انفصال الفكر المقاصدي عند الشيخ ابن عاشور عن الواقع الاجتماعي.. دراسة نقديّة
تاريخ النشر: 13th, November 2023 GMT
الكتاب: نقد الفكر المقاصدي عند الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور
المؤلّف: د. محمّد المدنيني
النّاشر: دار مكتبة المعارف- بيروت - لبنان
الطّبعة الأولى: 2010
عدد الصّفحات: 240
على أهميّة المبحث المقاصدي الذي اتجه فيه العالِمُ والفقيه التونسي الشيّخ محمّد الطّاهر ابن عاشور (1296 هـ /1879- 13 رجب 1393هـ /12 أغسطس 1973) إلى دراسة المنظومة الأصوليّة التّأسيسيّة، والوقوف على أسباب تأخّرها، وعجزها عن معالجة التحديات المعاصرة، والعمل على تجاوزها بعلم جديد مستقّل عن أصول الفقه، هو علم مقاصد الشّريعة، فإنّ الدّراسات والبحوث القليلة التي اهتمت بمقاصد الشّريعة عند ابن عاشور، "ركّزت كثيرا على شرح مقولاته، والتعليق عليها، وأهملت المقاربات النّقديّة التي من شأنها إبانة حدودها ومواضع الضّعف فيها".
ولأنّ المعراج بالفنّ المقاصدي إلى مستوى استنباط الحلول المناسبة لمشاغل المسلمين المعاصرة، سواءُ طرحتها الفلسفات والعلوم الإنسانية الحديثة أم فرضتها اشتراطات الأسرة المعاصرة والمجتمع الحديث ومعاملاته، يحتاج إلى حفر نقديّ عميق في الفكر المقاصدي ومدى ارتباطه بالبعدين الاجتماعي والسياسي، فإنّه يكون من الأهميّة تجاوز القراءات ذات الطّابع التّمجيدي لكتاب "مقاصد الشريعة الإسلاميّة" والارتحال بها إلى مستوى النقد والمراجعة والتقييم.
وقد تحدّث الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور، في مقدّمة كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة"، عن هذا المستوى المتقدّم من النّقد، بـ "حرّية النّقد الصحيح الذي من شأنه إيصال العقول إلى درجة الابتكار، ومعنى الابتكار أن يصير الفكر متهيّئا لأن يبتكر المسائل ويوسّع المعلومات كما ابتكرها الّذين من قبله.. لتدريب التّلاميـذ على ضروب الحكمة ونقد مقتضيات الزّمان".
في هذا الإطار يتنزّل كتاب "نقد الفكر المقاصدي عند الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور" لمؤلّفه الدّكتور محمّد المدنيني، والذي اجتهد خلاله في نقد الأطروحة التي انبنى عليها الفكر المقاصدي للشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور، مبيّنا حدود هذا الفكر في علاقته بماضيه، أي بالإنتاج المقاصدي الّذي سبقه، وفي علاقته بحاضره وعصره، وإلى أيّ حدّ كان "اجتهاد ابن عاشور في كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" جيء باهتا غير مؤثّر في واقع المجتمع، ويكون عقله الفقهي "عقلا معقولا" مقيّدا بما انتهى إليه القدامى".
هيكلة الكتاب
ارتضى الدّكتور محمّد المدنيني تخطيطا لكتابه "نقد الفكر المقاصدي عند الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور" شمل مقدّمة وثلاثة فصول، وخاتمة. فلئن خصّصت المقدّمة لطرح الإشكاليّة ومبرراتها والإضافة التي سيأتي بها بحث الكتاب، فإنّ الفصل الأوّل من الكتاب تناول مصطلحات البحث، وما تثيره من قضايا، ووزّع بدوره على ثلاثة مباحث: المبحث الأوّل بعنوان "النقّد ونقد المقاصد"، المبحث الثّاني بعنوان "الفكر والفكر المقاصدي" والمبحث الثالث بعنوان " المقاصد ومقاصد الشريعة"، في حين أظهر الفصل الثّاني، الذي هو بعنوان "الفكر المقاصدي عند الشّيخ ابن عاشور"، تفاعل الشّيخ مع التّراث المقاصدي، فهما واستيعابا واستفادة من مضامينه وقضاياه، ومراجعة وتقويما ونقدا، وهو يتدرّج في بناء فكره المقاصدي.
