ديوان كمن يريد أن يمحو.. عندما يتسلل السرد إلى قصيدة يلحُّ عليها الاختزال
تاريخ النشر: 7th, July 2023 GMT
دمشق-
"كتبتُ قصيدةً منذ قليل
ولأنني مقلٌّ وقصيرُ النَّفَس كما تعرفون
فقد كانت قصيدةً قصيرة"
بهذا المقطع الشعري الافتتاحي من قصيدة حملت عنوان الديوان "كمن يريد أن يمحو" الصادر حديثا عن دار راية- فلسطين، يشارك الشاعر السوري المقيم في ألمانيا حسين بن حمزة قارئه المسوّغ وراء الصبغة الأسلوبية (الجمل القصيرة، البساطة، الاختزال) التي تطبع القصائد في ديوانه الجديد.
فالشاعر "مقلّ وقصير النفس" ويحاول أن يعبّد ورقه بحبر لا يتجاوز في التعبير واقع حالته الشعورية في راهن الكتابة، ولقد قيل عنه -كما يخبرنا في القصيدة- إنه "مهووس بالمحو" ولذا فإن قصائده "نحيفة وقصيرة"، وإن هذه الثيمات الأسلوبية تمنح شعر بن حمزة جمالية خاصة جوهرها الصدق وغلبة البساطة على التكلّف في المفردات وأساليب التعبير.
في حين جاءت موضوعات القصائد متنوعة بتنوع التجارب الوجدانية والذاتية للشاعر، فنقرأ قصائد عن الشعر والقصيدة والكتابة وتجلياتها المختلفة، وعن الجار أو "الآخر" الألماني، وعن الحب والاغتراب والمرأة.
الشاعر حسين بن حمزة جاءت قصائده متنوعة بتنوع التجارب الوجدانية والذاتية (الجزيرة) عن المحو والاختزاليَأْلَفُ القارئ لقصائد حسين بن حمزة -الممتدة على مشروع شعري يضم 4 دواوين- أسلوب الشاعر الجامع بين بساطة معجمية، واختزال شكلي، وتعقيد شعري جواني تشكل فيه الذات منطلقا للرؤية والبوح.
وهو ما يمكن الوقوف عليه أيضا في ديوانه الجديد، كما لو أن بن حمزة يحاول التأكيد على قيمة الموضوع الشعري والحالة الوجدانية على حساب الاستفاضة القائمة على تعقيد الشكل وكثرة المفردات والصور الشعرية.
"لقد قيل عني ذات يوم
إنني مهووسٌ بالمحو
وإنني إن واصلتُ الكتابة هكذا
سأنتهي إلى العجز والصمت
وهذا ما حدث فعلا
فقد تابعتُ تنحيف هذه القصيدة
إلى أن صارت مضغوطة في جملة هزيلة وخافتة
جملة كان يمكنني في النهاية أن أتخلّى عنها هي أيضا
وأن تظلّ القصيدة التي أحدّثكم عنها
مجرّد فكرة ميتة في رأسي!"
وعن هذا النزوع إلى الاختزال والمحو، يقول بن حمزة للجزيرة نت "الاقتصاد في الكتابة، التكثيف، الحذف المستمر أثناء الكتابة، محاولة الوصول إلى المعنى أو الاستعارة الشعرية بأقل ما يمكن من الكلمات.. كل ذلك بدأ وتطور كأسلوب ومزاج شخصي للكتابة، ولم يكن يوما إلحاحا، بمعنى أني لا أبذل جهدا زائدا كي تكون القصيدة بهذا الشكل، قصيرة، خافتة، مُعفاة من الاسترسال المجاني والشرح الفائض عن الحاجة".
ويضيف "أكتب بالطريقة التي تشبهني، وأجد نفسي مرتاحا وخفيفا ومُخلصا، في الوقت نفسه، لفكرتي عن الشعر. فأنا لا أميل إلى الثرثرة الزائدة والكتابة الفضفاضة في الشعر عموما. والثرثرة هنا لا تعني فقط الزيادة في عدد الكلمات أو السطور بل تعني أيضا، وهذا الأهم، أن يشرح الشاعر ما يكتبه وأن يستبسل في إضافة ما لا يفيد المعنى الذي تم الوصول إليه. ولا بد من الإشارة إلى أن شعرية القصيدة أو جودتها لا تتحقق في المحو والاقتصاد. هناك قصائد قصيرة سيئة، وهناك قصائد طويلة أو متوسطة الطول جيدة".
