محمد الهادي عرجون: عن المجموعة الشعرية “لا أنحني لأجمع رأسي” للشاعر التونسي خالد رداوي: صرح ممرد من قوارير الشعر.. ونوافذ المعنى …
تاريخ النشر: 7th, July 2023 GMT
محمد الهادي عرجون عندما يجمع الشاعر خالد رداوي شِعره كقطع البازل المتناثرة ليحاصر العبارة بثراء مخيلته، التي تنطلق من اللحظة الأولى التي ألقت القصيدة أحمالها عليه، وهو جالس يقضم تفاحة المعنى، يتلو دهشة الكلمات في رحلة حبلى بالدهشة ليرتب الأفكار والأشعار، يروي لنا قلق الشعر حين يخيط لنا بردة من حبر الكلمات ومن نزيف المعنى لينثر الجمال كسنبلة حبلى أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة ما يعكس صورة الواقع ببساطة المعنى بالاعتماد على التجريب، لينزف الحبر مجموعة شعرية اختار لها من العناوين “لا أنحني لأجمع رأسي” صادرة عن دار الشنفرى للنشر والتوزيع سنة 2023 والتي ضمت بين طياتها 59 قصيدة نثرية في 171 صفحة من الحجم المتوسط، بدأ كشف خطوطها بموسيقى الكلام وأنهاها برقصة المعنى لكيلا ينحني ليجمع رأسه وينزف من نبيذ الكلمات شعرا يعبق برائحة الخيال وهو يتجول في حقول الشعر الفسيحة.
“تنحني قليلا للعاصفة، تنحني بجلال راهبة
وتتطلع الى فوق… الى فوق. وقديماً قال
الشاعر: «ليت الفتى حجر». وليته قال:
ليت الفتى شجرة!”
وبذلك يصنع الشاعر خالد رداوي عالمه الشعري الذي بدايته اللاّوعي ونهايته اللاّوعي ليعيش في الخيال ويفتح نوافذ على عالم الموجودات والماورائيات لتطفو على سطح النص مجموعة من الإشارات وظفها لخدمة النص ولإرسالها في شكل قبسات من الضوء ليقول أشياء كثيرة بكلمات قليلة، باعتماده في الكثير من المقاطع على اختزال الأسطر الشعرية، لذلك تبرز بنية قصائده الشكلية أكثر وضوحا لتتسع فيه مساحة الدلالات، ليكون الوضوح والاختزال بوابة العبور نحو المعنى. حين يعتمد في بناء نصوصه ومسار قصائده على قولة لـ: جون جاك روسو والتي يقول فيها “أن تخلق بقوّة الذّات وسلطانها أمورا ليس لها وجود ويضعها في منزلة أعلى من كلّ ما هو موجود”. كما يبني عالمه الشعري الخاص من خلال استجلاء معجم الطبيعة (الريح، السماء، الشمس، الليل، الأرض، الضوء، الظلام…) وغيرها من المفردات التي توقظ حواس المتلقي بتفاعله بين عناصر الطبيعة التي استقى منها معجمه واللغة التي يكتب تفاصيلها بإيحاءات وإيماءات يرسم تفاصيلها بالكلمات، وينثرها على أحاسيس تبحر معه في عالمه وتتماهى مع نفسية الشاعر. وتعبيرا شعريا شفافا للمشاغل التي تحيط به. فالشعر لدى الشاعر محاولة صادقة لسبر أغوار الروح، وكشف أحاسيسه وما يرمي بثه للمتقبل، كما أنه الصوت الذي يكشف الأحلام والرؤى ليعبر عنها سواء كان ذلك بالإغراق في الخيال أو من خلال التأمل في الواقع الملهم والمشاهدات اليومية التي يسطرها الشاعر في لحظة وجدانية صادقة. فالمشاعر تنطلق وتتقلب في وجدانه وتخرج من عالمه الخاص به الذي لا يدركه، إلى نطاق عالم المحسوسات والموجودات عن طريق أنسنتها ليرسم لنا مشاهد شعرية مغرقة في التجريب زادت في حركية النص باعتماده على لغة فيها الكثير من الإيحاء تارة والتصريح تارة أخرى والتي جمع فيها صاحبها الواقعي والديني والخرافي والتخيلي بأسلوب يجعلنا نتابع قصائده التي نقرؤها بشغف شديد، ليفتح نافذة في كل جدار ليطل من عل على آخر