بيروت- كان يمكن لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة (72 عاما)، أن يطوي 30 عاما من توليه أحد أعلى وظائف الدولة بنشر مذكرات عن مسيرته الحافلة بحصد الألقاب والجوائز العالمية، ليس كصاحب أطول ولاية فحسب، بل كواحد من "أفضل 6 مصرفيين بالعالم" كما صنفته مجلة "غلوبال فاينانس" (Global Finance) عام 2011، وأول حاكم مصرف عربي يفتتح بورصة نيويورك في 2009.

لكن سلامة حامل الجنسيتين اللبنانية والفرنسية، والذي تبوأ منصب حاكم مصرف لبنان في أغسطس/آب 1993 ومددت ولايته 4 مرات (1999 و2005 و2011 و2017)، سيغادر منصبه نهاية يوليو/تموز الجاري وبحقه مذكرة توقيف دولية، ومثقلا بالكثير من الدعاوى القضائية الداخلية والخارجية.

وسلامة الذي اشتهر بمقولة "الليرة بخير"، أرسى تثبيتها عند 1507 ليرات للدولار بعد الحرب الأهلية، وهندس السياسات المالية للبنان، وها هو ينهي ولايته الخامسة بخسارة الليرة 98% من قيمتها منذ خريف 2019.

الرئيس #عون: إن لم يكن النائب الأول لحاكم مصرف لبنان يريد استلام المهام بعد انتهاء ولاية رياض سلامة، يجب تعيين حارث قضائي للمصرف المركزي#ميشال_عون #OTVLebanon #OTVNews pic.twitter.com/l6QZrPbYjU

— OTV Lebanon (@OTVLebanon) July 5, 2023

وبات التجديد لولاية سلامة، الذي تجاوزت ثروته 150 مليون دولار، خيارا مستحيلا، بينما قررت محكمة الاستئناف بباريس مطلع يوليو/تموز الجاري، تأييد قرار الحجز على أمواله، ضمن مسار محاكمة محتملة له بتهم فساد.

وسلامة الذي ينفي التهم الموجهة إليه، ويعتبرها سياسية لتشويه صورته، حجز القضاء الفرنسي على أصول له وممتلكات تقدر بعشرات ملايين اليوروهات، وتشمل شققا فاخرة بأوروبا وحسابات مصرفية، وثمة اشتباه بحصوله عليها بعمليات اختلاس ضخمة من الأموال العامة بلبنان.

وأعلنت ألمانيا ولوكسمبورغ وفرنسا في مارس/آذار 2022، تجميد 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية، إثر تحقيق استهدف سلامة ومقربين منه، بينهم شقيقه رجا ومساعدته الشخصية ماريان الحويك التي وجّه القضاء الفرنسي لها قبل أيام اتهامات بالفساد المالي.

وفيما لدى القضاء اللبناني دعاوى بحق سلامة، يرى خبراء أنه يحظى بحماية واسعة داخليا، نظرا لارتباطه بالنخبة الحاكمة، ما قد يدفعه للبقاء بلبنان.

ووفق العرف اللبناني، تتولى شخصية من الطائفة المارونية المسيحية منصب حاكمية المركزي، وعند شغوره، ينص قانون النقد والتسليف على تولي النائب الأول للحاكم مهامه، وهو من الطائفة الشيعية ويشغله حاليا وسيم منصوري المحسوب على ثنائي حزب الله وحركة أمل لحين تعيين بديل.

وبينما يعاني لبنان من الشغور الرئاسي منذ 9 أشهر، فإن تعيين حاكم أصيل غير ممكن قبل انتخاب رئيس للبلاد، ومع غياب التوافق السياسي على اسم بديل، تشتد الصراعات السياسية لتأخذ أبعادا طائفية.

وهنا، تطرح الجزيرة نت 5 أسئلة حول اقتراب موعد مغادرة رياض سلامة لمنصبه، على كل من: أستاذة القانون المتخصصة بالشأن المصرفي سابين الكيك، الخبير المصرفي علي نور الدين، والكاتب والمحلل السياسي علي حمادة.

تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان سيتأجل لما بعد التوافق على رئيس جديد للبلاد (رويترز) كيف يمكن قراءة خروج رياض سلامة بعد 30 عاما؟

ترفض سابين الكيك وصف الـ30 عاما بـ"ولاية سلامة"، بل إنها عقود من الحكم الأوتوقراطي، لأن الأساس بالمؤسسات المداورة برأيها، وأن "تجدد ولاية موظف كبير 4 مرات، تصبح ولاية الأمر الواقع لشخص واحد"، وهي معادلة "تناقض الشفافية ومكافحة الفساد، خصوصا أن حاكم المركزي مسؤول مباشر عن النظام المالي للبلاد".

وتعتبر سابين أن حقبة سلامة قامت على إخفاء الحقيقة مقابل تلميع سمعته، "ما يجعل من خروجه باتهامات الاختلاس وتبييض الأموال، ذات رمزية كبيرة".

في حين، يرى علي حمادة أن ولاية سلامة صورة متناقضة بين النجاح الهائل والأضواء العالمية، وبين النهاية الحرجة بأصعب تجلياتها، "فمن العظمة ومئات الجوائز والأغلفة بكبريات المجلات المالية، يتعامل الرأي العام المحلي والدولي معه كأحد أركان الانهيار المالي".

نواب الحاكم يهددون بالاستقالة في حال لم يعين حاكم جديد للمصرف المركزي مع انتهاء ولاية #رياض_سلامة pic.twitter.com/UEgdGlOrYy

— Mahassen Moursel (@MMoursel) July 6, 2023

ما السيناريو المرتقب بعد انتهاء ولاية سلامة؟

يعتقد علي نور الدين أن مسألة التجديد لسلامة غير مطروحة، وسيستلم مهامه النائب الأول وسيم منصوري الذي زار مؤخرا واشنطن، وقابل مسؤولين بوزارة الخزانة الأميركية، "ما يدحض القول إن الثنائي الشيعي لا يرغب باستلام منصوري مهام الحاكم تجنبا لتحمله هذه المسؤولية الكبيرة"، ويرجح نور الدين أن يعمل منصوري بذهنية سلامة.

وهنا، تعقب سابين الكيك قائلة إنه لا يوجد خيار قانوني إلا بتولي منصوري مهام سلامة، لكن "المهام تختلف عن الصلاحيات، وتقتصر على تسيير المرفق العام".

ويتفق حمادة مع نور الدين مضيفا "سيبقى طيف سلامة حاضرا وقد يساند منصوري بالكواليس، مقابل توفير الحماية القضائية والسياسية لسلامة".

وبصورة مفاجئة، صدر بيان مشترك هو الأول من نوعه من قِبل النواب الأربعة لحاكم المركزي (وسيم منصوري، وبشير يقظان، وسليم شاهين، وألكسندر مراديان)، مساء
الخميس، وكان بمثابة تلويح بالاستقالة أو الاعتكاف بعد انتهاء ولاية سلامة، أو دعوة للتمديد له، وفق محللين، ومما جاء فيه: "نرى من واجبنا التشديد على ضرورة تعيين حاكم بأقرب وقت.. ولا يجوز أن ينسحب مفهوم تصريف الأعمال على السلطة النقدية الأعلى، وإلا سنضطر لاتخاذ الإجراء الذي نراه مناسبا للمصلحة العامة".

القضاء الفرنسي يحجز على ممتلكات رياض سلامة ورفاقه لصالح لبنان.
أول انتصار لحقوق الناس، احتجاز ممتلكات تعود الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومعاونيه.
لا بدّ للحق ان ينتصر pic.twitter.com/LY5xK7wowy

— Yassine Yassine – النائب ياسين ياسين (@Yassine1) July 4, 2023

ما تداعيات خروج سلامة من المركزي؟

يتطلع كثيرون لأثر خروج سلامة من المركزي، بعدما أنشأ منصة "صيرفة" في مايو/أيار 2021، كحالة استثنائية، وبدأت حينها بسعر صرف دولار مقابل 12 ألفا، وتناهز اليوم 85 ألفا، بعدما عجزت عن تأدية وظيفتها بضبط سعر الصرف، والقضاء على السوق السوداء.

