إسرائيل ودعم الديكتاتوريات.. لهذا تساند شعوب أميركا اللاتينية القضية الفلسطينية
تاريخ النشر: 13th, November 2023 GMT
في أعقاب هجمات الاحتلال الإسرائيلي الوحشية على قطاع غزة، قررت الحكومة البوليفية قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال. وأوضح وزير الخارجية البوليفي "فريدي ماماني" أن بلاده تدين العدوان على غزة، فيما وصفت وزيرة الرئاسة البوليفية "ماريا برادا" تصرفات الاحتلال بـ"الجرائم ضد الإنسانية" (1).
بشكل مماثل، استدعت تشيلي سفيرها لدى الاحتلال (2)، وقالت وزارة الخارجية التشيلية إن عمليات الاحتلال أشبه بعقاب جماعي للفلسطينيين المدنيين.
ردًّا على ذلك قام الاحتلال بتعليق الصادرات الأمنية إلى كولومبيا. وتُعَدُّ دولة الاحتلال من أكبر مزوّدي الجيش الكولومبي بالأسلحة، ويربط الدولتين تعاون متعدد المستويات "تجاري وعسكري وتعليمي" (4)، لكن ذلك لم يمنع كولومبيا من الاعتراف بالدولة الفلسطينية عام 2018، منضمة بذلك إلى ركاب دول أميركا الجنوبية والوسطى التي اعترفت جميعها باستقلال وسيادة فلسطين (5)، عدا بنما والمكسيك، في حين أن الأخيرة دعت أيضا إلى وقف أعمال العنف التي يمارسها جيش الاحتلال في غزة.
الديكتاتورية.. الملعب المفضّل للشيطان
لا يُعدُّ دعم دول أميركا اللاتينية للحقوق الفلسطينية وليد الأمس، فثمة جذور للعلاقات بين الطرفين. وقد ظل موقف تلك الدول عُرضة للتغيير منذ أربعينيات القرن الماضي وإلى الآن؛ إذ حظي المشروع الصهيوني بدعم أميركا اللاتينية في بداياته، وأيَّدت 13 من دول القارة قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وهو القرار الذي نشأت عنه دولة الاحتلال، فيما كانت كوبا الدولة الوحيدة في القارة التي صوتت آنذاك ضد القرار. وبعد نكبة مايو/أيار 1948 وقيام دولة الاحتلال، صوتت جميع حكومات أميركا الجنوبية الممثلة في الأمم المتحدة على قبولها عضوا في الأمم المتحدة (6).
وبحسب الموسوعة الفلسطينية، توجد ثلاثة عوامل وراء وقوف دول القارة الجنوبية مع إنشاء دولة الاحتلال، أولها ما يسمى بـ"النزعة الحقوقية"، التي تعني أن الدولة تكتسب شخصية قانونية دولية فور سيطرتها على أرض ما، كذلك نفوذ الولايات المتحدة في تلك الدول والنشاط الصهيوني الذي عمل منذ وقت مبكر على تعبئة المنطقة لصالحه. وتشير الموسوعة إلى أن العاملين الأخيرين كانا السبب وراء تطبيق مبدأ "النزعة الحقوقية" على الحالة الفلسطينية رغم عدم اتساقه مع المبادئ الإنسانية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلى سبيل المثال، صوتت دولة "هايتي" ضد قرار التقسيم في اللجنة، ثم عاد مندوبها ليصوت بالقبول في الجمعية العامة، فيما أعلن أنه يفعل ذلك بتعليمات مباشرة من حكومته لأسباب اقتصادية، وكأنه يشير إلى الضغوط الأميركية الهائلة على بلاده! (7)
الدعم اللاتيني لدولة الاحتلال ظل مستمرا طيلة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يتخذ شكلا آخر مع زيادة صادرات أسلحة دولة الاحتلال إلى القارة اللاتينية خلال فترات القمع الديكتاتوري. في كتابه "المختبر الفلسطيني" يقول الصحفي الاستقصائي الأسترالي الألماني "أنتوني لوينشتاين" إن الاحتلال قام بتدريب قوات من تشيلي للمساعدة في قمع الشعب خلال فترة الحكم الديكتاتوري لـ"بينوشيه"، كذلك أظهرت برقية من السفارة الأميركية في تشيلي أن دولة الاحتلال كانت تصدر الأسلحة لـ"بينوشيه" بعد الحظر الذي فرضه الكونغرس على تشيلي عام 1976. ويضيف "لوينشتاين" أن الأراضي الفلسطينية المحتلة تُعَدُّ مختبرا لأسلحة الاحتلال، الذي يمتلك أعلى نسبة في العالم من الصادرات العسكرية مقارنة بإجمالي صادراته (8).