مقاصد الشّريعة عند الشّيخ ابن عاشور ليست ملقاة على الطّريق، وليس بإمكان أيّ كان أن يدركها لأنّها "نوع دقيق من أنواع العلم"، ولذلك على الباحث فيها أن يجيد النّظر ويطيله، ويبذل ما في وسعه لإثبات مقصد شرعيّ لأنّ التّساهل في تعيينه والخطأ فيه يترتّب عنه وضع أدلّة وأحكام في غاية الخطورة.واشتمل الفصل الثاني ثلاثة مباحث، هي: "الاجتهاد طريق الإصلاح"، " من أصول الفقه إلى مقاصد الشريعة" و "الفكر المقاصدي عند الشّيخ ابن عاشور". المبحث الأوّل خصّص للإطار الّذي يتنزّل فيه الفكر المقاصديّ للّشيخ، وعقد المؤلّف فيه "الصّلة بين دعوة ابن عاشور للاجتهاد عبر مسلك المقاصد، وبين مشروعه الإصلاحي الّذي أرسى معالمه في كتابه "أليس الصّبح بقريب" من ناحية، وبين الاجتهاد الّذي ارتبط تاريخيّا بالفقه وأصوله وبين التّعليم، من ناحيـة أخرى". أمّا المبحث الثّاني من هذا الفصل فقد اجتهد خلاله المؤلّف في الإجابة على الأسئلة التالية: هل يكفي لينهض علم أصول الفقه بوظيفته المنهجيّة في مجال التّشريع، إصلاحُ مواضع التّصدّع من بنيانه أم لا بدّ من إحداث القطيعة المعرفيّة معه، وتجاوزه بإنشاء علم جديد هو علم مقاصد الشّريعة؟ وما مستقبل العلاقة بين العلم الجديد وعلم أصول الفقه؟ أمّا المبحث الثالث فقد بيّن المؤلّف فيه كيف أثمر نظر ابن عاشور المقاصدي تصوّرا للإنسان، وصلة مقاصد الشريعة بمصالح الإنسان، ومقاصد الشريعة العامة الّتي ضبطها، وطريقة تعيينه لها، وكيفية ترتيبها، وتمييزه بين المقاصد والوسائل.
وخصّص المؤلّف الفصل الثّالث لنقد الفكر المقاصدي عند الشّيخ ابن عاشور، وقد رسم فيه حدود علاقة الفكر المقاصدي للشّيخ، بالتّراث الأصولي السّالف بالإجابة عن الأسئلة التالية: هل اكتفى ابن عاشور باقتفاء أثر السّابقين فجاء تأليفه في المقاصد مجرّد تفصيل وبيان، أم أنّ الرّجل قدّم نظرا جديدا دفع بالبحث المقاصدي في اتّجاه الإبداع والتّطوير؟ وكيف يكون تقويم الفكر المقاصدي عند الشيخ ابن عاشور في علاقته بحاضره وعصره؟ هل بالنّظر في مدى تحقّق الأهداف الّتي رسمها لمشروعه، وصرّح بها في كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة"؟ أم بالبحث في مدى نجاعة المعالجة المقاصديّة لمشاكل الحياة العمليّة، وقدرتها على الوفاء بحاجات أهل الزمان؟
أغراض المقاصد ودلالاتها
بسط الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور في فاتحة كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" دلالات علم المقاصد وأغراضه بقوله: "هذا كتاب قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلاميّة والتّمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراسا للمتفقهين في الدين، ومرجعا بينهم عند اختلاف الأنظار، وتبدّل الأعصار، وتوسّلا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لأتباعهم على الإنصاف...حتّى يستتبّ بذلك ما أردناه غير مرّة من نبذ التعصّب، والفيئة إلى الحقّ، إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببلالة تشريع مصالحهم الطّارئة متى نزلت الحوادث، واشتبكت النّوازل".