ولعل ذلك المنطق الأدبي والجمالي الذي ينطلق منه بن حمزة في شعره هو الذي يدفع القارئ للانحياز إلى قصائده بسيطة الشكل والمفردات وعميقة المضمون.
السرد في القصيدةيهيمن السرد وعناصره الفنية على قصائد بن حمزة التي تبدو للقارئ كمشاهد من قصص متعددة يحكمها زمان ومكان محددان، وتتصدرها شخوص لا نقف إلا على ظلال وجودها وشعريته لنبقى بانتظار حضورها مجددا؛ فيتثنى لنا التقاط بعض تفاصيلها على طريق اكتمالها في المخيّلة.
"كانتْ من مدينة بحرية
ولذلك لم يكن غريبا
أن يُسمع وهي نائمة
هديرُ موجات
تلعقُ صخور الشاطئ
أو صيحاتُ نوارس
تنقضُّ من الأعالي
على أسماك تعومُ في أحلامها!"
ونرصد في هذه القصيدة التي حملت عنوان "امرأة من الساحل" مثالا عن الإقلال في ذكر التفاصيل عن الشخوص في أشعار بن حمزة، فلم نعرف عن هذه المرأة الساحلية سوى أن لنومها "صوت هدير الموجات وصيحات نوارس" وهي استعارات قليلة تنغلق عليها القصيدة، داعية القارئ للمشاركة في صياغة هذه الشخصية وفق ما تمليه عليه المخيلة.
وفي هذا الإقلال والاختزال ينطوي الصمت بدلالاته وشعريته، ويصبح قطارا من البوح للذين يتأملون في ما سكتت عنه القصيدة:
"لا أكتبُ قصيدةً قصيرة
بل أحاولُ أن أكتبَ
ما يبقى من قصيدةٍ طويلة"
وعن غلبة الصمت في أشعاره يقول بن حمزة: "الصمت أو الميل إلى الوحدة والعزلة صفة أخرى من صفات وجودي الشخصي في الحياة عموما. وأعتقد أن ثمة علاقة ما بمزاج ذاتي يعكس اغترابا أو غربة ما عن الآخرين أو عن الحشود. الصمت يدفع المرء أكثر إلى الهامش وإلى الحواف البعيدة".
ويضيف "أظن أن جزءا من هذا كان موجودا مسبقا قبل الكتابة. الصمت والإقلال والخفوت والانزواء.. كلها صفات ذاتية تسرّبت مع الوقت إلى الكتابة أيضا".
الاغتراب والجار الألمانيمنذ هجرة حسين بن حمزة إلى ألمانيا قبل 6 أعوام، لم تفارق أشعاره مفردات الاغتراب واللجوء السوري؛ فدأب على التقاط مشاهد من يوميات اغترابه في ألمانيا وتضمينها في قصائده لتغدو سبيلا إلى البحث عن معنى جديد في تجربة ومجتمع جديدين.
فتظهر شخصية "الجار الألماني" كملهم للشاعر في ديوان "كمن يريد أن يمحو"، فيدوّن في قصيدة "زيارة ذاتية":
"لا أحد في الداخل
جاري الألماني يعيش وحيدا
ولكنه كلّ يومين أو ثلاثة
يخرجُ من المنزل
يجولُ حوله
أراقبه من النافذة
وهو يُعاين الشارع ومدخل البيت وسور الحديقة
يتأكدُ من العنوان كأنه شخصٌ تلقّى دعوة
يتردّد قليلا
قبل أن يجتاز الحديقة باتجاه المدخل
يفتح الباب
ليزور نفسه!"
أما في قصيدة حملت عنوان "قصيدة نظيفة" يجد الشاعر في اهتمام جاره الألماني بحديقة منزله استعارة لاهتمامه هو بنظافة قصيدته، فيدوّن:
"أحيانا تكون ورقة طيّرها الهواء
أو حصاةً صغيرة رَكَلَها عابرٌ ما
أنظرُ إليه
وهو يلتقطُ الحصاة أو الورقة
بطريقة من يرفع حشرةً ميتة
ويرميها بعيدا
..