الأمر ذاته تكرر مع الديكتاتور الأرجنتيني "خورخي فيديلا"، إذ أمدّه الاحتلال ما بين أعوام 1978-1983 بصادرات عسكرية بلغت قيمتها نحو مليار دولار، وفي غواتيمالا لعبت الأسلحة الرشاشة إسرائيلية المنشأ من طراز "عوزي" دورا دمويا في اغتيال الآلاف من أبناء البلد (9)، وفي كولومبيا لم تكتفِ دولة الاحتلال بتصدير الأسلحة كي تتمكن الحكومة من القضاء على حركات التمرد اليسارية، بل قدّم الاحتلال أيضا التدريب للقوات الكولومبية شبه العسكرية وهو ما كشف عنه القائد الكولومبي "كارلوس كاستاو" في سيرته الذاتية "اعترافي" (Mi confesion).
وفقا لـ"كاستاو"، فقد أسهم في تدريب تلك القوات وإمدادها بالأسلحة الملازم السابق في جيش الاحتلال "يائير كلاين" (10)، الأمر الذي يوضّح ما عناه الرئيس الكولومبي "جوستافو بيترو" حين غرّد قائلا: "لا يستطيع أمثال يائير كلاين أن يقولوا ما هو تاريخ السلام في كولومبيا، لقد أطلقوا العنان للمذبحة والإبادة الجماعية في البلاد" (11). أما في السلفادور، شكّلت الواردات العسكرية الإسرائيلية 83% من إجمالي أسلحتها ما بين أعوام 1975-1979. وباختصار، كانت الدول اللاتينية القابعة تحت الحكم الديكتاتوري سوقا إقليمية لصادرات أسلحة الاحتلال، فيما بدت التجربة الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين جذابة للحكومات الاستبدادية في القارة، الأمر الذي أدى إلى حالة من التوافق والتناغم بين دولة الاحتلال والحكومات العسكرية اليمينية في أميركا اللاتينية (12).
Si hay que suspender relaciones exteriores con Israel las suspendemos. No apoyamos genocidios.
Al presidente de Colombia no se le insulta.
Convoco a América Laltina a una solidaridad real con Colombia. Y si no es capaz, será el desarrollo de la historia la que dirá la última… https://t.co/WpafrsWkC2
— Gustavo Petro (@petrogustavo) October 15, 2023
دول أميركا اللاتينية.. من اليمين إلى اليسار
وعلى النقيض من الأنظمة الحاكمة، تسببت مشاركة الاحتلال الإسرائيلي في قمع شعوب أميركا اللاتينية خلال القرن الماضي في نفور الشعوب اللاتينية من إسرائيل، وزيادة شعورها بالالتحام مع القضية الفلسطينية، وهو ما تبلور إلى موقف سياسي لهذه الدول بعد سقوط الديكتاتوريات العسكرية. تعليقا على ذلك يقول الباحث "جمال عبد الجواد"، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن صعود الأحزاب اليسارية في هذه الدول أعاد تشكيل موقفها من الصراع الفلسطيني، في الوقت الذي نظر فيه اليسار العالمي الجديد إلى دولة الاحتلال باعتبارها جزءا من ظاهرة الاستعمار المتسبب في إفقار واضطهاد شعوب العالم الثالث (13).
