الربح والخسارة يمثلان أسس التعامل التجاري بين البشر، فلا أحد يقبل بممارسة تجارة خاسرة، بل الكل يطمع في تحقيق الربح دائما.
هذه المعادلة تنطبق كذلك في حالات النزاع السياسي والعسكري. فحب النصر والغلبة سمة أصيلة في النفس الإنسانية، وفي الحرب الجارية على غزة، هناك رابحون وخاسرون، وهناك من رفعت الحرب شأنه ووجوده، وفي مقابله هناك من سقط سقوطا مروّعا.
وقد شاركت قوى عديدة، من بينها عربية أيضا، في العمل العسكري الذي لم يحدث له مثيل منذ عقود. ويقدر بان ما ألقي على قطاع غزة من حمم في الأسابيع الثلاثة من العدوان بأكثر من 16 ألف طن من المتفجرات، وهو ما يزيد عن قوة القنبلة النووية التي ألقاها الأمريكيون على هيروشيما. وبذلك دمّروا بشكل كامل 45 بالمائة من الوحدات السكنية فيها، حسب ما قاله مكتب الأمم المتحدة للإغاثة الإنسانية.
وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز»: «أصبح واضحا للمسؤولين الأمريكيين أن القادة الإسرائيليين يعتقدون أن العدد الهائل من الضحايا المدنيين ثمن مقبول في الحملة العسكرية». واستخدم الإسرائيليون، مدعومين عمليا من أمريكا بشكل خاص، أساليب عديدة لإدخال الرعب في قلوب الطرف الآخر، إذ بدأ العدوان بتهديدات بإزالة غزة من الوجود، واستخدام التدمير الشامل الذي تعمّد تدمير أبراج سكنية عالية وقتل كل من فيها، بمن فيهم النساء والأطفال. وللإمعان في غرس الخوف والهلع في نفوس الأبرياء عمدوا لاستهداف مستشفى «المعمداني» في واحدة من كبريات جرائم الحرب وقتلوا كل من كان داخله من أطباء ومرضى وزوار. كل ذلك لتحقيق هدف واحد: الغلبة الساحقة التي تزيل الطرف الآخر من الوجود. فهل تحقق ذلك حقًّا؟
ربما فات الإسرائيليين أن هناك ديناميكية طبيعية للأشياء، وهناك قوانين سارية في الكون، تهدف للحفاظ على التوازن بشكل عام، على المستوى الطبيعي والبشري والقوى المتصارعة، ومن أدوات هذه الديناميكيا ظاهرة «التدافع» التي يتحرك البشر بموجبها لمواجهة بعضهم على كافة الصعدان، لينتج عن ذلك تعادل في النتائج، بدون أن يكون لأحد غلبة ساحقة تلغي الآخرين. فالإسرائيليون يسعون للتحرك خارج مقتضى تلك الديناميكيا، ولكن سرعان ما يجدون أنفسهم أمام أمر واقع ربما لم يكونوا يتوقعونه. فبعد الأسابيع الأولى من التدمير الشامل، تحركت الآليات الديناميكية الطبيعية وأنهت طموحهم غير المحدود. فانطلقت الدعوات من كل مكان لوقف إطلاق النار، وتحدث الأمين العام للأمم المتحدة عن ارتكاب جرائم حرب واسعة، وساهمت مشاهد الدمار التي تبثها وسائل الإعلام في تحريك الرأي العام العالمي، فإذا بالتظاهرات العملاقة تملأ الشوارع والساحات في أغلب عواصم العالم ومدنه. فمثلا شهدت العاصمة البريطانية قبل يومين أكبر مظاهرة في تاريخها المعاصر هتفت من أجل غزة وضد العدوان الإسرائيلي. صحيح أن الحكومات تحاول تجاهل تلك التظاهرات والمطالبة بوقف إطلاق النار، ولكن الضغط الشعبي يفرض نفسه في نهاية المطاف ويضطر السياسيين لتغيير مواقفهم. وهكذا يتمخض عن الأزمات عادة عودة التوازن لحياة البشر وشؤونهم. ولا يستطيع أحد، مهما كان موقعه الخروج عن فعل تلك القواعد.
