جثث تحت الأنقاض وأحياء في انتظار الموت: قصص غزة التي لا تُروى
تاريخ النشر: 13th, November 2023 GMT
وقبل بضعة أسابيع، كانت العائلات تعتاد الشكوى من الطوابير الطويلة بشكل لا يصدق أمام المخابز، في انتظار يستمر من 6 إلى 8 ساعات للحصول على كيس صغير من الخبز. الآن، مع إغلاق المخابز أبوابها بسبب نقص الطحين والوقود، يلجأ الكثيرون إلى صنع الخبز في المنزل، باستخدام وسائل تبدو مستحيلة؛ حيث يرسل الآباء أطفالهم للبحث عن البلاستيك المهمل، أو الورق المقوى، أو أي شيء يمكن أن يحترق لإشعال نار، وهؤلاء يعتبرون من العائلات المحظوظة التي تمكنت من الحصول على بعض الطحين.
وحسب الموقع؛ فقد روى أحد الأشخاص من سكان غزة أنه ''في يوم أمس، وأنا جالس في الفناء الأمامي للمنزل الذي كنت أنا وعائلتي نقيم فيه، سمعنا صفيرا حادا قبل أن تسقط قنبلة في منطقة قريبة منا. شاب، مندهش من الصوت، سألني عما إذا كان لدينا وقت كافٍ للهروب إذا تم إطلاق القنبلة في اتجاهنا".
وتدخل شاب آخر وقال: "عندما تسقط القنبلة علينا، لن نكون قادرين على سماع أي شيء. ستقتلنا قبل أن نكون قادرين حتى على التفكير في الهرب." وتتحول المحادثات؛ حيث يقودنا الحديث عن الحرب إلى إحصاء وفيات الأشخاص الذين نعرفهم، ويسأل أحدهم عن شخص للاطمئنان عليه، فيكون الجواب صارم: "لقد تم قتله"، ويسأل شخص آخر عن عائلة في حي شهد هناك قصفا كثيفا.
الجواب: "كانوا عالقين تحت الأنقاض لساعات، ولم ينج أحد"، وتتكرر المحادثة نفسها حيث نبدأ في التراهن على من بيننا قد ينجو. خلال هذه التجمعات، تسمع قصصا غريبة لا يمكن تصديقها؛ حيث تحكي امرأة فرت من الشمال قصة ابنها ''عصام'' البالغ من العمر 29 عاما، وهو متزوج ولديه ثلاثة أطفال ويبيع مياه الشرب.
وتقول؛ إنه لم يرغب في الانتقال إلى الجنوب؛ لأنه أراد الاستمرار في توفير الماء لأولئك الذين يحتاجون إليه في شمال مدينة غزة، أرسل زوجته وأطفاله بعيدا، لكنه بقي خلفا، كان عصام يقود في أحياء دمرت بحثا عن الأشخاص الذين انقطعت عنهم السبل ولم يتمكنوا من الوصول إلى المياه، وكان يقوم أيضا بتسليم المياه في المستشفيات التي كان يمر بها على طول الطريق.
وعلى الرغم من أن مثل هذه الظروف تكون مهيأة للمستغلين، الذين يمكنهم استغلال الوضع ورفع الأسعار، إلا أن هناك أيضا أبطالا يظهرون في هذه الأوقات. لم يأخذ عصام أي أموال مقابل المياه، ولكنه كان يقبل التبرعات لتمويل سيارته والاحتفاظ بها، حيث قالت والدته؛ إنهم فقدوا الاتصال بعصام لمدة أربعة أيام، وأنها سألت العديد من الأشخاص من منطقتهم في النصر، الذين تمكنوا من الفرار إلى الجنوب عما إذا كانوا قد رأوه. في اليوم الخامس، أعطى رجل والدة عصام الأخبار عن ابنها.
وكان ينام في سيارته بعد تدمير مبنى شقتهم في النصر خلال بداية الهجوم البري في شمال غرب قطاع غزة، ومن ثم، تم قصف السيارة في أثناء نوم عصام فيها. كانت جثته محترقة تماما عندما نقلوه إلى المستشفى.