المنافي، يحاول أن يعزف تحتها ويكتب القصيدة تلو القصيدة، ليمنع الريح من اقتحام المعاني ويقطع جذورها، وقد هطلت القصائد على رؤوس الأشهاد ليكون الشعر بوابة عبور وجواز سفر نحو المعنى. ليصور الصراع الذي يعيشه بما يخامره من إحساس مرهف يدفعه إلى التعبير عما يحيط به، باعتماده على قوالب إبداعية غاية في الدقة والإتقان ليعبر عن تجربة ذاتية تنبثق من قلق الشاعر الوجودي لتنتهي بدهشة القارئ. كما نلاحظ تكرار عدد من الثيمات التي حاول من خلالها الشاعر بناء نصه عليها على الرغم أنه يلجأ في بعض الأحيان إلى الرمز والإشارات والإيحاءات، فليس من العجيب أو الغريب أن تلتحف نصوص الشاعر خالد رداوي الغموض من ناحية الأساليب والتّراكيب، بل تتجاوزها إلى مستوى المضامين والمعاني. إلا أنه في الآن نفسه يصور لنا صورة مألوفة محسوسة قادرة على نقل المعنى للمتلقي. وذلك باعتماده على تكرار اللفظ الذي يعتبر من أبرز الظواهر الفنية والأسلوبية التي اعتمدها الشعر الحديث والتي تبين لنا أبعادا دلالية وفنية تحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها، بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، في عدة مقاطع شعرية من خلال تكرار الكلمة سواء كانت اسما أو فعلا: (أفتح نافذة(ص7)، أسقط …الكلمة(ص9)، يرى الاله العادل(ص19)، أقطع(ص21)، تئن(ص24)، المجد(ص26)، …يثرثر(ص38)، علميني (42)، سبحان(52)، أكتفي(ص53)، من قمامة(ص56)، لن أعود إلى… الكلمة(ص57-58)، تنتهي الفصول تنتهي الشوارع…(ص91)، إلى ما يشبه …(ص92)، أحتاجك(ص93)، النهاية…(ص94)، بعد كل كلمة…(ص96)، لا فائدة من الموت…(ص101)، من نجمة إلى نجمة، من عتمة إلى عتمة، من منفى إلى منفى(102)…)، وهو تكرارٌ يُعيدُ من خلالها اللفظة الواردة في الكلام لإغناء دلالة الألفاظ المتواترة، وإكسابها قوة، كما يتغير اللفظ المكرر في بعض الأحيان، بزيادة أو نقصان، أو بتقديم أو تأخير، أو بتغيير المحيط الذي ينزل فيه اللفظ المكرر، ويظهر ذلك من خلال قوله:(ص 76): “صمتي قبل صمتي قلمي قبل قلمي صبري قبل صبري لحمي قبل لحمي دمي قبل دمي ندمي قبل ندمي” أو بتكرار الكلمة ونقيضها في الكثير من المقاطع الشعرية: (نقترب أكثر وربما نبتعد، نبتعد أقل وربما نقترب(ص45)، (أشكو فقدي للبعد والقرب أبعد…أشكو بعدي للفقد والبعد أقرب…(ص51)، أسمعهم وأراهم، ينكشفون ويتسترون، يموتون ويبعثون، يجتمعون في رأسي ويتفرقون(ص73)، أيها الأول ليس وراءك وصف/أيها الآخر ليس أمامك وصف(ص133)، أيها القاطع بي إليك مني/ أيها الواصل بي إلي منك/ ولجت بابي في غيابي/وسد دونك حضوري(ص142)، كما يظهر بصورة جلية :(ص88) حين يقول: “نسيت كل شيء وتذكرت بداية القصيدة تذكرت كل شيء ونسيت الكهف والرقيم” كما نلاحظ في مواضع عدة تكرار الفعل بمختلف اشتقاقاته اللفظية، في نص (الشبيهان) بقوله: (ص45): “أحتاج إلى شبيه لي وتحتاجين إلى شبيه لك كل شيء يشبهني وكل شيء يشبهك” بالإضافة إلى تكرار الشاعر لبعض الحروف، والذي يعتبره خورخي بورخيس “من أبسط أنواع التكرار وأقلّها أهميّة في الدلالة، وقد يلجأ إليه الشاعر بدوافع شعورية، لتعزيز الإيقاع في محاولة منه لمحاكاة الحدث الذي يتناوله، وربما جاء للشاعر عفواً دون قصد، أو بسبب حالة نفسية توحي بنفس قلقة. كما لا يفوتنا أن نشير إلى أنّ تكرار الحرف في النص الشعري لا يمكن أن يخضع لقواعد نقدية ثابتة في المجمل، لكن مع هذا فإنّ تكرار الحرف يحقّق أثراً واضحاً في ذهن المتلقّي، ممّا يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعاداً تكشف عن حالة الشاعر النفسية. إنه تكرار فني، يستدعي البحث والتأويل، سواء كانت انفعالات الشاعر التي نحس بها من خلال التأثير الدرامي للشاعر أو من خلال استجابتنا كقراء لهذه التأثيرات سلبيا أو إيجابيا، فالتكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبيين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة في سياق شعوري حزين، أو سعيد، جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى المراد بثه في المتلقي. ليختار الشاعر من خلالها زمن التجوال والمرور بين فراغات النص وتعرجاته، ويقف عند زخرف القول، لتبزغ الهندسة الروحية التي تنكشف فيها رحلة الشاعر الذي يحاذر القصيدة من دوي خافت، يمضي معها إلى أن يختفي كالإشارة، إنه الشاعر الذي “يتقوس ولا ريب/ في بطن قصيدته/ ولا ينحني ليجمع رأسه”(ص161). فالتكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة والذي جاءت في سياق شعوري حزين، وهو رغم تنوعه لم يأت عشوائيا ولكنه جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى بتراكيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة الاستعمال في الشعر الحديث. ليكون الشاعر بذلك قد وظف التكرار بطريقة مميزة ساهمت في كثافة الصور، التي تبين لنا أبعادا دلالية وفنية تحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها. والذي يعد من الأسس الأسلوبية التي تعمل على التماثل في النص الشعري خاصة وأنه يساهم في تمتين وحدة النص وتماسكه بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر. ليبرز التأثير السحري والبصري وهو ما يكشف خطوط المعنى بين ذاكرة الكتابة وذاكرة الصورة، ليصبح الشعر أداة للتعبير عن المعاناة والتجربة الحقيقية. وفي الختام يمكن القول إنه ليس من السهل أن تجمع رأسك، لتقد قميص قصائد الشاعر خالد رداوي وتفتح نوافذ البحث والقراءة لنصوص نجحت في شد القارئ إليها والتي لمست فيها خصوصيات جمالية ودلالية تعكس تجربة صاحبها التي تستدعي مدلولات شتى، ورؤى متعددة تحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي والتأمل والإدراك لمدلولها الفكري وبعدها النفسي وجوهرها الفني، فقد طرح الشاعر رؤاه الجديدة من خلال تساؤلاته أسلوبه الشعري الذي أعتبره متفردا من ناحية الصيغة اللغوية المختلفة والمغايرة التي يري من خلالها الشاعر صوته وصورته، وصور ما يحيط به من موجودات وما يحس بيه من محسوسات، ليبوح بمواجعه الذاتية وآلامه في شكل زخات إبداعية، وهو ما يجعل شعره أشبه بصرح ممرد من قوارير يلهب زفير الكلمات و يفتح لنا أبواب التمعن والبحث. تونسالمصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
الشاعر الإسباني فرانسيسكو سولير: تأخرتُ في نشر أعمالي بسبب كرة القدم
احتضنت "قاعة الشعر"؛ في "بلازا 1"؛ بمعرض الكتاب ، ندوة شعرية حوارية للشاعر الإسباني "فرانسيسكو سولير"، أدارتها الكاتبة والمترجمة أسماء عبد الناصر؛ وسط حضور لافت. وذلك في إطار فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56.