ويشير "عبد الجواد" إلى أن الشعوب الأصلية في أميركا اللاتينية تعرضت لمحاولات إبادة، الأمر الذي يتشابه بدرجة ما مع الوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة. وتؤيد ذلك الرأي "سيسيليا بايزا"، أستاذة العلاقات الدولية في مؤسسة "جيتوليو فارغاس" في البرازيل، التي ترى أن الفلسطينيين وجدوا حليفا لهم في الشعوب الأصلية في أميركا اللاتينية، وأن النضال الفلسطيني ضد فقدان الأراضي والاستعمار والعنصرية لاقى تعاطفا من جانب الشعوب الأصلية التي خاضت نضالا مشابها وتتفهم معنى القمع (14).
تؤكد تظاهرات التضامن التي انطلقت في تلك الدول من قِبل آلاف المواطنين الذين يُلوِّحون بالأعلام الفلسطينية وينددون بالعدوان على قطاع غزة أن الأمر بالفعل لا ينحصر في الرؤى الحكومية أو في صعود تيار اليسار بعد حقبة الاستبداد العسكري فحسب، بقدر ما يبرهن أن التضامن بين اللاتينيين والفلسطينيين يجد جذورا حقيقية على المستوى الشعبي.
علاقات الشعوب: جذور قديمة وتفاهم حول الحريات
يقول المختص في الشأن البرازيلي "راسم بشارات" إن معرفة شعوب أميركا الجنوبية بالفلسطينيين تعود إلى بدايات القرن الـ19 إثر هجرة مجموعات فلسطينية إلى تلك الدول نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة وتأسيسهم مجتمعات في السلفادور ونيكاراغوا والإكوادور وتشيلي والبرازيل، والأخيرة تزايدت نحوها الهجرة على وجه الخصوص بعد زيارة الإمبراطور البرازيلي "بيدرو الثاني" إلى الشرق الأوسط وإبداء انبهاره بالثقافة العربية (15).
على جانب آخر، يختلف المفكر البيروفي ذو الأصول الفلسطينية "خوان أبو غطاس" مع هذا الرأي، ويشير إلى أن معظم سكان أميركا اللاتينية لم يكونوا على علم بوجود الشعب الفلسطيني رغم أن العديد منهم يعيشون في هذه المناطق منذ عدة أجيال، ويرى "أبو غطاس" أن ذلك يرجع إلى أن هوية المهاجرين الفلسطينيين ظلت غير واضحة لأنهم وصلوا إلى تلك البلاد من خلال جوازات سفر تركية، ولذلك أصبحوا يُعرفون بين أهل القارة باسم "الأتراك" (16).
وبعيدا عن اختلاف الآراء حول نظرة أهل القارة الجنوبية إلى الفلسطينيين المهاجرين خلال القرن الـ19، فإن أستاذة التاريخ "جيسيكا مور" تشير إلى أن الدوريات اليسارية في الأرجنتين بدأت في مناقشة الوضع السياسي الفلسطيني بصورة متكررة، منذ انتخاب "ياسر عرفات" رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية (17). وتضيف "مور" أن إستراتيجية "عرفات" في تلك الفترة المبكرة كانت واضحة لقادة اليسار في أميركا اللاتينية، مثل "ماريو سانتوتشو" مؤسس حزب العمال الثوري في الأرجنتين، الذي اعترف بـ"عرفات" ممثلا حقيقيا للقضية الفلسطينية.
وتذكر "مور" أنه بحلول عام 1973، كانت أحزاب التيار اليساري في أميركا الجنوبية تقف إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية وتؤمن بأهدافها المعلنة في حق العودة وتقرير المصير، مثلما أدرك العديد من المثقفين ذوي الميول اليسارية في القارة أبعاد القضية الفلسطينية، الأمر الذي دفعهم إلى الاحتفاء بماضي بلادهم الذي يحفل بتاريخ طويل من تدفق المهاجرين العرب.
ويربط المفكر "خوان أبو غطاس" (18) بين خطاب "ياسر عرفات" أمام الأمم المتحدة في عام 1974 وأخذ حركة المقاومة الفلسطينية على محمل الجد من قِبل أميركا اللاتينية. ويرى "أبو غطاس" أن النضال الفلسطيني أصبح منذ ذلك الحين أحد موضوعات النقاش الحتمية في الأوساط السياسية، وأن كلمة "عرفات" دفعت الكثيرين إلى إدراك الحجم الحقيقي للقضية الفلسطينية وطبيعة النضال الفلسطيني. ويؤكد المفكر البيروفي أن اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال التمييز العنصري بقرار الأمم المتحدة عام 1974 كان عاملا حاسما، إذ سمح للكثيرين في أميركا اللاتينية باتخاذ الخطوة التي كانوا مترددين في اتخاذها بسبب خوفهم من الاتهام بمعاداة السامية.