وتتساءل سابين عن قدرة منصوري بإدارة منصة صيرفة، وتقول "إن سلامة شخصية استثنائية كرجل سوق يجرؤ على المخاطر، وليس معلوما إن كان منصوري قادرا على انتهاج أسلوبه، بعدما تحدثت التقارير الدولية عن مضاربات تسببت بها منصة صيرفة".

وهنا، يذكر نور الدين أن أدوات التدخل بالسوق وأسرار عمل "صيرفة" بيد سلامة الذي يحترف اللعبة، لذا، "قد لا يترك منصوري يتخبط وحده، لأن الطبقة السياسية تريد إبقاء العمل بمنصة صيرفة"، ويعتقد أن عرابيّ التسلم والتسليم بين سلامة ومنصوري، هما رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس البرلمان نبيه بري، اللذان سيحرصان على انتقال المهمات ونواة اللعبة لمنصوري، لمواصلة ضبط الشارع.

في حين، يذهب علي حمادة للمعنى السياسي بالقول "سيثير خروج سلامة الصراع الطائفي، لأن المسيحيين سيعتبرون مناصبهم العليا بالدولة شاغرة، من رئيس الجمهورية مرورا بحاكمية المركزي، وانتهاءً بقائد الجيش جوزيف عون الذي تنتهي ولايته نهاية العام الجاري".

– وجّهت قاضية فرنسية إلى مساعدة حاكم #مصرف_لبنان السابقة #ماريان_الحويّك تهم فساد مالي، وذلك في ختام جلسة إستماع عقدت في #باريس الجمعة في إطار التحقيقات الجارية حول ثروة #رياض_سلامة في أوروبا.
– إنّ قاضية التحقيق وجّهت إلى الحويّك تهمتي تشكيل عصبة أشرار إجرامية وتبييض أموال في… pic.twitter.com/zkMGEsidxr

— Siyese101 Official (@Siyese101Main) July 1, 2023

كيف سيؤثر انتهاء ولاية سلامة على مسار التحقيقات بحقه؟

يتوقع علي حمادة أن تتواصل وتتصاعد الملاحقات القضائية الخارجية بحق سلامة والمقربين منه بعد مغادرة منصبه، مقابل عدم الجدية بملاحقته القضائية داخليا.

وهنا، تجد سابين الكيك أن سلامة يتسلح بحصانة السيادة القضائية اللبنانية، مستبعدة أن تسهل الدولة اللبنانية أي ملاحقة خارجية بحقه على قاعدة أن لديها حقا قانونيا بعدم تسليم مواطنيها لجهة خارجية، لكن ذلك "يشكل خرقا للاتفاقيات الدولية التي تلزم لبنان بملاحقة ومحاكمة المتهمين بشبهات فساد واختلاس، ما يضاعف زعزعة الثقة بالقضاء اللبناني".

هل من شخصيات مرشحة لتولي منصب حاكم مصرف لبنان؟

عمليا، يتم تعيين حاكم للمركزي بلبنان بعدما يرفع وزير المالية الأسماء، ويعين مجلس الوزراء أحدها بموجب مرسوم، ويتولى الحاكم منصبه، وبحسب المادة 18 من قانون النقد والتسليف، يتوجب عليه أداء القَسم أمام رئيس الجمهورية للقيام بوظائفه، وطالما أن الشغور الرئاسي قائم، يعتقد علي نور الدين أن تعيين بديل لسلامة غير مطروح بجدية.