بعض السياسيين لا يستطيع فصل عواطفه ومشاعره المرتبطة بتكوينه الفكري او الديني او العرقي عن مقتضيات موقعه، السياسي أو الاجتماعي، وكثيرا ما يدمّر هؤلاء الأشخاص أنفسهم بذلك. فمثلا أصبحت وزيرة الداخلية البريطانية في وضع حرج بعد أن خرجت عن قواعد اللعبة وتصرفت خارج أطر اللباقة الدبلوماسية. وليس مستبعدا إقالتها من منصبها بعد أن اتهمت جهاز الشرطة بالتحيز لصالح الفلسطينيين، وهو اتهام لا يصدّقه الواقع أو التاريخ. جاء ذلك في إطار السجال حول مسيرة يوم أمس الأول (السبت) في العاصمة البريطانية. فقد وصفتها الوزيرة من أصل هندي بأنها «مسيرة الكراهية» لأنها تطالب بوقف العدوان على غزة وتنتقد السياسات الإسرائيلية. وحاولت منع التظاهرة التي تزامنت مع ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى التي يتم الاحتفاء بها سنويا بالقرب من مقرات الحكومة والبرلمان في العاصمة البريطانية. ولكن جهاز الشرطة سمح بخروج المسيرة، الأمر الذي أحدث احتكاكا مع وزيرة الداخلية. وأثار مصطلح «مسيرات الكراهية» حفيظة الكثيرين لأنه كشف انحيار الوزيرة لأحد طرفي الصراع بشكل واضح. بينما كان عليها أن تكون أكثر لباقة ودبلوماسية وتتفادى استخدام مصطلحات تظهر انحيازها.
هذه الحادثة لا تنفصل عن السجال حول فعل القوى الطبيعية في حركة الحياة من جهة والمجتمعات من جهة أخرى. وامتلاك «إسرائيل» قوة عسكرية كبيرة، مدعومة بالقوات الأمريكية وحاملات الطائرات التي بعثتها إدارة بايدن لشرق البحر المتوسط لا يعني قدرة كيان الاحتلال على فعل كل ما يريد وتحقيق أهدافه التي يمثل خروجا على الإنسانية. فالقضاء على شعب كامل ليس هدفا سياسيا يمكن تحقيقه مهما بلغت قوة كيان الاحتلال. كما أن سحق قوى المقاومة واجتثاثها هو الآخر هدف يستعصي على التحقق. وبدلا من ذلك أصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه يصارع من أجل البقاء في منصبه بعد فشله في تحقيق ما أعلنه من أهداف عندما أمر بالعدوان.
هنا لا يستطيع حزبه إنقاذه، ولا تحالفه الحكومي الذي بدأ يتصدع ولا أمريكا التي لم تُخف يوما سياستها الداعمة لكيان الاحتلال بشكل مطلق. هذا برغم تخاذل أغلب الحكومات العربية وتواطؤ بعضها مع العدوان. ومشاهد الدمار والمعاناة الإنسانية تحوّلت إلى سلاح مضاد، إذ حرّكت الضمير الإنساني في العالم وأصبحت تضغط بشكل فاعل على المحتلين. وهكذا تحطمت أحلامهم برغم تفوقهم المادي والعسكري. وسيسجل التاريخ مستقبلا كيف أن اللاجئين وسكان المخيّمات استطاعوا الصمود أمام القصف الإسرائيلي الذي فاق التصور من حيث شراسته وتوحشه. ولقد فات قادة الصهاينة أن أمريكا التي كانت تملك أشد الأسلحة فتكا، وترسل طائراتها الاستراتيجية المعروفة بـ «بي 2» لتقوم بقصف الأراضي الفيتنامية وتستهدف قوات الفييتكونغ وتمارس ما كان يسمى «القصف السجادي» أي الشامل الذي يحرق الأرض ومن عليها لمساحات شاسعة، لم تحقق انتصارا. وفي نهاية المطاف اضطر الأمريكيون في العام 1975 للهروب على عجل مخلّفين وراءهم جنودا وعتادا بدون حساب.
ما دام هناك فلسطينيون مصممون على استرداد أرضهم والتصدي للمحتلين، فلن يكون بالإمكان تجاوز القضية يوما، ولن تستطيع القوة المفرطة تجميد فعل القوى الطبيعية. وقد أثبت الفلسطينيون على مدى ثلاثة أرباع القرن قدرتهم على التصدي للمحتل، والتمسك بالأرض والبقاء عليها مهما كلفهم ذلك. وبرغم ما شاهده العالم من اعتداءات إسرائيلية مروّعة، ما يزال الفلسطينيون الرقم الأصعب في المعادلتين العسكرية والسياسية، وما يزال الإسرائيليون يعانون من رفض دولي شبه مطلق لممارساتهم.
