الأطراف ومؤسسات تمويل التنمية أن تعمل بشكل وثيق مع نظيراتها الوطنية ودون الوطنية لمساعدتها على تحقيق إمكاناتها.

سادسًا، يجب إحراز تقدم نحو إنشاء نظام عملة واحتياطي متعدد الأطراف يتمحور حول وحدة حساب صندوق النقد الدولي، حقوق السحب الخاصة. الواقع أن مركزية الدولار الأمريكي في النظام (أو اللانظام) النقدي العالمي تعني أن سياسات بنك مركزي واحد -بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي- لها تأثير غير متناسب على الظروف النقدية العالمية والدورة المالية العالمية. والنظام الأكثر استقرارا يتطلب إصدار صندوق النقد الدولي حقوق السحب الخاصة بانتظام لتلبية الزيادات في الطلب العالمي على الاحتياطيات من النقد الأجنبي، مع تخصيصات إضافية تلقائية في أوقات الأزمات. في الوقت ذاته، لتقليل مخاطر العملة في البلدان المتلقية، يتعين على بنوك التنمية المتعددة الأطراف ومؤسسات تمويل التنمية أن تعمل على توفير التمويل بالعملات المحلية.

سابعًا، ينبغي لصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الإقليمية أن تنشئ آليات لتنسيق السياسات لإدارة التقلبات في تدفقات رأس المال عبر المناطق وبين الاقتصادات النامية والمتقدمة. وينبغي أيضًا فرض ضريبة دولية على المعاملات المالية للمساعدة في الحد من الاضطرابات الناجمة عن تدفقات رأس المال القصيرة الأجل. ومن الممكن استخدام العائدات الكبيرة التي قد تولدها مثل هذه الضريبة لتمويل أهداف التنمية المستدامة والعمل المناخي.

أخيرًا، لابد من تعزيز البنية الضريبية الدولية لدعم التنمية العادلة والشاملة والمستدامة. ومن الممكن أن تعمل الشفافية الضريبية الأكبر وآليات تبادل المعلومات المصرفية والمالية الـمُـحَـسَّـنة عبر الحدود على تمكين البلدان من توليد مزيد من العائدات الضريبية المحلية.

بالإضافة إلى هذا، من الممكن أن تعمل اتفاقية إطارية مُلزِمة بشأن الضرائب ترعاها الأمم المتحدة، إلى جانب تدابير الهدف منها مكافحة التدفقات المالية غير المشروعة، على خلق مصادر جديدة لتمويل التنمية والحد من الاعتماد على مساعدات التنمية الرسمية.

كان مؤتمر بريتون وودز عام 1944 لحظة غير مسبوقة من العمل الجماعي. ولقد طال انتظار لحظة أخرى من هذا القبيل - حيث يطرح زعماء العالم رؤية جديدة للبنية المالية العالمية تتطلع إلى المستقبل.

مقالات مشابهة

  • وزير الأوقاف: مصالح الأوطان والعمل على قوتها من صميم مقاصد الأديان
  • منها تحديث الحالة الاجتماعية.. أبرز استفسارات خدمات الضمان الاجتماعي
  • دراسة تكشف تأثير الصداقة القوية في المراهقة على صدمات الطفولة المبكرة
  • أحمد السقا يحتفل بعيد ميلاد زوجته مها الصغير بهذه الكلمات «صورة»
  • مشاجرة إمام عاشور.. دفاع فرد الأمن يطالب بتعويض مالي كبير
  • محامي ضحية مشاجرة إمام عاشور يطالب بـ5 ملايين جنيه تعويضا لموكله
  • النيابة تستمع لأقوال أقارب زوجة إمام عاشور في مشاجرة مول الشيخ زايد
  • على خُطى قادة الفكر العربى.. دراسة علمية جزائرية حول المنهج التنويرى لـ«الفيلسوف الخشت»
  • نظام نقدي واقتصادي يليق بالقرن الحادي والعشرين
  • النيابة تقرر صرف زوجة إمام عاشور بعد سماع أقوالها .. فيديو