وفي تقديمها للندوة، أشارت أسماء عبد الناصر؛ إلى اهتمام "سولير" العميق بالثقافة العربية، مشيرةً إلى أن حضوره إلى القاهرة يأتي لتقديم أنطولوجيته الخاصة بالشعر العربي؛ وأوضحت أن "سولير"، المنتمي إلى جيل الثمانينيات، تأخر في نشر أعماله الشعرية؛ رغم كونه من أبرز الأصوات الشعرية في إسبانيا، حيث أصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 1969، ليصبح لاحقًا أحد الأسماء البارزة في المشهد الشعري الإسباني المعاصر.
ومن جانبه، أرجع "سولير" سبب تأخره في نشر أعماله؛ إلى انشغاله لسنوات طويلة بالعمل كمدرب لكرة القدم. وقال مازحًا: "حين يسألني أحد كيف أكتب الشعر، أجيب دائمًا بأنني لا أعرف، وليس لدي أسباب محددة تدفعني إلى الكتابة؛ ربما لأن الشعر جزء من تكويني، أو لأنه يمتلك القدرة على التعبير عن معاناة الناس وقضاياهم، بل وخلاصهم أحيانًا"؛ مشيرًا إلى أنه في عام 2016 كتب قصيدة عن فلسطين، قرأها هناك بدعوة من السلطة الفلسطينية، وقد ترجمها إلى العربية الشاعر والمترجم المغربي محمد أحمد بنيس.
كما ألقى خلال الندوة قصيدته "اليتيم"، التي كتبها بعد سفر ابنه للعيش في مدينة أخرى، إلى جانب عدد من قصائده، من بينها "جئت إلى العالم".
وتحدث "سولير" عن تجربته الشعرية التي قادته إلى زيارة العديد من بلدان العالم، حيث خلص إلى أن البشر يتشاركون رؤى متشابهة إلى حد كبير، مع استثناء قلة قليلة تخرج عن السياق العام.
وفي مداخلة له، أكد الشاعر أحمد الشهاوي؛ أنه راجع مختارات "سولير" الشعرية، التي صدرت عن دار نشر مصرية، مشيرًا إلى أن علاقته به تمتد عبر رحلات شعرية عديدة، وواصفًا إياه بالشاعر الإنساني بامتياز؛ وأن المختارات الشعرية ل"سولير" كان من المفترض أن تصدر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، لكنها نُشرت عبر دار نشر أخرى، وقد تولى ترجمتها إلى العربية الشاعر المغربي محمد أحمد بنيس.
وأشار الشهاوي؛ إلى أن "سولير" ليس مجرد شاعر إسباني، بل هو متفاعل مع المشهد الشعري العالمي، حيث يستخدم تقنيات شعرية تستدعي بعض الشعراء الذين أحبهم في قصائده، واختتم حديثه بالقول: "بصفتي المراجع لمختاراته الشعرية، اضطررت إلى حذف إحدى القصائد، إذ لم تكن مناسبة لتقاليد مؤسسة الهيئة الشعرية".