الفكر المقاصدي عند ابن عاشور
يرى الدكتور محمّد المدنيني أنّ نجاح الشّيخ ابن عاشور يتمثّل في استثمار وصف الفطرة ليطرح فكرة واقعيّة الّرّسالة وعالميّتها وسماحتها، ويثبت انسجام تعاليمها مع حاجات الإنسان، ويعيّن عددا من المقاصد العامّة مثل المساواة والحرّية وانتظام أمر الأمّة...ويثبت الشيّخ ما استقرّ في عرف أعلام المقاصد من أنّ المقاصد الضّرورية متمثّلة في أنواع خمسة هي حفظ الدّين، وحفظ النّفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ الأنساب المعبّر عنه بحفظ النّسل. ويعرّف الشّيخ ابن عاشور المقاصد على النحو التّالي: "هي الأعمال والتّصرّفات المقصودة لذاتها، والّتي تسعى النّفوس إلى تحصيلها بمساع شتّى أو تحمل على السّعي إليها امتثالا".
ولمّا كان القصد في كتابه "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" خصوص البحث عن مقاصـد الإسلام من التّشريع في قوانين المعاملات والآداب، فإنّه يقدّم للمقاصد تعريفا آخر ألصق بمجال تصرّفات النّاس في معاملاتهم، وهو أنّ "مقاصد النّاس في تصرّفاتهم، هي المعاني الّتي لأجلها تعاقدوا أو تعاطوا أو تغارموا أو تصالحوا". ويرى ابن عاشور أنّ المراد بالمقاصد الكليّة ما كان عائدا على عموم الأمّة أو على الأغلبيّة العظمى منها، وعمومها يقتضي أن تشمل المصلحة الجميع، وذلك مثل حماية البيضة، وحفـظ الجماعة من التفرّق، وحفظ الدّين من الزوال، وحفظ القرآن من التّلاشي العام أو التّغيير العام بانقضاء حفّاظه وتلف مصاحفه معا، فهذه الأمثلة وغيرها كثير تتناول جميع الأمّة وكلّ فرد منها صلاحا وفسادا.
وأمّا المصلحة والمفسدة الراجعتان إلى الأغلبية العظمى من الأمّة فهي الضروريّات والحاجيات والتحسينات مثل التّشريعات القضائيّة لفصل النوازل، والعهود المنعقدة بين حكّام المسلمين وبين حكّام الأمم المخالفة في تأمين تجّار المسلمين بأقطار غيرهـم إذا دخلوها للتجارة، والعقود المنعقدة مع تجّار غير المسلمين إذا دخلوا إلى مراســي.
إذن فمقاصد الشّريعة عند الشّيخ ابن عاشور ليست ملقاة على الطّريق، وليس بإمكان أيّ كان أن يدركها لأنّها "نوع دقيق من أنواع العلم"، ولذلك على الباحث فيها أن يجيد النّظر ويطيله، ويبذل ما في وسعه لإثبات مقصد شرعيّ لأنّ التّساهل في تعيينه والخطأ فيه يترتّب عنه وضع أدلّة وأحكام في غاية الخطورة.
انعدام الوصل بين مقاصد الشريعة والبعد الاجتماعي
لئن ثمّن الدكتور محمّد المدنيني الجهود التّنظيريّة الّتي بذلها الشيخ ابن عاشور، والتي أثمرت إنجازا علميّا تمثّل في علم جديد هو "علم مقاصد الشّريعة"، فإنّه يؤكّد الحاجة إلى تجديد النّظر في هذا العلم وإخضاعه للنقد والمراجعة والتّقويم. فقد أشار إلى أنّ تتبّعه لكتاب "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" بأقسامه الثّلاثة وقضاياه المتنوّعة ومسائله المتفرّعة، واستقصاءه للمَواطِن الّتي صرّح فيها الشّيخ ابن عاشور بأخــذه عن الإمام الشاطبي ونقله عن "الموافقات"، أفضي به إلى استنتاجات عدّة، أهمّها ما هو متعلّق بالمفاصلة بين "مقاصد الشريعة الإسلاميّة" والواقع الاجتماعي الذي عايشه مؤلّفه.
