محمد الهادي عرجون عندما يجمع الشاعر خالد رداوي شِعره كقطع البازل المتناثرة ليحاصر العبارة بثراء مخيلته، التي تنطلق من اللحظة الأولى التي ألقت القصيدة أحمالها عليه، وهو جالس يقضم تفاحة المعنى، يتلو دهشة الكلمات في رحلة حبلى بالدهشة ليرتب الأفكار والأشعار، يروي لنا قلق الشعر حين يخيط لنا بردة من حبر الكلمات ومن نزيف المعنى لينثر الجمال كسنبلة حبلى أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة ما يعكس صورة الواقع ببساطة المعنى بالاعتماد على التجريب، لينزف الحبر مجموعة شعرية اختار لها من العناوين “لا أنحني لأجمع رأسي” صادرة عن دار الشنفرى للنشر والتوزيع سنة 2023 والتي ضمت بين طياتها 59 قصيدة نثرية في 171 صفحة من الحجم المتوسط، بدأ كشف خطوطها بموسيقى الكلام وأنهاها برقصة المعنى لكيلا ينحني ليجمع رأسه وينزف من نبيذ الكلمات شعرا يعبق برائحة الخيال وهو يتجول في حقول الشعر الفسيحة.

فالقارئ المتمعن في نصوص خالد رداوي، عندما يقتفي أثر القصائد توقفه العناوين، التي ترسم جغرافية مروره عبر ثنايا النصوص، فالشّعر عموما حالة طارئة على اللّغة، تفقدها صوابها وتقترب بها من حالة اللاّوعي، ولكن الشّاعر لا يترك شيئا للصّدفة أبدًا، من خلال التفرد بعناوين فيها نظرة وتمحيص واختزال للمضامين في جملة أو عبارة موجزة، تعكس حروفها ومعانيها الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر أثناء كتابة النصوص ليفك أزرار قميص القصائد ويعري تفاصيلها. وبما أن التلميح والإيماء بالصورة الشعرية من أبرز خصائص الشعر المعاصر بوصفها فعالية لغوية تخرج اللغة من بعدها الإنشائي إلى بعد مجازي تصوري او رمزي تتسع فيه العبارة لتكون أكثر شمولا، والذي يعتبر من أهم أدوات الشاعر لبث رؤية فكرية وعاطفية لحظة المكاشفة الشعرية. ليكون خطابه الشعري حافلا بجملة من التقنيات الحديثة من خلال استخدامه التناص. لإنتاج صور شعرية مغايرة تعتمد على مصادر شتى من أهمها التناص خاصة وان “التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المجسمة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية …” كما أشار إلى ذلك سيد قطب في كتابه (التصوير الفني في القرآن). والشاعر خالد رداوي أحد هؤلاء الشعراء المنغمسين في التراث الفكري الديني كما كنا قد أشرنا إلى ذلك عندما تناولنا مجموعته الشعرية (المتضائل)، وهذا ما يجعل احتفاءه وتوظيفه للتناص القرآني واضحا وجليا بين مختلف مفاصل هذه المجموعة التي وجد فيها أرضية خصبة يتحرك في فلكها نصه بطريقة مخالفة لتوقعات القارئ الذي يكتشف معها فضاء العبارة وجسد الفكرة المتجسد في النص. ففي ما يخص العلاقة بين القرآن وفنون الكتابة الأخرى ومنها الشعر، من ناحية الاقتباس والتضمين والتناص، التي كثر الاهتمام بها لدى الشعراء، وبما أن اللغة العربية سبقت القرآن من حيث الوجود، فنزل القرآن بلسان عربي ليخاطب الألسن العربية حينها، ويتحدى إعجازها وبلاغتها، فصار مرجعاً لغوياً بكل صنوف فنون اللغة، تأكيد تلقائي على بلاغة لغة القرآن، وبديع آياته.  