في حين، يتحدث علي حمادة عن أسماء متداولة، مثل المصرفي اللبناني العالمي سمير عساف حيث طرح الفرنسيون اسمه، وكذلك المصرفي ووزير الاقتصاد السابق منصور بطيش المقرب من التيار الوطني الحر، واسم وزير العمل السابق والعضو في نقابتي المحامين في نيويورك وبيروت كميل أبو سليمان، إضافة لطرح سابق لاسم مرشح رئاسة الجمهورية المسؤول بصندوق النقد الدولي جهاد أزعور الذي أعرب عن عدم رغبته بتولي المنصب.

وتعتقد سابين الكيك أن المهم بمرحلة "ما بعد سلامة"، ليس العثور على بديل، بل الشروع بإعادة هيكلة إدارية وتشريعية ومالية بالمصرف المركزي الذي يحتاج لنهج مؤسساتي مختلف، "لأن أي شخصية ستخلف سلامة، ستصطدم بكَم هائل من العقبات التي ستعيق الإصلاح المصرفي، لنهج عمره 30 عامًا".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حاکم مصرف لبنان pic twitter com

إقرأ أيضاً:

الإعلام التونسي.. تحديات المهنية وسط العواصف السياسية

مقلقة وحزينة هي الأخبار الواردة من تونس هذه الأيام عن أوضاع الإعلام في تونس، ولا يعني ذلك أن أوضاعه من قبل كانت وردية في الماضيَين: القريب والبعيد، إلا أنّ مؤشرات متضافرة تقول إن التحديات الراهنة التي يمر بها تبدو أهم وأخطر من أي وقت مضى.

مشهد معلول

بين مهوّل ومهوّن يمكن القول إن الخوض في غمار المشهد الإعلامي في تونس يجعل أي مقاربة عرضة لنيران متباينة تصدر عن الفاعلين في المجال الإعلامي بنفس القدر الذي تصدر فيه عن دوائر ظاهرة وخفية تعتبر الإعلام والعاملين فيه من بين أهم رهاناتها.

في محاولة للهرب من دوامة الاستقطاب الداخلي الحاد يمكن أن نحيل على تقريرَين صدرا قبل أسابيع عن منظمتَي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أجمعا على أن الإعلام في تونس يتعرض لما وصفته المنظمتان بالتصعيد من قبل السلطات التونسية؛ لقمعها الإعلام وحرية التعبير، خاصة في الأسابيع الأخيرة.

منظمة العفو الدولية قالت إن "السلطات التونسية تقضي منهجيًا على آخر مكتسبات ثورة ألفين وأحد عشر، والمتمثلة في حرية التعبير والصحافة قبل الانتخابات".

في هذا الصدد تشير المنظمات الحقوقية، ومن قبلها نقابة الصحفيين التونسيين إلى ما تعتبره العصا القضائية الغليظة التي تستعملها السلطات التونسية ألا وهي المرسوم 54، ذلك الذي بات منطلق ملاحقات قضائية طالت وجوهًا إعلامية بارزة يجمع بين أغلبيتها الساحقة انتقاد سياسات الرئيس التونسي قيس سعيّد.

يتعلق المرسوم 54 المثير للجدل وَفق منطوقه بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، ويتعرض من تتم إدانته بهذا المرسوم لعقوبات قاسية للغاية تصل حد عشر سنوات سجنًا وغرامات مالية ثقيلة.

في كل الأوقات التي مر بها هذا الجدل، كان الرئيس سعيد يؤكد أن الحريات العامة والإعلامية مكفولة في تونس، لكن ذلك لا يعفي من وجهة نظره من يتعمد نشر أخبار زائفة والنيل من ذمم الناس وثلْبهم انطلاقًا من وسائل الإعلام التقليدية أو مواقع التواصل الاجتماعي من الامتثال للقوانين.

طرح يرد عليه منتقدوه بملفات لملاحقات قضائية انبَنَت على مجرد تدوينات على موقع فيسبوك، تتضمن معارضة لسياسات الرئيس سعيد ولأداء الحكومات التي شكلها في ظل صلاحيات شبه مطلقة أسندها إلى نفسه بدستور هو من كتبه.