في هذا السّياق، يقول الدكتور المدنيني إنّه كان يفترض أنّ المسائل الطّارئة على المجتمع زمن الشيخ، كانت تقتضي أن يكون علم مقاصد الشريعـة الّذي بشّر به ، وسيلة ناجعة للإنقاذ الحضاري، وحلاّ عمليّا قريبا إلى الناس، وتفترض ألا يحمل كتاب" مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" دلالته الحقيقيّة في قسمه التّطبيقـي إلاّ بِوَصلِه بالمشكل الاجتماعي في عصره، خاصّة وأنّ الشّيخ كان مدركا لحاجات زمانـه، ومواكبا للتحوّلات الّتي شهدها عصره، ومتفاعلا مع المفكرين والعلماء والمصلحين من جيله الّذين كانوا يجلّون علمه ويكبرون فيه إخلاصه في سعيه للنهوض بمجتمعه.
لهذا السبب، يخلص الدكتور المدنيني إلى أنّ "اجتهاد ابن عاشور في كتاب "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة" جاء باهتا غير مؤثّر في واقع المجتمع، ويكون عقله الفقهي "عقلا معقولا" مقيّدا بما انتهى إليه القدامى، إذ "لم يتناول في تطبيقاته مسائل جديدة على الفقه الكلاسيكي، وأقرّ أحكام الفقهـاء المسائل الّتي عالجها، إلاّ أنّه، في تعليلها، استبدل المقاصد بالأصول".
كما يرى المؤلّف أنّ زهد الشيخ ابن عاشور في النّظر في الجزئيّات والقضايا الفرعيّة سهّل على ناقديه تصويب سهام نقودهم نحوه، ورميه بتجاهل قضايا مجتمعه وتغييبها، وانغماسه بعقله ووجدانه في عصور إسلاميّة خلت، وانصهاره التامّ في اهتماماتها وصراعاتها، بحسب ما أوضحه كلّ من عبد المجيد الشرفي في مؤلّفه "الإسلام والحداثة" ومحمّد علي القارصي في مؤلّفه "المنهج الإصلاحي لدى الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، خصائصه وأبعاده".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الفكر لبنان لبنان كتاب فكر نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مقاصد الشریعة فی کتابه فی کتاب المؤل ف الأم ة ة التی
إقرأ أيضاً:
دراما رمضان وتشويه الواقع
ما أن يهل علينا شهر رمضان المبارك إلا وتحاصرنا المسلسلات التلفزيونية من كل جانب، وعلى مختلف الجبهات والشاشات المجانية والمدفوعة، العربية منها والأجنبية. عدد لا حصر له من ساعات الإنتاج الدرامي يفوق عدد ساعات اليوم، أُنفق عليه الملايين في كل الدول العربية تقريبًا، والهدف هو وقت المشاهد العربي الثمين، والذي يجد نفسه بين مطرقة طوفان المسلسلات وسندان الترفيه المشوه للواقع.
يبدو للناظر من بعيد أن الهدف الظاهر من هذا الهجوم الدرامي في رمضان هو تحقيق التسلية والترفيه عن الصائمين أو بالتعبير الدارج «تسلية الصيام»، ولكن يغيب عنه أهداف أخرى كامنة يستهدفها منتجو هذه الأعمال والمسؤولون عن وضعها في الأوقات الممتازة على خريطة البث التلفزيوني. وهي أهداف لا تبتعد كثيرًا عن أهداف أعداء الأمة، خاصة فيما يتعلق بتشويه الواقع العربي وتشكيل أجيال جديدة لا تعنيها الثقافة ولا تهتم سوى بالترفيه.