آه أيها الجارُ الغريب الأطوار
أنا أيضا أفعلُ هذا
كلما وجدتُ كلمةً زائدة في قصائدي!"
ويشير بن حمزة -في حديثه للجزيرة نت- إلى أثر الاغتراب على أشعاره بالقول "إن فقدان الماضي وأمكنة الماضي تسهم بالتأكيد في تعزيز العزلة وترسيخ الصمت. ولكن من جهة أخرى ساهم هذا الانتقال (إلى ألمانيا) في تسرب موضوعات جديدة إلى كتابتي. سابقا كان من النادر أن تستجيب مخيلتي لأحداث مباشرة وقضايا كبرى وساخنة. الكثير من قصائد ديواني الجديد "كمن يريد أن يمحو" كُتبت في ألمانيا، وحضرت فيها مفردات مثل اللجوء، والسوريين، والجار الألماني وغيرها. ولكني حاولت طبعا أن تحضر بطريقة تناسب مزاجي في الكتابة".
ويرى الشاعر في انتقاله إلى ألمانيا اقتلاعا وإن كانت هجرته إلى تلك البلاد خيارا شخصيا، ولذا "كان من الطبيعي أن تظهر مشهديات وتفاصيل من هذه الإقامة. أن يظهر الجار الألماني والمكان الألماني وإيحاءات من فكرة المنفى والمكان الغريب".
غير أن ذلك الانتقال كان سببا أيضا في إلهام الشاعر قصائد جديدة؛ فيقول عن ذلك "الإقامة الجديدة سمحت لي باستعادة ثقتي بالكلمات. عدتُ للكتابة بزخم أكثر مما اعتدتُ عليه. المكان الجديد لعب دورا حاسما في ذلك".
والجدير بالذكر أن ديوان "كمن يريد أن يمحو" هو الرابع في رصيد بن حمزة بعد مجموعاته الشعرية "رجل نائم في ثياب الأحد" (1997)، و"قصائد دون سن الرشد" (2018)، و"أتحدث عن الزرقة لا عن البحر" (2020).
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الصفقة المنتظرة: نتنياهو يريد ولا يريد
الأنباء المتداولة حول صفقة تبادل الأسرى والهدنة في قطاع غزة تراوح بين التفاؤل والتشاؤم. تارة يتحدثون عن تقدم كبير إلى درجة تحديد مواعيد محتملة للتوصل إلى اتفاق كامل، وتارة أخرى يتحدثون عن صعوبات كبيرة لا تساهم في عملية التقدم بل وتهدد بفشل الجهود المبذولة من الوسطاء القطريين والمصريين. ولكن وبرغم الأخبار المتناقضة في الحقيقة هناك تقدم ملموس وتمت إزالة عقبات جوهرية، ولكن يبقى السؤال الذي يحير الكثيرين: هل بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية معني بالتوصل إلى صفقة أم لا؟
التقدم الكبير الذي أحرز تم بعد أن تنازلت حركة «حماس» عن مطلب وقف الحرب ووافقت على إعادة انتشار للقوات الإسرائيلية وليس انسحاباً كاملاً كما كانت شروطها قبل الجولة الأخيرة. وإسرائيل بالمقابل وافقت على الانسحاب من المناطق المأهولة ومن محور «نتساريم» ووضع آلية لفحص السيارات التي ستدخل من الجنوب للشمال وبالعكس، وفي هذا الموضوع تعهدت قطر على ما يبدو بتوفير أجهزة لمسح السيارات بأشعة إكس، بينما يتحرك الأفراد بحرية. كما وافقت إسرائيل على الانسحاب من محور فيلادلفيا باستثناء مساحة تصل بين كرم أبو سالم وبين معبر رفح. وتم الاتفاق على فتح معبر رفح على أساس اتفاق عام 2005 برقابة أوروبية وكاميرات إسرائيلية. وستبقي إسرائيل مواقع لها في الشمال وعلى طول الحدود، كما ستخضع كل المناطق لمراقبة إسرائيلية بكاميرات ومسيّرات.