لذلك عندما يلجأ صاحب النص الأدبي إلى بضع مفردات قرآنية، خصوصاً تلك التي ليست لها علاقة بقدرة الخالق ومعجزاته، إنما هو يستخدم مفردات موجودة أصلاً من قبْل القرآن، وإن لم تكن بالشكل التي وردت في القرآن، لكنها اشتهرت من خلال كتاب الله، ومن بينهم الشاعر خالد رداوي الذي باستخدامه المفردات القرآنية، تأكيد تلقائي منه على بلاغة لغة القرآن، وبديع آياته، وليس لغاية أخرى، كما أنّ هذا الاستخدام يدل على ثقافة الشاعر وسعة قاموسه اللغوي وتأثره بالكلام القرآني، فلا يوجد ما هو بمثابة الدليل القطعي على عدم جواز توظيف المفردات القرآنية في نص شعري جاءت في مكانها الصحيح من دون أن تكون إسقاطاً أو حشواً.    وقد جاء استخدام التناص من خلال أشكال عدة مثل استخدام مفردات قرائية منفردة أو مقترنة بلفظة أخرى (بما كسبت- أولى لك فأولى- فبأي آلاء- صحف منشرة- مطويات بيمين- فأكثر فيها- حتى دنا وتدلى- هيت لك- خلف خلفها خلف- خائنة العين-وفيها منافع للناس- من كل شيء زوجان…) وهو عبارة عن اعادة قراءة النصوص المقتبسة في ضوء النص الجديد الراهن، واعادة صياغتها، وقراءتها في إطار جديد ونص جديد متعدد الدلالة والأصوات فيه صوت الشاعر الرامي ربما إلى التعبير عن اديولوجيا، وموقف من الواقع والأحداث وتعليقه عليهما من خلال اختيار نصوص محددة. “فالكتابة الشعرية هي فتح الذات لكل ما يأتي من الاخرين، للأصوات المتعددة، والنص هو الانتقال من ثقافة الغير إلى متعة الكتابة التي يغدو فيها التناص عملا لذاكرة المبدع الحصيف والمتلقي الكفء على حد تعبير” رولان بارت، وهو دليل على أن الشاعر لا ينتطق من فراغ بل ينطلق من تراث ضخم يأخذ منه ما يشاء، وما يناسب رؤاه الفنية وإثراء للنص الشعري، وبما أن القرآن من أهم روافد الشعر العربي الحديث والمعاصر، ويصبح من الصعوبة بمكان نظرا لكثافة الاستدعاءات لامتزاجه بالخطاب الشعري، فلا يكاد يخلو خطاب شعري حداثي من التناص والذي يظهر متنوعا فتارة يكون لفضيا باقتباس كلمة أو جملة أو آية قرآنية. ” السفينة دأب أيامها الخوالي الصافنات الجياد من كل شيء زوجان ملك ونبي مطاع ثم أمين مثقلا بالكشف بلغت الشقة العتبات حتى إدبار النجوم الشجرة تخلف وعدها خلف بعدها خلف كأعجاز سبط أضاعوا زرع القيظ في الشمس وهي تميد”(ص127).  وتارة يكون معنويا لامتصاص دلالات تلك المفردات لإعطاء الخطاب الشعري قيمة فنية خاصة ذات التأثير العميق في نفس المتلقي من خلال جملة من الأسطر الشعرية التي اقتبسها الشاعر مع الاحتفاظ بسياقها أو تغيير سياقها ومعانيها الأصلية. ” فبأي آلاء السكون يشق جيوبه ويصاعد في خشوع ليل شحيح وبين البروق بدت سوأة الضوء”(ص32). وكذلك في قوله: ” سبحان ملاذي من ضيق خديعتي سبحان سرابي أوسع توهمي سبحان شكواي مني بين العابرين أسأل أيان مرساها فيما أنت من ذكراها”(ص52).  والمعنى الذي أعطي لها من بين معانيها الكثيرة في القرآن الكريم والتي نجدها مبثوثة في ثنايا القصائد والتي تتراوح دلالاتها بين معاني التحدي والقلق والقوة والصمود والانعتاق عن طريق استغلال ما فيها من طاقات ودلالات تدفع إلى الثورة على البناء المحكم للقصائد. لذلك يستل الشاعر خالد رداوي المفردة من موقعها المعجمي القرآني ويمنحها وهجها الشعري المناسب لها. ليطفو على السطح حلم التفرد حين تنسل المفردات وتفتح أجنحة المعنى وتختار لها ركنا قصيا. كما يتجاوز حدود الإقتباس الحرفي للكلمة أو العبارة القرآنية في الكثير من الأحيان لإستلهام المعنى القرآني أو ليشمل القصة القرآنية من حيث سرد الأحداث أو الإشارة إليها كما فعل ذلك في قصة أهل الكهف والرقيم “نسيت كل شيء وتذكرت بداية القصيدة/ تذكرت كل شيء ونسيت الكهف والرقيم”(ص88)، وصاحب الحوت ” وذهب مغاضبا / ولولا أن تداركه الغرق؟”(ص57). كما يحاول إعادة تشكيل الواقع الذي يعيشه والتي تتطلبها التجربة الشعرية لإيصالها إلى المتلقي باعتماد على تقنية التناص القائم بين النصوص المستدعاة والمتن الشعري. وخلاصة القول أن استلهام الشاعر خالد رداوي لألفاظ القرآن الكريم وتراكيبه يفسر تعاملا واعيا وصادقا مع هذا النص المقدس، وقد حاول الربط بينه وبين الحالات النفسية والشعورية التي تنتابه من خلال المعاني التي كان يلجأ إليها. كما يعمد على التناص الشعري من خلال إعادة إنتاج البيت أو المقطع الشعري، وتوليده عن طريق اتصال الشاعر مع تراث أو مخزونه الثقافي، وتضمين ما يمكن تضمينه، والتأثر بما يجب التأثر فيستل المفردة من موقعها المعجمي ويمنحها وهجها الشعري المناسب لها. وقد ورد هذا التناص في مواضع مختلفة حيث يقول في الصفحة (17): “نار في رأسها علم تسبقني إليها خطى الآتي الثابتة في الماضي” وهو تناص مع بيت قالته الخنساء والذي تقول فيه: “وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِهِ ** كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ” وكذلك في قوله صفحة (22): “لكن هل غادر الشعراء من متردم؟” وهو استفهام يتضمن معنى الإنكار، في إشارة إلى نه لم يترك الشعراء شيئًا يصاغ فيه شعر إلا وقد صاغه فيه، في إشارة إلى قول عنترة العبسي: ” هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ*** أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ” كما أن الشاعر خالد رداوي قد وظف بيت الشاعر تميم بن أبي بن مقبل الذي يقول فيه: ” مَا أَطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أَنَّ الفَتَى حَجَرٌ*** تَنْبُو الحَوادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُومُ”  حين قال: (ص60): ” الدم من مفاصل الحجر “ليت الفتى حجر” إيماءة ترتطم بإيماءة” مع العلم أن الشاعر محمود درويش قد استعمل هذه الجملة بقوله: مع العلم أن الشاعر محمود درويش قد استعمل هذه الجملة بقوله:

“تنحني قليلا للعاصفة، تنحني بجلال راهبة

وتتطلع الى فوق… الى فوق. وقديماً قال

الشاعر: «ليت الفتى حجر». وليته قال:

ليت الفتى شجرة!”

وبذلك يصنع الشاعر خالد رداوي عالمه الشعري الذي بدايته اللاّوعي ونهايته اللاّوعي ليعيش في الخيال ويفتح نوافذ على عالم الموجودات والماورائيات لتطفو على سطح النص مجموعة من الإشارات وظفها لخدمة النص ولإرسالها في شكل قبسات من الضوء ليقول أشياء كثيرة بكلمات قليلة، باعتماده في الكثير من المقاطع على اختزال الأسطر الشعرية، لذلك تبرز بنية قصائده الشكلية أكثر وضوحا لتتسع فيه مساحة الدلالات، ليكون الوضوح والاختزال بوابة العبور نحو المعنى. حين يعتمد في بناء نصوصه ومسار قصائده على قولة لـ: جون جاك روسو والتي يقول فيها “أن تخلق بقوّة الذّات وسلطانها أمورا ليس لها وجود ويضعها في منزلة أعلى من كلّ ما هو موجود”. كما يبني عالمه الشعري الخاص من خلال استجلاء معجم الطبيعة (الريح، السماء، الشمس، الليل، الأرض، الضوء، الظلام…) وغيرها من المفردات التي توقظ حواس المتلقي بتفاعله بين عناصر الطبيعة التي استقى منها معجمه واللغة التي يكتب تفاصيلها بإيحاءات وإيماءات يرسم تفاصيلها بالكلمات، وينثرها على أحاسيس تبحر معه في عالمه وتتماهى مع نفسية الشاعر. وتعبيرا شعريا شفافا للمشاغل التي تحيط به. فالشعر لدى الشاعر محاولة صادقة لسبر أغوار الروح، وكشف أحاسيسه وما يرمي بثه للمتقبل، كما أنه الصوت الذي يكشف الأحلام والرؤى ليعبر عنها سواء كان ذلك بالإغراق في الخيال أو من خلال التأمل في الواقع الملهم والمشاهدات اليومية التي يسطرها الشاعر في لحظة وجدانية صادقة. فالمشاعر تنطلق وتتقلب في وجدانه وتخرج من عالمه الخاص به الذي لا يدركه، إلى نطاق عالم المحسوسات والموجودات عن طريق أنسنتها ليرسم لنا مشاهد شعرية مغرقة في التجريب زادت في حركية النص باعتماده على لغة فيها الكثير من الإيحاء تارة والتصريح تارة أخرى والتي جمع فيها صاحبها الواقعي والديني والخرافي والتخيلي بأسلوب يجعلنا نتابع قصائده التي نقرؤها بشغف شديد، ليفتح نافذة في كل جدار ليطل من عل على آخر المنافي، يحاول أن يعزف تحتها ويكتب القصيدة تلو القصيدة، ليمنع الريح من اقتحام المعاني ويقطع جذورها، وقد هطلت القصائد على رؤوس الأشهاد ليكون الشعر بوابة عبور وجواز سفر نحو المعنى. ليصور الصراع الذي يعيشه بما يخامره من إحساس مرهف يدفعه إلى التعبير عما يحيط به، باعتماده على قوالب إبداعية غاية في الدقة والإتقان ليعبر عن تجربة ذاتية تنبثق من قلق الشاعر الوجودي لتنتهي بدهشة القارئ. كما نلاحظ تكرار عدد من الثيمات التي حاول من خلالها الشاعر بناء نصه عليها على الرغم أنه يلجأ في بعض الأحيان إلى الرمز والإشارات والإيحاءات، فليس من العجيب أو الغريب أن تلتحف نصوص الشاعر خالد رداوي الغموض من ناحية الأساليب والتّراكيب، بل تتجاوزها إلى مستوى المضامين والمعاني. إلا أنه في الآن نفسه يصور لنا صورة مألوفة محسوسة قادرة على نقل المعنى للمتلقي. وذلك باعتماده على تكرار اللفظ الذي يعتبر من أبرز الظواهر الفنية والأسلوبية التي اعتمدها الشعر الحديث والتي تبين لنا أبعادا دلالية وفنية تحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها، بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، في عدة مقاطع شعرية من خلال تكرار الكلمة سواء كانت اسما أو فعلا: (أفتح نافذة(ص7)، أسقط …الكلمة(ص9)، يرى الاله العادل(ص19)، أقطع(ص21)، تئن(ص24)، المجد(ص26)، …يثرثر(ص38)، علميني (42)، سبحان(52)، أكتفي(ص53)، من قمامة(ص56)، لن أعود إلى… الكلمة(ص57-58)، تنتهي الفصول تنتهي الشوارع…(ص91)، إلى ما يشبه …(ص92)، أحتاجك(ص93)، النهاية…(ص94)، بعد كل كلمة…(ص96)، لا فائدة من الموت…(ص101)، من نجمة إلى نجمة، من عتمة إلى عتمة، من منفى إلى منفى(102)…)، وهو تكرارٌ يُعيدُ من خلالها اللفظة الواردة في الكلام لإغناء دلالة الألفاظ المتواترة، وإكسابها قوة، كما يتغير اللفظ المكرر في بعض الأحيان، بزيادة أو نقصان، أو بتقديم أو تأخير، أو بتغيير المحيط الذي ينزل فيه اللفظ المكرر، ويظهر ذلك من خلال قوله:(ص 