واقع الحال أن الدراما التلفزيونية بشكل عام والأعمال المنتجة خصيصًا للعرض خلال شهر رمضان الفضيل ما زالت تحتل مكانة مهمة في المشهد الإعلامي والثقافي العربي، وتقوم بأدوار مهمة في تحقيق ترابط المجتمع ونقل التراث الثقافي بين الأجيال، خاصة إذا كانت أعمالًا جادة ترسخ القيم الإسلامية والعربية الأصلية، وتبتعد عن تشويه الواقع أو تجميله لتحقيق غايات معينة. وهنا تجب الإشادة بالنهج الذي يسير عليه تلفزيون سلطنة عمان، الذي يقوم منذ سنوات بإنتاج مسلسل تلفزيوني واحد تقريبًا للعرض في شهر رمضان، يتم انتقاء موضوعه بدقة، ويعكس الثقافة والخصوصية العمانية.
ما أريد أن أقوله إن الإسراف في إنتاج الأعمال الدرامية والإصرار على عرضها في شهر مبارك يجب أن تتوجه فيه أعمالنا كلها نحو الخالق عز وجل، يمثل ظاهرة تكاد تنفرد بها مجتمعاتنا العربية، التي يبدو أنها تخلصت من كل مشاكلها ولم يعد هناك ما يشغلها سوى إنتاج وعرض ومتابعة هذه الأعمال. يكفي هنا أن نشير إلى بعض الإحصاءات غير المؤكدة بالطبع عن عدد هذه الأعمال. ووفقا لصحيفة «الإمارات اليوم» فإن هناك نحو 40 ساعة درامية تُعرض يوميا على الشاشات العربية خلال شهر رمضان هذا العام، حيث يتنافس نحو 85 مسلسلًا ضمن السباق الدرامي لرمضان. وتتصدر الدراما المصرية بـ40 مسلسلًا تقريبًا، تليها الدراما الخليجية بـ35 عملًا، بينما يصل الإنتاج السوري واللبناني إلى 11 عملًا.
لا تحتاج إلى متابعة كل هذه المسلسلات لكي تحكم على القضايا التي تعالجها، فالكتاب -كما يقال- يظهر من عنوانه. إن مراجعة سريعة لأسماء هذه المسلسلات تكشف لنا أن منتجيها يلعبون على الوتر الجاذب، أو ما يعتقدون أنه جاذب للمشاهد العربي في الدراما التلفزيونية، والمكون من خليط من الحب والكراهية والخيانة والقهر والتآمر والطمع والأنانية والظلم والتشتت والتنمر والعنصرية، وهو ما يجعلنا نقول إن غالبية هذه الأعمال تشوه الواقع ليس في الدول المنتجة لها فقط، ولكن في العالم العربي بوجه عام.
لقد حازت قضية دور وسائل الاعلام، وفي القلب منها دور الدراما عامة والتلفزيونية على وجه الخصوص التي تدخل البيوت دون استئذان، على اهتمام كبير من جانب الباحثين في الإعلام وعلوم الاجتماع منذ فترة طويلة.
وحذرت دراسات عديدة من الإفراط في الإنتاج وفي التعرض لهذه المسلسلات بسبب تأثيراتها السلبية على المجتمعات. وقد طور هؤلاء الباحثون نظريات إعلامية تفسر هذه الظاهرة وتتنبأ بما يمكن أن تحدثه في المجتمعات المحافظة مثل غالبية مجتمعاتنا العربية.
ولعل من أبرز هذه النظريات نظرية التعلم الاجتماعي من وسائل الاعلام، التي يمكن أن نرد لها غالبية السلوكيات السلبية التي يكتسبها الشخص نتيجة متابعة المسلسلات التلفزيونية.
ومن خلال نظرية «الغرس الثقافي» يمكن أن نزعم بدرجة ثقة كبيرة أن التعرض الطويل للمسلسلات التلفزيونية يسهم في تشكيل تصورات المشاهدين للواقع.