ولو كان هناك من شعوب العالم من يدعمهم لعبّر عن نفسه بتظاهرات واحتجاجات وحضور إعلامي وسياسي ملحوظ. وغياب ذلك يؤكد عدم وجود مزاج داعم للممارسات الإسرائيلية التي تنطوي على الكثير من الصلافة واللاإنسانية. كما أن الطبقة المثقفة والسياسية في العالم تدرك حقيقة المشروع الصهيوني. وقد تسربت مؤخرا وثيقة من عشر صفحات من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية مؤرخة في 13 أكتوبر 2023، تقترح اقتلاع سكان غزة البالغ عددهم مليونين وثلاثمائة ألف، بالقوة وبشكل نهائي الى سيناء في مصر. وهناك من الباحثين من يشعر بالصدمة الدائمة إزاء الثقافة الصهيونية التي تظهر مستوى كبيرا من الفاشية، حتى أن نتنياهو اعتبر ذبح الفلسطينيين مشروعا، إذ شبّههم بالعمونيين، الذين قتلهم أعداؤهم من بني إسرائيل في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
فلسطين لم تسقط ولن تسقط، فلا يزيدها كثرة الضحايا إلا صمودا وشموخا وانتصارا. إنها قصة النضال الذي أسس لحركات تحررية إقليمية وعالمية على مدى أكثر من نصف قرن، وسيظل مصدرا لرفدها بالعطاء والحماس والاستمرار.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحرب غزة المقاومة مقاومة غزة حرب مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هناک من
إقرأ أيضاً:
من بحري إلى بيالي: قصة الموسيقار اللاجئ الذي يبحث عن الأمل في المنفى
في مدينة بيالي الأوغندية، بعيدًا عن ضجيج الحرب وضياع الأحلام في السودان، يروي آلاف اللاجئين السودانيين قصصهم التي تتأرجح بين المعاناة والنجاح في المنافي القسرية. من بين هؤلاء، تبرز حكاية الموسيقار سعود، الذي كان يسكن منطقة الخوجلاب بمدينة بحري قبل أن تدفعه الحرب إلى مغادرة وطنه، تاركًا خلفه ذكريات عمر كامل، ليبدأ رحلة جديدة في معسكرات اللجوء.
كمبالا: التغيير
الحرب التي تجاوزت عامًا ونصف أجبرت آلاف الأسر السودانية على النزوح القسري، حيث بحثوا عن الأمان داخل البلاد وخارجها. يعيش معظمهم في ظروف إنسانية صعبة، تعكس حجم المعاناة التي فرضها النزاع على حياتهم اليومية.
سعود، المتخصص في العزف على البيانو والجيتار والكمنجة، يصف مسيرته الفنية بأنها رحلة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، بدأت منذ طفولته في الحفلات المدرسية، واستمرت بالدراسة في معهد الموسيقى والمسرح، الذي أصبح لاحقًا كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان.
لحظة قاسيةيقول سعود: “الموسيقى كانت جزءًا من حياتي حتى قبل الحرب، لكن النزوح أضاف لها أبعادًا جديدة. رغم أصوات الرصاص التي أحاطت بنا، كانت الموسيقى دائمًا بداخلي؛ المعاناة كانت مصدر إلهام، وبدل أن تقيدني، فتحت لي آفاقًا للإبداع”.
عبر سعود مع أسرته الحدود إلى أوغندا، متجهًا إلى معسكر نيومانزي عبر منطقة اليقوا بجنوب السودان. يصف لحظة وصوله بأنها كانت قاسية: “كنا في حالة مزرية، وكانت ذكريات الوطن تطاردني. تركنا خلفنا كل شيء، ووجدنا أنفسنا أمام واقع جديد تمامًا”.
وسط هذه الظروف، كانت الموسيقى طوق النجاة. أطلق سعود مبادرة لدعم اللاجئين نفسيًا عبر الموسيقى، حيث شكّل فرقًا صغيرة من الأطفال والشباب لتقديم جلسات غنائية ودعم نفسي. يروي سعود: “في أول حفل نظمته، رأيت الدموع في عيون الناس، خاصة النساء. قالوا لي إن الأغاني أعادتهم إلى السودان، فبكيت معهم”.
تدريب الأطفالرغم التحديات، استمر سعود في تقديم تدريبات موسيقية للأطفال والشباب، على الرغم من انعدام الكهرباء وضيق المساحات في المعسكر. أنتج ست مقطوعات موسيقية خلال إقامته، لكنه لم يتمكن من تدوينها لعدم توفر النوتات الموسيقية.
يعاني اللاجئون السودانيون من أوضاع نفسية صعبة، حيث تلاحقهم ذكريات الفقد والنزوح القسري. ورغم ذلك، يواصل الكثيرون، مثل سعود، صناعة الأمل وسط الألم.
يقول سعود: “الموسيقى ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل هي رسالة أمل وسلام. سأستمر في استخدامها لتوحيد السودانيين وإعادة بناء الوطن”. في معسكرات اللجوء، تبقى أصوات الفنانين السودانيين شاهدًا على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى إبداع، وعلى قوة الموسيقى في خلق حياة جديدة حتى وسط أقسى الظروف.
الوسومآثار الحرب في السودان اللاجئين السودانيين في يوغندا معسكر بيالي للأجئين يوغندا