تزامن ذلك وخروج كوبا عن السياسة الأميركية وقطع علاقاتها مع دولة الاحتلال عام 1973، قبل أن تتبعها نيكاراغوا عام 1979 (19). لكن التغيرات العالمية التي رافقت انتهاء الحرب الباردة تسببت في تراجع الدعم اللاتيني للقضية الفلسطينية بعد بروز الولايات المتحدة قُطبا أحاديا مهيمنا. على سبيل المثال، وافقت البرازيل على إلغاء قرار الأمم المتحدة 3379 الذي عَدَّ الصهيونية شكلا من أشكال التمييز العنصري، وكانت البرازيل إحدى الدول التي سعت للربط بين الصهيونية والتمييز العنصري في الأمم المتحدة خلال وقتٍ سابق! كذلك الأرجنتين التي تعرّضت لأزمات اقتصادية وعدم استقلال سياسي مما أجبرها على التراجع عن مواقفها السابقة، وتمثل ذلك في وقوفها ضد القرار 94/48 عام 1993، الخاص بأحقية الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واستقلاله.
وترى "سيسيليا بايزا" أن ذلك المنعطف سرعان ما تم تجاوزه خلال مطلع القرن الـ21 (20)، حين بدأت المنظمات الفلسطينية ومنظمات السكان الأصليين في أميركا اللاتينية في تبادل الدعم عبر تنظيم فعاليات مشتركة تضمنت الاحتجاجات والمعارض والمهرجانات الموسيقية. وتشير "بايزا" إلى الفترة ما بين أعوام 2008-2013 باعتبارها سنوات التضامن غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني، وتدلل على ذلك باعتراف جميع دول المنطقة بالدولة الفلسطينية "عدا كولومبيا والمكسيك وبنما" (اعترفت كولومبيا بفلسطين لاحقا عام 2018)، وتعليق كلٍّ من فنزويلا وبوليفيا لعلاقتهما مع دولة الاحتلال عام 2009، قبل أن تتبعهما نيكاراغوا عام 2010. وتضيف "بايزا" أن العلاقة بين المهاجرين الفلسطينيين والسكان الأصليين مرت بتحولات عبر قرن من الزمان، فبعد زمن التعايش جاءت حقبة التضامن النشط؛ عندما ترددت أصداء القضية الفلسطينية بصوتٍ عالٍ في نضالات أبناء أميركا اللاتينية.
————————————————————————————-
المصادر:1) The Washington Post, 1 Nov. 2023.
2) Reuters, 1 Nov. 2023.
3) CNN, 13 Oct. 2023.
4) Marcos Peckle: Colombia and Israel toward a special relationship.
5) مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.
6) إسرائيل وأميركا اللاتينية: البعد العسكري/ بشارة بحبح.
7) الموسوعة الفلسطينية، المجلد السادس 1990، دراسات القضية الفلسطينية.
8) كتاب المختبر الفلسطيني، أنتوني لوينشتاين.
9) المصدر رقم (6).
10) موقع الجزيرة، يونيو/حزيران 2003.
11) MecroPress, Nov. 2023.
12) المصدر رقم (6).
13) BBC, Nov 2023.
14) مشروع الأبحاث والمعلومات في الشرق الأوسط، 2015.
15) الشتات الفلسطيني وتضامن أميركا اللاتينية مع القضية الفلسطينية، راسم بشارات.
16) فهم القضية الفلسطينية في أميركا اللاتينية، خوان أبو غطاس.
17) The Question of Palestine in the Argentine Political Imaginary: Anti-Imperialist Thought from Cold War to Neoliberal Order-Jessica Stites Mor
18) المصدر رقم (16).
19) جميل مصعب محمود، أميركا اللاتينية واليسار: الابتعاد عن الجار الأميركي اقتراب من فلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
20) المصدر رقم (14).