هكذا جرى الأمر من وجهة نظر هؤلاء المنتقدين مع عدد من الصحفيين، أبرزهم: محمد بوغلاب، ومراد الزغيدي، وبرهان بسيسي، وزياد الهاني، إلا أن المرسوم 54 اتسع في الملاحقات التي تستند إليه ليشمل مدونين ومواطنين عاديين وصل عددهم إلى عشرات، وسط تحذيرات من استفحال التأطير الأمني والقضائي للواقع التونسي وَفق هوى الرئيس سعيّد وأنصاره.

سياق أوسع

في الوقت الذي يذكر فيه المدافعون عن الحريات الإعلامية في تونس أنّ القوانين المعمول بها منذ سنوات تشمل ما قد يصدر عن الإعلاميين من تجاوزات، مؤكدين أن ما يرونه في الواقع إنما هو سياسة لتكميم الأفواه ومحاصرة الأصوات المستقلة، ترتبط بالأجندة السياسية والانتخابية للرئيس سعيد وتتصاعد مع اقتراب البلاد من موعد انتخابي رئاسي، في هذا الوقت تحيل مقاربات أخرى على سياق أوسع تمامًا، كما هو الحال في المجال السياسي مع مراعاة الفارق الجوهري بين المجالين.

تقول تلك المقاربات وبعضها أكاديمي، كما هو الحال في ورقات بحثية مهمة، قدمها الدكتور صادق الحمامي إن مشاكل الإعلام في تونس تعود إلى جذور مهنية وقانونية وسياسية ليست بنتَ اليوم ولا حتى الأمس القريب فقط.

تشير هذه الزاوية في التناول إلى الأدوار التي لعبها الإعلام في تونس في حقبتَي الرئيسين الراحلين: بورقيبة، وبن علي، وهي مساحة زمنية مترامية الأطراف يقصر المقام عن الدخول في تفاصيلها، غير أن الواضح منها هو انقسام التجارب الإعلامية إلى قسم أعظم سار في ركاب السلطة وأنفق عقودًا في الترويج لسياساتها ومهاجمة خصومها، حتى إذا جاءت ثورة ألفين وأحد عشر كان ذلك الإعلام محل هجوم من قبل الثائرين بوصفه واجهة للنظام القديم وبؤرة لجمع غفير من الانتهازيين والمتسلقين المستعدين لبيع ذممهم لكل مشترٍ.

في المقابل كانت هناك تجارب قليلة لما يمكن وصفه بالإعلام المعارض، وهو الذي دار في فلك أحزاب وشخصيات معارضة فتمت محاصرته وقمعه بالقدر الذي كان يتعرض له أولئك المعارضون من قمع، وهنا لنا أن نذكر دون حصر تجربة جريدة "الموقف" لسان الحزب الاشتراكي التقدمي.

والملاحظ هنا هو أن الإعلام الرسمي والمعارض من حيث البنية العميقة كانا وجهين لعملة واحدة، حيث كانا يلعبان دورًا وظيفيًا على هامش المعركة السياسية في شكل سلاح يحاول به أصحابه كسب معركة المعلومة واستمالة العقول والقلوب.

ثالث مرفوع

الثالث المرفوع تقريبًا في هذا المشهد كان الإعلام المهني المستقلّ، ذلك أن الساحة التونسية لم تفرد كبير مساحة لتجارب متحررة من الغرض السياسي المباشر، لتظهر عناوين من قبيل مجلة "المغرب العربي" وكذلك مجلة "حقائق" ومن قبلهما جريدة "الرأي" التي مثلت بارقة سرعان ما قام النظام البورقيبي بوأدها في المهد.

من هذا المنظور يمكن القول إن ثورة ألفين وأحد عشر مثلت فرصة تاريخية للإعلام التونسي في اتجاهات عدة، أهمها مكاشفة ومحاسبة تجارب الماضي بما يقود البيت الإعلامي التونسي إلى تطهير نفسه من فلول المأجورين الذين كانوا في واقع الأمر مخبرين وموظفي دعاية لدى الدكتاتورية.