كما قال الكاتب أيضا؛ إن قصص الحرب تتواصل، والفيضان الهائل لمعاناة الإنسان كبير وعظيم، لدرجة أنه قد يحتاج منا إلى حياة لتوثيقه وسرده للعالم. امرأة أخرى تُدعى ''مريم قنوع'' تخبرنا بأن لديها ابنا لم يتمكن من الفرار إلى الجنوب معهم من مدينة غزة، وأنها كانت عازمة على العودة للعثور عليه، سواء كان حيّا أم ميتا.
وتقول مريم؛ إنها استطاعت الوصول إلى الشمال خلال ساعات محددة عندما سمح الاحتلال بالمرور المحدود، وعندما وصلت إلى الحي الذي كان فيه منزلهم، قالت؛ إنها لم تستطع الوقوف أمام هذا المنظر؛ حيث إن الجثث ملقاة في الشوارع والأرصفة، والغربان تتناول لحومها مع تحللها، وكان ابنها من بينهم، وكانت قادرة فقط على التعرف عليه من خلال السروال الذي كان يرتديه دائما وحزامه الجلدي المميز.
وتقول؛ إن الجثث كانت تحمل علامات غير عادية وعلامات للعض؛ حيث كانت الغربان تتسلقها نهارا، وتتجمع عليها الحيوانات البرية ليلا عندما لا يكون هناك أحد في المنطقة. هذه هي المناطق التي اقتربت منها الهجمات البرية، نفس المناطق التي لم تعد تستطيع سيارات الإسعاف الوصول إليها، حيث تركت جثث الناس لتتحلل. وتقول مريم؛ إنها لفت جثمان ابنها بلحاف وحملته لأكثر من كيلومتر سيرا على الأقدام، حتى استطاعت أن تجد شخصا يقود إحدى العربات المسحوبة بالحيوانات التي أصبحت شائعة منذ نفاد الوقود، ونجحت في نقل جثمان ابنها إلى الجنوب، حيث دفنته.
ووفق الموقع، فإن قصص الحرب غالبا ما تروي الأحداث المروعة، والآن تندمج أيضا بالأحداث السريالية، وطوابير طويلة للحصول على الخبز والماء، لم تعد ملحوظة الآن بسبب قوائم الانتظار لمن يتم إنقاذهم من تحت الأنقاض ولمن يتم حفر جثتهم المتحللة. وقبل أيام، قام صديقي وزميلي ''هاني أبو رزق'' بنشر قصة على إنستغرام، تروي قصة عائلة دُفنت تحت الأنقاض نتيجة لضربة جوية إسرائيلية، واتصل جيران العائلة بالدفاع المدني، يتوسلون لهم بالقدوم لإنقاذ العائلة.
ورد الدفاع المدني كان هناك قائمة انتظار للمنازل المدمرة بالفعل مع عائلات أخرى مدفونة تحتها، وعليهم أن ينتظروا دورهم. اقرأ أيضا: WP: هكذا فاجأ هجوم حماس المخطط بعناية الجميع لم يكن ذلك قسوة، بل كان تصريحا عاجزا عندما يتعلق الأمر بالواقع، وهناك آلاف العائلات محاصرة تحت الأنقاض، في انتظار دورها لتكون محظوظة. وأفاد الموقع، أن كل شيء كان حيّا، يحتضر الآن، وكل ما هو جميل في غزة الآن مشوه؛ مبانيها، ونصبها البارزة، وتربتها، وشعبها، ولكن الواقع ومدى التطهير العرقي أسوأ بكثير مما يصل إلى العالم. الصحفيون الآن محاصرون حيثما كانوا موجودين قبل بداية الهجوم البري.