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی أمیرکا اللاتینیة القضیة الفلسطینیة أمیرکا الجنوبیة دولة الاحتلال الأمم المتحدة الأمر الذی تلک الدول قبل أن إلى أن
إقرأ أيضاً:
ما الذي سيفعله الرئيس الشرع لمواجهة إسرائيل؟
خطا الرئيس السوري أحمد الشرع ثلاث خطوات مُهمة نحو إعادة توحيد سوريا، ومواجهة مشاريع تقسيمها. الأولى، إفشال التمرد المُسلّح الذي قادته خلايا النظام المخلوع في مناطق الساحل بهدف إسقاط الدولة الجديدة وإشعال حرب أهلية. والثانية، إبرام اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لدمجها في الدولة الجديدة، والثالثة، الاتفاق مع أهالي ووجهاء محافظة السويداء الجنوبية على دمجها الكامل في مؤسسات الدولة.
مع ذلك، تبقى مُعضلة الجنوب السوري إشكالية ضاغطة على سوريا؛ بسبب التحركات التي بدأتها إسرائيل منذ الإطاحة بنظام الأسد واحتلالها أجزاء جديدة من الأراضي السورية ومحاولتها تأليب دروز الجنوب على إدارة الرئيس الشرع.
على الرغم من أن إسرائيل سعت في البداية إلى تسويق تحرّكاتها العدوانية في سوريا في إطار مواجهة مخاطر أمنية مزعومة تُهددها، فإن النهج الإسرائيلي أصبح بعد ذلك أكثر وضوحًا، خصوصًا بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 فبراير/ شباط الماضي عن نوايا إسرائيل الإستراتيجية في سوريا. وتتضمن هذه النوايا تحقيق أربعة أهداف متوسطة وبعيدة المدى.
أولًا، تكريس احتلال المنطقة العازلة في الجولان وقمة جبل الشيخ الإستراتيجية كأمر واقع من خلال ربط التواجد الإسرائيلي فيهما بالتهديدات المزعومة بعيدة المدى التي تواجه إسرائيل من سوريا، وليس القريبة المدى. وبالنظر إلى أن المناطق المُحتلة الجديدة ليست كبيرة من حيث الحجم، فإن إسرائيل قادرة على الاحتفاظ بها، إما بهدف ضمها لها بشكل نهائي، أو بهدف تعزيز موقفها في أي مفاوضات مستقبلية مُحتملة مع النظام الجديد في سوريا.
ثانيًا، محاولة إحداث شرخ كبير بين الدروز في جنوب سوريا والإدارة الجديدة كبوابة لتأسيس كيان درزي كمنطقة عازلة بينها وبين سوريا. ولا تقتصر وسائل إسرائيل بهذا الخصوص على تشجيع النزعة الانفصالية بين الدروز، وتقديم نفسها كحامٍ لهم، بل تشمل كذلك طرح مطلب تحويل جنوب سوريا إلى منطقة منزوعة السلاح وعدم انتشار الجيش السوري الجديد فيها، فضلًا عن اعتزام السماح للدروز بالعمل داخل إسرائيل.
ثالثًا، تدمير ما تبقى من الأصول العسكرية التي أصبحت ملكًا للدولة السورية بعد الإطاحة بنظام الأسد من أجل إضعاف القدرات العسكرية لهذه الدولة، وتقويض قدرتها على امتلاك عناصر القوة لبسط سيطرتها على كافة أراضيها وللتعامل مع التحديات الأمنية الداخلية التي تواجهها، خصوصًا مع الأطراف: (قسد، خلايا النظام في الساحل، والتشكيلات المسلحة في الجنوب). وتندرج هذه الإستراتيجية ضمن أهداف إسرائيل في تشجيع النزعات الانفصالية على الأطراف لإضعاف السلطة المركزية في دمشق.