76): “صمتي قبل صمتي قلمي قبل قلمي صبري قبل صبري لحمي قبل لحمي دمي قبل دمي ندمي قبل ندمي” أو بتكرار الكلمة ونقيضها في الكثير من المقاطع الشعرية: (نقترب أكثر وربما نبتعد، نبتعد أقل وربما نقترب(ص45)، (أشكو فقدي للبعد والقرب أبعد…أشكو بعدي للفقد والبعد أقرب…(ص51)، أسمعهم وأراهم، ينكشفون ويتسترون، يموتون ويبعثون، يجتمعون في رأسي ويتفرقون(ص73)، أيها الأول ليس وراءك وصف/أيها الآخر ليس أمامك وصف(ص133)، أيها القاطع بي إليك مني/ أيها الواصل بي إلي منك/ ولجت بابي في غيابي/وسد دونك حضوري(ص142)، كما يظهر بصورة جلية :(ص88) حين يقول: “نسيت كل شيء وتذكرت بداية القصيدة تذكرت كل شيء ونسيت الكهف والرقيم” كما نلاحظ في مواضع عدة تكرار الفعل بمختلف اشتقاقاته اللفظية، في نص (الشبيهان) بقوله: (ص45): “أحتاج إلى شبيه لي وتحتاجين إلى شبيه لك كل شيء يشبهني وكل شيء يشبهك” بالإضافة إلى تكرار الشاعر لبعض الحروف، والذي يعتبره خورخي بورخيس “من أبسط أنواع التكرار وأقلّها أهميّة في الدلالة، وقد يلجأ إليه الشاعر بدوافع شعورية، لتعزيز الإيقاع في محاولة منه لمحاكاة الحدث الذي يتناوله، وربما جاء للشاعر عفواً دون قصد، أو بسبب حالة نفسية توحي بنفس قلقة. كما لا يفوتنا أن نشير إلى أنّ تكرار الحرف في النص الشعري لا يمكن أن يخضع لقواعد نقدية ثابتة في المجمل، لكن مع هذا فإنّ تكرار الحرف يحقّق أثراً واضحاً في ذهن المتلقّي، ممّا يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعاداً تكشف عن حالة الشاعر النفسية. إنه تكرار فني، يستدعي البحث والتأويل، سواء كانت انفعالات الشاعر التي نحس بها من خلال التأثير الدرامي للشاعر أو من خلال استجابتنا كقراء لهذه التأثيرات سلبيا أو إيجابيا، فالتكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبيين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة في سياق شعوري حزين، أو سعيد، جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى المراد بثه في المتلقي. ليختار الشاعر من خلالها زمن التجوال والمرور بين فراغات النص وتعرجاته، ويقف عند زخرف القول، لتبزغ الهندسة الروحية التي تنكشف فيها رحلة الشاعر الذي يحاذر القصيدة من دوي خافت، يمضي معها إلى أن يختفي كالإشارة، إنه الشاعر الذي “يتقوس ولا ريب/ في بطن قصيدته/ ولا ينحني ليجمع رأسه”(ص161). فالتكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة والذي جاءت في سياق شعوري حزين، وهو رغم تنوعه لم يأت عشوائيا ولكنه جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى بتراكيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة الاستعمال في الشعر الحديث. ليكون الشاعر بذلك قد وظف التكرار بطريقة مميزة ساهمت في كثافة الصور، التي تبين لنا أبعادا دلالية وفنية تحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها. والذي يعد من الأسس الأسلوبية التي تعمل على التماثل في النص الشعري خاصة وأنه يساهم في تمتين وحدة النص وتماسكه بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر. ليبرز التأثير السحري والبصري وهو ما يكشف خطوط المعنى بين ذاكرة الكتابة وذاكرة الصورة، ليصبح الشعر أداة للتعبير عن المعاناة والتجربة الحقيقية. وفي الختام يمكن القول إنه ليس من السهل أن تجمع رأسك، لتقد قميص قصائد الشاعر خالد رداوي وتفتح نوافذ البحث والقراءة لنصوص نجحت في شد القارئ إليها والتي لمست فيها خصوصيات جمالية ودلالية تعكس تجربة صاحبها التي تستدعي مدلولات شتى، ورؤى متعددة تحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي والتأمل والإدراك لمدلولها الفكري وبعدها النفسي وجوهرها الفني، فقد طرح الشاعر رؤاه الجديدة من خلال تساؤلاته أسلوبه الشعري الذي أعتبره متفردا من ناحية الصيغة اللغوية المختلفة والمغايرة التي يري من خلالها الشاعر صوته وصورته، وصور ما يحيط به من موجودات وما يحس بيه من محسوسات، ليبوح بمواجعه الذاتية وآلامه في شكل زخات إبداعية، وهو ما يجعل شعره أشبه بصرح ممرد من قوارير يلهب زفير الكلمات و يفتح لنا أبواب التمعن والبحث. تونس