ومنها أيضًا فتح ملف الإعلام على حوار وطني معمق يتناول كيفية التأسيس لاستقلاليته تجاه بقايا النظام القديم والأحزاب السياسية ورأس المال الذي توارى إلى حين تحت وطأة الأحداث ليعود شيئًا فشيئًا وينتبه إلى محورية دور الإعلام في تشكيل ملامح عشرية الانتقال الديمقراطي وتوجيه المزاج العام للتونسيين.

خرج على الناس في بواكير الثورة "إعلاميون" قدّموا اعتذاراتهم للشعب التونسي على ما اقترفوه خدمة للدكتاتورية وسارعت واجهات إعلامية إلى الانقلاب على تاريخها في تقديم تلك "الخدمات" بالانفتاح على مطالب الناس وعلى المعارضين تستعرض قصصهم، كاشفة المستور من "غسيل" نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

ومثلما انزلقت الساحة السياسية إلى استقطاب علماني – إسلامي أسّس لانقسامات خطيرة حكمت لاحقًا على الانتقال الديمقراطي بالتعثر مع سبق الإصرار والترصّد، سارع المشهد الإعلامي هو الآخر إلى الارتماء في أحضان الأجندات، وشرع بلعب دور أخطر من الذي كان يلعبه زمن الدكتاتورية، وذلك بخلط الحق بالباطل في كثير من الملفات، ولم يعد سرًا في تونس أن إعلامها الذي بات يتمتع بسقف عربي غير مسبوق في الحريات الإعلامية لم ينتج في الحقيقة تجارب رائدة تعكس الأفق الذي حاولت الثورة في تونس التوجّه نحوه.

إعلام الكراهية!

رغم وجود أصوات وجهات دعت طويلًا إلى ضرورة اغتنام الفرصة والترفع عن المعارك الأيديولوجية الضيقة، فإن تلك الأصوات بقيت هامشية وكانت المفارقة هي أن صعود البلاد في ترتيب الحريات الإعلامية كالذي تنشره منظمة "مراسلون بلا حدود" قابله سقوط المضمون الإعلامي في تونس في مطبات خطيرة، بينها خطاب الكراهية الذي تصاعد بشدة من منابر الإعلام وصفحاته سواء أكانت تقليدية أم مواقع للتواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي وثقه تقرير أعدته المجموعة العربية لرصد الإعلام، بالشراكة مع "المجلس الوطني للحريات في تونس" و"شبكة تحالف من أجل نساء تونس"، جاء فيه أن "الإعلام التونسي بات يلعب دور التحريض وتنمية مشاعر الحقد والكراهية بين مختلف أطياف الشعب التونسي".

يكفي أن نقف عند واحد من مخرجات ذلك التقرير الذي مر بالساحة الإعلامية مرور الكرام تقريبًا، فلقد أشار إلى أن "الصحف الناطقة باللغة العربية نشرت نحو 90% من خطابات الكراهية في حين اكتفت مثيلتها الناطقة بالفرنسية بالنسبة المتبقية. وتضمن حوالي 13% من هذه الخطابات دعوات ضمنية أو صريحة للعنف".

الغريب هو أن تقريرًا آخر تناول نفس هذه الظواهر وبعد قرابة عقد من الانتقال الديمقراطي وجد نفسه أمام نفس الاستنتاجات، رغم كل ما أدير من حوارات وعُقد من ندوات ودورات تدريبية للنهوض بواقع الإعلام، وتعزيز قيم المهنة والاستقلالية لديه، فها هو "مركز دعم التحول الديمقراطي" يقول في تقرير له نشره في مارس/آذار 2020 بعد أن سرد أرقامًا ونسبًا رصد بها رسوخ وتصاعد خطاب الكراهية في الإعلام التونسي؛ إن كل ما تمّ اتخاذه من قرارات وإجراءات لم يجعل ذلك الإعلام يتخلص من هذه الوصمة.