فقد يعتقد المشاهدون كثيفي المشاهدة لهذه المسلسلات أن العالم المقدم على الشاشة هو انعكاس دقيق للواقع الاجتماعي، بينما تقول الحقائق على الأرض إن الدراما التلفزيونية تقدم نسخا مشوهة من هذا الواقع، مثل المبالغة في تصوير الجرائم، وتضخيم المشاكل والحط من شأن بعض الطبقات والمهن والشعوب، مما يؤدي إلى إصابة المشاهدين بـ«متلازمة العالم الشرير»، حيث يعتقد الجمهور أن المجتمع من حوله أكثر خطورة مما هو عليه في الحقيقة. وتقول النظرية إن المشاهدة الكثيفة للتلفزيون، كما يحدث الآن مع الدراما الرمضانية، تجعل الناس يشعرون أن العالم مكان غير آمن، وبالتالي فإن من يشعرون بالخوف ربما يتقبلون القمع إذا كان سيساعدهم في خفض مستوى القلق لديهم. ويؤكد واضعو هذه النظرية أن التعرض لرسائل التلفزيون الموحدة يحدث ما أسموه تأثير «الغرس» ويعني تشكيل الرؤية عن العالم المحيط وتعلم الأدوار الاجتماعية والقيم العامة. وإذا صحت نظرية الغرس، فإن الدراما التلفزيونية قد يكون لها تأثيرات ليست فقط مهمة، ولكن أيضًا غير مرئية ومتراكمة على المجتمع.
إذا أردنا أن نرصد كيف تسهم المسلسلات التلفزيونية العربية في تشويه الواقع فإن أول ما يجب أن نلاحظه أن غالبية هذه المسلسلات تقدم رؤى وأفكارا حول القضايا الاجتماعية والتجارب الإنسانية غالبا ما تختلف عن تمثلات الثقافة العربية والمعايير الاجتماعية المتعارف والمتفق عليها والحياة اليومية التي يعيشها الناس، والتي إما أن تكون مفرطة في تجميل الواقع أو مفرطة في عرض الجوانب المظلمة فيه.
وفي هذا الإطار وفي ضوء نظرية «المعايير الثقافية» يمكن أن نقول إن المسلسلات التلفزيونية العربية لا تؤثر فقط وبطريق مباشر على الأفراد، ولكنها تؤثر أيضًا على الثقافة والمعايير والقيم في المجتمع، وتشكل الأفكار والصور والسلوك على المدى الطويل.
كما تقوم بوضع الأفكار والتصورات الممكنة والتقييمات التي يستطيع أفراد الجمهور أن يحددوا اختياراتهم القيمية والسلوكية بناءً عليها. علينا أن ندرك خطورة هذا الانفجار الدرامي العربي على مجتمعاتنا وتماسكها. إن أحد الطرق التي تشوه بها الدراما التلفزيونية الواقع يتم من خلال المبالغة وتكرار القوالب النمطية والصور الذهنية المعلبة، إذ تميل إلى تقديم صور غير دقيقة للواقع، سواء عند تصوير الثراء والترف أو عند تصوير الفقر والمعاناة.
ويمكن أن يؤدي هذا التفاوت إلى تأليب فئات المجتمع على بعضها البعض، وبالتالي إلى خفض مستوى التسامح الإنساني في المجتمعات العربية.
من الواضح أن الدراما العربية، أيا كان منشأها، دأبت منذ سنوات وما زالت على تشويه القضايا الاجتماعية التي تتناولها، إذ يتم تقديم فئات المجتمع وأفراده بشكل لا يعكس أدوارهم الحقيقية في المجتمع.
لا يجب أن يغيب عنا أن أنماط الحياة التي تقدمها الدراما التلفزيونية العربية على أنها مثالية تؤثر على تصورات المشاهدين للنجاح والسعادة. وعلى هذا الأساس فإن الفجوة بين ما تقدمه وبين واقع الحياة يمكن أن تخلق شعورًا لدى المشاهدين بالانفصال عن الواقع، وتؤدي إلى زيادة عدم الرضا عن الواقع، وبالتالي زيادة الاحتقان وحالات العزلة الاجتماعية.
أمام عدم قدرة الدول في التحكم في المسلسلات التلفزيونية التي يشاهدها مواطنوها في رمضان، بعد تعدد منصات العرض التقليدية، والجديدة فلا يبقى أمامنا سوى مخاطبة منتجي هذه الأعمال بالتوقف عن المشاركة، بقصد أو دون قصد في تشويه الواقع الاجتماعي العربي وتدمير الثقافة العربية، والحفاظ على ما تبقى من خصوصية شهر رمضان المبارك.