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: من خلال إلى أن

إقرأ أيضاً:

خليفة بن محمد بن خالد: “اليوم الإماراتي للتعليم” دليل نهضة كُبرى تستهدف الاستمرار في الارتقاء بنوعية التعليم

 

 

أبوظبي- الوطن:

أكد معالي الشيخ خليفة بن محمد بن خالد آل نهيان، رئيس مجلس إدارة جمعية واجب التطوعية أن “اليوم الإماراتي للتعليم” دليل نهضة تعليمية كُبرى .

واعتبر اعتماد هذا اليوم، خطوةً جديدةً للأمام في مسيرة تطوير القطاع التعليمي باعتباره مصنع العقول وحاضن المواهب ومختبر الإبداعات، الذي يحفّز على توفير بيئة تعليمية صحية، تليق بمستوى حرص قيادتنا الرشيدة على الاستثمار في الإنسان والحث على الإبداع والتجديد، وتحويل المنشآت التعليمية إلى منابر للعلم، تضمن للطلبة التفوّق الأكاديمي وصُنع الغد الأفضل.

كما اعتبر إقرار هذا “اليوم” لم يأت من باب الترف بل لتنمية طلبة ناجحين أكاديمياً وليكونوا مُدركين في الوقت نفسه لدور العِلم والتعلّم، وقداسة التعليم في تعزيز خطط التنمية وبناء أجيال المستقبل الساعية للريادة العالمية في المجالات كافة، بما فيها مهارات التطوع.

وأضاف، أن اعتماد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، الثامن والعشرين من شهر فبراير من كل عام، يوماً إماراتياً للتعليم، يدل على بزوغ نهضة كُبرى تستهدف الاستمرار في الارتقاء بنوعية التعليم، ضمن رؤية عصرية وحديثة، لينعكس أداؤها على المؤسسات التعليمية، وعلى المتعلمين من طلبة المدارس والمعاهد والكليات والجامعات.

وأثنى معاليه، على المنظومة التعليمية الراقية والمتقدمة في دولة الإمارات، وعلى المعلمين والمعلمات، وحيّا فيهم روح المواطنة والمسؤولية العالية في تهيئة الظروف والمناخات الحاضنة أمام الطلبة لبلوغ المستقبل والغايات والآمال في التميز والإبداع في التعليم.


مقالات مشابهة

  • الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير: يجب على الغرب الاستماع إلى صوت الاحتجاج
  • من‭ ‬يمتلك‭ ‬القصيدة‭: ‬الشاعر‭ ‬أم‭ ‬القارئ؟
  • صدور العدد 62 من مجلة “الحيرة من الشارقة”
  • ما الذي قاله قائد أنصار الله عبد الملك الحوثي عن الضربة الصاروخية الإيرانية التي أرعبت “إسرائيل”؟
  • بعد انفصالها.. من هي “أم خالد” التي قلّدها المشاهير؟
  • الهادي الصغير: أتوقع عرض أسماء “إدارة المركزي” في جلسة البرلمان المقبلة
  • خليفة بن محمد بن خالد: “اليوم الإماراتي للتعليم” دليل نهضة كُبرى تستهدف الاستمرار في الارتقاء بنوعية التعليم
  • خليفة بن محمد بن خالد: “اليوم الإماراتي للتعليم” دليل نهضة تعليمية كُبرى
  • أرغفة القصائد تعبُرُ النيل وبردى في بيت الشعر بالشارقة
  • الشيخ أحمد بن سعيد يطلع على أكبر مشروع تبريد مناطق في العالم الذي تنفذه “إمباور”