رابعًا، تقويض قدرة تركيا على الاستفادة من التحول السوري لتعزيز دورها في سوريا، وفي المنافسة الجيوسياسية مع إسرائيل في الشرق الأوسط. ولهذه الغاية، تعمل إسرائيل على مسارات مُتعددة، ليس فقط محاولة إيجاد موطئ قدم لها بين الدروز في الجنوب، بل أيضًا شيطنة الإدارة السورية الجديدة للتأثير على القبول الدولي بها، والضغط على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لعدم الاعتراف بالرئيس الشرع، وإبقاء العقوبات على سوريا كسيف مُصلت عليها لتحقيق مصالح إسرائيل، والضغط كذلك على واشنطن لإقناعها بالحاجة إلى بقاء الوجود العسكري الروسي في سوريا كضرورة لمواجهة نفوذ تركيا.
حتى في الوقت الذي يبدو فيه تقسيم سوريا أو فَدْرلتها أو تحويل الجنوب إلى منطقة منزوعة السلاح (عدم وجود الجيش السوري فيها)، غير مُمكن وغير واقعي، فإنه من المرجح أن تحتفظ إسرائيل باحتلال المنطقة العازلة وقمة جبل الشيخ الإستراتيجية لفترة طويلة.
كما ستسعى لاستثمار الفترة الطويلة التي ستستغرقها عملية بناء الدولة الجديدة ومؤسساتها العسكرية والأمنية من أجل مواصلة شن ضربات على امتداد الأراضي السورية؛ بذريعة مواجهة تهديدات مُحتملة، أو خطر وقوع مثل هذه الأسلحة في أيدي جماعات تُشكل تهديدًا لإسرائيل.
إن هذا النهج الإسرائيلي المُحتمل ينطوي على مخاطر كبيرة على سوريا وإدارتها الجديدة، لأنه سيُقوض من قدرتها على تحقيق استقرار داخلي كامل وبناء مؤسسة عسكرية قوية. ولا تبدو احتمالية الدخول في حرب مع إسرائيل واردة على الإطلاق على جدول أعمال الرئيس الشرع، خصوصًا في هذه المرحلة التي تفرض عليه تركيز أولوياته على إنجاح المرحلة الانتقالية، وإعادة بناء الدولة، وبناء علاقات جيدة مع الغرب من أجل رفع العقوبات المفروضة على سوريا وإطلاق عملية إعادة الإعمار.
لقد شدد الشرع في القمة العربية الطارئة، التي عُقدت في القاهرة، على ضرورة العودة إلى اتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974، بما في ذلك انسحاب إسرائيل من الأراضي الجديدة التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد. ويعمل الشرع على ثلاثة سياقات لمواجهة التحدي الإسرائيلي.
التأكيد على التزامه باتفاقية فض الاشتباك لإظهار رغبته في تجنب أي صدام عسكري مع إسرائيل.
تقويض قدرة إسرائيل على استثمار الانقسامات الطائفية والمجتمعية والعرقية في سوريا من خلال السعي لدمج الحالات على الأطراف: (الشمال الشرقي، الساحل، الجنوب) في الدولة الجديدة.
تعزيز القبول الدولي به لإقناع القوى الفاعلة في المجتمعين: الإقليمي والدولي بالضغط على إسرائيل للحد من اندفاعتها في سوريا، والعودة إلى الوضع الذي كان قائمًا في الجنوب قبل سقوط نظام بشار الأسد.
علاوة على ذلك، يُحاول الشرع توسيع هامش المناورة لديه في مواجهة التحدي الإسرائيلي من خلال تعميق الشراكة الجديدة لسوريا مع تركيا.
على الرغم من وجود مشروع لاتفاقية دفاع مشترك بين تركيا وسوريا، فإن الشرع لا يزال متريثًا في الإقدام على هذه الخطوة لاعتبارات مُتعددة. لكنه في حال تصاعد خطر التحدي الإسرائيلي على استقرار سوريا ووحدتها، فإنه قد يلجأ إلى هذه الاتفاقية للحصول على دعم تركي في تسليح الجيش السوري الجديد، وتعزيز قدرته على مواجهة هذا التحدي.
والخلاصة أن التحدي الإسرائيلي يُوجد عقبات كبيرة أمام نجاح التحول في سوريا، لكنه يُوجد في المقابل فرصًا للشرع لبلورة إستراتيجية متكاملة للتعامل مع هذا التحدي، وتعزيز القبول الدولي به كضمان لمنع اندلاع حرب بين سوريا وإسرائيل في المستقبل.