معظمهم في الجنوب في المستشفيات والملاجئ، ولا يستطيعون توثيق ما يحدث في المشهد الحربي الذي يتجاوزهم. القلة القليلة الموجودة في المجتمعات المحاصرة لا تستطيع سوى فهم جزء ضئيل من ما يحدث. واختتم الموقع بالقول؛ إنه وراء القصص التي يتم دفنها تحت الأنقاض التي لا يمكن الوصول إليها، وهناك تلك القصص التي لا يمكن للكلمات وصفها، وهناك أشخاص يعتقدون أنهم نجوا من الحرب حتى، الآن ولكن يكادون يعجزون عن التعرف على أنفسهم، وأشخاص لا تزال أجسادهم سليمة، ولكن ليس لديهم شيء يذكرهم بأنهم على قيد الحياة
المصدر: مأرب برس
كلمات دلالية: تحت الأنقاض إلى الجنوب
إقرأ أيضاً:
شعوب في انتظار المساعدات الإنسانية
إن مشاهد شاحنات الدعم تتوالى على غزة بعد الهدنة، ومشاهد الجسور الجوية محمّلة بالمساعدة إلى دمشق، وقوافل منتظرة ستصل إلى الخرطوم في مدى منظور؛ توفر شيئا من الطمأنينة لقوم لن يموتوا جوعا، وهي شهادة على تضامن عربي شعبي ورسمي بين مكونات أمة تبدو في الظاهر متضامنة ومتماسكة ضد عدوان غاشم. لكن وراء مظهر التضامن يطرح سؤال نفسه: لماذا لا نسمع أخبار قوافل المساعدة للمنكوبين إلا في المنطقة العربية؟
إن الكوارث تحصل في أماكن كثيرة ولكنها كوارث طبيعية تأتي فجأة وتحدث ضررا عابرا يصلح بسرعة، بينما قوافل المساعدة بين البلدان العربية لا تعود إلى أسباب طبيعية وإن لم تكن المنطقة بمنجاة منها (مثلما ما حصل في درنة الليبية)، بل هي نتيجة فعل سياسي بعضه مسلط من عدو خارجي وكثير منه تسبب فيه أبناء البلدان أنفسهم؛ بما وضع شعوبهم في وضع دوني اضطرهم إلى طوابير توزيع المعونة التي تذكر بطوابير المعونة في برنامج الأغذية العالمي في الخمسينات.
السؤال خلف السؤال: من المسؤول عن هذا الوضع البائس لشعوب يشهد تاريخها بمجد وتشهد جغرافيتها بقدرات ويشهد إنسانها بقدرة على العمل وتحقيق الكفاية؟ يسهل علينا هنا إلقاء الملامة على العدو الخارجي الغربي بالتحديد، ولكننا نرى مسؤولية حكام المنطقة التي انحطت بشعوب راقية وساعدتها في عدوانها نخب مثقفة لها لسان طويل في حديث الديمقراطية.
من المسؤول عن هذا الوضع البائس لشعوب يشهد تاريخها بمجد وتشهد جغرافيتها بقدرات ويشهد إنسانها بقدرة على العمل وتحقيق الكفاية؟ يسهل علينا هنا إلقاء الملامة على العدو الخارجي الغربي بالتحديد، ولكننا نرى مسؤولية حكام المنطقة التي انحطت بشعوب راقية وساعدتها في عدوانها نخب مثقفة لها لسان طويل في حديث الديمقراطية
وضع الضحية المريح
إن مشهد غزة ومشهد دمشق فيه اختلاف لذلك فالمسؤوليات تختلف نسبيا. غزة دمرها عدوان خارجي، بينما دمر دمشق عدوان داخلي مسنود عربيا. لقد خاضت غزة حربا مشروعة لتحرير نفسها وكان الثمن البشري والمادي مكلفا، غير أن ارتفاع الكلفة لم يكن بسبب العدوان بقدر ما كان بسبب الخذلان العربي لمعركة غزة المشروعة، فالدول العربية المحيطة بغزة ساهمت بقوة في رفع هذه الكلفة عبر إطباق الحصار عليها بقوات عربية وبما ثبت يقينا من مساعدة العدو نفسه على تدميرها بالأغذية والسلاح ووقود الطائرات والدعم السياسي.
لقد كان رأس غزة مطلوبا عربيا قبل أن يطلبه العدو، وهي إذ تتلقى المساعدات الآن ممن ساهم في تدميرها لا تنسينا أن هذه المساعدات لن تغطي الخذلان الأصلي ولن تبرّئ ساحة المساعدين من جريمة تاريخية.
جريمة خذلان غزة تلتقي مع جريمة تجويع سوريا وهي البلد الغني وتدميرها حتى إيصالها إلى وضع الحاجة إلى المساعدة (والسودان على الطريق). فالفاعل واحد وإن اختلفت أسماؤه، إنه النظام العربي الرسمي. لذلك فإن التوقف على إلقاء اللوم على عدو غاشم يبدو ضروريا لفهم لحظة الشعوب المجوعة. العدو ظاهر وله قوته وله خطته العدوانية، ولكن كل خططه وكل عدوانه لم يتجسد على الأرض إلا بتواطؤ عربي رسمي ضد الشعوب.