ثيران بيضاء

كثيرة هي "الثيران البيضاء" التي تدعي اليوم أن الإعلام التونسي أُكل يوم أُكلت هي، في إشارة إلى هذه الأسباب البعيدة والقريبة لما يمكن وصفه بالأزمة المزمنة للإعلام في تونس، غير أن الأكيد هو أن هذا الإعلام يعيش اليوم تحديًا مصيريًا وسط موجة الشعبوية التي ضربت تونس، كما هو الحال في بلدان كثيرة أخرى، وهو الأمر الذي يبدو أوضح على مواقع التواصل الاجتماعي، التي أخذت زمام المبادرة في احتكار الخطاب المنتج من رجل الشارع والموجّه إليه.

وإذا كان الإعلام التقليدي مسؤولًا عما ينشره ومعنيًا بمعايير المهنة وما يتعلق بها من قيم وقوانين، فإن العالم الافتراضي بات يزدحم بصفحات ومجموعات لا رقيب عليها ولا حسيب لها فيما تروجه من أخبار زائفة وثلْب لأشخاص وهتك للأعراض، وسط اتهامات للسلطات التونسية بممارسة الانتقائية خلال التعامل مع ذلك، في إشارة إلى حملات شيطنة وتشويه وهتك للأعراض شنتها صفحات تعلن الولاء للرئيس سعيد ومساندة مساره السياسي دون أن يتعرض أحد من المشرفين عليها إلى التحقيق والمساءلة اللهم إلا في سياق صراعات داخلية، ما يجعل الأمر في نظر منتقديه أقرب إلى تصفية الحسابات منه إلى الحرص على سلامة المناخ الإعلامي العام.

لا شك أن الأولوية هي اليوم للدفاع عن حرية الإعلام واستقلاليته، وكذلك الدفاع عن العاملين في المجال لحمايتهم من أي قمع يتوجه إليهم، غير أن المهمة الأصعب في الحقيقة تبقى ممارسة النقد الذاتي إلى أقصاه، للتخلص من سيطرة الأيديولوجيا  – خاصة الاستئصالية منها – على الإعلام والعمل النقابي الإعلامي، ذلك أن استمرار تلك الظواهر وتأجير الذمم لدكاكين السياسة والمال وللرهانات الرسمية والمعارضة، يسلب معركة الحريات الإعلامية أساسها الأخلاقي القيمي، ويفرغها من محتواها الراقي الذي يفترض به أن يكون إلى جانب الإنسان كيفما كان، وأن يبحث عن الحقيقة وينشرها بقطع النظر عن الأجندات، وأن يكون صوتًا لمن لا صوت لهم.

إنها مهمة فرسان أصحاب الجلالة ومعركتهم قبل أي طرف آخر، سواء أكان رسميًا أم غيره، والنجاح فيها سيعني الاستعصاء على أي محاولات للتدجين والتخويف والاستغلال.. وهذا حديث على بدئه عود.. يحيل على عامة المشهد التونسي وتحولاته المحتملة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • وكيل مديرية الصحة بالقليوبية يجري جولة مرورية بمستشفى أبو المنجا المركزي
  • إسرائيل البديل التقتيل
  • الإعلام التونسي.. تحديات المهنية وسط العواصف السياسية
  • إنجاز جديد.. فوز ناشئات لبنان على المنتخب السعودي بخماسية نظيفة
  • النائبة أمل سلامة: مصر واجهت تحديات كثيرة بعد ثورة 30 يونيو ونجحت في تجاوزها
  • حادث مروري يصدم رياض محرز
  • منتخب السيدات تحت سن 17 يخسر من لبنان برباعية
  • تحرك برلماني عاجل ضد رئيس الوزراء ووزير المالية بسبب انقطاع الكهرباء -تفاصيل
  • لا زيارات سياسية للاغتراب
  • إيران تحذر إسرائيل من "حرب إبادة" إذا هاجمت لبنان