ولا تزال هناك خلافات حول مطلب إسرائيل بتزويدها بقائمة لكل المحتجزين الإسرائيليين الأحياء، والإفراج عن النساء المجندات باعتبارهن ضمن تصنيف الحالات الإنسانية والرجال المدنيين المصنفين عسكريين بسبب خدمة الاحتياط في الجيش. وخلاف حول الأسرى الفلسطينيين حيث تطالب إسرائيل بفيتو على عشرات الأسماء بمن فيهم القادة مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات، وقادة الجناح العسكري مثل عبد الله البرغوثي وحسن سلامة وإبراهيم حامد. بينما «حماس» تصر على الإفراج عنهم مع موافقتها على مبدأ الفيتو الإسرائيلي. وتصر إسرائيل على ترحيل بعض الأسرى إلى خارج الوطن بينما تريد «حماس» أن تكون الحرية للأسرى للاختيار سواء بالبقاء في الوطن أو البقاء خارجه.
المشكلة التي توحي بتناقض كبير لدى نتنياهو فيما يتعلق بالصفقة، فهو يصر على عدم وقف الحرب حتى القضاء على حركة «حماس» كما صرح بذلك لصحيفة «وول ستريت جورنال» أول من أمس. وهذا يعني أنه لا يريد الصفقة. وفي أحيان أخرى يقول إن هناك تقدماً في المفاوضات وأنه يريد صفقة ولكن ليس بكل ثمن. وفي أحسن الأحوال هو يريد المرحلة الأولى فقط التي تسمى المرحلة الإنسانية ولا تشمل الجنود والشبان الإسرائيليين. ويبدو ذلك بسبب مطالب الإدارة الأميركية الحالية وأيضاً رغبة الرئيس المنتخب دونالد ترامب في وقف إطلاق النار قبل دخوله إلى البيت الأبيض.
من التصريحات الإسرائيلية المتعاقبة يتضح أن إسرائيل تريد الإبقاء على الاحتلال في قطاع غزة في وضع أقرب إلى الوضع في الضفة الغربية، أي احتلال مع حرية عمل تتيح القيام باجتياحات وعمليات قصف واغتيالات متى تشاء السلطات الإسرائيلية. ومن الواضح أن الحكومة الإسرائيلية التي اتخذت قراراً بتصفية كل الذين على علاقة بهجوم السابع من أكتوبر من مقاتلين وقادة عسكريين ومدنيين. أي كل المسؤولين في «حماس» وكل النشطاء والذين تبوؤوا مناصب في الحركة. وهذه عملية لن تنتهي في عدة شهور بل تحتاج لسنوات. ولهذا من الصعب تصور وضع تنهي فيه إسرائيل احتلالها لغزة في غضون السنوات القليلة القادمة.
تصريحات نتنياهو ومواقفه تتعرض لانتقادات شديدة من قبل أهالي المحتجزين في غزة، ومن قِبل قادة المعارضة الذين يتهمون نتنياهو بأنه يحاول تعطيل الصفقة، وأنه لا يريد الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين، لأن وقف الحرب يعني أنه سيقدَّم للمحاكمة وسيتعرض لاتهام بالتقصير في الحرب عند تشكيل لجنة تحقيق رسمية، ويطالبون نتنياهو بعقد صفقة حتى لو كان الثمن وقف الحرب، على اعتبار أن الحرب استنفدت أهدافها ولم تعد هناك أهداف واضحة. وأن استمرار الحرب فقط لأسباب شخصية بالنسبة لنتنياهو ولا تعود للدولة وحاجتها للحرب، وفي هذه الفترة تطالب المعارضة بإسقاط نتنياهو.
نتنياهو من جهته يشعر بالعظمة على ضوء التطورات التي حصلت في المنطقة كنتيجة للمغامرة المجنونة التي أقدمت عليها حركة «حماس»، وهو ينسب لنفسه كل هذه التغييرات سواء بتدمير غالبية قدرات حركة «حماس» والضربات الكبيرة التي تعرض لها «حزب الله»، وسقوط نظام بشار الأسد في سورية، وإضعاف وتفتيت محور إيران الذي اصطُلح على تسميته «محور المقاومة». وهو يتمتع الآن بدعم شعبي أفضل من الذي كان له قبل الحرب، وبالتالي لا يبالي بصرخات المعارضة ولا حتى أهالي الأسرى، وما يهمه هو تعزيز علاقته بالرئيس ترامب. وعلى الأغلب علاقته بترامب هي التي ستحدد سلوكه القادم، وهو يراهن على تغير الرأي العام الإسرائيلي مع الوقت.
(الأيام الفلسطينية)