يروج الإعلام الرسمي العربي وتسايره نخب كثيرة ننعتها بلا مواربة بالجهل والجبن؛ لنظرية "المؤامرة على الأمة". هذه الرواية تريح النخب من مواجهة أنظمتها فتغطي عجزها وتبرر للأنظمة فتواصل خيانة شعوبها.
إن وضع الضحية مريح للجميع (نخبا وأنظمة) ولكنه لا يقدم حلا للمستقبل، لذلك وجبت إعادة تحديد المسؤوليات. فالغرب والصهيونية والشيطان الرجيم كلهم أعداء، وقد قالت غزة إن العدو قابل للهزيمة كما قالته دمشق في سياقها المخصوص، لكن العدو الفعال هو من يخرج قدرات الشعوب من المعركة باسم الحفاظ على سلامتها حتى يبلغ مبلغ مساعدة العدو على شعبه.
الأمر الأسوأ من الهزائم العسكرية في معارك شريفة أهون على النفس من مشاهد شعوب جائعة تتدافع على شاحنات المعونة، إنه مشهد بؤس كوني تسببت فيه بالدرجة الأولى أنظمة خائنة ونخب لا تقل عنها خيانة.
وماذا بعد تحديد المسؤوليات؟
إن المواطن العربي الذي يقتطع من قوت عياله ليرسل بسكويتا لأطفال غزة غير ملوم في مشهد الشاحنات، غير أن هذا علاج بالمسكنات، بينما يوجد العلاج الجدري في مكان آخر، إنه في التغيير السياسي القوي لهذه الأنظمة بالوسائل المتاحة وبالأثمان الضرورية.
إن المواطن العربي الذي يقتطع من قوت عياله ليرسل بسكويتا لأطفال غزة غير ملوم في مشهد الشاحنات، غير أن هذا علاج بالمسكنات، بينما يوجد العلاج الجدري في مكان آخر، إنه في التغيير السياسي القوي لهذه الأنظمة بالوسائل المتاحة وبالأثمان الضرورية
الشعوب التي تهرب من مواجهة أنظمتها ستظل ترسل بسكويتا لأية غزة قادمة، لذلك فإن الحلول في الأقطار أولا وتبدأ بإسقاط نظرية المؤامرة أو التذرع بالعدوان الخارجي، وهو شرط ضروري لتحديد عدو الحرية في الداخل قبل الخارج.
لقد وعدت الديمقراطية القصيرة الأمد بحل حقيقي، لكنها فشلت وفشلها في تقديرنا ناتج عن قوى داخلية طالما تحدثت عن الديمقراطية والحرية، فلما تجلت لها نكصت على أعقابها فإذا هي أسوأ من الأنظمة.
يحتاج الأمر لبعض شجاعة لتسمية العدو الداخلي باسمه ثم مواجهته بحقيقته. النخب السياسية التي تتحدث عن الديمقراطية وتهرب من نتيجة الصندوق الانتخابي ولا تصبر على فعله المتأني في التغيير؛ لا يمكن التعويل عليها في معارك حرية. لكن كيف الوصول إلى الشعوب وتثوير رغبتها في الحرية دون المرور بهذه النخب؟ هذا سؤال العجز القاهر يطرحه مواطن عربي مقهور ولا يقدم له إلا إجابة رومانسية عن الثورة المسلحة.
للأسف الشديد إن مشاهد قوافل المساعدة في الرقعة العربية ستظل تتجدد كل يوم وفي كل عدوان؛ لأن ما نسمعه من طعن في شرف غزة وفي شرف الثورة السورية من نفس النخب التي خانت الديمقراطية يكشف لنا أن معركة توليف الناس (الشعوب) حول معركة تحرر داخلي من عدوان الأنظمة على الشعوب لا تزال طويلة، وإنه ما لم يحصل هذا الاتفاق على محورية تحرير الشعوب من أنظمتها لتقوم جبهة قوية ضد احتمالات العدوان الخارجي فإن التجويع والتدمير سيستمر وتستمر القوافل.
هناك حل مريح يلائم رفاه النخب؛ أن ننتظر في مقاهي النخبة ومنتدياتها اندثار الغرب العدواني من تلقاء نفسه لتأتي الحرية مغسولة من عرق المعارك الحاسمة. هذه خاتمة مريحة للكاتب شخصيا؛ لأنه لم يعثر على إجابة على سؤال ممض: من سيقوم للحرية فيفرضها على الأنظمة؟